وبهذه المناسبة أقول: إنني قرأت منذ أيام أن وزير البحرية قد أعد قانونا يبيح للبيض والسود أن يختلطوا في ناد واحد؛ وذلك أنه في نادي رجال البحرية من ميناء شارلستن (بولاية كارولاينا الجنوبية) لم يكن السود يؤذن لهم بالدخول مع أنهم يعملون مع البيض في سلاح واحد وعلى سفن واحدة ... وقد خطب أيزنهاور خطبة يشيد فيها بشجاعة الوزير في هذا القرار، ويرحب بكل مجهود يقوم به أي رجل من رجال حكومته نحو إزالة الفوارق بين اللونين.
الحقيقة أن مسألة التفرقة اللونية هي هنا - في ولايات الجنوب بصفة خاصة - الدمل الحساس الذي لا يحتملون أن يمسه ماس، ويخيل إلي أن هذه المشكلة الكبرى هي التي تنغص عليهم حياتهم، ولولاها لكانت حياتهم جنة خالصة ونعيما صرفا ... لكن الزمن يمضي قدما، والزنوج يكسبون على مر الزمن، بفضل ما قد يظهر بينهم من شجعان حينا بعد حين، لا يرضون بالأوضاع القائمة؛ فيثيرون الضجة ويقيمون القضايا حتى يكسبون الحقوق واحدا بعد واحد.
في منتصف الساعة التاسعة مساء كان موعد محاضرة عن الفن الحديث، يلقيها في المتحف الدكتور واتسن، الناقد الفني المعروف في أمريكا، وهو يعمل في معهد الفنون ومتحفها بمدينة شيكاجو، وقد جاء إلى كولمبيا بدعوة من المتحف ليلقي محاضرات ثلاثا؛ هذه أولها.
ذهبت إلى المتحف في الموعد المحدد، وما إن جلست حتى جاءت الآنسة «م» وجلست إلى جانبي، فشكرتني على تذكرة الأوبرا التي أرسلتها إليها لاحتفال يوم السبت المقبل، وعرفتني بصديق لها مشغوف مثلها بالفن ومسائله.
بدأ الدكتور واتسن محاضرته التي دامت ساعتين كاملتين، وكانت مصحوبة بالفانوس السحري، فيعرض علينا صورا فنية ويعلق عليها، وفي رأيي أنه قد أجاد إجادة ليس بعدها زيادة لمستزيد، ولولا أن المقاعد خشبية تؤلم خصوصا وقد طالت المحاضرة إلى ساعتين، لقلت إنني قد ظفرت الليلة بمتعة أنا سعيد بها ... بدأ المحاضرة بحديث عام في الفن الحديث، وكيف أنه ملائم لروح العصر الحديث؛ ففي عصرنا الحديث آلة تصوير تستطيع أن تصور الطبيعة تصويرا أمينا، وإذا فلا بد أن يلتمس الفن سبيلا غير تصوير الطبيعة ... كان المصورون السالفون يصورون الطبيعة؛ لأنهم كانوا وحدهم أداة ذلك، أما الصورة الحديثة فليست تصويرا لشيء خارج الفنان، إنها موسيقى؛ فالموسيقى تنسق موجات الصوت السبعة، والتصوير ينسق موجات الضوء السبعة (كنت ذات يوم في حديثي مع الآنسة «م» قد دافعت لها عن الفن الحديث، فقلت لها هذه الفكرة عينها وبنص هذه الألفاظ، فأحسست بالزهو الليلة حين قال المحاضر ذلك وهي تجلس إلى جانبي)؛ إنك لا تسمع الموسيقى لتسأل: صوت أي شيء هذا؟ لأن الموسيقي لا يحاكي بموسيقاه صوتا في الطبيعة كما هو، وإنما يؤلف الصوت كما يشتهي فيكون التأليف جميلا، وكذلك مهمة المصور الحديث، إنه لا يريد أن يصور شيئا في الطبيعة كما هو، بل مهمته التأليف بين الألوان تأليفا يمليه ذوقه ومزاجه، وغايته هي أن يقدم للعين مزيجا لونيا جميلا.
إن الشرط لأي فن هو أن يكون مستقلا بذاته، فلا يجوز للتصوير مثلا أن يعتمد على الأدب في شرحه، ولا يجوز للأدب أن يعتمد على التصوير؛ ومن هنا كان الإنجليز مقصرين في ميدان التصوير؛ لأن مصوريهم يعتمدون في الغالب على شيء في الأدب يفسره، أما في سائر القارة الأوروبية - كفرنسا مثلا - فهنالك تجد قادة الفن بالمعنى الصحيح، هنالك ترى الصورة مستقلة بذاتها، تفهمها وحدها وليست هي بمستندة على شيء إلى جانبها يشرحها ويفسرها.
وجعل المحاضر يعرض على الحاضرين صورا من كل مذهب ومدرسة، قديمة وحديثة، ويشرح أين يكون موضوع جمالها، وكثيرا ما كان يربط الصورة بقطعة موسيقية من عصرها نفسه؛ ليبين أن التصوير والموسيقى في العصر الواحد يكونان ذاتي طابع واحد، وذلك بأن يدير أسطوانة فونوغرافية والصورة أمامنا ... وإني لأعترف أنني لم أكن أفهم أبدا كيف يمكن أن تكون هنالك علاقة بين الصورة التي أراها والموسيقى التي أسمعها، فذلك شيء بعيد عن ثقافتنا، إلا مرة واحدة كانت الموسيقى فيها هي موسيقى الوالتس، وأعرف كيف أميز أجزاءها الموسيقية ذات الضربات الثلاث؛ فقد لحظت من فوري علاقة الشبه بين الصورة والموسيقى، كلاهما مؤلف من وحدات كل وحدة فيها تفعيلات ثلاث إذا صح هذا التعبير؛ ثم عرض المحاضر صورة أخرى من الفن التكعيبي قائلا إنها هي الأخرى تلائم الدور الموسيقي الذي نسمعه؛ هنا لم أفهم لماذا، لولا أنه أشار بالعصا إلى التتابع اللوني في الصورة قائلا: أبيض أصفر أسود، أبيض أصفر أسود، فظهر كالشمس وجه الشبه بين النغم الموسيقي والتناغم اللوني، خصوصا حين أشار المحاضر فوق ذلك إلى أن الصورة مؤلفة من مثلثات، فوق تأليفها من ألوان ثلاثة.
خرجت بعد المحاضرة، وكنت من أول الخارجين، فدهشت إذ رأيت السيدة «أ. و» أستاذة تاريخ الفنون بالجامعة واقفة وحدها خارج بناء المتحف، مسندة ظهرها إلى عمود البهو تدخن سيجارتها، فسألتني رأيي في المحاضرة، فقلت لها ما أعتقده فيها، وهو أنها محاضرة ممتازة؛ فظنتني ساخرا، ولما عرفت أني جاد، انطلقت تهاجم المحاضرة بأبشع الشتائم؛ فهي في رأيها محاضرة تافهة، والمحاضر جاهل يقول عن فلان إنه أول من رسم بالتكعيب وهو ليس كذلك، وملاحظاته كلها جديرة بأطفال إلخ إلخ. قلت لها: ربما رأيت فيه هذه التفاهة؛ لأنها مادة اختصاصك، أما أنا فقد تمتعت واستفدت إلى أقصى حد أريده؛ فقالت: إني لا أصدق أن محاضرا ممتازا مثلك يقول هذا الرأي في محاضر كهذا، تعجبت جد العجب أن يختلف حكمها وحكمي إلى هذا الحد البعيد.
الأربعاء 18 نوفمبر
اليوم احتفال لجماعة غريبة تطلق على نفسها اسم «أصحاب المزار»
ناپیژندل شوی مخ