إن الإنسان ليكسب قلوب الناس بخفة روحه أكثر جدا مما يكسبها برجاحة عقله.
الأحد 25 أكتوبر
الساعة التاسعة صباحا جاءني مستر «ه» ومعه الدكتور «ت»، وهو في السبعين من عمره، كان أستاذا للأدب الإنجليزي بصفة عامة، ومختصا بأدب شيكسبير بصفة خاصة، في جامعات مختلفة، منها جامعة شيكاجو وجامعة تكساس وجامعة كارولاينا الشمالية؛ وله كتب كثيرة عن شيكسبير، أحدثها كتاب ظهر هذا العام، عنوانه: «مقالات لشيكسبير»، جمع فيه آراء شيكسبير في الموضوعات المختلفة؛ آراءه التي وردت في مسرحياته نثرا، فجعلها كأنها مقالات كتبها شيكسبير تحت عنوانات مختلفة ... إن كل شيء يذكر الدكتور «ت» بسطر أو أسطر من شيكسبير، ويخيل إليك أنه قد حفظ شيكسبير بأسره عن ظهر قلب.
انطلقت بنا السيارة نحو مدينة أوجستا بولاية جورجيا، وهي تبعد عن كولمبيا نحو مائة ميل؛ وكان أول حديثي مع الدكتور «ت» في السيارة عن هذه المدنية العلمية؛ إذ بدأ «ت» بقوله: إنني أمقت هذه المادية الصارخة، وأتمنى أن أعيش عاريا في جزيرة، وإني لأتعجب لماذا يتسابق الناس وراء الآلات الحديثة التي تهون الحياة؟ إنني لا أملك ولا أحب أن أملك معظم هذه الأدوات الحديثة؛ ليس لي مذياع مصور ولا أريد أن يكون لي.
قلت له: إني لا أوافقك؛ ورحت أدافع له عن هذا الذي يسمى مدنية مادية؛ لأنه في الحقيقة مدنية علمية، وليس «العلم» مادة بقدر ما هو تفكير؛ فالسيارة مثلا عقل مجسد، من الخطأ تسميتها «مادة»؛ لأن كل جزء فيها قد بلور تفكيرا عقليا، وماذا يكون التفكير إن لم يكن روحا؟!
فقال الدكتور «ت»: امض في حديثك؛ فإنما أردت بما قلته أن أبدأ حديثا لأسمعك ...
كم يحز في نفسي أن أرى كل يوم ألف دليل على مقدار جهل هؤلاء الناس بنا وبعقيدتنا الدينية! إنني أبعد ما أكون عن التعصب الديني الأعمى، لكني في الوقت نفسه أكره الظلم في الحكم الذي ينبني على جهل بالحقائق؛ فليقولوا في الإسلام ما شاءوا إلا أنه عبادة أصنام! ... فقد مررنا في الطريق بكنيسة، فكانت باعثا لمستر «ه» أن يسألني ما عقيدتي الدينية؟ وإلى أي كنيسة أنتمي؟ - وهو سؤال يستحيل ألا يوجه إليك كلما قابلت أحدا؛ فالكنيسة تملأ رءوسهم، وتشعب المذاهب يشغل بالهم - فقلت له: إني مسلم؛ فقال: لقد سمعتك تجيب بهذا الجواب مرات عدة، ولم أفهم ماذا تعني كلمة «مسلم»؟ أهي تتبعك للكنيسة الأرثوذكسية أم البروتستانتية أم ماذا؟ قلت له: لا شيء من هذا؛ فأنا مسلم، وقد جاء الإسلام بعد المسيحية بسبعة قرون، فهو تعديل لها من بعض الوجوه، وعلى كل حال فهما متشابهان في الأصول؛ لأن اليهودية والمسيحية والإسلام فروع ثلاثة من أرومة واحدة، هي العقيدة في إله خالق ...
فقال مستر «ه»: لم أسمع قط بكلمة «مسلم» هذه، أتكون «محمديا»؟ فقلت له: نعم إلا أني لا أحب أن تسمى عقيدتنا بالمحمدية كما تسمونها؛ لأن لها اسما هو «الإسلام» من «السلام» ... صحيح أن الديانات تنسب لأنبيائها؛ فالبوذية لبوذا، والمسيحية للمسيح، وقد تسأل لماذا لا تكون المحمدية لمحمد؟ لكني أحس في استعمالكم لكلمة «محمدية» معنى آخر، وهو أنها عقيدة أنشأها رجل ولم يوح بها من الله.
قال مستر «ه » - ووافقه الدكتور «ت»: لكن معذرة، أليست المحمدية تعبد شيئا غير الله؟ فقلت له: لو كان الإسلام قد جاء بشيء واحد، فهو تأكيده عبادة الله الواحد الذي لا يتعدد ولا يشاركه أحد.
يحفظ الدكتور «ت» كثير جدا من الأدب عن ظهر قلب، وقد ذكرنا «إمرسن» فقلت له: إني أخي في مصر يترجمه إلى العربية؛ فسألني: أهو يترجم المقالات أم الشعر أم كليهما؟ فقلت: المقالات؛ فراح يحدثني عن خصائص إمرسن حديثا فيه لفتات جميلة، ومما أعجبني من ملاحظاته عن أسلوب إمرسن أنه يكتب كتابة تهتز اهتزاز البندول؛ فهو يهبط ثم يعلو ثم يهبط، وذكر لذلك مثالا عبارة يقول فيها إمرسن: «إنني ضئيل كالجزر، إنني إله، إنني نبتة صغيرة على الجدار.» فهو يشعر بضآلته ثم بعظمته ثم بضآلته مرة أخرى، ويعلق الدكتور «ت» على ذلك بقوله: إن هذه الحركة البندولية في شعورنا مألوفة لكل واحد منا، كلنا يحسها في نفسه.
ناپیژندل شوی مخ