أردنا ونحن جلوس في الشرفة أن نشرب القهوة، فكان لا بد أن يقوم بإعدادها أحدنا وأن يتعهد بغسل الأقداح آخر؛ فألححت في أن أشترك في هذا أو في ذاك، فقال مستر «ه» مازحا: بالله لا تتلف علينا النساء بأدبك، أنت وأنا رجلان، مهمتنا أن نجلس هنا في الشرفة نشرب الشراب وندخن السيجار، وأما هاتان فامرأتان تؤديان لنا واجب الخدمة في ولاء، أليس كذلك يا بنات؟ فتجيب السيدتان في ضحك: ألا شك في ذلك.
وسأل مستر «ه»: من ذا يقوم غدا بإعداد الإفطار؟ فعرضت كل من السيدتين أن تقوم بهذه المهمة، فينظر إلي مستر «ه» ضاحكا وهو يقول بمرحه المعهود : هل رأيت؟ اقعد مستريح البال ، أنت وأنا رجلان، نشرب وندخن السيجار، وهما تطهيان لنا وتغسلان الأطباق والأقداح، هيا يا بنات!
الأحد 18 أكتوبر
أقرب قرية إلى مكان أكواخنا الخشبية هي قرية بنوبولس، وباسمها يعرف المكان، والذاهب إلى الأكواخ على شاطئ البحيرة يمر بمكتب بريد ريفي قديم يقع على حافة الغابة التي نتخللها لنصل إلى البحيرة، فكلما مررنا بالسيارة أمام هذا المكتب في جولاتنا، أشار مستر «ه» إلى مكتب البريد ضاحكا ضحكا عاليا وقال: صندوق الخطابات هنا فتحته عمودية (العادة طبعا أن تكون فتحة الصندوق أفقية) هذه الحقيقة البسيطة يقولها مستر «ه» كلما مررنا هناك، وفي كل مرة يضحك ضحكا عاليا، لا يمل من التكرار، ولا ينقطع عن الضحك في كل مرة كأنه في كل مرة يكشف كشفا جديدا؛ وهذا كله دال على بساطة نفسه وعدم التعقد في نفسيته، والحق أني أصبحت الآن أميل إلى وصف الشعب الأمريكي كله بهذه الصفة، وهي انطلاقه انطلاقا حرا في التعبير عن نفسه (ذلك بالطبع إذ نصف جاز أن شعبا بصفة من الصفات)؛ الأمريكي ذو نفس شفافة أقرب إلى نفس الطفل في شفافيتها، ليس فيها القيود الداخلية التي تمنعه من القول والسلوك على نحو حر طليق يعبر عن فردية الفرد إلى أقصى حد مستطاع في مجتمع؛ لا غرابة أن يلبس رئيس جمهوريتهم قميصا مشجرا ملونا، ولا غرابة في أن يضحك مستر «ه» لما هو تافه في نظر المأزوم من الوجهة النفسية، الذي يلجم نفسه عن المرح والضحك إلى أن تهتز له الأرض وما عليها من أثقال!
أعدت لنا السيدتان «ب» و«م» طعام الإفطار، فلما جلسنا على المائدة طلب مني مستر «ه» أن أصلي صلاة الطعام على طريقتنا، والصلاة المقصودة دعاء بأن يديم الله نعماءه وبركاته؛ فتمتمت بالبسملة ... بدء الأكل بالدعاء أمر لا بد منه حتى عند مستر «ه» الذي يخيل إليك أن قد خلا قلبه من كل إيمان!
وأبدت الآنسة «م» رغبتها في سباحة وتجديف، فأسرعنا بسيارة مستر «ه» إلى منزل صغير في جوف الغابة ، يسكنه الحارس على أملاك مستر «ه» في هذه المنطقة؛ ليطلب إليه أن يجيء إلى البحيرة بقارب، وقال لنا مستر «ه» عن هذا الرجل إنه مكثار في العيال؛ فله في كل عام مولود جديد، تعالوا نسأل الرجل وزوجته كيف يستطيعان إنشاء مولود جديد في كل عام ... يقول ذلك مستر «ه» مرة بعد مرة، ضاحكا فرحا مرحا ... وما هو إلا أن جاء إلى شاطئ البحيرة هذا الحارس في سيارة نقل كبيرة تحمل القارب المطلوب، وجلست إلى جانبه زوجته وطفلان من أطفاله الكثيرين.
وفي الضحى ذهبنا إلى محطة توليد الكهرباء المقامة بين البحيرتين؛ مشروع جبار، فقد رفعوا مستوى الماء في إحدى البحيرتين بطرق صناعية؛ ليصب ماؤها في البحيرة الأخرى متدفقا مولدا الكهرباء ... أخذ المهندسون يشرحون لنا ما يستحيل على مثلي أن يفهمه، حتى لقد قالت السيدة «ب»: إني والله لأعجب أن يكون في الدنيا إنسان واحد يفهم عنهم هذه الأشياء التي يشرحونها!
الحق أني قد امتلأت بشعور حقيقي لا تكلف فيه، أنني واحد من فئة لا فائدة منها، وأعني أولئك الذين قضوا حياتهم في دراسات نظرية لا تشبع جائعا، ولا تكسو عاريا، ولا تتقدم بها الدنيا قيد أنملة أو تتأخر قيد أنملة. أنظر إلى هذه الأنابيب التي تلتوي على بعضها كأنها أمعاء حيوان ضخم، وإلى هذه المصابيح، وهذه المفاتيح، وهذا الصوت الذي يطن في جنبات المكان، وإني لأقول لنفسي إذ أرى وأسمع: أي مجنون في الدنيا يرى هذه الأشياء تصنع وتقام، يصنعها العقل البشري، ثم يختار لحياته أن تقضى في تحليلات لفظية وشطحات خيالية نظرية كما أقضي حياتي؟! كان المهندسون كلهم شبانا صغارا، ومع ذلك أنبأني مستر «ه» أن أقل راتب للواحد منهم هو ثلاثون دولارا في اليوم؛ أي نحو اثني عشر جنيها أو يزيد!
كان مستر «ه» موضع احترام الناس هناك؛ فهو رئيس المشروع، يعرف عنه كل شيء على الرغم من أنه محام درس القانون ولم يدرس هندسة؛ جاءه مهندس وعرفه بنفسه قائلا: ألا تذكرني يا مستر «ه»؟ أنا الذي جئتك في مكتبك بنيويورك عام كذا؛ لتوقع لي على إذن الصرف؛ صرف مليون ونصف من الدولارات لهذا المشروع؛ أتدري يا مستر «ه» ماذا كنت أقول لنفسي وأنت توقع الأوراق؟ كنت أقول: توقيع هذا الرجل الذي أمامي يساوي ملايين الدولارات، فهل يأتي يوم أرى فيه توقيعي بمثل هذه القيمة؟ وجعلت ذلك منذ ساعتئذ أملي ومرتجاي ... وأخذ مستر «ه» يحكي لنا كيف استغرق التوقيع يوما بأكمله من الصباح إلى المساء؛ إذ كان لا بد من توقيع كذا ألفا من الأوراق، ومن كل ورقة اثنتا عشرة نسخة، فكان يستخدم لذلك قلما كهربائيا، إذا أماله في يده مال معه اثنا عشر قلما أخرى بطريقة آلية، وإذا وقع على ورقة بالقلم الذي في يده، وقعت بقية الأقلام على بقية النسخ بصورة آلية.
خرجنا من محطة توليد الكهرباء، فقلت وأنا أزفر زفرة المتحسر: ما أتفه دراستي أمام هذه المنشئات العظيمة! فقالت لي السيدة «ب»: أنا لا أوافقك؛ فدراستنا إنسانية، وبغير مشاعر الإنسان لا تساوي هذه المنشئات شيئا، فلولا أن النساء قد أحببن الماس لصار الماس حجرا خسيسا.
ناپیژندل شوی مخ