زما ورقې ... زما ژوند (لومړی برخه)
أوراقي … حياتي (الجزء الأول)
ژانرونه
أتوقف عند هذه اللحظة بعد مرور خمسين عاما، أتذكرها، أستعيدها، تعود إلي كما حدثت، تعود معها التفاصيل الصغيرة الدقيقة، تصورت أنها ضاعت من الذاكرة خلال نصف قرن، تفاجئني أنها تعيش في الحاضر كما عاشت في الماضي، لحظة لم تتكرر في حياتي منذ خمسين عاما، أتكون هي لحظة الحب الكبير أو الوهم الأكبر؟!
كان أحمد واقفا في الفناء، بالضبط عند الباب الصغير بين فناء الكلية والمدخل إلى مستشفى قصر العيني القديم، كان يرتدي قميصا أبيض، وفي يده مجلة يناولها إلي ويقول: ده العدد الجديد من مجلة شعلة التحرير يا نوال. ينطق حروف اسمي كأنما يعرفها، كأنما يألفها، رغم أنها المرة الأولى التي أقابله وجها لوجه. أخذت المجلة وانشغلت بفتح حقيبتي وإدخال المجلة فيها بين كتب الطب وكشاكيل المحاضرات والمشرط وأدوات التشريح، حقيبتي كانت ثقيلة ممتلئة، وكان علي أن أفتحها وأضع المجلة فيها، حركة أنقذتني من النظر إلى عينيه، تظاهرت أني منهمكة في فتح الحقيبة، وإفساح مكان للمجلة بين الكتب والكشاكيل، بدت الحقيبة مكدسة بأشياء قديمة مهترئة لا قيمة لها إلى جوار المجلة الجديدة، يبرق اسمها فوق الغلاف بخط أحمر، يلمع تحت شعاع الشمس: «شعلة التحرير». - يا ريت يا نوال تقري قصة العدد وتقوليلي رأيك.
كنت في طريقي إلى مدرج علي باشا إبراهيم، أسرع الخطى قبل أن أتأخر عن موعد المحاضرة. كان الأستاذ هو «أنريب»، يدرس لنا علم الفسيولوجي، يلقي المحاضرة بلغة إنجليزية تشوبها لكنة روسية. جاء من روسيا إلى مصر ليصبح أستاذا في كلية الطب في نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات، قصير سمين مربع الجسم داخل معطف أبيض، له وجه مربع عريض يشبه الدب الأبيض، لحيته كثيفة تشبه لحية تشيكوف ودوستيوفسكي. كان يحكي لنا عن العالم الروسي «بافلوف» الذي اكتشف نظرية الارتباط الشرطي، أحدثت طفرة في علم الفسيولوجي، وفي نظرية المعرفة. خيالي الأدبي كان يسرح مع الدكتور «أنريب» وهو يحكي لنا قصة الكلب والجرس، إنها التجربة التي أجراها بافلوف في المعمل، كان يضع الطعام أمام الكلب كل يوم في ساعة معينة، يقبل الكلب على الطعام بشهية، كل يوم في الموعد نفسه يجد الكلب الطعام في المكان نفسه، يأكل بشهية، ويلحس الصحن، أصبح بافلوف يدق جرسا عدة دقات تصاحب اللحظة التي يأكل فيها الكلب الطعام، بدأ الكلب يسمع دقات الجرس مع قضمات أسنانه على الطعام، تكرر الحدث كل يوم، عدة أيام، ثم بدأ بافلوف يدق الجرس دون أن يقدم الطعام للكلب، أصبح لعاب الكلب يسيل لمجرد سماع صوت الجرس، وأصبحت معدة الكلب تفرز الأنزيم الخاص بالهضم كأنما هي تستقبل الطعام. لقد ارتبط صوت الجرس في خيال الكلب وعقله برائحة الأكل ومذاقه في فمه ومعدته. توصل بافلوف إلى الارتباط الشرطي بين المادي والخيالي في عملية التعليم والتدريب في حياة الكلاب، وحياة البشر على حد سواء. كانت العلاقة بين المادة والروح تشغلني أحيانا، أدرك أن الجسد لا ينفصل عن العقل، وأن الخيال جزء من الحقيقة.
كنت أستغرق بعقلي وجسدي فيما يقوله الدكتور أنريب. لم يكن يتلو علينا المحاضرة مثل الأساتذة الآخرين، كان يحكي لنا الحكايات، نفهم الفسيولوجي ونظرية المعرفة الجديدة عن طريق القصص، والربط بين الخيال والواقع، الربط بين الماديات والروحانيات.
يتخلخل الإيمان الأعمى بانفصال الروح عن الجسد، تدور في رأسي الأسئلة الطفولية القديمة، عيناي ترتفعان إلى السماء في رهبة، كلمة «الله» ترمز إلى الروح بدون جسد، عقلي الطفولي كان عاجزا عن الإيمان بوجود الروح دون جسد. بلغت سن الرشد، ونسيت البديهيات، سرت نحو النضوج والإيمان الأعمى بالأرواح المنفصلة عن الأجساد، بدأت أرى في الليل أشباح الجن، أومن بوجودها وبكل ما ورد في القرآن.
في غرفة الطالبات فتحت حقيبتي، الغلاف الجديد والعنوان بالخط الأحمر، شعلة التحرير، لمحت الصديقات البريق في عيني، رمقتني بطة بعين مجربة وهمست: حب جديد يا نوال؟! لم يكن للطالبات حديث في أوقات الفراغ إلا عن الحب. كثيرة هي قصص الحب بين الطلبة والطالبات، يدس الطالب رسالة حب في كشكول الطالبة، تقرأها علينا في غرفة الطالبات، تتورد خدود البنات وهن جالسات تحت شجرة الكافور الضخمة، يحفرن بمشرط التشريح فوق جذع الشجرة حروف الاسم داخل القلب، يرسمن القلب بدقة كما هو مرسوم في الكتاب، وكما يظهر في صدر الجثة فوق منضدة التشريح.
كنت واحدة من هؤلاء البنات المراهقات في كلية الطب، أومن بالحب الروحي المنفصل عن الجسد، كما أومن بالله، الروح العليا في السماء، المنفصلة عن الجسد الأدنى فوق الأرض، وكنت أجد رسالة الحب داخل الكشكول، كل يوم يدس أحد الطلبة الرسالة، كان الطلبة عددهم بالمئات ، والطالبات عددهن قليل يعد على أصابع اليد الواحدة، أو اليدين الاثنتين. كان نصيبي من رسائل الحب أكثر من زميلاتي، لم يكن للزميلات نشاط في الندوات الأدبية بالكلية، أو الاجتماعات السياسية أو المظاهرات الوطنية، ربما كنت الطالبة الوحيدة في ذلك الوقت التي تكتب القصص القصيرة والمقالات، وكان رؤساء تحرير المجلات من الطلبة الكبار يأتون إلي وأنا جالسة بين زميلاتي في المشرحة، تحمر وجوه البنات حين يأتي إلينا طلبة غرباء ليسوا زملاء لنا في المشرحة. كان الطلبة الغرباء أكبر سنا وأكثر جرأة في التطلع إلى البنات، يرفعون رءوسهم في كبرياء كأنهم زعماء، يتنافسون على الخطب في المظاهرات، ينقسمون إلى فرق متناحرة بعدد الأحزاب في مصر قبل سقوط الملك: الإخوان المسلمون يرفعون شعار السيف والقرآن، الشيوعيون شعارهم المطرقة والمنجل، والوفديون يحملون صورة النحاس باشا، الحزب الوطني يردد كلمات مصطفى باشا كامل، أحزاب الأقلية لكل منهم شعاره، الحكومة والسراي والإنجليز لكل منهم حزب داخل البلاد، المستقلون لهم أحزابهم، بعضهم يتبع عزيز المصري، بعضهم يؤمن بالألمان والنازية ، بعضهم يؤمن بالحلفاء والديموقراطية، كلهم توابع للقوى المتصارعة في الساحة السياسية.
بدا أحمد حلمي كأنما هو المستقل الوحيد، مجلة شعلة التحرير يصدرها مع مجموعة من زملائه، يدفعون نفقاتها من جيوبهم. كان هو رئيس التحرير، قرأت عددين أو ثلاثة، نشرت فيها بعض القصص القصيرة بأقلام طلبة الطب ذوي الميول الأدبية. قرأت قصة أحمد حلمي بعنوان «كلب وغلام»، لا أنسى القصة رغم مرور نصف قرن من الزمان، صورة الكلب الصغير الأعرج يأكل من صفيحة قمامة إلى جواره طفل أعرج. كان أحمد حلمي ينظم الندوات الأدبية، يربط بين الفقر والمرض، بين الطب والأدب. لم يكن يوسف إدريس يكتب القصة بعد، كان يكتب المقالات السياسية ويرأس مجلة أخرى اسمها «الجميع».
في إحدى الندوات الأدبية قال يوسف لأحمد: قرأت قصتك «كلب وغلام»، إزاي كتبتها يا أخي؟ شيء عجيب فعلا، تصور يا أحمد وأنا نايم في عز النوم أشوف الكلب الأعرج بياكل من الزبالة مع الطفل الأعرج، يا أخي القصة دي أحسن من ميت مقال سياسي!
لم يكتب أحمد حلمي شيئا بعد هذه القصة، سافر إلى القنال وعاد محطما، خانه الأصدقاء قبل الأعداء. تزوجنا ضد إرادة أبي، كان أبي يؤمن بالعمل الفدائي والموت من أجل الوطن، ملأ خيالي وعقلي منذ الطفولة بأناشيد الفداء، بلادي بلادي أفديك بروحي ودمي. عاش أبي المنفي في منوف عشر سنوات، كف فيها عن النشيد، أصبح ينوء بالحمل الثقيل، عائلة من تسعة عيال وأمهم، أصبح رهين المحبسين الوظيفة الحكومية والأسرة الأبوية.
ناپیژندل شوی مخ