زما ورقې ... زما ژوند (لومړی برخه)
أوراقي … حياتي (الجزء الأول)
ژانرونه
أصبحت أمشي بقامة منحنية قليلا، لا أستطيع أن أفراد جسدي حتى نهايته في اليقظة أو في النوم، الانحناءة تنمو كالصنم فوق ظهري دون أن أدري، كالعضو الغريب ينمو خلسة ويصبح جزءا من الجسم، كالخوف من عقاب الله يتسلل إلى العقل ويكمن فيه، كالمرض المزمن. كانت أسرتنا كبيرة العدد، يسميها أبي «الفاميليا» ينطق الكلمة بسخرية، ينفث الهواء مع الياء الأخيرة، والألف المدودة يمدها مع زفير طويل، مملوء بالضجر والزهو الخفي، يشير إلينا بإصبعه الطويل ونحن متراصون حول المائدة: «الفاميليا الكريمة تسعة من العيال وأمهم.»
عرفت منذ الطفولة أن الفاميليا هي أسرة أبي فقط، أمي مثلنا نحن الأطفال واحدة من العيال، كلمة العيال ترن في أذني مهينة تنم عن الاحتقار، العيال هم من يعيشون عالة على غيرهم.
لم تكن أمي تواظب على الصلاة أو تلاوة القرآن، يسألها أبي كل يوم: ليه يا زينب مش بتصلي؟ تضحك أمي ضحكتها المرحة الساخرة وتقول: أنت بتصلي بالنيابة عني يا سيد. يندهش أبي ويقول: بالنيابة عنك إزاي يا زينب؟ تواصل أمي السخرية: إنت بتنوب عني في كل حاجة حسب القانون والشرع، يبقى لازم تنوب عني في الصلاة كمان، ولا إيه؟!
في طفولتي لم أفهم كلام أمي، أدركت بالفطرة أنها لا تؤمن بالله، تزمجر أحيانا بغضب مكتوم وتخاطب السماء قائلة: يعني كل حاجة من حق الرجال دنيا وآخرة واحنا مافيش حاجة؟! تتراجع بعد لحظة وتهمس: أستغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم.
بعد موت أبي أدركت أن الفاميليا ماتت، ألم يكن عمودها وعميدها؟! ألا يسقط البناء بسقوط العمود؟! الفرح الخفي يهزني وأنا أرى البناء يسقط، يبدو لي منذ الطفولة واهيا، مصنوعا من الوهم، أو مجرد الاسم، كانت أمي تضحك حين يشير أبي إلينا نحن التسعة ويقول بزهو: أولادي!
تضحك أمي وتسأله: من قال إنهم أولادك؟! يضحك أبي مدركا الفكاهة، ثم سرعان ما ينتابه سعال جاف ويصمت فجأة كأنما يسقط في بئر عميقة بغير قاع.
كان أبي يؤمن بالحياة الأخرى بعد الموت، يحكي لنا كيف يعاقب الله المذنبين، كيف تلقى أجسادهم في النار لتحترق، نختفي نحن الأطفال تحت السرير من شدة الخوف، تقول أختي الصغرى: إن الميت لا يمكن أن يحس شيئا. كان الموت في نظرنا نحن الأطفال هو الموت، هو نهاية الألم ونهاية الإحساس، لم نصدق في طفولتنا ما يقوله الكبار، كانت أختي الصغرى تشاركني اللعب تحت السرير، وتقول لي: إن الأطفال يعرفون ما لا يعرفه الكبار. وأسألها: ليه؟ تقول: لأن الكبار عقلهم صغير. وننفجر بالضحك المكتوم حتى لا يسمعنا أبي أو أمي الجالسان في الصالة.
كان البيت خاليا تلك الليلة، دادة أم إبراهيم أخذت ابنتي الطفلة وأخواتي الأربع الصغيرات في رحلة إلى القرية، ربما كانت إجازة شم النسيم أو عيد الربيع، أو الاحتفال بعيد العمال أو أحد المشاريع الاشتراكية الجديدة، أصبحت أم إبراهيم تتغنى بالاشتراكية مثل وزير الصحة. بعد موت أمي أصبحت هي بديل الأم، تطبخ وتغسل الصحون وتدعك المرحاض. بعد موت أبي أصبحت أنا بديل الأب، أتولى الإنفاق على الفاميليا الكبيرة، ورثتها عنه ضمن أشياء أخرى منها أثاث البيت واسمه الكريم ودينه الحنيف، ونصف فدان من الأرض الزراعية في كفر طحلة، استولى عليها الحاج محمد ابن عمه.
أول كل شهر أناول أم إبراهيم مرتبها مثل الموظفين في الدولة، أوراق البنكنوت تمسكها في يدها لحظة قبل أن تدسها في جيبها، عيناها يكسوهما البريق القديم، كشعاع من الضوء ينفذ من قاع عظام الرأس، ترتعش أطراف أصابعها قليلا كأنما تجري وهي واقفة، ثم تطلق ضحكتها المرحة وتقول: «أصل الفلوس يا ضكطورة راكبها عفريت اللهم احفظنا يا رب من شرهم!»
كان الليل هادئا وأنا راقدة فوق الكنبة في الشرفة البحرية، أستمتع بالوحدة وغياب الأسرة عن البيت. لم تكن الأصوات تنقطع في بيتنا إلا في منتصف الليل، حينئذ تسري من خلال الجدران أصوات الجيران. كانت غرفة نومي ملاصقة لغرفة نوم جارتنا الست حمدية وزوجها السيد أحمد عبد التواب، يسري أنينها في الليل وأنا غارقة في النوم، أو صوت أم كلثوم تغني قرب الفجر، «هو صحيح الهوى غلاب ما عرفش أنا»، أو صوت جمال عبد الناصر يخطب في إحدى المناسبات الوطنية، يضغط على مخارج الألفاظ بقوة، «الاشتراكية! أيها الإخوة والأخوات! علينا جميعا أن نبني المجتمع الاشتراكي الجديد!»
ناپیژندل شوی مخ