زما ورقې ... زما ژوند (لومړی برخه)
أوراقي … حياتي (الجزء الأول)
ژانرونه
أفلتت من شفتيها الممتلئتين تنهيدة قصيرة، لعقت بطرف لسانها شفتها السفلى السمينة وقالت: عندك حاجة تانية؟ قلت: عندي ينسون يا بطة. هنا أطلقت ضحكتها المرحة وقالت: مش تبطلي طفولة بقة إنت كبرتي يا نوال، عندك جين تونيك؟
كانت أول مرة في حياتي أسمع كلمة «جين تونيك»، قالت بطة: إنه الشيء الوحيد الذي تشربه حين تكون حزينة، المشروب الوحيد الذي يبدد الكآبة وتبدو الحياة تحت أضواء جديدة، في أعماقي حنين لأذوق كل ما تشتهي الأنفس، وكان وجود أبي في حياتي كاللوح الزجاجي السميك الشفاف، أرى من خلاله الحياة وإن مددت يدي نحوها يعترضني حاجز لا أراه.
دق جرس التليفون فوق مكتبي، جاءني الصوت يقول: البقية في حياتك يا نوال، سأمر عليك بعد ساعة. لمعت عينا بطة وتساءلت: مين هو؟ قلت لها: رجاء الشاعر. مطت بوزها وقالت: يعني! وهي كلمة شاعت في ألسن الناس في مصر منذ الوحدة مع سوريا، وهي تعني الموافقة وعدم الموافقة في وقت واحد، بعد فشل الوحدة وانفصال سوريا عن مصر بقيت الكلمة تتردد على الألسن، وتعني اللامبالاة أو عدم الاهتمام، يهز الواحد منهم كتفه ويقول «يعني»، أو تمط الواحدة منهن شفتيها وتقول «يعني»، فندرك ماذا تعني. بدأت الكلمة أول ما بدأت على لسان جمال عبد الناصر في الأيام الأولى للوحدة مع سوريا، دخلت الكلمة القاموس المصري بقرار شفهي شبه جمهوري، تشبها بالسوريين، ثم انتقلت إلى المصريين تشبها بالرئيس عبد الناصر، وأعقب ذلك الإمساك بالسبحة بين الأصابع. ودخلت كلمة أخرى إلى القاموس المصري مع تحريك حبات السبحة، وهي كلمة «واللا»، تضحك بطة وهي تردد كلمة «واللا» بصوت عبد الناصر، تعقبها بكلمة «يعني»، ثم تطرقع أصابعها القصيرة البضة وتمط شفتيها وتقول: عارفة يا نوال أنا باعرف بتوع الاتحاد الاشتراكي من طريقة كلامهم. وكان الاتحاد الاشتراكي قد تكون بعد صدور القرارات الاشتراكية عام 1961، وعقد المؤتمر الوطني للقوى الشعبية عام 1962، وخرج الميثاق إلى الوجود وصديقتي بطة تسخر من كل ذلك، تمط بوزها وتقول: يعني!
لم يكن صديقي رجاء الشاعر يعجب صديقتي بطة، تقول عنه «اشتراكي غارق لأذنيه في عشق البرجوازية»، وهو نحيف الجسم قصير القامة، قدماه صغيرتان، وهي لا تطيق القدم الصغيرة في الرجال، كما لا تطيق القدم الكبيرة في المرأة، ترمق بإعجاب قدمها الصغيرة البضة المقوسة داخل الحذاء ذي الكعب العالي ، تقارنها بقدمي الكبيرة داخل حذائي بدون كعب، وتمط شفتيها: مش عارفة يا نوال إيه اللي عاجبك في جزم الرجالة دي اللي بتلبسيها! كانت بطة تتولى مهمة تحويلي إلى أنثى مثلها، ترمق بشرتي السمراء بشيء من الامتعاض، وتقول: عارفة إيه اللي ناقصك يا نوال عشان تبقي ملكة جمال، شوية بودرة وروج وتصبغي شعرك الأبيض ده!
كأنما كانت النقيضة لي، رغم اختلافي معها في كل شيء، كان هناك شيء غامض يجمعنا، تلازمني في كل مكان أذهب إليه كظلي، تطلبني كل يوم في التليفون وتأتي لزيارتي في البيت أو العيادة، أصمم في كل مرة ألا أرد عليها، لكن ما إن يرن الجرس وأعرف صوتها حتى أقول أهلا بطة. كانت تملأ حياتي الحزينة بشيء من المرح، تملأ حياتي الجادة بشيء من الاستهتار، إلى جوارها أحس بالنقاء، كأنما يحتاج النقاء دائما إلى شيء من الفساد ليرى نفسه، كالضوء لا نراه إلا في الظلمة.
حين قالت بطة «يعني» ومطت بوزها، قلت لصديقي رجاء الشاعر : إنني متعبة وحزينة لموت أبي ولا أقابل أحدا من الناس. أحسست في صوته خيبة الأمل، كان يريد أن يراني في تلك الليلة، وكانت معي صديقتي بطة، وهي قادرة على تسليتي أكثر منه، تجعلني أضحك من أعماق قلبي، لا تحدثني عن سوريا أو العراق أو مصر أو الإيمان بالله أو الوطن، تخرج من حقيبتها زجاجة الجين، وتسألني: عندك ثلج يا نوال؟ لا تنتظر مني الإجابة، تنهض وتفتح الثلاجة في البيت أو العيادة، تضع قطع الثلج في صحن صغير، تفتح زجاجة ماء التونك، تخلط الجين بالتونيك مع الثلج وقطعة من الليمون على شكل الدائرة، تغمسها في الكأس بطرف إصبعها ثم تمصه وتقول: يا ترى مين العبقري ده اللي اكتشف الجين تونيك؟ تعرفي أنا باحسدك ليه يا نوال؟ لأنك قدرتي تطلقي جوزك؛ ولأن أمك وأبوكي ماتوا وبقيتي إنسانة حرة!
تطلق بطة ضحكتها المرحة المعدية مثل المرض؛ فأضحك مثلها بقوة لا إرادية، أود أن أشعر أنني إنسانة حرة، لكن القيود تلفني كخيوط من الحرير، ذراعاي مشبوكتان حول صدري، لا أستطيع أن أطلق هذه الضحكة العالية المرحة التي تطلقها وتكاد تخرق الحوائط الأربعة. - يا بختك يا بطة بتقدري تضحكي من كل قلبك.
تتوقف بطة عن الضحك فجأة، يسقط وجهها كأنما في قاع مجهول، تكسو عينيها سحابة حزن كثيفة، ترشف الجين تونيك في صمت، تمصمص شفتيها وتقول: أنا باضحك معاكي بس يا نوال، باحاول أفضفض عن نفسي ... وسرعان ما تنقشع السحابة، تلمع عيناها من جديد، يطل منهما بريق مشع متأجج بالرغبة المكبوتة، يشتغل رأسها بالخيال الجامح، تبدأ في الاعتراف بشيء لا تنطق به وهي في كامل الوعي، تعرفي يا نوال أنا نفسي في إيه دلوقتي؟ تصمت لحظة مترددة ثم تهمس: نفسي أخرج وأمشي في الشارع وأصطاد أي راجل يقابلني، راجل لا يعرفني ولا أعرفه، متهيأ لي يا نوال إن هو ده الراجل اللي ممكن يقدر يحقق المعجزة، ممكن يحقق المستحيل، اللذة المستحيلة يا نوال!
كانت بطة تؤمن أن هناك تناقضا بين الحب والجنس، لا يمكن أن تتحقق اللذة الجنسية إلا مع رجل فاسد لا يؤمن بالثالوث المقدس: «الله، الوطن، الحب». وكانت تقول إنها حين تحب الرجل لا تمارس معه الجنس حتى يحتفظ بصورتها الملائكية حتى الموت، ثم تطلق ضحكتها وأنطلق أضحك كأنما بالعدوى. •••
كنت وحدي بالبيت، مات أبي ليلة الخميس 19 فبراير 1959، مضت سنة كاملة على موته وخمسون يوما. الليلة هي أول إبريل عام 1960، لم يكن بيتنا يخلوا إلا نادرا، تلك اللحظات يتسع الأفق فجأة، وأكاد أرى الإله «رع» وراء السحابة البعيدة. يصمت الكون وأكاد أسمع دبة النملة، وحفيف أوراق الأشجار البعيدة، نسمة الليل تصيح رقيقة ناعمة كحرارة الجسم، أستشعر اللذة حين أفرد جسمي حتى النهاية، أمد عنقي حتى النهاية، يصبح رأسي عاليا قريبا من رأس الإله «رع» في السماء، لم تكن هذه الحركة مباحة للنساء، والمفروض ألا يعلو رأس المرأة عن رأس أبيها أو زوجها، فما بال من هو أعلى منهما في الكون، كانت قامتي شامخة وعنقي طويلا، وكان لا بد من علاج هذا العيب.
ناپیژندل شوی مخ