فتأوه أدهم قائلا: أنجبت قاتلا وقتيلا. - الميت لا يعود، فماذا تطلب؟
فتنهد أدهم قائلا: كنت أهفو للغناء في الحديقة، ولكن لن يطيب لي اليوم شيء.
فقال: سيكون الوقف لذريتك. - الشكر لله.
فقال: لا تجهد نفسك واركن إلى النوم. •••
وفي تواريخ متقاربة ودع الحياة أدهم، فأميمة، ثم إدريس. وكبر الأطفال. وعاد قدري بعد غيبة طويلة ومعه هند ومعهما أطفال. نشئوا جنبا إلى جنب وخالطوا غيرهم فازدادوا بهم عددا. وانتشر العمران بفضل أموال الوقف فارتسمت في صفحة الوجود حارتنا. ومن هؤلاء وأولئك جاء أبناء حارتنا.
جبل
24
أقيمت بيوت الوقف في خطين متقابلين يصنعان حارتنا. ويبدأ الخطان من خط يقع أمام البيت الكبير، ويمتدان طولا في اتجاه الجمالية. أما البيت الكبير فقد ترك خاليا من جميع الجهات على رأس الحارة من ناحية الصحراء. وحارتنا، حارة الجبلاوي، أطول حارة في المنطقة. أكثر بيوتها ربوع كما في حي آل حمدان، وتكثر الأكواخ من منتصفها حتى الجمالية. ولن تتم الصورة إلا بذكر بيت ناظر الوقف على رأس الصف الأيمن من المساكن، وبيت الفتوة على رأس الصف الأيسر قبالته.
كان البيت الكبير قد أغلق أبوابه على صاحبه وخدمه المقربين. ومات أبناء الجبلاوي مبكرين فلم يبق من سلالة الذين أقاموا وماتوا في البيت الكبير إلا الأفندي ناظر الوقف في ذلك الوقت. أما أهل الحارة عامة فمنهم البائع الجوال، ومنهم صاحب الدكان أو القهوة، وكثيرون يتسولون، وثمة تجارة مشتركة يعمل فيها كل قادر هي تجارة المخدرات وبخاصة الحشيش والأفيون والمنافع. وكان طابع حارتنا - كحالها اليوم - الزحام والضجيج. الأطفال الحفاة أشباه العرايا يلعبون في كل ركن، ويملئون الجو بصراخهم والأرض بقاذوراتهم. وتكتظ مداخل البيوت بالنساء، هذه تخرط الملوخية، وتلك تقشر البصل، وثالثة توقد النار، يتبادلن الأحاديث والنكات، وعند الضرورة الشتائم والسباب. والغناء والبكاء لا ينقطعان، ودقة الزار تستأثر باهتمام خاص. وعربات اليد في نشاط متواصل. ومعارك باللسان أو بالأيدي تنشب هنا وهناك، وقطط تموء وكلاب تهر، وربما تشاجر النوعان حول أكوام الزبالة. والفئران تنطلق في الأفنية وعلى الجدران، وليس بالنادر أن يتجمع قوم لقتل ثعبان أو عقرب. أما الذباب فلا يضاهيه في الكثرة إلا القمل، فهو يشارك الآكلين في الأطباق والشاربين في الأكواز، يلهو في الأعين ويغني في الأفواه كأنه صديق الجميع.
وما إن يجد شاب في نفسه جرأة أو في عضلاته قوة حتى يندفع إلى التحرش بالآمنين، والاعتداء على المسالمين، فيفرض نفسه فتوة على حي من أحياء الحارة، يأخذ الإتاوات من العاملين، ويعيش ولا عمل له إلا الفتونة. هكذا وجد فتوات الأحياء مثل: قدرة والليثي وأبو سريع وبركات وحمودة. وكان زقلط أحد هؤلاء الفتوات، فخاض معارك كثيرة مع فتوة بعد فتوة حتى هزم الجميع وصار فتوة الحارة كلها. وفرض الإتاوات على الفتوات جميعا. ورأى الأفندي ناظر الوقف أنه بحاجة إلى مثل هذا الرجل؛ لينفذ أوامره أو يدفع عنه ما قد يتهدده من شر فقربه ورتب له راتبا عظيما من ريع الوقف، فأقام زقلط في بيته المقابل لبيت الناظر واستحكم سلطانه. وعند ذلك ندر وقوع المعارك بين الفتوات؛ إذ إن الفتوة الأكبر لا يرتاح إلى هذا النوع من المعارك الذي قد ينتهي بتكبير فتوة، وبالتالي بتهديد مركزه هو؛ لذلك لم يجد الفتوات متنفسا لقوة شرهم الحبيسة إلا في الأهالي المساكين المسالمين. كيف انتهى الأمر بحارتنا إلى هذه الحال؟
ناپیژندل شوی مخ