فتأمله رفاعة بعينين حالمتين وثغر باسم، فعاد الرجل يقول: وفي هذه البقعة أقام أدهم كوخه وحدثت الأحداث، وفيها بارك الجبلاوي ابنه وعفا عنه.
فازداد الثغر الجميل ابتساما وأغرقت العينان في الحلم. الذكريات الجميلة كلها ولدت في هذا المكان. لولا الزمن لبقيت آثار أقدام الجبلاوي وأدهم، ولردد الهواء أنفاسهم. ومن هذه النوافذ انصبت المياه على الفتوات في الحفرة، من نافذة ياسمينة انصبت المياه على الأعداء. اليوم لا ينصب منها إلا نظرات مرعبة، ويعبث الزمان بكل جليل، أما جبل فانتظر داخل الحوش بين رجال ضعفاء، لكنه انتصر. - انتصر جبل يا أبي ولكن ما جدوى النصر؟
فتنهد الرجل قائلا: تعاهدنا على ألا نفكر في ذلك، أرأيت خنفس؟
وعلا صوت غنج مناديا: يا عم يا نجار.
فتبادل الأب وابنه نظرة إنكار، ونهض الأب رافعا رأسه فرأى ياسمينة تطل من النافذة وضفيرتاها الطويلتان تتدليان وتتأرجحان، فهتف: يا نعم.
فقالت بصوت متهالك من العبث: ابعث صبيك ليأخذ ترابيزة لإصلاحها.
عاد الرجل إلى مجلسه وهو يقول لابنه: «توكل على الله». ووجد رفاعة باب المسكن مفتوحا في انتظاره فغمغم قائلا: «إحم»، فأذنت له بالدخول فدخل. وجدها في جلباب بني ذي كلفة بيضاء حول الطوق وفوق نهضة النهدين، وحافية وعارية الساقين وجدها أيضا. ولبثت صامتة مليا كأنما لتمتحن أثر منظرها في نفسه، فلما رأت صفاء عينيه لا يتغير أشارت إلى ترابيزة صغيرة قائمة على ثلاث أرجل في ركن الصالة وقالت: الرجل الرابعة تحت الكنبة، ركبها وحياتك وادهن الترابيزة من جديد.
فقال بصوت ذي موقع عذب: في الخدمة يا ست. - والثمن؟ - سأسأل أبي.
فشهقت متسائلة: وأنت؟ ألا تعرف الثمن؟ - هو الذي يخاطب فيه.
فتفرست في وجهه بقوة وسألته: ومن يصلحها؟ - أنا، ولكن بإشرافه ومعاونته.
ناپیژندل شوی مخ