212

ثم يلتقي الجمعان، وتدور الدائرة على دارا وجنوده، فيفر صوب المشرق، ويسارع الغالب صوب الجنوب. أريتك بابل العظيمة مدينة السحر والعلم، ها هي ذي تفتح أبوابها للإسكندر، ويباركه كهنتها، ويطوي الملك الشاب المراحل إلى سوس واصطخر حاضرتي الفرس، لا يصمد لمدينة إلا فتحها، ولا يعمد لجيش إلا مزقه.

تمتد الفتوح والآمال والنشوة والكبرياء بإسكندر إلى ما وراء النهر في طريقه شطر الهند، بعد أن طرد دارا، حتى عثر به في الطريق قتيلا.

إسكندر العظيم في مدينة سمرقند عام سبع وعشرين وثلاثمائة، وقد طوى المراحل والممالك، ما بين مقدونية ونهر سيحون، ينعم هنالك بالشباب والظفر، والملك الفسيح، والكنوز التي لا تحصى، والجند الذي لا يعد. إسكندر الآن أعظم ملك في العالم كله.

2

ويدعو أصحابه وقواده إلى مأدبة في سمرقند، فيأكلون ثم تدور الكأس حتى يثمل القوم أو يكادوا، ثم تترع للملك المظفر كئوس من الإطراء والإعجاب والإجلال والإكبار، ويغلو المتملقون المعجبون، فيرفعونه فوق الأبطال جميعا، ويدعون أن أعماله المعجزة لا تكون إلا عن نسب إلهي، بل يرفعونه إلى مستوى الآلهة كهرقل. ويشارك الملك الشاب في إعظام مآثره، والإعجاب بها، ثم لا يقنع بما فعل، فيجعل لنفسه ما نال أبوه من ظفر في آخر عهده، ويغض من فيليب وإن كان أباه!

يسخط المقدونيون من الزراية ببطلهم القديم، ولكنهم لا ينبسون، و«كليتوس» رابض ينظر إلى إسكندر ومادحيه ساخطا محملقا. كليتوس أحد قائدي الفرسان، كليتوس الصديق القديم أخو «لانيس» حاضنة إسكندر التي قتل اثنان من أبنائها تحت رايته، كليتوس الذي نجى إسكندر في معركة كرانيكوس حين أبصر فارسيا يهوي بسيفه إلى الملك من خلفه، فسارع كالبرق فضرب السيف فقده دون رأس الملك. كليتوس هذا لم يستطع صبرا على الغض من فيليب، قال كليتوس: ما لهؤلاء المادحين يضعون أقدار الغابرين ليرفعوا عليها مجد الحاضرين؟

إن فيليب كان عظيما، ثم تأخذه الحدة فيقول: «ليست مآثره دون مآثر ابنه. لا، إن مآثره لأعظم؛ فقد خلق الرجل لنفسه ملكا وجيشا، وإنما صلت أيها الملك بما أورثك فيليب، من ملك ممهد، وجند مدرب. إنما ظفرت بفضل هؤلاء المقدونيين الذين تحقرهم اليوم، وتقدم الفرس عليهم، ألم تقتل برمينيون العظيم؟»

هاج الحاضرون وقذفوا كليتون بالجدل والتوبيخ، وثار ثائر إسكندر الفتى الفاتح، الذي سخر ملك مصر وبابل وآشور وفارس، إذ قرعت أذنه لأول مرة نبأة ناقد يعترض كلامه، ويرد عليه دعواه. غضب إسكندر وصاح بكليتوس يزجره ويجادله. وانحاز الحاضرون للملك المعجب بنفسه، وكليتوس كالأسد يزمجر ويرد الكلمة بمثلها، ثم ينتفض قائما ويصيح مادا يده إلى الملك: «اذكر أن حياتك دين لهذه اليد التي نجتك يوم كرانيكوس، وأصخ لصوت الحق الصراح، أو تجنب دعوة الأحرار إلى مأدبتك واختص العبيد بصحبتك!»

اهتاج إسكندر لموقف كليتوس، ولذكرى كرانيكوس وبرمينيون، فنهض يتحسس خنجره، فإذا الخنجر بعيد قد نحاه أحد الحاضرين، فينادي الحرس مغضبا هائجا، ويأمر أن ينفخ في الصور إيذانا للجند، فما أطاع أحد أمر الملك الهائج النشوان.

وتقدم نحوه بطليموس وبردكاس، القائدان الكبيران، فأحاطا به، وأمسكا يده برفق يسكنان ثورته، ويكسران حدته، ويحيط آخرون بكليتوس يخرجونه من البهو، فيأبى أن يخرج لئلا يعترف بأنه أساء واعتدى، ويقول إسكندر: «وا أسفا! إن قوادي قد غلوني كما فعل بسوس بدارا،

ناپیژندل شوی مخ