164

أمات الرافعي في وقدة جنانه، وشعلة بيانه، وعزة قلبه وسلطانه؟ أطوي القلب الذي وسع الدنيا وما وسعته، وحقرها وأكبرته؟

كلا، كلا، إن مولد الحر في الدنيا قليل، وإن موت الحر مستحيل. إن مولد الحر تتمخض عنه الأجيال بعد عناء، ويمهد له الزمان بعد جهاد ليولد على الأرض تاريخ أو فصل من تاريخ، فإذا انقضى عمله وجاء أجله، فهو تاريخ لا يمحى، وذكرى لا تموت.

إن الحر ليولد على هذه الأرض كما يولد النجم في أطباق السماء، فلا يزال وضاء هاديا، أو كما يولد النهر في سفح الجبل، فلا يفتأ جاريا ساقيا، أو كما تولد الحقيقة في أفكار البشر، ثم لا تموت أبدا.

إن الحر الكريم فطرة صافية تستمد من الله، فلا يحول عنها نوره، ولا يتحول عنها وحيه، وهي في خلق الله سنة لا تتبدل، فلا تستعبد الحر الأهواء، ولا تذله المطامع، وهو يأبى على الحدود، وينفر من القيود، ويكبر على الزمان والمكان . إن خلق الناس زمانهم خلق هو زمانه، وإن حد الناس مكانهم حد هو مكانه، فإذا ساق الناس التقليد أو قادهم، وإذا خيل إليهم الباطل حقا والحق باطلا، وقف هو هازئا أبيا يستوحي ربه، ويستفتي قلبه، وإذا جرف التيار الخاصة والدهماء، فاضطربوا في موج الحادثات كالغثاء، ترمي بهم كل شط، وتمسح بهم كل أرض، ثبت الحر كالطود الأشم، البحر الخضم:

يظل كالطود يجري حوله نهر

من الخطوب له بالناس طغيان

فأنت مآرب أهل الذل قمته

فما يذلله نيل وحرمان

إن الرجل الحر صفحة في التاريخ جديدة، وخطوة في سير البشرية مقدمة، على حين لا يظفر التاريخ بجديد في آلاف المواليد، ولا يخطو خطوة إلى الأمام في كثير من الأعوام، وهل التاريخ كما قالوا إلا إعاة وتكرار؟! •••

ولقد أوتي الرافعي من الحرية الإلهية نصيبا، ومن النور الإلهي قلبا، ومن الفيض الإلهي ينبوعا، فلبث دهره نسيج وحده، وظل حياته ينير للسالكين، ويسقي للظامئين. ولقد أوتي من العزة الإسلامية ما تخر له الجبال، ومن الهمة القرآنية ما تنشق له الأهوال، ولقد أوتي من الإيمان ما أصغر الدهر في سطواته، ومن نور الإيمان ما شق على الزمان ظلماته.

ناپیژندل شوی مخ