Authentication of Hadith According to Ibn al-Salah
تصحيح الحديث عند ابن الصلاح
خپرندوی
دار ابن حزم
د ایډیشن شمېره
الأولى،١٤١٧هـ
د چاپ کال
١٩٩٧م
ژانرونه
تصحيح الحديث عند ابن الصلاح
تصحيح الحديث
عند
الإمام ابن الصلاح
دراسة نقدية
بقلم
د. حمزة عبد الله المليباري
الأستاذ في مادة الحديث وعلومه
جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية
قسنطينة - الجزائر
بسم الله الرحمن الرحيم
بين يدي القارئ
بفضل من الله تعالى أقدم لإخواني طلاب الحديث وعشاقه نمودجا من الدراسات النقدية، التي أصبحت اليوم محل اهتمامهم البالغ، عسى أن تدفعهم نحو فهم صحيح لمحتوى علوم الحديث، وأن يفتح لهم آفاقا جديدة من البحوث المبتكرة حول مسائلها المعقدة، والتي من الصعب حلها وإداراك مراميها بمجرد قراءة سطحية، ومراجعة عابرة.
وبادئ ذي بدء يخيل إلى قارئ عنوان هذا البحث أن ما ينطوى عليه ليس سوى تكرار ما ذكر في كتب المصطلح، وإعادة ما يعرفه الجميع، لكن الأمر ليس كذلك، حيث إن المحور الرئيسي الذي تدور عليه مباحثه يمثل توجيها موضوعيا لما جنح له الإمام إبن الصلاح - رحمه الله تعالى - من عدم إمكانية تصحيح الأحاديث وتحسينها لدى المتأخرين.
وهذا التوجيه مدعم بالواقع العلمي والتاريخي في شكل جديد لم يتصوره كثير من الباحثين والدارسين في علوم الحديث ـ
1 / 5
حسب تتبعي - إذ أنهم ظلوا يعتقدون صواب ما اتفقت عليه كتب المصطلح من عدم تسليم القول للإمام ابن الصلاح - رحمه الله تعالى - في مسألة منع التصحيح. ولعل في قولي ما يدفع القارئ إلى التساؤل: ما مدى صحة الاستدراك على السابقين بما لم يخطر على بالهم جيمعا؟
لا جرم أن الأمر يثير الاستغراب لدى الكثيرين عندما تصبح القضايا العلمية يحسمها الإجلال والتقليد، وأما إن كانت موازينها ومقايسها الأدلة والبراهين فلا مجال للتساؤل حول استدراك اللاحق على السابق، ولا للاستغراب فيه.
وقد طرحت هذا الموضوع العلمي في رسالة صغيرة وعالجته بأسلوب موضوعي مجرد كي يسهل على القارئ تركيزه عليه، وينال متعة القراءة وحظ الفهم، وفي الختام لا يسعني إلا الابتهال إلى الله تعالى أن يتقبل هذا الجهد المتواضع في خدمة علوم الحديث.
تمهيد:
يعتبر الإمام أبو عمرو بن الصلاح ﵀ من أبرز فقهاء الشافعية في القرن السابع الهجري، ومن العلماء الراسخين في علوم الحديث، وقد أهلته إمامته في هذا الميدان لأن يصير رمزا يعيش في ذاكرة الأمة على مر العصور وكرا لدهور، واعترافا له على ما قدمه لهذه الأمة من خدمة علمية عظيمة للسنة النبوية الشريفة، بقيت إلى يومنا هذا نبعا عذبا ينهل منه المبتدئ من طلبة العلوم الشرعية، كما يرجع
1 / 6
إليه الباحث المتمرس، فترتوي منه عقولهم المتعطشة إلى معرفة قواعد هذا العلم الشريف.
وعلى الرغم من أن مشاركة ابن الصلاح وإسهامه العلمي قد شمل جوانب كثيرة من علوم الشريعة - كالفقه والأصول والتفسير (١) كما تدل على ذلك مؤلفاته، إلا أن نجمه قد سطع بشكل خاص في علوم الحديث التي اقترن اسمه بها، بحيث صار ما إن تذكر مبادئ هذا الفن الشريف حتى يذكر معها كتاب هذا الإمام الجهبذ المعروف بمقدمة ابن الصلاح.
ويعد هذا الكتاب من أهم الكتب في علوم الحديث، إن لم يكن أهمها على الإطلاق، لأنه جاء تتويجا لكل الجهود التي سبقته، كما جاء تجديدا لحيويتها ونضارتها، نظرا لأسلوبه المبتكر في تناول مباحث ومبادئ هذا العلم وفق مقتضيات عصره، حيث نجده جمع المصطلحات الحديثية التي كانت متداولة بين المحدثين النقاد، ووضع لها تعاريف محددة، معتمدا في ذلك على فن المنطق، فجاءت تلك التعاريف جامعة مانعة وموجزة واضحة.
وبهذا العمل يكون ابن الصلاح قد ذلل ما كان صعبا، ومهد الطريق أمام المبتدئين لاستيعاب علم مصطلح الحديث وفهمه، بعد أن كان عسير التناول، لا يدرك مراميه، ولا يستفيد من المصنفات فيه إلا المتمكنون، وأصبح كتابه بذلك مدخلا لمعرفة مبادئ هذا الفن، ومقدمة لكتب الأحاديث بما
_________
(١) سير أعلام النبلاء: ٢٣/١٤٢، للحافظ الذهبي، ط: مؤسسة الرسالة.
1 / 7
ضمنه من تعاريف مركزة للمصطلحات الحديثة التي يصادفها طالب الحديث في تلك الكتب بمقدمة ابن الصلاح. ونظرا لأهمية هذا الكتاب، فقد حظي بقبول الأئمة الذين جاؤوا من بعد، وإقبالهم عليه، فتسابقوا إلى نيل شرف خدمته، وسعوا إلى شرحه وإيضاح مكنونه، والتعليق على مسائله، حتى صار أصلا لكثير من المصنفات في علوم الحديث، وفي ذلك يقول الحافظ ابن حجر.
" اجتمع في كتابه ما تفرق في غيره، فلهذا عكف الناس عليه وساروا بسيره، فلا يحصى كم ناظم له ومختصر، ومستدرك عليه ومقتصر، ومعارض له ومنتصر" (١)
ولم يكن ابن الصلاح مجرد جامع لآراء من سبقه من الأئمة، بل إن المطلع على كتابات هذا الإمام - في مقدمته وغيرها - يجد له اجتهادات وآراء مستقلة، وإضافات وانتقادات (٢) شأنه في ذلك شأن كل مبدع ومبتكر، وهو إن خالف في بعض تلك الآراء غيره من أهل العلم، فذلك أمر طبيعي، به يكتمل أي علم.
وقد أثارت بعض آراء هذا الإمام اهتمام اللاحقين، وتعددت أساليبهم في الاعتراض عليها ولعل أبرز هذه الآراء ما صرح به في مقدمته حول مسألة التصحيح، حيث ادعى انعدام
_________
(١) فاتحة نخبة الفكر: ص٢.
(٢) سير أعلام النبلاء: ٢٣/ ١٤٢ـ١٤٣.
1 / 8
إمكان تصحيح الأحاديث وتحسينها من طرف التأخرين، فقد قال ﵀ في الفائدة الثانية من النوع الأول وهو معرفة الصحيح من الحديث ما يلي.
نص ابن الصلاح في تصحيح الأحاديث وتحسينها:
" إذا وجدنا فيما نروي من أجزاء الحديث وغيرها حديثا صحيح الإسناد، ولم نجده في أحد الصحيحين، ولا منصوصا على صحته في شئ من مصنفات أئمة الحديث المعتمدة المشهورة، فإنا لا نتجاسر على جزم الحكم بصحته، فقد تعذر في هذه الأعصار الاستقلال بإدراك الصحيح بمجرد اعتبار الأسانيد، لأنه ما من إسناد من ذلك إلا ونجد في رجاله من اعتمد في روايته على ما في كتابه عريا عما يشترط في الصحيح من الحفظ والضبط والإتقان، فآل الأمر إذًا في معرفة الصحيح والحسن إلى الإعتماد على ما نص عليه أئمة الحديث في تصانيفهم المعتمدة المشهورة التي يؤمن فيها لشهرتها من التغيير والتحريف، وصار معظم المقصود بما يتداول من أسانيد خارجا من ذلك إبقاء سلسلة الإسناد التي خصت بها هذه الأمة ـزادها الله شرفا - آمين (١) .
ورغم أن كلام ابن الصلاح مقصود به مصنفات خاصة:
"أجزاء الحديث وغيرها" وفي ومن محدد: "في هذه الأعصار"
وبكيفية معينة: "بمجرد اعتبار الأسانيد " مما يجعل إدراك
_________
(١) مقدمة ابن الصلاح: ص١١ (تحقيق مصطفى البغا، ط: دار الهدى) .
1 / 9
الواقع الحديثي في عصر ابن الصلاح، والملابسات المحيطة به، والمستجدات التي طرأت وتأثرت بها نظم الرواية أداء وتحملا، له أكبر الأثر في فهم كلام هذا الإمام ... رغم كل هذا فقد حمل الإمام النووي وغيره من العلماء - وكثير ما هم - ما ذكره ابن الصلاح على إطلاق المنع من التصحيح على جميع أنواع الأحاديث مما أفضى بهم إلى الإعتراض عليه ورفض العمل بمقتضى رأيه، غير أن المتتبع لسياق كلام هذا الإمام، محاولا فهمه على ضوء النتائج التي تسفرها الدراسة حول الظروف والملابسات التي أحاطت بالواقع الحديثي الذي عاشه المتأخرون - سوء من ناحية تلقي الأحاديث أم نشرهاـ يجد نفسه مضطرا إلى تصحيح رأي ابن الصلاح، ورفض الاعتراض عليه جملة وتفصيلا.
تحليل النص:
فلقد وقع في كلامه ﵀ بعض الأمور يتوقف فهمها على معرفة العادات التي استجدت في حلقات التحديث عند المتأخرين، ولا تتضح حقائقها إلا بعد الإحاطة بإدراك مناسبتها ودوافعها.
فمن هذه الأمور قوله: " من أجزاء الحديث وغيرها" وقوله " فقد تعذر في هذه الأعصار الاستقلال بإدراك الصحيح بمجرد اعتبار الأسانيد "وقوله: " ما من إسناد من ذلك إلا ونجد في رجاله من اعتمد في روايته على ما في كتابه عريا عما يشترط في الصحيح من الحفظ والضبط والإتقان.
1 / 10
وقوله: " فآل الأمر إذًا في معرفة الصحيح والحسن إلى الاعتماد على ما نص عليه أئمة الحديث في تصانيفهم "وقوله: " وصار معظم المقصود بما يتداول من أسانيد، خارجا من ذلك إبقاء سلسلة الإسناد "
فما المقصود "بالأجزاء وغيرها "؟ وما معنى تعذر الاستقلال بإدراك الصحيح بمجرد اعتبار الأسانيد؟ وكيف يتم له التعميم بقوله: " ما من إسناد من ذلك إلا ونجد فيه خللا يضر الصحة؟ وهل يقصد بقوله: " فآل الأمر إذا في معرفة الصحيح والحسن " معرفة الصحيح والحسن في جميع الأحاديث أم في الأحاديث التي توجد في الأجزاء وغيرها؟
والإجابة على هذه التساؤلات تتوقف إلى حد كبير على ذكر بعض الأمور التاريخية، لها دور فعال في بلورتها.
مستجدات عصره وأثرها في معرفة الصحيح والحسن
إن المسيرة التاريخية للسنة النبوية يمكن تقسيمها إلى مرحلتين زمنيتين كبيرتين، لك منهما معاليمها وخصائصها المميزة: فأما الأولى فيمكن تسميتها " بمرحلة الرواية " وهي ممتدة من عصر الصحابة إلى نهاية القرن الخامس الهجري تقريبًا، وأبرز خصائصها هي كون الأحاديث تتلقى فيها وتنقل بواسطة الأسانيد والرواية المباشرة.
فالإسناد في هذه المرحلة كان بمثابة العمود الفقري، عليه يتم الاعتماد في تلقي الأحاديث ونقلها.
1 / 11
وأما المرحلة الثانية فيمكن تسميتها بـ" مرحلة بعد الرواية "، وفيها آلت ظاهرة الاعتماد على الأسانيد إلى التلاشي، لتبرز مكانها ظاهرة الاعتماد على الكتب والمدونات التي صنفها أصحاب المرحلة الأولى في أخذ الأحاديث ونقلها، وإن كان القرن السادس الهجري يمكن اعتباره فترة انعطاف وتحول من مرحلة إلى أخرى، إذ ظهر فيه من بعض الأئمة الاعتماد على الرواية على شاكلة الأولى بدل الاعتماد على الكتب.
وبينما كانت الكتب المصنفة في المرحلة الأولى تنقل الأحاديث بأسانيدها الخاصة، فإن جل الكتب التي ظهرت في المرحلة الثانية إنما تنقل الأحاديث بالاعتماد على المدونات التي ظهرت في المرحلة الأولى، وإن كانت أساليب النقل، وطرق الأخذ تختلف من كتاب إلى آخر.
فمسند الإمام أحمد - مثلا - وهو نموذج لكتب المرحلة الأولى، عمدته في نقل الأحاديث هي الإسناد والرواية المباشرة، ولذلك يقول فيه صاحبه: " حدثني فلان " إلى آخر الإسناد في كل حديث يذكره.
وأما كتاب تفسير ابن كثير - مثلا - وهو نموذج لكتب المرحلة الثانية، فإن عمدته في نقل الأحاديث هي الكتب المصنفة في عصر الرواية، ولذلك تراه يحكي عن أصحاب كتب المرحلة الأولى، ويقول: " قال الإمام أحمد في مسنده: حدثنا فلان " وهكذا..
1 / 12
وقد بذلك المحدثون في كلتا المرحلتين جهودا مضنية لصيانة السنة وحفظها، وذلك بتقعيدهم لقواعد تتناسب مع مقتضيات كل مرحلة، وتستجيب للمستجدات الطارئة في كل منهما، فأنتج حفاظ المرحلة الأولى من الأصول الضوابط ما يضمن لهم صدق الرواة في رواياتهم، وضبطهم لها، في حين وضع المحدثون في المرحلة الثانية أنواعا أخرى من القواعد والشروط تساعدهم على حفظ الدواوين والمصنفات من احتمال عبث بعض الوراقين وتحريف الناسخين.
فكانت العناية في المرحلة الأولى منصبة على نقلة الأخبار ورواتها، والبحث عن أحوالهم، والتفتيش في مروياتهم بعد جمعها ومقارنتها، حتى أصبح بمقدورهم تمييز الرجال، ومعرفة الثقات والضعفاء والمتروكين، والإطلاع على الأسانيد الصحيحة والضعيفة والمنكرة والواهية، وإبقاؤها في محفوظاتهم وسجلاتهم، واستحضارها دون وقوع التداخل بينهما أو الاختلاط.
وأما في المرحلة الثانية - مرحلة ما بعد الرواية - فقد توجه اهتمام المحدثين إلى وضع ضوابط جديدة، من شأنها حفظ المدونات من التصحيف والتحريف والانتحال، ونقلها إلى الأجيال اللاحقة كما وضعها مؤلفوها.
فمن أهم تلك الضوابط: إثبات المحدث حقية النقل والإفادة بأي نوع من أنواع التحمل والتحصيل، وأما حيازتها المجردة بشراء أو غيره، فليست كافية للتعامل معها رواية
1 / 13
وإفادة، كما حقق هذه المسالة أستاذنا الفاضل الدكتور أحمد محمد نور سيف في رسالة لطيفة: " عناية المحدثين بتوثيق المرويات " - جزاه الله تعالى خير الجزاء - ومن ثم أخذ يظهر اهتمام بالغ لدى المحدثين في الحصول على الأسانيد التي تم بها نقل الكتب والمدونات، والحفاظ عليها مهما كان نوعها وذلك قصد إثبات حقية روايتها، ونيل الشرف بوجود صلة بيهم وبين النبي ﷺ عموما.
" وبما أن معظم الأحاديث استقرت في دواوين السنة وأصبحت هذه الدواوين هي المعتمدة في أخذ الأحاديث النبوية وصارت عناية المحدث منصبة على حفظ هذه الدواوين فلا داعي إذن إلى دراسة أحوال الرجال الذين يشكلون حلقات الإسناد الذي بواسطته يتم نقل هذه المصنفات عن أصحافبها، كما لا تبقى حاجة إلى تلك التحفظات الشديدة، والقوانين الصارمة في جرح الرواة وتديلهم، بل يكفي فيهم معرفة أحقيتهم وأهليتهم لرواية تلك المصنفات، بل يكفي فيهم معرفة أحقيتهم وأهليتهم لرواية تلك المصنفات، إضافة إلى ستر حالهم، وإن لم ينص على توثيقهم " (١) وقد بين ذلك ابن الصلاح ﵀ بقوله ـ، وهذا نصه: " أعرض الناس في هذه الأعصار المتأخرة عن اعتبار مجموع ما بينا من الشروط في رواة الحديث ومشايخه، فلم يتقيدوا بها في رواياتهم، لتعذر الوفاء بذلك على نحول ما تقدم
_________
(١) عناية المحدثين بتوثيق المرويات: ص: ٨- ١٠، لأستاذنا الفاضل الدكتور / أحمد محمد نور سيف، حفظه الله تعالى.
1 / 14
وكان عليه ما تقدم "،
" ووجه ذلك: ما قدمناه في أول كتابنا هذا (يعني مقدمة ابن الصلاح) من كون المقصود المحافظ على خصيصة هذه الأمة في الأسانيد، والمحاذرة من انقطاع سلسلتها، فليعتبر من الشروط المذكورة ما يليق بهذا الغرض على تجرده، وليكتف في أهلية الشيخ بكونه مسلما بالغا، علاقة، غير متظاهر بالفسق، وفي ضبطه بوجود سماعه مثبتا بخط غير متهم، وبروايته من أصل موافق لأصل شيخه " (١) .
كتب الأجزاء وغيرها
وهذا الوضع السائد في مرحلة ما بعد الرواية، والذي كان من أبز سماته هو حرص المحدثين على إيجاد صلة بينهم وبين أصحاب الدواوين عن طريق سلاسل من الأسانيد، والتي كانوا يجوبون الأقطار الإسلامية شرقا وغربا من أجل جمع وتحصيل أكبر قدر ممكن من هذه الأسانيد والسماعات، ثم يدونونها وفق أساليب خاصة اصطلح على تسميتها " بالمعجم " أو " الأثبات " أو " المشيخات " أو " الأجزاء " أو " الفهارس" وغيرها ...
هذا الوضع الجديد جعل تلك الأسانيد لا تكاد تخلو من وجود خلل فيها من جراء تساهل محدثي هذه المرحلة في توفير شروط الصحة فيها، حيث اكتفوا في رجالها - أي تلك الأسانيد - بستر الحال، ولو لم يعرفوا العدالة والضبط.
_________
(١) مقدمة ابن الصلاح ص: ٧٠.
1 / 15
والجدير بالذكر أن ما سبق توضيحه من ظروف بروز ظاهرة الاعتماد على الكتب بسماتها المميزة، لا يعني أن ظاهرة الاعتماد على الأسانيد في نقل الأحاديث قد انقطعت بشكل نهائي، فقد كان بعض محدثي المرحلة الثانية كلما ظفروا ببعض الأحاديث بأسانيد عالية - سواء كانت تلك الأسانيد تمر بأصحاب الصحاح والدواوين الأخرى، ام لا تمر بشيء منها - حرصوا على تسجيلها في مشيخاتهم وبرامجهم حسب تراجم الشيوخ الذين استفادوها منهم، وقد يصنفون كتبا خاصة لذكر تلك الأحاديث، وهي التي تعرف باسم " الأجزاء " ومن تتبع كتب المتأخرين في التراجم يعثر على مزيد من التفاصيل حول هذه المسألة.
ولا بأس أن نسوق بعض النصوص كي تتضح صورة الأجزاء واهتمام المتأخرين بتصنيفها.
يقول الإمام الذهبي ﵀: " خرج يوسف بن خليل المتوفى سنة ٥٥٥هـ أجزاء عوالي: عوالي هشام بن عروة، وعوالي الأعمش، وعوالي ابن حنيفة، وعوالي أبي عاصم النبيل، وما اجتمع فيه أربعة من الصحابة " (١) . وجمع أبو نعيم الأصبهاني، صاحب كتاب الحلية ما وقع له عاليا من حديث أبي نعيم الملائي - وهو الفضل بن دكين ـ
_________
(١) سير أعلام النبلاء: ٢٣/١٥٣: أما العوالي فجمع "علو" والعلو في الإسناد يكون بعدة اعتبارات، منها ظاهري ومنها معنوي: أما الأول: فمثلا أن يقل عدد رواته إما مطلقا أو نسبيا، والمعنوي فكأن يكون صاحب الحديث ومصدره من كبار الحفاظ الذين جمعوا بين الفقه والحديث، أو نحو ذلك.
1 / 16
في جزء من طرق مختلفة، وعدة ذلك ثمانية وسبعون حديثا، بعضها آثار (١) . ويقول البكرى - وهو الحسن بن محمد - المتوفى سنة ٦٠٦هـ: " اجتمع لي في رحلتي وأسفاري ما يزيد على مائة وستين بلدا أو قرية، أفردت لها معجما، فسألني بعض الطلبة أربعين حديثا للبلدان، فجمعتها أربعين من المدن الكبار، عن أربعين صحابيا، لأربعين تابعيا" (٢) .
المتأخرون وأسانيدهم وأمثلة روايتهم العالية:
فعناية المحدثين بالاحتفاظ بالأحاديث برواية مباشرة بعوالي أسانيدها - وإن كان ذلك على نطاق ضيق - إلى جانب اهتمامهم البالغ بالاعتماد على المدونات ونقلها بأسانيد متنوعة أمر لم ينقطع كما ظهر لنا من النصوص السابقة وغيرها كثيرة. فالأجزاء تحوي أحاديث معدودة ظفر بها أصحابها بعوالي الأسانيد، منها ما يمر على الصحاح أو الكتب المعتمدة، ومنها مالا يمر على شيء منها، وأسوق هنا هنا بعض الأمثلة كي تتضح بجلاء أحاديث الأجزاء وغيرها وطبيعة أسانيدها التي هي مناط البحث.
_________
(١) سير أعلام النبلاء: ١٥/١٥٣.
(٢) سير أعلام النبلاء: ٢٣/٣٢٨.
1 / 17
المثال الأول وتحليله:
يقول الذهبي:
(١) أخبرني القاضي تقي الدين سليمان بن حمزة
(٢) قال أخبرنا شيخنا الحافظ ضياء الدين محمد
(٣) قال أخبرني أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد
(٤) قال أخبرنا أبو جعفر الصيدلاني
(٥) قال أخبرنا أبو علي الحداد - حضورا ـ
(٦) قال أخبرنا أبو نعيم الحافظ
(٧) قال حدثنا ابن خلا د
(٨) قال حدثنا الحارث بن محمد
(٩) قال حدثنا يزيد بن هارون
(١٠) قال حدثنا حميد الطويل
(١١) عن انس، أن رسول الله ﷺ سقط من فرسه فجحش شقه، أو فخذه، وآلى من نسائه شهرا ... الحديث (١) .
فروى الحافظ الذهبي هذا الحديث بإسناد عدد رواته أحد عشر راويا، مما يجعل الإسناد عاليا، فقد قال هو: " وأعلى ما يقع لنا ولأضرابنا في هذا الزمان من الأحاديث الصحيحة المتصلة بالسماع ما بيننا وبين النبي ﷺ فيه
_________
(١) سير أعلام النبلاء:٢٣/١٣٠.
1 / 18
اثنا عشر رجلا، وبالإجازة في الطريق: أحد عشر، وذلك كثير، وبضعف يسير غير واه: عشرة (١) . فإسناد الحديث الذي رواه الذهبي آنفا مكون برواة المرحلتين: فأنس، وتلميذه حميد الطويل، وتلميذه يزيد بن هارون وتلميذه الحارث بن محمد، وتلميذه ابن خلا د، وتلميذه أبو نعيم، رجال الحديث في عصر الرواية، في حين أن بقية الرواة من رجال عصر ما بعد الرواية، فعندما يتكون الإسناد برواة المرحلة الأولى لا سيما بأمثال يزيد بن هارون ومن فوقه إلى أنس، يصبح طبقة متميزة ومختارة في الصحاح، على عكس رواة المرحلة الثانية، فإنه لا يخلو الإسناد المشكل بهم من خلل مانع من صحته لصعوبة تحقق شروطها للأسباب التي فصلناها آنفا.
فقد ظهر الخلل هنا - إضافة إلى أمور أخر - حين سمع أبو جعفر الصيدلاني من أبي علي الحداد قبل بلوغه لسن التمييز، ولهذا وصف تلقيه منه هذا الحديث بالحضور، وهي كلمة اصطلح عليها المتأخرون في حالة ما إذا سمع الراوي قبل أن يتأهل لذلك. وسماع الصبي قبل تمييزه لا اعتبار له عند المحدثين لا سيما المتقدمين، وتساهل فيه المتأخرون حيث إن الاعتماد على الكتاب، وليس على ما تحمله ورواه.
_________
(١) تدريب الراوي: ٢/١٦٢.
1 / 19
فتصحيح الأحاديث باعتبار هذا الإسناد الطويل الذي ظهر لنا خلل في الجزء الثاني منه أمر متعذر، إذ أن أبا جعفر الصيدلاني اعتمد في رواية هذا الحديث على كتابه دون أن يتم له سماع صحيح من أبي على الحداد، وهذا ما أراده ابن الصلاح سابقا بقوله: " لأنه ما من إسناد من ذلك إلا ونجد في رجاله من اعتمد في روايته على ما في كتابه عريا عما يشترط في الصحيح من الحفظ والظبط والإتقان، وتراجم هؤلاء الرواة المتأخرون متوفرة في كتب التراجم، كثيرا ما نجد فيهم نصوصا صريحة في التعديل والتوثيق.
هذا، وإن العلو في المرحلة الثانية لا يتحقق في أسانيدها إلا وقيه خلل يظهر من التساهل في مراعاة الشروط في التحمل السليم والتلقي الصحيح، وقد رأينا آنفا الإمام الذهبي يقول: " وأعلى ما يقع لنا ولأضرابنا في هذا الزمان من الأحاديث الصحيحة المتصلة بالسماع ما بيننا وبين النبي ﷺ اثنا عشر رحلا، وبالإجازة في الطريق - أي في السند - أحد عشر، وذلك كثير، ويضعف يسير غير واه: عشرة اهـ. فبقدر ما يكون الإسناد عاليا بقلة عدد الرواة يزداد فيه الخلل.
على أن الحديث قد رواه البخاري في كتاب الصلاة، باب الصلاة في السطوح والمنبر والخشب (١) من طريق محمد بن عبد الرحيم، عن يزيد بن هارون به، وبه يتبين أن سند الذهبي قد
_________
(١) ١/٤٨٧ من فتح الباري، ط: دار المعرفة، لبنان.
1 / 20
مر على صحيح البخاري، حيث اشتركا في يزيد بن هارون، ومن فوقه إلى أنس، وهذا بمثابة تصحيح البخاري لهذا الحديث مما يغني عن اعتبار الإسناد الذي رواه به الحافظ الذهبي، وهذا ما قيد به ابن الصلاح كلامه حين قال: " ولم نجده في أحد الصحيحين، ولا منصوصا على صحته في شيء من مصنفات أئمة الحديث المعتمدة المشهورة.
المثال الثاني وتحليله:
وهو مثال الإسناد المستقبل الذي لا يشارك شيئا من الدواوين المتعمدة التي تنص على صحة الحديث.
يقول الإمام الذهبي:
(١) أخبرنا عمر بن عبد المنعم
(٢) قال أخبرنا عبد الصمد بن محمد - حضوراـ
(٣) قال أخبرنا علي بن مسلم
(٤) قال أخبرنا ابن طلاب
(٥) قال أخبرنا ابن جميع
(٦) قال حدثنا الحسن بن إدريس القافلاني
(٧) قال حدثنا عيسى بن أبي حرب
(٨) قال حدثنا يحي بن أبي بكير
(٩) قال حدثنا سفيان
(١٠) عن سليمان التيمي
1 / 21
(١١) عن أبي عثمان
(١٢) عن أسامة بن زيد
أن النبي ﷺ قال: لا ترجعوا بعدي كفارا، يضرب بعضكم رقاب بعض، ثم قال الذهبي: " رواته ثقا ت، وهذا من الأفراد، لم يخرجوه في كتب الستة" (١) . قلت: وإنما أخرجه بعضهم من حديث ابن عمر وأبي بكرة فظهر مما ذكره الحافظ الذهبي أن سند هذا الحديث المشكل من اثني عشر رجلا لم يمر على الكتب الستة، والحكم عليه بالصحة أو بالضعف متوقف على اعتبار هذا السند من أوله إلى آخره، وقد رأينا في مستهل الإسناد شيئا يمنع صحته، وهو عدم صحة السماع عند عمر بن عبد المنعم، حيث بين أنه لم يكن وقت تلقيه من عبد الصمد بن محمد متأهلا له.
المثال الثالث وتحليله:
وهو ما رواه الإمام ابن الصلاح ﵀ بسنده العالي، ليختتم به كتابه المعروف بمقدمة ابن الصلاح، قال رحمه الله تعالى:
(١) أخبرنا الشيخ المعمر أبو حفص عمر قراءة عليه
(٢) قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الباقي
(٣) قال: أخبرنا أبو إسحاق بن عمر أحمد البرمكي
(٤) قال: أخبرنا أبو محمد عبد الله بن إبراهيم
_________
(١) سير أعلام النبلاء:٩/٤٩٨.
1 / 22
(٥) قال: حدثنا أبو مسلم إبراهيم بن عبد الله الكجي
(٦) قال: حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري
(٧) قال: حدثنا سليمان التيمي
(٨) عن انس
قال: قال رسول الله ﷺ: لا هجرة بين المسلمين فوق ثلاثة أيام. أو قال ثلاث ليال (١) .
فالجزء الأول من هذا الإسناد لم يسلم من الخلل حيث أن أبا بكر محمد بن عبد الباقي، شيخ ابن الصلاح لم يكن متأهلا للسماع والتحمل وقت سماعه من أبي إسحاق الكجي، فقد قال الذهبي: بكر به - يعني محمد بن عبد الباقي - أبوه، وسمعه من أبي إسحاق البرمكي، جزء الأنصاري وما معه حضورا في السنة الربعة (٢) .
وعليه فلا ينبغي التسرع إلى تصحيح مثل هذه الأحاديث اغترارا بشهرة السلسلة في الجزء الثاني من إسناد المتأخرين لأنه ينبغي التحقق من ثبوت الحديث عن ذلك الجزء المشهور وذلك بورود نص على صحته في كتاب معتمد، وثبوته عن أحد من أئمة الحديث، ولا شك أن عملية التصحيح باعتبار جميع أجزاء الإسناد - دون الاعتماد على ما نص عليه الأئمة في كتبهم المعتمدة - أمر يكاد يكون متعذرا، إن لم يكن كذلك
_________
(١) مقدمة ابن الصلاح، ص: ٢٤٥ـ ٢٤٦.
(٢) سير أعلام النبلاء: ٢٠/٢٣ـ٢٤.
1 / 23
لصعوبة تحقق سلامة الإسناد في المرحلة الثانية من جميع النقائص. وفي ختام هذا التحليل التاريخي للمرحلتين اللتين مرت بهما السنة النبوية، يصبح من اليسير تحرير الأمور التي وقعت في كلام ابن الصلاح، وتحديد مقصوده منها
مقصود ابن الصلاح بالأجزاء وغيرها:
فالأجزاء، وإن كانت تطلق على جميع المصنفات التي تعالج مسائل جزئية، إلا أن التي تعرض لها ابن الصلاح وخصصها بمسألة التصحيح لا يقصد بها جميع المصادر الحديثية، وإنما يرد بها هنا تصانيف المتأخرين التي يجمعون فيها بعض الأحاديث التي سمعوها بأسانيد عالية.
والمقصود بغيرها في كلام ابن الصلاح، ما هو على شاكلة الأجزاء، من مشيخات، وأثبات، وفهارس، وبرامج وغيرها من التأليفات التي يورد فيها المتأخرون الأحاديث بأسانيدهم العالية والطويلة حسب مناسبات تراجم الشيوخ الذين تلقوها منهم، وغيرهم، ومن هنا يظهر وجه تخصيص ابن الصلاح الأجزاء بالذكر في مستهل كلامه رغم شهرة المسانيد والسنن وكثرة تداولها لديهم.
توجيه رأي ابن الصلاح وتحقيقه:
وعليه، فقد أصبح واضحا مغزى قوله: " تعذر في هذه الأعصار الاستقلال بإدراك الصحيح بمجرد اعتبار السند " لأن أسانيد الأحاديث التي تمر بالمرحلتين جميعا لا يسلم الجزء الذي
1 / 24