ألم يدرك شعراء العرب هذه العاطفة أحسن من سواهم حينما كانوا يستهلون قصائدهم بتحية الأطلال البالية، وندب الربوع الدارسة؟!
أنا لا أمر بمكان فيه شيء من بقايا الماضي القريب أو البعيد - إن كان في الماضي قرب أو بعد - إلا وأستسلم إلى التأملات المحزنة. كم من النفوس تألمت وبكت حيث نتألم ونبكي، ورجت وتعزت حيث نرجو ونتعزى، فتعرفت مثلنا الأمل المحيي، والقنوط المميت!
أجل، لعل تلك الأرواح تطل علينا من عالمها الثاني، وتشاركنا في دموعنا وابتساماتنا. لا شك أنها ترثي لحالنا، بل تضحك منا، تضحك من أفراحنا، ونحن نعتقد أنه لم يعرف الفرح أحد قبلنا، وتضحك من أحزاننا ونحن نتوهم أنه لم يشعر بالحزن قلب غير قلوبنا، وتضحك من حبنا ونحن نتصور أننا دون سوانا قد اخترعنا الحب!
هذه السطور يا مي علقيها على حاشية بحرف ضئيل على متن يومياتك الجميلة، ولعلك فاعلة، فينعكس عليها شيء من نور فكرك الثاقب يجعل لها بعض الرونق في عينك المتأملة.»
أنطون الجميل
الخطاب الثاني
هذا ما كتبه أنطون الجميل إلى مي سنة 1915، وكان الإعجاب الأدبي هو الظاهر في إرساله إليها هذا الخطاب الذي يمتلئ بالشعور الفياض الذي يدفعه وحيها ووحي تقديرها وحبه لها. وقد دامت هذه الصداقة وهذا الحب عدة سنوات، بعث إليها بخطابات كثيرة نذكر منها هذا الخطاب الذي وصلها بتاريخ 13 يونيو سنة 1926، والذي يكشف فيه عن عاطفته نحوها وحبه لها بوضوح، قال:
صباح الأحد 13 يونيو سنة 1926 «يلذ لي يا مي أن أخاطبك باسمك مجردا من الوصف واللقب؛ لأن كل وصف قليل إذا ما قيس بصفاتك، وكل لقب ضئيل إذا ما اقترن باسمك، فاسم «مي» وكفاك به من وصف ولقب، قد أصبح في هذا الجيل يرادف حسن البيان، وفصاحة اللسان، ونبوغ العقل، وكبر القلب!
وبعد، فقد طلع علي كتابك مساء أمس في ليلة العيد مع هلال الشهر، محوطا بهالة من نور، هو نور نفسك الفياض، لا عجب إذا تقبلت ما فيه من عواطف سامية، وما معه من هدية ثمينة شاكرا ممتنا؛ فإن ما دون ذلك يستوجب الشكر والامتنان، فكيف بذلك كله محلى بما شرفتني به من صداقة غالية!
على أني ما أتيت إلى آخر كتابك الكريم حتى مازج شعوري هذا شيء من الاحتجاج، الاحتجاج الشديد على ما نسبته إلي من النقمة على خطك، والضحك من حروفك، ووالله ما رسم خطك إلا كل بديع طريف، ولا عبرت حروفك إلا عن كل سام شريف.
ناپیژندل شوی مخ