بسم الله الرحمن الرحيم خطبة المؤلف اللهم إني أحمدك على ما أزللت إلي من نعمتك، وعلى ما أزلت عني من نقمتك. على أني لم أكن أهلًا للأولى، وكنت بالثانية أولى. لولا فضل منك سابق حمد الحامد وراءه يقطف، وإن أعنق فكأنه مصفود يرسف. وكرم باسق شكر الشاكر ينوء تحته بجناح مهيض، وإن حلّق فكأنه لاصق بالحضيض ثم إني أحمدك حمدًا بعد حمدٍ عودًا على بدءٍ. وأجعل توفيقك معي ردأً وكفى به من ردءٍ، على صنع ما هجس في ضمير نفسٍ. ولا اتصل يوما بظنٍ ولا حدسٍ، من تيسير الفيئة التي بإحسانك المتظاهر جذبت إليها بضبعي. وبسلطانك القاهر قسرت عليها طبعي،
1 / 2
وبنظرك الصادق خففت علي مجاشمها المتعبة. وسهلت تكاليفها المتصعبة، وفككت من رقِّ التَبِعاتِ عنقي. ومننت بحلِ إساري وعتقي، ورقيتني إلى رتبة القناعة وهي الرتبة العليا. وزهدتني في الحرص على زخرف الدنيا، وطيبت نفسي بغوارز أخلافها عن الغزار. وترضيتها بعد الدرّة بالغِزَارِ، ولما اقترحت عليك الأسباب المقصية. عن الدار التي اقترفت فيها المعصية، عطفت علي في ذلك عطف حفِيٍّ. وتداركتني بلطفٍ خفي، فاصطنعتني بالنقل إلى أحب بلادك إليك. وأعزها وأكرمها عليك، وحليتني بدُملَج الفخر وسواره. حين شرفتني بحج بيتك وجواره، وأسألك أن تصلي على خاتم أنبيائك. وسيد أحبائك وأصفيائك، محمد وآله عترة الهدى. وصحابته زمرة البر والتقى، وأرغب إليك أن تجعل عقيدتي وطويتي. وبديهتي ورويتي، وما خط بناني، وخطر بجناني. وكل ما ألّفته من أقوالي وكلمي، وأسلة مقولي على سنّي قلمي. خالصة لك ومن أجلك، مطلوبةً بها نفحات سَجْلِكَ وأن تفيض على هذه المقالات من البركة والقبول، ما يهبها مهب الجنوب والقبول. وأن تحفظ فيها ما أوجبت للجارِ، من حق الذمام. لأنها وجدت في حرمك المطهر، وولدت في حجر بيتك المستّر. وأن تنفع بها منشئِها وقابسها، ومقبسها، ودارسها. إنك مولى
1 / 3
كل خير وموليه، وخافض كل شيء ومُعليه. وليس لما سخطته قابل، ولا لرحل حططته حامل.
إلى هنا تنتهي خطبة الزمخشري أو مقدمة كتابه
المقالة الأولى: الذي يخفض المرء
ما يخفض المرء عُدمه ويتمه، إذا رفعه دينه وعلمه. ولا يرفعه ماله وأهله، إذا خفضه فجوره وجهله. العلم هو الأب، بل هو للثأي أرْأَب. والتقوى هي الأم، بل هي إلى اللبان أضم. فأحرز نفسك في حرزهما، واشدد يديك بغرزهما. يسقك الله نعمة صيّبة، ويحيك حياة طيبة.
المقالة الثانية:
أصلك يا ابن آدم
يا ابن آدم أصلك منم صلصال كالفخار، وفيك ما لا يسعك من التيه والفخار. تارة بالأب والجد، وأخرى بالدولة والجد. ما أولاك بأن لا تصعر خديك، ولا تفتخر بجديك. تبصّر خليلي مم مركّبك، وإلى م منقلبك. فخفض من غلوائك، وخل بعض خيلائك.
المقالة الثالثة: عُمرٌ ينقضي
عمر ينقضي مر الإعصار، وأنت ترجوه مدى الأعصار. ضلة لرأيك الفائل، في ظلك الزائل. ما هو إلا بياض نهارك فتغنمه، وسواد ليلك فلا تنمه. واتبع من ضرب أكباد المطي، بكنف وطيّ.
المقالة الرابعة:
أُسطوانة وخنزوانة
قدُّ في طول الأسطوانة، وأنف ملئ من الخنزوانة.
1 / 4
وعطف ميال، وقميص ذيّال. وشخص لا يشعر أجر الإزار، من الأجور أم من الأوزار. وإن من أعظم الحوب، فضل الذيل المسحوب. يا أرعن، ومثلك ألعن. قل لي ويلك، كم تلحف البطحاء ذيلك. وهي عما قليل تلحفك حصباءها، وتقذف عليك أعباءها وتثقلك فوق ما أثقلتها. وتحملك أضعاف ما حملتها.
المقالة الخامسة:
يا ابن أبي
يا ابن أبي وأمي هات، حديث الآباء والأمهات. وحدّث عن رجال العشيرة وكرام الأخلاء والجيرة. من الجار الجنب، وماس الطنب. ومن جاثيناه على الركب، وجاريناه في كشف الكرب. ومن رفدنا بالخير ورفدناه، وأفادنا الحكمة وأفدناه. قد اقتضاهم من أوجدهم أن يفنوا، وخلت عنهم الديار كأن لم يغنوا. وكفى بمكانهم واعظًا لو صودف من يتعظ، وموقظًا عن الغفلة لو وجد من يستيقظ.
المقالة السادسة:
دعاؤك وعملك
عملك للذي علم منه في عدمهما لا تعلم أنت وقد وجد، ودعاؤك لمن هو أخبر منك بما أردت به مما لم ترد. فما هذا الرغاء كأنه هدير، وما هذا الصراخ الذي الأصم به جدير. إن كنت ممن يأوي إلى السنة دون البُدعة، ولا يلوي على الرياء والسمعة. وأردت بذلك وجه العليم بما خطر في قلب العبد وهجس، الخبير بما وسوست به
1 / 5
نفسه وأوجس. من هوى نفسك العمل المشهور فالكتم الكتم، ومن شهواتهما الدعاء المنشور فالختم الختم. إن خير النوق والقسي الكتوم، وخير الكتاب والشراب المختوم.
المقالة السابعة:
هذا هو التواضع
التوضيع كل التوضيع أن تُشرف، والتنكير كل التنكير أن تُعرف. فآثر الخمول على النباهة، واستحب الستر على الوجاهة. تعش أنجى من أظفار المحن، وأنأى عن إظمار الإحن. وإن ذا الشرف محسود أو حاسد، ومحقود عليه أو حاقد. وتلك تتقلقل تحتها الأحشاء، ويفعل الله فيها ما يشاء.
المقالة الثامنة:
ما أسعدك!!
ما أسعدك لو كنت في سلامة الضمير، كسلاسة الماء النمير. وفي النقاء عن الريبة كمرآة الغريبة. وفي نفاذ الطية كصدر الخطية. وفي أخذ الأهبة، كالواقع في النهبة. لكنك ذو تكدير، كرجرجة الغدير. ومتلطخ بالخبائث، كخرقة الطامث. وذو عجز وتواني، كمكسال الغواني. وتارك للأستعداد، كالشاك في المعاد.
المقالة التاسعة:
الشقي المخذول
ألا أخبرك بالشقي المخذول، ذي المال المصون والعرض المبذول. من لا يبالي إذا سلمت ثروته، أن تُمزق فروته.
1 / 6
وإذا شبعت خزانته، أن تجوع خزانته. وألا أخبرك بالسعيد المنصور، ذي الجناب الممطور. من خالف تلك السنة، واتخذ المال لعرضه جنة. يقول لخازنه أنجح، ولوازنه أرجح. ولنفسه إذا جاشت مكانك تحمدي، وإذا طاشت وراءك تصمدي.
المقالة العاشرة:
حق المؤاخاة
استمسك بحبل مواخيك، ما استمسك بأواخيك. واصحبه ما أصحب للحق وأذعن، وحل مع أشياعه وظعن. فإن تنكرت أنحاؤه، ورشح بالباطل إناؤه. فتعوض من صحبته وإن عوضت الشسع، واصطرف بحبله وإن أعطيت النسع. فصاحب الصدق أنفع من الترياق النافع، وقرين السوء أضر من السم الناقع.
المقالة الحادية عشرة:
الشهم الحذر
الشهم الحذر. يعيد مطارح الفكر. غريب مسارح النظر، لا يرقد ولا يكرى. ألا وهو يقظان الذكرى، يستنبط العظة من اللمح الخفي. ويستجلب العبرة من الطرف القصي، فإذا نظرت إلى بنات نعش فاستجلب عبرتك. وإذا رأيت بني نعش فاستجلب عبرتك. واعلم أن من الجوائز، أن تروح غدًا على الجنائز.
المقالة الثانية عشر:
الماعون والناعون
لا تمنع المعون والماعون، حتى ينعاك الناعون. إن مثل توسعتك
1 / 7
على أخيك وقد أضاق، وحقنك ماء وجهه أن يهراق. مثل العين الغديقة، في حرّ الوديقة. ذاك من ذوائب الخير والنواصي، وحقيق أن يطول به التواصي.
المقالة الثالثة عشر:
المستجدي
يا أيها المستجدي حسبك، فبئس الكسب كسبك. لا يخلق الديباجة، مثل التعرض للحاجة. فليرقع اليسير خصاصتك، ولتكن القناعة خويصتك. وأقلل في الناس طمعك، تسدم فضل الله معك.
المقالة الرابعة عشرة:
دع الهوينا
خل الونى، ودع الهوينا. فالأمر مما تتوهم أهم والخطب مما تقدر أطم داعٍ للموت صيت، وحي لا محال له ميت. وميت منشور، وخلق محشور. وعمل محسوب، وميزان منصوب. ومجاز قادر، وكتاب لا يُغادر. وثواب وكل راجي، وعقاب وقل الناجي.
المقالة الخامسة عشرة:
الدعة والضعة
الدعة مع الضعة مرة، لا تشره اليها نفس حرة. لكن أخلاقها مرتضعة، بفي من هانت عليه الضعة. وكم بين من يستلين مع نيل الشرف، مس الشظف. ويستحف لأجل الزلف، عبء الكلف. سواء عليه الغثاثة والطيب، وتهلل وجه العيش والتقطيب. ومن هو عبد مقذه، همته إصابة مستلذة. يرضيه بطنه إذا شبع، ولا يسخطه عرضه إذا سبع.
1 / 8
المقالة السادسة عشرة:
الكريم والضيم
الكريم إذا ريم على الضيم نبا، والسري متى سيم الخسف أبى. والرزين المحتبي بجمالة الحلم، ينفر نفرة الوحشي عن الظلم. إشفاقًا على ظفره أن يقلم، وعلى ظهره أن يكلم. وقلما عرفت الأنفة والإباء، في غير من شرفت منه الآباء. ولا خير فيمن لم يطب له عرق، وذنب الكلب ما به طرق.
المقالة السابعة عشرة:
الوجه القبيح
الوجه ذو الوقاحة، من وجوه الرقاحة. يفيء على صاحبه الأنفال، ويفتح الأقفال. ويلقطه الأرطاب، ويلقمه ما استطاب. ويحسره على قول المنطيق، وييسر فعل ما لايطبق. وكل ذي وجه حيي، ذو لسان عيي. معتقل لا ينشط لمقال، ولا ينشط من عقال. ولا يزال ضيق الذرع، بكيء الضرع. يشبع غيره وهو طيان، ويعطش هو وصاحبه ريان. ولكن لا كان من يتوقح، لاجل أن يترفه ويترقح. فلعمري ما النائل الوتح، إلا ما ناله الوقح. وأيم اله إن الرشحة في الجبين، أحشن من الشمم في العرنين. ولأن تفر عرضك وما في سقائك جرعة، خير من أن تملك البحر وما في وجهك مزعة.
المقالة الثامنة عشرة:
عزة النفس والموت الأحمر
عزة النفس وبعد الهمة، الموت الأحمر والخطوب المدلهمة. ولكن من عرف منهل الذل فعافه، استعذب نقيع العز وذعافه. ومن لم يصطل بحر الهيجاء، لم يصل إلى برد المغنم. ومن
1 / 9
لم يصبر على براثن أُسد اللقاء، لم يُصب أطرافًا كالعنم. وتحت علم الملك المطاع، ذكر السيوف والأنطاع. ومن لم يقض عليه عسر يقذه. لم يقيض له يسر ينقذه. وما الحكمة الإلهية إلا هي، وهي القاعدة التي أُمر عليها العبد ونُهي. اليوم عزاء في كُلفٍ وكُربٍ، وغدًا جزاء بزُلفٍ وقُربٍ.
المقالة التاسعة عشرة:
الحِمل والحلم
أحمل الناس لأعبائه، أحلمهم عن أحبائه. بل من عدوّه إلى حبيبه جنيب، لا يلحقه عتاب ولا تأنيب. يترك جزاءه على ذنبه، ويعرك أذاه بجنبه. ذاك الذي لم يعره الله قلبًا رهينًا بالحقد، ولا أودعه إلا ضميرًا صحيح العقد. قطع الله نياط كل قلب بالشر رهين، يزل الخير عنه زليل الحبر عن الرق الدهين.
المقالة العشرون:
المروءة
المروءة خليقة، برضا الله خليقة. والسخاء سجية، بحسن الذكر حجية. ولم أر كالدناءة، أحق بالشناءة. ولا يصلح للإخاء، إلا أهل السخاء. بهم يداوى القلب المريض، ويجبر العظم المهيض. وهم يريحون عليك النعم إذا عزبت، ويزيحون عنك النقم إذا حزبت.
المقالة الحادية والعشرون
اعتني، وابتني، واقتني
لا تنتفع بما لا تني أن تبتني وتقتني، وتعتني بغرس ما لا تجتني. هلم إلى استشارة عقلك فتبصّر، وإلى استخارة ذهنك فتدبّر.
1 / 10
وقل لي إذا شقّ بصرك، واشتدّ حصرك. وعاينت الجدّ فشغلك عن دَدِكَ، وأوحشك تفريطك فسقط في يدك. ما يغني حينئذٍ عنك بُنيانك، وماذا يجدي عليك قُنيانك. وهل ينفعك نخيلك الصنوان وغير الصنوان، أم يدفع عنك ما يخرج من طلعها من القنوان.
المقالة الثانية والعشرون:
الباطل واللَّدد
خل عن يدك
الباطل واللدد، واعتنق الجدوالزم الجدد. إن الله تعالى خلقك جِدًا لا عبثًا، وفطرك إبريزًا لا خبثًا. لولا أن نفسك بكسبها الخبيث خبثتك، وبلطخ عملها السيئ لوثتك. فأرخيت عنانك فيما أنت عنه مزجور، وتوليت بركنك عما أنت عليه مأجور. إلقاء بيدك إلى التهلكة، وإضاعة لحظك في عظيم المهلكة.
المقالة الثالثة والعشرون:
خسوف وفيلسوف
احذر من الخسوف والكسوف، ولا تستمع لقول الفيلسوف لأنه لا يألو أن يتحمق وأن يغلو ويتعمق، إن اشتهاره بقوله الفج طوّح به وراء كل فجّ، مبخت مرجم يدّعي أنه منّجم، هو عند نفسه المهذّب. وعند عباد الله المكذب، وبنار الله
1 / 11
المقالة الرابعة والعشرون: نحو قلب سليم
من لعمل كالظهر الدبر، ومن لقلب كالجرح الغبر. دُووي بكل دواء فلم ينجع، واحتيل عليه بكل حيلة فلم ينفع. متى رفوت منه جانبًا انتقض عليه آخر، وإذا سددت من فساده منخرًا جاش منخر. ضاقت عن تدبيره فطن الأناسي، وأعضل علاجه على الطيب النطاسي. فيا ويلتا من هذا السقام، ويا غوثنا من هذا الداء العقام. وما أحق بمثلي أن يبيت بليلة سليم، كلما تُليت إلا من أتى الله بقلب سليم.
المنكر فاشمأزّ. وقام بأمر الله في إهانة الأشرار وعصب سلمتهم، وفي إعانة الأبرارونصب كلمتهم.
1 / 12
المقالة السابعة والعشرون:
النعامة والزعامة
أحمق من النعامة، من افتخر بالزعامة. لم أرَ أشقى من الزعيم، ولا أبعد منه من الفوز بالنعيم. وأنّى يفوز من ديدنه الهتك بالأستار، وهجيراه الفتك بالأحرار. لا يفتر من إهراع في سبل الطغاة، ولا يهدأ من إهطاع قبل البُغاة. هالك في الهوالك، خابط في الظلم الحوالك. على آثاره العفاء، وأدركته بمجانيقها الضعفاء.
أنت ماثل، ولأيّ مكّار أنت مقاتل. لعمرك ما رتب رتوب الكعب، في مثل هذا الموضع الصعب. إلا عبد حرّ المنابت. مثَّبت بالقول
1 / 13
الثابت. أوّاه من خوف العقاب أوَّاب، توّاب إلى بيل الثواب وثّاب. ركّاض خيله في حلبات الطاعة، روّاض نفسه على بذل الاستطاعة.
المقالة الثلاثون: الدنيا أدوار
الدنيا أدوار، والناس أطوار، فالبس كل يوم بحسب ما فيه من الطوارق وجالس كل قوم بقدر ما لهم من الطرائق. فلن تجري الأيام على أمنيتك، ولن تنزل الأقوام على قضيتك. ولن تُشايعك الدنيا إلى ما تروم، وإن ساعدتك فمساعدتها لا تدوم.
المقالة الثانية والثلاثون: بلد الوالي الغشوم
ألا أحدثك عن بلد الشوم، ذلك بلد الوالي الغشوم. الغشم أدوس من حوافر الخيول، وأحطم من جواحف السيول. وأعفى
1 / 14
من الرياح البوارح، وأضر من السنن الجوائح. يحجب أن تصعد كلمات الدعاء، وأن تهبط بركات السماء. فإياك وبلد الجور وإن كنت أعزّ من بيضة البلد، وأحظى أهله بالمال المثمر والولد. وتوقع أن تسقط فيه الطيور النواعق، وتأخذ أهله الرجفة والصواعق.
المقالة الثالثة والثلاثون:
يا عبد الدينار
يا عبد الدينار والدرهم متى أنت عتيقهما، ويا أسير الحرص والطمع متى أنت طليقهما. هيهات لا عتاق إلا أن تكاتب على دينك الممزق، ولا إطلاق أو تفادي بخيرك الملزّق. يا من يشبعه القرض، ما هذا الحرص. ويا من ترويه الجرع، ما هذا الجزع. ستعلم غدًا إذا تندّمت، أن ليس لك إلا ما قدمت. وإذا لقيت المنون، لم ينفعك مال ولا بنون. ما يصنع بالقناطير المقنطرة، عابر هذه القنطرة، وما يريد من البهجة والفرحة، نازل ظلّ هذه السرحة.
المقالة الرابعة والثلاثون:
الشرف
لا تقنع بالشرف التالد، وهو الشرف للوالد. واضمم إلى التالد طريفًا، حتى تكون بهما شريفًا. ولا تُدل بشرف أبيك، ما لم تدل بشرف فيك. إن مَجد الأب ليس بمُجد، إذا كنت في نفسك غير ذي مَجدٍ. الفرق بين شرفي أبيك ونفسك، كالفرق بين فرقي يومك وأمسك. ورزق الأمس لا يسدّ اليوم كبدًا، ولن يسدّها أبدًا.
1 / 15
المقالة الخامسة والثلاثون:
هذا العبد العظيم
لله عبد أنفه إلى طاعة الله مخزوم، وقوله بالتوكل عليه محزوم. لا يقرع ظنوبه إلى غير قِبابه، ولا يُقعقع إلا حلقة بابه ولا يزلُّ ظُفرًا عن عتبته، قرقًا مِن توجه معتبته. مُكمِّش أذياله مُشمّر، ماثل ممتثل حيث أُمر لمّا أُمر.
المقالة السادسة والثلاثون:
ويل لأهل الفخر
كبّ الله على مناخره، من زكّى نفسه بمفاخره. على أنه ربّ مساخر، يعدها الناس مفاخر. يقول الرجل جدّي فلان، وأنا ممن يقدّمه السلطان. وأبوه عبد لبعض العُصاة مُسخر، ومَن قدّمه السلطان فهو المؤخر. الأصيل من رسخ في ثرى الطاعة عِراقه، والمقدّم من أحرز قصب السبق سبقه.
المقالة السابعة والثلاثون:
الرواية عن فلان وفلان
إمش في دينك تحت راية السلطان، ولا تقنع بالرواية عن فلان وفلان. فما الأسد المحتجب في عرينه، أعز من الرجل المحتج على قرينه. وما العنز الجرباء تحت الشمأَل البليل، أذل من المُقلد عند صاحب الدليل. ومن تبع في أصول الدين تقليده، فقد ضيع وراء الباب المرتج إقليده. وجامع الروايات الكثيرة ولا حجة عنده، مقوِ أوقر ظهره بالحطب وأغفل زنده. إن كان للضلال أُمٌ فالتقليد أمُّه، قلّد الله حبلًا من مسد من يقصده ويؤمه.
1 / 16
المقالة الثامنة والثلاثون:
الحق والبرهان
لم أر فرسي رهان، مثل الحق والبرهان. لله درهما متخاصرين، ولا عدمتهما من متناصرين. اصطحبا غير أبانين. مَن شدّ يده بغرزهما، فقد اعتزّ بعزّهما. ومن زلّ عنهما فهو من الذلة أذل، ومن القلة أقل.
المقالة التاسعة والثلاثون:
الساهي واللاهي
أيها الشيخ الشيب ناهيك به ناهيًا، فما لي أراك ساهيًا لاهيًا. أبق على نفسك واربع، فهذه أخرى المراحل الاربع. ومن بلغ رابعة المراحل، فقد بلغ من الحياة الساحل. وما بعدها إلا المورد الذي ليس لأحد عنه مصدر، ولا زيد من عمرو بوروده أجدر. هو لعمر الله مشرع، جميع الناس فيه شرع. وأحقّهم بالاستعداد له من شارَفه، وأولاهم بالإشفاق له من قارفه.
المقالة الأربعون:
القاضي المرتشي
القاضي تعمل فيه الرشوة، ما لم تعمل في الشارب النشوة. إن أتته فسكران ميلًا وطربًا، وإن فاتته فثكلان ويلًا وحربًا. كأن لم يسمع أن الرشوة من السحت، ووان السحت مأخوذ من السحت. وأن آكله ممن يسحته الله بمثلاته، ومن جملة من ينحت الله أثلاته، أية نار يؤرث، حين يقسم ويورث. يقدم نصيبه ونصيب من نصبه، على حقوق ذوي الفرض والعصبة. يسمى القاضي، وهو السمّ القاضي.
1 / 17
المقالة الحادية والأربعون:
الفرائض والجهاد
في إقامة فرائض الله فجاهد، وعلى سنن الرسول فعاهد. ولا يلفتنك أن الفرائض لها الفضل عند التفاضل، ولها الخصل يوم التناضل. عن أن تكون معتدًا بالسنن، معتقدًا إنها من الجنن. متنسكًا بالآداب، متمسكًا منها بالأهداب. متماديًا في أخذها، متفاديًا عن نبذها. فكل موقر مبجل، وإن كان الأغر دونه المحجل. ومن اقتحمت عينه الأدب وحقره، لم تكن السنة عنده موقرة. ومن لم يوقر السنة ولم يجلها، لم يعرف قدر الفريضة ولا محلها.
المقالة الثانية والأربعون:
العلماء وأنواعهم
رضي الله عن العلماء الخاشين من الله وحسابه، الماشين على سبيل محمد ﷺ وأصحابه. المتواصين بالحق قلّما يحيصون عن فجّه الرحب إلى ثنيّات المضايق، ولا يحيدون عن نهجه اللّحب إلى بُنيات الطرائق. في أفواههم بيض بواتر علىرقاب المبطلين، وفي أيديهم سُمر عواتر في نُغر المعطلين. جمعوا إلى الدين الحنيفي العلم الحنفي، وإلى العلم الحنفي الحلم الأحنفيّ. فنفوسهم رواسي الحلم، وقلوبهم معادن العلم. لله بلادها من جبال وَقار، بحاث معادنها يرجع بأوقار. لعمرك ما عُمار ساحة الأرض، إلا عمّالها بالسنة والفرض. أولئك العلماء حق العلماء، وسائرهم كالغثاء يطفو على الماء. فلا تُسمّهم إلا بالحملة والرواة، وادعُهم زوامل الكتاب والدواة.
1 / 18
المقالة الثالثة والأربعون:
علماء السوء
ما لعلماء السوء جمعوا عزائم الشرع ودونوها، ثم رخصوا فيها لأمراء السوء وهونوها. ليتهم إذا لم يرعوا شروطها لم يعوها. وإذا لم يسمعوها كما هي لم يسمعوها، إنما حفظوا وعلّقوا وصفقوا وحلقوا. ليقمروا المال وييسروا، ويُفقروا الأيتام ويوسروا. إذا أنشبوا أظفارهم في نشب فمن يخلّص، وإن قالوا لا نفعل أو يزاد كذا فمن يُنقص، دراريع ختّالة، ملئها ذراريح قتالة. وأكمام واسعة، فيها أصلال لاسعة. وأقلام كأنها أزلام وفتوى، يعمل بها الجاهل فيتوى. فإن وازنت بين هؤلاء والشرط، وجدت الشرط أبعد من الشطط. حيث لم يطلبوا بالدين الدنيا، ولم يثيروا الفتنة بالفتيا.
المقالة الرابعة والأربعون:
اتقاء الكبائر
هب أنك اتقيت الكبائر التي نُصت، وتجنبت العظائم التي قُصت. ورضت نفسك مع الرائضين، على أن لا تخوض مع الخائضين. فما قولك في هنات توجد منك وأنت ذاهل، وفي هفوات تصدر عنك وأنت غافل. ولعلك ممزق الشلو مأكول، وإلى المؤاخذة باقترافها موكول. فمثلك مثل الريبال، في محاماته عن الأشبال. يصد عن التصدي لها البطل الحميس، بل يرد عن مرابضها الخميس. ثم يصبح أبو الشبل، والنمل إلى ابنه كالحبل. وهي بأوصاله مُطيفة، كأنما كسته قطيفة. فما أغنى عنه ذياده، حتى تمّ للنمل كياده.
1 / 19
المقالة الخامسة والأربعون:
حزنًا على التفريط
من لم يحفظ ما بين فكيه، ظلّ يقلب كفيه. وبات يتململ على دَفّيه، حزنًا على ما فرّط فيه من التحفظ. وأسفًا على ما فرط منه من التلفظ، ولو كان اللسان مخزونًا. لم يكن الفؤاد محزونًا، وقلما يحرس مهجته. من لا يُخرس لهجته. ولن تجد على السر أمينًا. إلا من كان بكل أمانة قمينا.
المقالة السادسة والأربعون:
أمر الله للروح الأمين
أمر الله الروح الأمين، أن يضج مع الملائكة بآمين. إذا دعا المتقي لأخيه بظهر الغيب، عن نصوع القلب ونصوح الجيب. على أن الأخوة في الله يستوي فيها المحضر والمغيب، ولا يختلف في مراعاتها البعيد والقريب. وذلك لأن المعني فيها واحد وإن اختلفت بصاحبها الأحوال، وتصرّف به الحلّ والترحال. وهو القصد بها إلى وجه الله الكريم، والإعراض عن كل عرض لئيم.
المقالة السابعة والأربعون:
الحازم
الحازم من لم يزل على جده، لم يزل عنه إلى ضده. وذو الرأي الجزل، من ليس في شيء من الهزل. وكيف يكون حازمًا من هو مازح، هيهات البون بينهما نازح. وكفاك أن المزح مقلوب الحزم، كما أن الحزم مقلوب المزح. رُب كلمة غمستك في الذنوب، وأفرغت على أخيك ملء الذنوب. فإن كان حرًا زرعت الغمر في سويدائه، وإن كان عبدًا نزعت المهابة من
1 / 20
أحشائه. وتقول إنها مزاحة، وعليك في أن تقولها مزاحة. ويحك يا تلعابة، لو علمت ما في الدعابة. لأطعت في اطراحها نُهاتك، ولما غرغرت بها لهاتك. أسرّك أن داعبت الرجل فضحك، ولم تشعر أنه بذلك فضحك. حيث أعلم لو فطنت لإعلامه، أنك الشيخ المضحوك من كلامه. وذلك ما ليس به خفاء، أنه من صفات السخفاء.
المقالة الثامنة والأربعون:
بين الجد والتشمير
الجد في الأمور والتشمير، وإنضاج الرأي والتخمير. وترك الهوادة والإدهان، والضبط البليغ مع الإتقان. والسعي المنكمش عند استكفاء المهم، والخطو الوساع دون استدفاع الملم. حلبة لا يبلغ مداها، إلا ابن إحداها. من كان سديد الشيمة، شديد الشكيمة. يتجلّد على علاته والبليد يتعلل، ويخوض أحشاء الحوادث والنكد يتسلل.
المقالة التاسعة والأربعون:
الاضطراب في النهار
من الناس من هو مضطرب النهار في المعاش، منبطح الليل على الفراش. على ذلك طوى بيضه وسوده، حتى أقلحت السنون عوده. ذلك همّه وسدمه ليس إلا، إن حدث بغيره قال كلا. حياة طويلة ولا طائل، وجان مطلوب بطوائل. فيا ويله وعوله، إذا رأى المطلع وهوله.
المقالة الخمسون:
بلاد الله، خلق الله!
لله بلاد عبد مكي، ذي منتسب زكي. قام عند مطلع سهيل، قبل
1 / 21