وواصلت كاتيا حديثها قائلة: «إنهم بعد أن انتزعوا من أبيها آخر حبة من القمح، ذبح خنزيرا، وترك لأسرته قليلا من اللحم، وباع ما بقي منه في المدينة ليشتري بثمنه خبزا، ثم ذبح العجل، وعادوا «هم» بعدئذ يخرجونه من المنزل كل ليلة ويقولون: إن ذبح الماشية من غير إذن جريمة.
ثم جاء إلى بيتنا من نحو عام جماعة أغراب في صباح أحد الأيام، وكان أحدهم من رجال القسم السياسي ومعهم رئيس سوفيت بلدنا، وأخذ رجل آخر منهم يدون في سجل معه كل شيء في منزلنا، بما في ذلك الأثاث والملابس والأواني وغيرها، ثم جاءت عدة عربات ونقلت كل ما كان في المنزل، وسيق ما كان في بيتنا من الماشية إلى المزرعة الجماعية.
وصاحت أمي العزيزة وبكت وتوسلت، وخرت على ركبتيها، بل إن أبي نفسه وفاليا أخي الأكبر وأختي شورا أخذوا كلهم يبكون، ولكن هذا كله لم يجدهم نفعا، وأمرنا أن نرتدي ملابسنا وأن نأخذ معنا بعض الخبز ولحم الخنزير المملح والبصل والبطاطس؛ لأنا على سفر طويل.»
وكانت هذه الذكرى أكثر مما تطيقه كاتيا فعادت تنتحب بحرقة، ولكنها مع ذلك أصرت على أن تواصل سرد قصتها: «ووضعونا كلنا في الكنيسة القديمة، وكان فيها معنا كثيرون من الآباء والأطفال من أهل قريتنا، يحملون جميعا أشياء محزومة ويبكون، وقضينا الليلة كلها في ذلك المكان نصلي ونبكي ثم نبكي ونصلي في الظلام، فلما طلع النهار سيقت نحو ثلاثين أسرة إلى الطريق يحيط بها رجال الدرك، وكان الذين يشاهدوننا في الطريق العام يرسمون على أجسامهم علامات الصليب ثم يبكون.
ووجدنا في المحطة جماعات أخرى من الناس مثلنا جيء بهم من قرى غير قريتنا، يحسبهم الناظر إليهم آلافا، وحشرنا كلنا في هرء خال مقام من الحجر، ولكنهم لم يسمحوا لكلبي فلتشك بالدخول معي وإن كان قد تبعنا طول الطريق، وسمعته يعوي وأنا في داخل البناء المظلم.
ثم أخرجونا بعد قليل وساقونا إلى عربات من التي تنقل فيها الماشية، مصفوفة صفوفا طويلة، وبحثت عن كلبي في كل مكان فلم أجده، وسألت عنه الحارس فلم يجبني إلا بركلة من قدمه، ولما امتلأت عربتنا عن آخرها حتى لم يبق فيها مكان لإنسان يقف على قدميه، أغلقت علينا من الخارج، وصرخنا كلنا وأخذنا نصلي إلى العذراء، ثم تحرك القطار، ولم يكن أحد ممن فيه يعرف مستقرنا، فقال بعضهم: إننا ذاهبون إلى سيبيريا، وقال آخرون: إننا ذاهبون إلى أقصى الشمال، وأعلن البعض أننا مسوقون إلى الصحارى الحارة.
وأذن لي أنا وأختي شورا أن نخرج من العربة لنأتي ببعض الماء، وأعطتنا أمنا شيئا من المال وزجاجة، وطلبت إلينا أن نحاول شراء قليل من اللبن لأخ لنا طفل صغير اشتد عليه المرض، وتوسلنا إلى الحارس أن يأذن لنا بالخروج؛ فأذن لنا بعد إلحاح طويل، وقال: إن ذلك يخالف القواعد المرعية. وكان على مقربة منا أكواخ لبعض الفلاحين فجرينا نحوها بأسرع ما تستطيع أقدامنا أن تحملنا.
ولما علم من في هذه الأكواخ منا حقيقة أمرنا أخذوا يبكون، وأعطونا من فورهم بعض الطعام، وملئوا الزجاجة لبنا، ورفضوا أن يأخذوا منا له ثمنا، ثم أسرعنا عائدين إلى المحطة، ولكننا جئناها متأخرين، ووجدنا القطار قد غادرها قبل أن نصل إليها.»
وقطعت كاتيا قصتها مرة أخرى لتندب أمها وأباها وإخوتها وأختها، وأخذ كل من كان منا في المطبخ يبكي على بكاء هذه الطفلة، وكلما حاولت أمي تهدئتها زاد صوت بكائها علوا، ونظر أبي إليها في حزن وصمت ولم يقل شيئا، وكان في وسعي أن أرى عضلات وجهه تتحرك بحركات تشنجية.
وانضمت كاتيا وأختها بعد فراق أهلهما إلى جيش الأطفال المشردين الذين لا يحصى عديدهم، وأخذتا تتنقلان من قرية إلى قرية، وتعلمتا التسول والطواف بالقرى طلبا للطعام، والتعلق بأسوار عربات القطر الحديدية، وأتقنتا رطانة المتشردين أبناء السبيل، ثم افترقت الأختان في سوق إحدى القرى على أثر مطاردة أحد رجال الدرك لهما، وبقيت كاتيا وحدها في هذا العالم حتى جاءت بها نتاشا إلى منزلنا.
ناپیژندل شوی مخ