179

وحدث فعلا أن سارت الأمور سيرا سريعا، فما كدت أبلغ المصنع في الصباح التالي حتى أسر إلي أحد مساعدي نبأ المهندسين اللذين قبض عليهما، فسرعان ما شاع هذا النبأ في أرجاء المصنع كله كما تشيع «أسرار» السوفيت في كثير من الأحيان، وفي غضون الصباح جاءتني رسالة تليفونية من «لنسكي» الأمين الثاني للجنة الحزبية الخاصة بالمصنع، وطلب إلي الذهاب إليهم رأسا، فلقد كان «لنسكي» هذا معروفا بقسوة قلبه على الرغم من حلاوة حديثه ونعومة مظهره ووداعة محياه التي تبديه في مظهر المعلم الريفي.

بدأ حديثه معي قائلا: «أيها الرفيق كرافتشنكو، أريد استشارتك في أمر غاية في الدقة، يخص «أركادي لمانسكي»، فقد راقبت عمله وتزاورتما في منزليكما، أفلم يحدث قط أن حادثك في أمور سياسية؟ ألم يحدثك قط عن ماضيه السياسي في لننجراد مثلا؟» - «كلا، فلم نكد نتحدث في شيء غير العمل، فمصنعه ومصنعي يتعاونان إلى حد كبير في العمل، وذلك ما ينشئ الصلة بيني وبينه، لكني لا أذكر أن قد دار بيننا حديث في السياسة أبدا.»

وكان هذا الذي قلته صوابا في أساسه، ففي ظل الحياة السوفيتية قل من الناس من تجمع بينهم ظروف العمل بحيث تبلغ بهم صلات الود حدا يبيح لهم أن يتبادلوا الرأي في الأمور «الدقيقة»، ولم نبلغ هذا الحد من صلات الود، أعني نفسي «ولمانسكي»، لكن «لنسكي» لم يرضه قولي، ولست أشك أبدا في أنه سجل في ذاكرته أني «أستر» رجلا مشتبها في نقاء مذهبه، وأبلغني إذ ذاك أن مكتب الحزب سيجتمع ذلك المساء ليبحث في «أمر لمانسكي»، وحذرني ألا أبوح بما استشرت به في ذلك الأمر حتى يحين موعد ذلك الاجتماع.

وجاء «لمانسكي» إلى اجتماع ذلك المساء في روح مرح، ولم يدر في خلده قط أن المهمة التي من أجلها استعجل الاجتماع خاصة به، كان «لمانسكي» هذا رجلا مليئا في نحو الخامسة والثلاثين من عمره، به شغف خاص بحسن الهندام، وقد حدث له ذات مرة أن غادر البلاد في مهمة رسمية لشراء أشياء من ألمانيا، فأصبح منذ ذلك الحين يميل بخياله إلى أن يعد نفسه رجلا وطنه العالم، ولم يخل من ازدراء الأفق الضيق السائد في «نيقوبول» الذي ينحصر في حدود الوطن الواحد.

كانت قاعة الاجتماع معبأة بدخان التبغ، وكان رئيس الاجتماع هو «لنسكي»، وجلس إلى جانبه رجل غريب عنا بدين من كثرة ما أكل، حليق الرأس بحيث لم يبق من شعره إلا ما يقرب من جذوره، ويعلو محياه عبوس ظاهر، وعلى الرغم من أنه كان يرتدي حلة مدنية، فإن حركاته في سرعتها وحسمها قد كشفت فيه عن شرطي منقوع في مهنة الشرطية، ولقد أمسك بحقيبة أوراقه على فخذيه وشدد عليها قبضته بحيث يشعر الرائي أن مثل هذه الحقيبة إنما احتوت على شر بالنسبة إلى بعض الناس.

قال لنسكي: «أيها الرفاق، بدأت جلسة مكتب الحزب، ولدينا في جدول أعمالنا الليلة موضوع واحد: هو موضوع رئيس لفرع من فروع المصنع وعضو شيوعي، ألا وهو «أركادي فاسيلفتش لمانسكي».» - «أنا؟» بهذه الصرخة صاح لمانسكي واقفا على قدميه، وشاعت على وجهه ابتسامة فيها بلاهة، فقد كانت الضربة من المفاجأة بحيث لم يظهر أثرها فورا. - «نعم أنت! اجلس حتى ينادى اسمك.»

فهبط لمانسكي في استرخاء حتى جلس على كرسيه، وخيل إلى الرائي أن وجهه قد طارت عنه كل نقطة من دمائه، وأخذ يمسح جبينه بمنديله. - «أعند أيكم يا رفاق ما يعلق به على موضوع البحث؟» فلم يجب أحد. - «إذن فما دامت هذه هي الحال، فقف يا «لمانسكي» وقص علينا أنباء مناشطك، وخصوصا حين كنت في لننجراد.»

وكان «لمانسكي» المسكين عندئذ قد انتهت به الحال إلى رعشة كأنه محموم يعاني أعنف ضروب الحمى، إنه رجل إذا ما تركته على فطرته ألفيته ذرب اللسان واثقا بنفسه، لكنه فجأة لم يكد يجد في نفسه القدرة على متابعة الحوادث، فأخذ يتلعثم وينعرج بالحديث في سيرة حياته، فيذكر حقيقة من هنا وحقيقة من هناك، ثم يعود من حيث بدأ، فكان في اضطرابه هذا يذكر من الوقائع ما ليس له علاقة بالموضوع، ومن قبيل ذلك أنه أشار إلى زواجه، فاشتد قلق الغريب.

قال الغريب: «ليس يعنينا من أمور حياتك الخاصة شيء، إننا نريد أن نسمع عن ماضيك السياسي.» - «ليس ماضي السياسي بسر مكتوم يا رفاقي ... فقد بسطته مائة مرة ... أما عن لننجراد فقد كنت عندئذ على شيء من التردد ... لقد اعترتني ذبذبة واختلطت ببعض أنصار تروتسكي، ليس ذلك سرا، وقد تفضل الحزب علي وعفا عني، نعم، لقد وثق في الحزب وكان لي بعد ذلك صفحة مجيدة، ولكم أن تسألوا في ذلك من شئتم من الحاضرين، وفضلا عن ذلك يا رفاقي فقد وقع هذا كله منذ أمد بعيد ...»

فقال «لنسكي» في نغمة الساخر: «منذ أمد بعيد! كذلك كان الدنس الذي اقترفه «زينوفيف» و«تروتسكي» وغيرهما من وحشي الكلاب، كان هذا كله منذ أمد بعيد، مثل هذا الدفاع لن يفلح بعد اليوم في نجاة أعداء الشعب، خبرني يا «لمانسكي»، ألم يحدث أبدا أن هاجمت في كلامك اللجنة المركزية وزعيمنا المحبوب الرفيق ستالين؟» - «كلا، بالطبع لم أفعل مثل ذلك.»

ناپیژندل شوی مخ