فسألته: «من هو ذاك؟» - «أندراي س، لقد كان طالبا مجدا وشيوعيا مخلصا، إنها لخسارة ...»
وبينا نحن في طريقنا إلى الخارج واحدا في إثر واحد، تحسس «م» حتى صادف يدي فضغط عليها، وكانت عبراته تنحدر فوق خديه، إذن فلم يكن هذا الجيشان النفسي الذي رأيناه في «أندراي» المسكين تمثيلا زائفا يخدعنا به، ولقد ظلت عبارته التي قالها: «لقد تبددت آخر ذرة من الأمل، ولن يمضي طويل وقت حتى ترون الروسيا تدمى إلى حد الفناء!» ظلت عبارته هذه تتردد أصداؤها في ذهني أشهرا طوالا، ومن حسن حظنا جميعا أن هذا الاجتماع الليلي الذي سمعنا خلاله نشيدا من شعر «رايلييف» ظل سرا مكتوما طوال سنوات التطهير التي طغت على البلاد بعد ذلك.
لم يعلم أحد على وجه الدقة لماذا انتحر «أندراي»، ومع ذلك فقد كثر اللغط في أرجاء المعهد رجما بالغيب، وأحس كل من بالمعهد أن موته كان متصلا على نحو غامض بحادث الاغتيال في لننجراد وبموجة الرعب التي كانت وقتئذ تجتاح الحزب كله والهيئة الحاكمة السوفيتية جميعا.
ولم تكن مراجعة تذاكر الحزب علنية كما كانت حركة التطهير من قبل، بل اتخذت صورة التحقيق البوليسي، فنودينا للاستجواب واحدا بعد واحد، ولما جاء دوري دخلت مكتب الشرطة في حالة من الجزع تندى بها جسمي كله بالعرق، فماذا أنا صانع لو كان أمر الاجتماع في غرفة «أندراي» قبل موته بساعات قليلة قد كشف عن سره؟ لكن مثل هذا السؤال الذي ألقيته على نفسي لم يكن له سند من المنطق؛ لأنه لو كانت الشرطة السرية قد أحاطت بالأمر علما لكان القبض قد ألقي علي قبل ذلك بزمن طويل، غير أن الخوف الشديد - كالحب الشديد - لا يعرف منطقا.
قال الرجل الجالس خلف المكتب: «اجلس أيها الرفيق كرافتشنكو، أرني تذكرة الحزب التي لك.»
كنت أعرف عن هذا الرجل أنه شيوعي عامل في «دنيبروبتروفسك»، وكان معه اثنان آخران، لم أعرف أحدهما لكنني أيقنت أن ثانيهما - رغم ما كان يرتديه من ملابس المدنيين - من هيئة الشرطة السياسية، واستجوبني من لم يكونا من الشرطة، لكن كان الشرطي بمثابة القاضي هذه المرة، وكان أمامه ملف أوراق - لعله ملف أوراقي - فكان ينظر إليه آنا بعد آن، ثم رأيته حينا بعد حين يناول الجالس إلى المكتب هذه الورقة أو تلك.
وأخذت المحاكمة مجراها المألوف، فرواية على النحو المعهود لقصة حياتي وأصدقائي وأقربائي وما أديته من مهام الحزب، وهذا العمل المكرور على ما في تكراره من ملل، كان بتكراره هذا مطمئنا للنفس، وأرادوا هذه المرة أن يعلموا مرشحي حين التحقت بالحزب؛ فأدليت لهم بأسمائهم. - «ألا يزالون أعضاء في الحزب؟»
فأجبت قائلا: «نعم، هذا ما أعلمه عنهم.» - «هل حدث يوما أن كان أحدهم شريكا على أي صورة من الصور في إحدى حركات المعارضة ؟» - «لو كان ذلك فليس لي بالأمر علم.» - «رفيقي كرافتشنكو، أليس عجيبا أن تكون وحدك دون سائر أفراد أسرتك عضوا في الحزب؟ لماذا اعتزل صفوفنا أبوك وإخوتك؟» - «وأي عجب في ذلك؟ أليس واقع الأمر أن في البلاد خارج الحزب عددا أكبر من أعضاء الحزب؟»
فقاطع رجل الشرطة السياسية قائلا: «كان أبوه ذا نشاط سياسي قبل الثورة، لكن يظهر أن البلاشفة ليسوا على هواه.»
فقلت: «أنا آسف يا رفاقي، لكنه ليس من العدالة في شيء أن تزعموا لأنفسكم مثل هذه المزاعم لا لسبب ظاهر سوى أن بعض الناس لم ينضموا إلى الحزب.»
ناپیژندل شوی مخ