128

قال «جالمبو» الرئيس: «قل لي أيها «الرفيق بولكين» هل طال عهد اتصالك ب «سانين»؟» - «نعم، عرفته منذ أمد ليس بقصير، كنا زميلين في الدراسة، وتخرجنا في المعهد معا، وها نحن أولاء زميلان في التدريس ها هنا.» - «هل علمت أن «سانين» وقع على وثيقة تتشيع لمذهب تروتسكي؟» - «نعم علمت ذلك كما علمه كثيرون من الحاضرين الآن.» - «لست أسألك عن سواك، بل أسألك عن نفسك.» - «نعم، علمت ذلك عن «سانين»، ولست بمنكر ذلك.»

هنا رفع «جالمبو» صوته في غضب: «وإذن فلماذا لم تنبئ لجنة التطهير أنك كنت تعلم ذلك؟!» - «لم أجد ما يدعو إلى مثل هذا النبأ، لقد بلغ من شيوع العلم بهذه الحقيقة ما أبعد ذكرها عن روايتي، إن «سانين» نفسه قد استنكر زلته علنا، وقد مضى على الحادث وقت طويل.» - «اسمع يا «بولكين» إنك لا تنكر أنك كنت على صلة وثيقة ب «سانين» وإنك بين أعضاء الحزب لرجل عليم ببواطن الأمور، وكان ينبغي عليك أن تعرف كيف يخفي أعداء الحزب - سواء منهم من يجنحون إلى يمين أو شمال - حقيقة أمرهم، فهل أظهرت ما يدل على يقظة بولشفية فيك؟ هل بلغت الحزب بما كان يقوله «سانين» من كلام كلنا يعرف الآن ما هو؟» - «إنه لم يقل شيئا من هذا القبيل على مسمع مني قط، وليس لدي ما أقوله غير هذا.» - «هذا جميل، وهل عرفت بونوموريف؟» وبونوموريف هذا عضو آخر من أعضاء الجماعة التي تهاجم الحكومة. - «نعم عرفته، وقد وقع هو كذلك على البيان الذي يدعو إلى سياسة تروتسكي.» - «وهل أنبأت لجنة التطهير بأمره؟» - «لا، لم أفعل لنفس الأسباب التي أبديتها في حالة سانين.» - «وبعبارة أخرى أنت لم تقتصر على أن يكون لك أصدقاء من أنصار مذهب تروتسكي، بل زدت على ذلك أن أخفيت دسائسهم الحقيرة عن الحزب.» - «أولا ليس هؤلاء المعلمون أصدقاء شخصيين لي، لكنهم زملاء المهنة، أي أنهم معي في هيئة التدريس لا أكثر ولا أقل، وثانيا لم يكتم أحد منهم ماضي حياته سرا.» - «يظهر أيها الرفيق بولكين أنك لا تدري أن الحزب يجاهد في مناهضة المنشقين عليه، إنك فيما يبدو تنظر إلى هذا الكفاح كله نظرة استخفاف، أليس كذلك؟ فليس من الخطر في رأيك أن يكون أصدقاؤك تروتسكيين مقنعين، هذا أمر لا يعنيك، فكيف إذن يجوز لنا أن نثق فيك؟»

فقال بولكين في صوت رزين: «لست أرى أين جريرتي!»

فقال جالمبو: «وهذا مما يزيدك في رأينا سوءا.»

هكذا أخذت محاكمة «بطرس» تنحرف في اتجاه يخشى عليه منه، فلما أدرك الناس اتجاه التيار، نهض منهم كثيرون ليغمسوا رأس هذا العالم في الماء فيغرقوه، وقد حدث لواحد من هؤلاء أن أدرك إبان حديثه أنه إنما يفتري كذبا، فغلبه شعوره بالخيانة، والتاث عليه القول في منتصف عبارته، وتلعثم لسانه، ثم انفجر قائلا: «إنني أقول لغوا، إن الرفيق بولكين زميل ممتاز ورجل عظيم.»

فهبط السكون على أرجاء القاعة كلها، كأنما أصيبت بشلل من جراء هذه الصدمة التي وقعت عليها من هذا الفعل الجريء، واضطر أعضاء اللجنة أن ينفقوا خمس دقائق في أقوال خطابية يلهبون بها عواطف أنفسهم بحيث يلبسون لبوس الغضب من جديد، وسحبت من «بولكين» تذكرة الحزب، فدهش لهذا جل الحاضرين.

ولقد علمت فيما بعد أن هذا الطرد قد انتهى إلى سحق أسرته، ثم ازداد الموقف سوءا بطرد أخته - وهي طالبة في معهد آخر - لا لشيء سوى أن أخاها قد ارتكب إثما، وإذن فتضحية أبيهما بعقيدته الدينية لم تنتج نفعا، وتحطمت حياة شخصين، لكن حدث بعد بضعة شهور لم ينقطع خلالها بعض الأعلام من الزملاء من استئناف الحكم الذي صدر ضد «بولكين»؛ لأنهم قدروا فيه نبوغه، أن أعيد الرجل إلى عضوية الحزب، فعادت أخته إلى معهدها تبعا لازما لذلك.

ومضت اللجنة في محاكماتها، وخرج منها أربعة أو خمسة من الزملاء سالمين، ثم جاء دور طالبة نعرفها جميعا ونقدرها جميعا لذكائها وإخلاصها، فنوديت إلى المنصة. كانت سوداء الشعر والعينين، في نظراتها التماع وفي صوتها رنين، هي من هؤلاء النسوة اللاتي يجذبنك دون أن يكون لهن أدنى درجات الجمال، قالت عن نفسها إنها لأب صانع يشتغل بالنجارة، وإنها عملت في مصنع وهي في أوائل العقد الثاني من عمرها، وإنها أنفقت أمساءها في الدرس حتى وقع عليها الاختيار أخيرا للالتحاق بالمعهد حيث تتلقى في الهندسة منهجا دراسيا.

سألها الرئيس: «أيتها الرفيقة جرانك، هل تزوجت؟» - «نعم!» - «وكم مضى على زواجك؟» - «خمسة أعوام.» - «ومن زوجك؟» - «هو صانع سابق، التقيت به في مهنته، ثم رقي بعد ذلك رئيسا لعمال في مصنع من مصانع صهر الحديد.» - «هل هو عضو في الحزب؟» - «كلا، ليس هو الآن عضوا، لكنه كان فيما مضى.»

وهنا تشمم النظارة رائحة الدم تفوح في الهواء مرة أخرى، فعاد فريق منهم كانوا في طريقهم إلى البهو للتدخين، عادوا إلى مقاعدهم، واشرأبت الأعناق. - «لماذا خرج من الحزب، هل أخرج منه مطرودا؟»

ناپیژندل شوی مخ