مقدمة
الأهرام
أبو الهول
الهياكل
المقابر
توت عنخ آمون
تمثال رمسيس
منارة الإسكندرية
عمود السواري
مقدمة
الأهرام
أبو الهول
الهياكل
المقابر
توت عنخ آمون
تمثال رمسيس
منارة الإسكندرية
عمود السواري
الآثار المصرية في الأدب العربي
الآثار المصرية في الأدب العربي
تأليف
أحمد أحمد بدوي
مقدمة
كانت الآثار المصرية مصدر إعجاب الناس في القديم والحديث، حتى قال الجاحظ وغيره: عجائب الدنيا ثلاثون أعجوبة، عشرة منها بسائر البلاد والعشرون الباقية بمصر؛ وهي: الهرمان، وهما أطول بناء وأعجبه، ليس على الأرض بناء أطول منهما، وإذا رأيتهما ظننت أنهما جبلان موضوعان؛ ولذا قال بعض من رآهما: ليس شيء إلا وأنا أرحمه من الدهر إلا الهرمان، فأنا أرحم الدهر منهما، وصنم الهرمين ... وتسميه العامة: أبو الهول، ويقال إنه طلسم الرمل، لئلا يغلب على الجيزة، وبربى سمهود ... وبربى إخميم، كان فيه صور الملوك الذين ملكوا مصر ... وهي مبنية بحجر المرمر، طول كل حجر خمسة أذرع في سمك ذراعين، وهي سبعة دهاليز، ويقال: إن كل دهليز على اسم كوكب من الكواكب السبعة، وجدرانها منقوشة بعلوم الكيمياء، والسيمياء، والطلسمات، والطب.
ويقال: إنه كان بها جميع ما يحدث في الزمان حتى ظهور رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وأنه كان مصورا فيها راكبا على ناقة، وبربى داندار كان فيها مائة وثمانون كوة تدخل الشمس كل يوم من كوة منها، ثم الثانية ثم الثالثة حتى تنتهي إلى آخرها، ثم تكر راجعة إلى موضع بدأت، وحائط العجوز من العريش إلى أسوان محيط بأرض مصر شرقا وغربا، قال المسعودي: ... وأثر هذا الحائط باق إلى وقتنا هذا، وهو سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة.
1
والفيوم ... وكانت ثلاثمائة وستين قرية ... تميز كل قرية منها مصر يوما ... ومنف وما فيها من الأبنية والدفائن والكنوز، وآثار الملوك والأنبياء والحكماء، وكان فيها البربى الذي لا نظير له ...
وعين شمس وهي هيكل الشمس، وقد خربت وبقي منها عمودان من حجر صلد، فكان طول كل عمود منها أربعا وثمانين ذراعا على رأس كل عمود منها صورة إنسان على دابة، وعلى رأسهما شبه الصومعة من نحاس ... وصنم من نحاس كان على باب القصر الكبير عند الكنيسة المعلقة على خلقة الجمل، وعليه رجل راكب عليه عمامة متنكب
2
قوسا، وفي رجليه نعلان ...
والإسكندرية والمنارة التي بها، وكان طولها سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة؛ مائتين وثلاثين ذراعا، وكان طولها قديما نحو أربعمائة ذراع، وكان بناؤها على ثلاثة أشكال، فقريب من الثلث مربع مبني بالحجارة، ثم بعد ذلك بناء مثمن الشكل انبنى بالآجر والجص نحو ستين ذراعا، وأعلاها مدور الشكل. وبرغم أن بعض الملوك في الإسلام قد عني بأمرها، فكان يرم ما وهى من بنائها، قد تخربت مع الزمن في أيام قلاوون أو ولده
3
في أواخر القرن السابع الهجري، ولم يبق منها في أيام ابن فضل الله العمري، المتوفى سنة 749ه، إلا ما في حكم الأطلال الدوارس، والرسوم الطوامس
4
وهو عمود مرتفع في الهواء تحته قاعدة وفوقه قاعدة، ويقال: إنه لا نظير له في علوه ولا في استدارته.
ويمضي السيوطي في كتابه حسن المحاضرة معددا عجائب الآثار في مصر القديمة،
5
وقد شاركه كثير من المؤرخين في وصفها كابن فضل الله العمري في كتابه المسالك والممالك، والمسعودي في كتابه مروج الذهب. وقد بدا في تاريخهم لهذه الآثار نظرة الناس إليها في عصورهم وما ورثوه عن أسلافهم من آراء حول إنشاء هذه الآثار، وبعضها خرافي أثاره الإعجاب بها، والجهل باللغة التي كتبت فوقها.
وقد كشف العصر الحديث عن كثير من آثار لم تكن معروفة من قبل، وكان للمعروف منها في القديم والحديث صدى في الشعر العربي منذ زمن بعيد. ونحن الآن بسبيل نظرة شاملة ندرس فيها كثيرا مما أنشأه الشعراء في هذه الآثار.
الأهرام
لعل الأهرام صاحبة الحظ الأوفر مما قيل في الآثار من الشعر العربي. والقارئ لكتاب حسن المحاضرة لمؤلفه جلال الدين السيوطي، المتوفى سنة 911ه، وهو يجمع الآراء التي قيلت قبله يدرك مقدار ما كان من اختلاف في الرأي حول الوقت الذي بنيت فيه، وحول بانيها، والهدف الذي أنشئت من أجله.
ومن الطريف أن ننقل بعض هذه الآراء لنرى صداها في الشعر من ناحية، ولكي نرى الفرق الشاسع بين نظرة القدماء ونظرتنا اليوم إلى هذه الأهرام.
روى السيوطي أن جماعة من أهل التاريخ قالوا: إن الذي بنى الأهرام هو سوريد بن سلهوق بن شرياق؛ ملك مصر، وكان قبل الطوفان بثلاثمائة سنة، وسبب ذلك أنه رأى في منامه كأن الأرض انقلبت بأهلها، وكأن الناس هاربون على وجوههم، وكأن الكواكب تساقطت، ويصدم بعضها بعضا بأصوات هائلة، فأغمه ذلك وكتمه، ثم رأى بعد ذلك كأن الكواكب الثابتة نزلت إلى الأرض في صورة طيور بيض، وكأنها تخطف الناس وتلقيهم بين جبلين عظيمين، وكأن الجبلين انطبقا عليهم، وكأن الكواكب النيرة مظلمة، فانتبه مذعورا وجمع رؤساء الكهنة من جميع أعمال مصر، فأخبروه بأمر الطوفان، فأمر عند ذلك ببناء الأهرام وملأها طلسمات وعجائب وأموالا وخزائن وغير ذلك، وكتب فيها جميع ما قالته الحكماء، وجميع العلوم الغامضة، وأسماء العقاقير ومنافعها ومضارها، وعلم الطلسمات والحساب والهندسة والطب، وكل ذلك مفسر لمن يعرف كتابتهم ولغاتهم، وأحضر لها الصخور من ناحية أسوان، وجعل أبوابها تحت الأرض بأربعين ذراعا.
فلما فرغ منها كساها ديباجا ملونا من فوق إلى أسفل، وجعل لها عيدا حضره أهل مملكته كلها، ثم عمل في الهرم الغربي ثلاثين مخزنا مملوءة بالأموال الجمة والآلات والتماثيل المصنوعة من الجواهر النفيسة، وآلات الحديد الفاخر والسلاح الذي لا يصدأ، والزجاج الذي ينطوي ولا ينكسر، والطلسمات الغريبة، وأصناف العقاقير المفردة والمؤلفة، والسموم القاتلة وغير ذلك، وعمل في الهرم الشرقي أصناف القباب الفلكية والكواكب، وما صنع من أجداده من التماثيل، وجعل في الهرم الملون أخبار الكهنة في توابيت من صوان أسود، مع كل كاهن مصحفه، وفيها عجائب صنعته وحكمته وسيرته وما عمل في وقته، وما كان وما يكون من أول الزمان إلى آخره، وجعل لكل هرم خازنا يقتل كل من يقترب منه.
1
كما روي أيضا أنها كانت قبورا لملوك مصر؛ كان الملك منهم إذا مات وضع في حوض حجارة، ثم يبنى من الهرم على قدر ما يريدون من ارتفاع الأساس، ثم يحمل الحوض فيوضع وسط الهرم، ثم يقنطر عليه البنيان والأقباء، ثم يرفعون البناء على هذا المقدار.
2
وقد بدت هذه الحيرة في الشعر يومئذ، فقال بعضهم:
حسرت عقول أولي النهى الأهرام
واستصغرت لعظيمها الأجرام
ملس، موثقة البناء، شواهق
قصرت لعال دونهن سهام
لم أدر حين كبا التفكر دونها
واستعجمت لعجيبها الأوهام
أقبور أملاك الأعاجم هن، أم
هذي طلاسم رمل أم أعلام؟
3
ولعل هذا الشعر من أول ما قيل في الأهرام؛ لأنه يتحدث عن ملاستها، والغالب أن يكون ذلك قبل أن يحاول المأمون فتح باب فيها عند زيارته لمصر.
والشعر ينبئ عن حيرة للعقول يومئذ في الأهرام، وما وقع في نفس الشاعر لها من الإكبار والإجلال. والبيت الأخير يدل على بعض ما كان يدور حول الأهرام من آراء.
ووجد الرأي الذي سبق أن عرضنا صداه في الشعر، فقد روي أن أحمد بن طولون حفر على أبواب الأهرام، فوجدوا في الحفر قطعة مرجان مكتوبا عليها سطور باليوناني، فأحضر من يعرف ذلك القلم، فإذا هي أبيات شعر، فترجمت فكان فيها:
أنا باني الأهرام في مصر كلها
ومالكها قدما بها والمقدم
تركت بها آثار علمي وحكمتي
على الدهر لا تبلى، ولا تتثلم
4
وفيها كنوز جمة وعجائب
وللدهر لين مرة، وتهجم
وفيها علومي كلها غير أنني
أرى قبل هذا أن أموت فتعلم
ستفتح أقفالي، وتبدو عجائبي
وفي ليلة في آخر الدهر تنجم
5
ثمان وتسع واثنتان وأربع
وسبعون من بعد المئين، فتسلم
ومن بعد هذا جزء تسعين برهة
وتلقي البرابي صخرها، وتهدم
تدبر فعالي في صخور قطعتها
ستبقى، وأفنى قبلها، ثم تعدم
6
قيل: فجمع أحمد بن طولون الحكماء وأمرهم بحساب هذه المدة، فلم يقدروا على تحقيق ذلك، فيئس من فتحها.
وإذا صح هذا الخبر، فإن ناظم هذا الشعر أراد أن يضع ألغازا لا يستطاع حلها؛ ليظهر بمظهر العالم الخبير.
ولا يمكن أن يكون ذلك ترجمة لشعر كتب على شيء في الأهرام؛ لأن الباني لها لا يمكن أن يكون قد أراد فتحها، ولكنه كان يرغب في أن تظل سرا مغلقا إلى الأبد.
وإذا كان بعض من رأى الهرمين قال: ليس شيء إلا وأنا أرحمه من الدهر إلا الهرمان؛ فأنا أرحم الدهر منهما.
7
فإن المتنبي قد وقف أمامهما يستعظم أمرهما، ويستعظم بناءهما، ويجل الشعب الذي أنشأهما، حين يستفهم هذا الاستفهام المنبئ عن الإعجاب إذ يقول:
أين الذي الهرمان من بنيانه
من قومه؟ ما يومه؟ ما المصرع؟
تتخلف الآثار عن سكانها
حينا، ويدركها الفناء فتتبع
8
ولكنه في البيت الثاني يعلن أن هذه الآثار مهما تخلفت بعد أصحابها سيلحقها الفناء وتتبع من شادوها.
وقد قال المتنبي هذين البيتين بعد أن خرج من مصر في قصيدة يرثي بها أحد رجال مصر. ولم يشر المتنبي إلى آثار مصر في غير هذين البيتين. أما عمارة اليمني فيملؤه الجلال عندما يرى الهرمين، فيرى الدهر عاجزا عن أن تمتد إليهما يده، ويراهما مثال الإتقان، ولكنه يعلن عجزه عن الوصول إلى سرهما ويقول:
خليلي ما تحت السماء بنية
تماثل في إتقانها هرمي مصر
بناء يخاف الدهر منه، وكل ما
على ظاهر الدنيا يخاف من الدهر
تنزه طرفي في بديع بنائها
ولم يتنزه في المواد بها فكري
9
وتعبير الشاعر بخوف الدهر منها يصور مناعتها وقوة صلابتها.
أما أبو الصلت أمية بن عبد العزيز الأندلسي فيراهما أجمل شيء يمكن أن تراه العين في هذا الوجود؛ إذ يقول:
بعيشك، هل أبصرت أحسن منظرا
على ما رأت عيناك من هرمي مصر
أنافا بأعنان السماء وأشرفا
على الجو إشراف السماك أو النسر
10
وقد وافيا نشزا
11
من الأرض عاليا
كأنهما نهدان قاما على صدر
12
وأخذ صورة النهدين شاعر آخر، فجعل الأرض تكشف عنهما عندما أخذت تدعو الله أن يمن على البلاد بالري بعد الظمأ، خوفا على بنيها الساكنين في هذا الجزء، فاستجاب الله دعاءها وأغاثها بالنيل يروي ظمأها، ويشفي غليلها؛ وذلك إذ يقول:
انظر إلى الهرمين إذ برزا
للعين في علو، وفي صعد
وكأنما الأرض العريضة إذ
ظمئت لفرط الحر والرمد
حسرت عن الثديين بارزة
تدعو الإله لرقة الولد
فأجابها بالنيل يوسعها
ريا ، ويشفيها من الكمد
13
واتخذ بعضهم شبه الهرمين بالنهدين دليلا على أن مصر صدر الأرض، وعجب من أن يظلا ناهدين، برغم كثرة من ولدته من الأبناء، فقال:
تبين أن صدر الأرض مصر
ونهداها من الهرمين شاهد
فوا عجبا، وقد ولدت كثيرا
على هرم، وذاك النهد ناهد
14
أما ابن الساعاتي فيرى الهرمين من العجائب التي لا تحتاج إلى إسهاب في بيان غرابتها، فقد مر عليهما أزمان طويلة الأمد، ولم يزدها ذلك إلا جدة في الشباب، فما أعجبهما من بناء أزلي يريد أن يصل بارتفاعه إلى عنان السماء، وإنهما في ثباتهما بمكانهما يشبهان وقفا متبلدا حزنا على الزمن الذي مضى، وإذا كانت الأهرام غير واضحة السر أمام العين، فإن العقل وحده هو الذي يستطيع أن يصل إليه؛ وذلك إذ يقول:
ومن العجائب، والعجائب جمة
دقت عن الإكثار والإسهاب
هرمان قد هرم الزمان، وأدبرت
أيامه، وتزيد حسن شباب
لله أي بنية أزلية
تبغي السماء بأطول الأسباب
وكأنما وقفت وقوف تبلد
أسفا على الأيام والأحقاب
كتمت على الأسماع فصل خطابها
وغدت تشير به إلى الألباب
15
ولكن الشاعر لم يذكر شيئا عن هذا السر الذي تفضي به الأهرام إلى الألباب، وإذا كانت الأهرام تزيد على الأيام شبابا وقوة فلم تقف متبلدة حزينة على الأحقاب التي انقضت.
وجاء شاعر آخر فألم ببعض معاني ابن الساعاتي، وشبهها بالخيام المقامة من غير عمد ولا أطناب، فقال:
لله أي غريبة وعجيبة
في صنعة الأهرام للألباب
أخفت عن الأسماع قصة أهلها
وقصت عن الألباب كل نقاب
فكأنما هي كالخيام مقامة
من غير ما عمد ولا أطناب
16
وفي تشبيه الأهرام بالخيام ما يوحي بأن الشاعر رآها عن بعد فكانت صغيرة، يذكر مرآها بمرأى الخيام.
ووقف ظافر الحداد أمام الهرمين وبينهما أبو الهول فرآهما كالهودجين لحبيبين مرتحلين، ووقف بينهما رقيب يحول بينهما وبين اللقاء، فذرفا دموعا هي ماء النيل، وانتحبا لهذا الفراق بما نسمعه من صوت الريح العاصفة. أما المقطم فيشبه ركبا مسافرا أدركه التعب فبرك على الأرض ليستريح؛ وذلك إذ يقول:
تأمل هيئة الهرمين وانظر
وبينهما أبو الهول العجيب
كعماريتين
17
على رحيل
بمحبوبين بينهما رقيب
وماء النيل بينهما دموع
وصوت الريح عندهما نحيب
ودونهما المقطم وهو يحكي
ركاب الركب أبركها اللغوب
18
وتلمس الشهاب المنصوري للهرمين شبيها، فوجدهما مسافرين آبا إلى موطنهما فاستقرا، أو عاشقين وشى بحبهما أبو الهول، أو ضالين في الصحراء اهتديا بنجم السماء فأرشدهما، أو ظامئين استسقيا مطر السماء فهطل عليهما حتى رويا.
وأحس الشهاب بغيظ من الزمن منهما لعجزه عن أن ينال منهما منالا، فقال:
إن جزت بالهرمين قل: كم فيهما
من عبرة للعاقل المتأمل
شبهت كلا منهما بمسافر
عرف المحل فبات دون المنزل
أو عاشقين وشى بوصلهما أبو ال
هول الرقيب فخلفاه بمعزل
أو حائرين استهديا نجم السما
فهداهما بضيائه المتهلل
أو ظامئين استسقيا صوب الحيا
فسقاهما عذبا روي المنهل
يفنى الزمان، وفي حشاه منهما
غيظ الحسود وضجرة المستثقل
19
ولا أجد في كل ما جاء به الشهاب المنصوري من تشبيهات مصورا للإحساس النفسي إزاء الأهرام؛ فليس هناك شيء يربطهما بالمسافر أو العاشق أو الحائر أو الظامئ، ولكنه قد وفق في تصوير غيظ الزمان منهما.
وظل الشعر إلى العصر الحديث يحمل دلائل الحيرة والعجز عن الوصول إلى معرفة السر في إقامة هذه الأهرام، كما يحمل أسمى مظاهر إجلالها واتخاذها عظة تصل إلى أعماق القلوب وإن لم تنطق الأهرام بلسان، كما نتبين ذلك في قول فخر الدين عبد الوهاب المصري:
أمباني الأهرام، كم من واعظ
صدع القلوب، ولم يفه بلسانه
أذكرتني قولا تقادم عهده «أين الذي الهرمان من بنيانه»
هن الجبال الشامخات تكاد أن
تمتد فوق الأرض عن كيوانه
20
لو أن كسرى جالس في سفحها
لأجل مجلسه على إيوانه
ثبتت على حر الزمان وبرده
مددا، ولم تأسف على حدثانه
21
والشمس في إحراقها، والريح عن
د هبوبها، والسيل في جريانه
هل عابد قد خصها بعبادة
فمباني الأهرام من أوثانه
أو قائل يقضي برجعى نفسه
من بعد فرقته إلى جثمانه
فاختارها لكنوزه ولجسمه
قبرا، ليأمن من أذى طوفانه
أو أنها للسائرات مراصد
يختار واحدها أعز مكانه
أو أنها وصفت شئون كواكب
أحكام فرس الدهر أو يونانه
أو أنهم نقشوا على حيطانها
علما يحار الفكر في تبيانه
في قلب رائيها، ليعلم نقشها
فكر يعض عليه طرف بنانه
22
والشاعر هنا يكاد يستوعب ما رواه عصره من آراء في سبب بناء هذه الأهرام. ومما يلحظ أنه منذ القدم قد قرر بعض الآراء ما نؤمن به في العصر الحديث من أنها بنيت لتكون قبورا لبناتها، الذين كانوا يؤمنون بعودة الروح إلى جسدهم. وفي تشبيه الأهرام بالجبال تصوير للإحساس النفسي بضخامتها. ولأول مرة في الشعر، يوازن الشاعر بينها وبين إيوان كسرى ويفضلها على الإيوان.
وشارك النثر الشعر في الإعجاب بالهرمين؛ إذ يقول القاضي الفاضل: «الهرمان فرقدا
23
الأرض، وكل شيء يخشى عليه من الدهر إلا الهرمان؛ فإنه يخشى على الدهر منهما.»
24
وذلك إحساس رأيناه في الشعر أيضا كما في قول عمارة اليمني.
وأعجب ضياء الدين بن الأثير بارتفاع الهرمين، فقال في حديثه عن مصر: «وبه من عجائب الآثار ما لا يضبطها العيان فضلا عن الإخبار؛ من ذلك الهرمان اللذان هرم الدهر وهما لا يهرمان، قد اختص كل منهما بعظم البناء وسعة الفناء، وبلغ من الارتفاع غاية لا يبلغها الطير على بعد تحليقه، ولا يدركها الطرف على مدى تحديقه، فإذا أضرم برأسه قبس ظنه المتأمل نجما، وإذا استدار عليه قوس السماء كان له سهما.»
25
ولم أجد في وصفهما شيئا أبعد عن الصواب من تصوير أحد الكتاب لها بأنها بعض لعب يتزين بها.
26
ومن كل ذلك يتبين أن الشعر في القديم صور حيرة الناس إزاء الأهرام، وأعلن إعجابه العميق ببنائها وبناتها، ومضى يسجل إحساسه نحوها، وإن لم يستطع في أكثر الأحوال أن يرتفع إلى مستوى عال ينبض بالقوة والحياة.
ومما يلحظ أن الذي حظي من الشعر في العصر القديم بأوفى نصيب إنما هما هرما الجيزة الكبيران. أما غيرهما من باقي الأهرام، بما في ذلك هرم الجيزة الأصغر، فلم يحظ بنصيب من التقدير. ويرجع سبب ذلك إلى ما اختص به الهرمان الكبيران من ضخامة وإتقان بناء. •••
ونالت الآثار المصرية، ومن بينها الأهرام، عناية كثير من الشعراء في العصر الحديث؛ نرى بشائر ذلك فيما قاله السيد علي الدرويش، المتوفى سنة 1853م، في الهرمين الكبيرين:
انظر إلى الهرمين، واعلم أنني
فيما أراه منهما مبهوت
رسخا على صدر الزمان وقلبه
لم ينهضا حتى الزمان يموت
27
وهي نظرة تشبه نظرة القدماء في بقاء الهرمين راسخين دائمين، وإن كانت صياغة الشعر غير قوية ولا رائعة.
وربما كان البارودي أول شاعر في العصر الحديث أطال في الحديث عن الهرمين، ورأى فيه أثرا حصاه أغلى من الدر، وصخره لا يقوم بالتبر. ولنصغ إليه لنتبين ما في شعره من إحساسات شعر بها، وقد أقام بالقرب من الأهرام شهرا يتردد عليها مستغرق الفكر فيها، متأملا ما نقش فوقها، ناظرا عبث العابثين بما كان فيها، فيقول:
سل الجيزة الفيحاء عن هرمي مصر
لعلك تدري غيب ما لم تكن تدري
بناءان ردا صولة الدهر عنهما
ومن عجب أن يغلبا صولة الدهر
أقاما على رغم الخطوب ليشهدا
لبانيهما بين البرية بالفخر
فكم أمم في الدهر بادت وأعصر
خلت، وهما أعجوبة العين والفكر
تلوح لآثار العقول عليهما
أساطير لا تنفك تتلى إلى الحشر
رموز لو استطلعت مكنون سرها
لأبصرت مجموع الخلائق في سطر
فما من بناء كان أو هو كائن
يدانيهما عند التأمل والخبر
يقصر حسنا عنهما صرح «بابل»
ويعترف «الإيوان» بالعجز والبهر
فلو أن هاروت انتحى مرصديهما
لألقى مقاليد الكهانة والسحر
كأنهما ثديان فاضا بدرة
28
من النيل تروي غلة الأرض إذ تجري
وأول ما يلحظ في هذا الشعر إذا وزن بمعظمه الشعر الماضي قوة البناء، وشدة الأسر، وإحكام النظم.
أما معانيه فقد رأينا بعضها فيما مضى من الشعر، وبعضها مما انفرد البارودي بالشعور به.
ففي مطلع القصيدة يوحي الشاعر بعظمة الهرمين عندما دعا إلى السؤال عنهما، عسى أن يعلم السائل أمورا جليلة لم يكن يدري عنها شيئا قبل هذا السؤال، وإنما يسأل عن الأمر الجليل.
وفي الأبيات التالية يبين عظمة هذين الهرمين فيصور الصراع بينهما وبين الزمن، ويصور معركة انتصر فيها الهرمان على صولة الزمن، ويتحدث عن إعجاب الناس بهما على مر العصور والأحقاب، ويحكم حكما قاطعا بأنه ما كان ولن يكون في الدنيا بناء يضارعهما.
وأصول هذه المعاني مما ألم به الشعراء الأقدمون، كما سبق أن أوردتها. أما المعنى الذي انفرد البارودي به، فهو أن الهرمين شاهدان على أن صاحبهما جدير بأن يفتخر بهما لما يدلان عليه من عظمة وعقل جبار، تمضي عقول الخلق في أثره تريد أن تتبين ما وراء بنائهما من أسرار تحاول أن تصل إليها ما بقي هذا الوجود.
وربما كان من آثار الأفكار القديمة في شعر البارودي ما كان بعض الناس يظنونه من أن الذين بنوا الأهرام أودعوا في رموزها جميع ما كان لهم من علم وحكمة.
ونجد من آثار الشعر القديم عند البارودي تشبيه الهرمين بالثديين، وللعين أثر في هذا التشبيه. وأما أن يجعل البارودي النيل قد فاض عنهما، فخيال مصنوع لا يقوم على أساس نفسي؛ لأن الواقف عند الأهرام لا يشعر من قرب أو بعد بمثل هذا الفيضان.
ويمضي الشاعر في وصف أبي الهول الرابض بين الهرمين، فيقول:
وبينهما «بلهيب»
29
في ظل رابض
أكب على الكفين منه إلى الصدر
يقلب نحو الشرق نظرة وامق
30
كأن له شوقا إلى مطلع الفجر
والجديد في إحساس البارودي أنه شعر في نظرة أبي الهول إلى الشرق أنه مشتاق إلى مطلع الفجر، فليت شعري أيريد البارودي بمطلع الفجر إشراق نور المجد على الوطن الحبيب؛ ليعود كما كان في الماضي مجيدا عظيما. وذلك إحساس طبيعي أقرب إلى النفس من إحساسها بأبي الهول رقيبا على حبيبين يركبان هودجين، كما رأينا في الشعر القديم.
ويتحدث البارودي بعدئذ عن سعادته بمحاورته للأهرام شهرا، لعله قضاه في دراسته لها، وتأمل فيما توحي به من المعاني إذ يقول:
مصانع فيها للعلوم غوامض
تدل على أن ابن آدم ذو قدر
رسا أصلها، وامتد في الجو فرعها
فأصبح وكرا للسماكين والنسر
31
فقم نغترف خمر النهى من دنانها
ونجني بأيدي الجد ريحانة العمر
فثم علوم لم تفتق كمامها
وثم رموز وحيها غامض السر
أقمت بها شهرا، فأدركت كل ما
تمنيته من نعمة الدهر في شهر
نروح ونغدو كل يوم لنجتني
أزاهير علم لا تجف مع الزهر
إذا ما فتحنا قفل رمز بدت لنا
معاريض لم تفتح بزيج ولا جبر
فكم نكت كالسحر في حركاته
تريك مدب الروح في مهجة الذر
سكرنا بما أهدت لنا من لبابها
فيا لك من سكر أتيح لا خمر!
ورسو أصلها وارتفاع بنائها ليكون مقرا للنجوم من المعاني التي جاء بها القدماء في الشعر، كما سبق أن أوردنا.
أما الجديد عند البارودي، فهو نظرته إلى الأهرام على أنها آيات تدل على عظمة الإنسان؛ إذ استطاع أن يأتي بهذه المعجزات.
ولست أدري - على وجه التحديد - لون الدراسة التي قام بها البارودي في الأهرام، وما النتائج التي ارتاح إلى الوصول إليها من هذه الدراسة التي يعلن أنه نال منها كل ما كان يتمناه، واستمتع بها كما يستمتع النشوان أسكرته الخمر، فهل كان يحاول قراءة ما على الأهرام من الكتابة الهيروغليفية، ويرى فيها روحا تدب في الصخر فتحييه؟
وجديد كذلك في التجربة التي أحس بها البارودي شعوره بالحنق على هؤلاء الذين لم يراعوا حرمة هذه الكتابة، فحطموا بعض الصخور التي كانت مكتوبة لكي يصلوا إلى خزائنها وما فيها من ثروة وكنوز، وهو يصب جام غضبه على المعتدين على حرمة هذه الآثار ويقول:
وما ساءني إلا صنيع معاشر
ألحوا عليها بالخيانة والغدر
أبادوا بها شمل العلوم، وشوهوا
محاسن كانت زينة البر والبحر
فكم سملوا عينا بها تبصر العلى
وشلوا يدا كانت بها راية النصر
تمنوا لقاط الدر جهلا وما دروا
بأن حصاها لا يقوم بالدر
وفلوا لجمع التبر صم صخورها
وأيسر ما فلوه أغلى من التبر
ولكنهم خابوا فلم يصلوا إلى
مناهم، ولا أبقوا عليها من الختر
32
فتبا لهم من معشر نزعت بهم
إلى الغي أخلاق نبتن على غمر
33
ألا قبح الله الجهالة إنها
عدوة ما شادته فينا يد الفكر
وتلك أول صيحة في الشعر العربي تستنكر الاعتداء على الآثار، وتعتز بها، وترى قيمة حصبائها أغلى من الدر والذهب.
ويختم البارودي قصيدته مقلدا الشعر القديم في إرسال التحية مع النسيم، والدعاء لها بأن يسقيها المطر فيقول:
فيا نسمات الفجر، أدي تحيتي
إلى ذلك البرج المطل على النهر
ويا لمعات البرق، إن جزت بالحمى
فصوبي عليها بالنثار من القطر
34
ويرى جمال الدين الأفغاني في الآثار المصرية، ومن بينها الأهرام، حافزا على التشبه بالآباء والأجداد، ودافعا إلى التمسك بالعزة والكرامة؛ إذ يقول: «انظروا أهرام مصر، وهياكل منفيس، وآثار طيبة، ومشاهد سيوة، وحصون دمياط، فهي شاهدة بمنعة آبائكم، وعزة أجدادكم. هبوا من غفلتكم، اصحوا من سكرتكم، عيشوا كباقي الأمم أحرارا سعداء.»
35
وتلك نظرة جديدة إلى الآثار، أوحى بها ما كانت قد وصلت إليه الأمة المصرية حينئذ من تأخر وهوان، وما تدل عليه هذه الآثار من قوة وعلم وحضارة وصل إليها المصريون القدماء، فدفع ذلك إلى اتخاذ هذه الآثار وسيلة لحث الأبناء على اليقظة والعمل والشعور بالكرامة، حتى يكون الأبناء جديرين بأن ينتسبوا إلى مثل هؤلاء الآباء.
ويمثل النظرة الجديدة أوفى تمثيل قصيدة إسماعيل صبري التي أنشأها على لسان فرعون يحث المصريين على العمل المجيد، فيقول:
لا القوم قومي، ولا الأعوان أعواني
إذا ونى يوم تحصيل العلا وان
ولست، إن لم تؤيدني فراعنة
منكم، بفرعون عالي العرش والشان
ولست جبار ذا الوادي إذا سلمت
جباله تلك من غارات أعواني
ففرعون في هذه الأبيات ينكر قومه، ولا يعترف بنسبتهم إليه إذا قصروا في طلب المجد، أو تهاونوا في السعي إلى العلا، ويقرر أنه لن يكون بذلك الأب الرفيع الشأن إذا لم يشبهه أبناؤه في علو الهمة، ولن يكون الملك المهيب القوي إذا لم يكن من أبنائه جيش قوي يغير على الأعداء في قوة وجبروت.
وهو من أجل ذلك يطلب منهم أن يعملوا ويكدوا؛ لأن ماء النيل العذب لم يجر ليشربه كسلان، ولا يستحق بنوه أن يرووا ظمأهم منه إذا لم يعملوا عملا جليلا، ولم يبنوا كما بنى آباؤهم من قبل، ولم يحاولوا تذليل المستحيل حتى يصير ممكنا، واستمع إلى فرعون يحث بنيه على العمل قائلا:
لا تقربوا النيل إن لم تعملوا عملا
فماؤه العذب لم يخلق لكسلان
ردوا المجرة كدا دون مورده
أو فاطلبوا غيره ريا لظمآن
36
وابنوا كما بنت الأجيال قبلكم
لا تتركوا بعدكم فخرا لإنسان
أمرتكم، فأطيعوا أمر ربكم
لا يثن مستمعا عن طاعة ثان
37
فالملك أمر وطاعات تسابقه
جنبا لجنب إلى غايات إحسان
لا تتركوا مستحيلا في استحالته
حتى يميط لكم عن وجه إمكان
38
ذلك ما قاله فرعون، وأمره واجب الطاعة تلبيه الجماهير التي تملأ الوادي بآثارها:
مقالة هبطت من عرش قائلها
على مناكب أبطال وشجعان
مادت لها الأرض من ذعر، ودان لها
39
ما في المقطم من صخر وصوان
لو غير فرعون ألقاها على ملأ
في غير مصر لعدت حلم يقظان
لكن فرعون إن نادى بها جبلا
لبت حجارته في قبضة الباني
وآزرته
40
جماهير تسيل بها
بطاح واد بماضي القوم ملآن
والشاعر يشير بذلك إلى أن أهل مصر كانوا كفرعون مغرمين ببناء المجد، فلا يكاد فرعون يدعوهم إلى تشييد مأثرة حتى يتسابقوا إليها فرحين مجدين. وهو بذلك لا يقبل رأي أولئك الذين يزعمون أن تلك الآثار بناها المصريون بالظلم والسخرة والاستبداد.
ويمضي الشاعر متحدثا عما شادوه من آثار حديث المعجب المفتون، فيقول:
يبنون ما تقف الأجيال حائرة
أمامه بين إعجاب وإذعان
41
من كل ما لم يلد فكر، ولا فتحت
على نظائره في الكون عينان
ويشبهون إذا طاروا إلى عمل
جنا تطير بأمر من سليمان
برا بذي الأمر، لا خوفا ولا طمعا
لكنهم خلقوا طلاب إتقان
والأبيات تحمل أقصى دلائل الإجلال لقدماء المصريين الذين يبنون ما تحار أمامه الأجيال، وما تقر بعظمته وجلاله، ويؤكد ما أشار إليه في الأبيات السابقة من غرام المصريين بالمجد، وإسراعهم إلى بنائه رغبة منهم في إتقان ما يعملون، وحبا لملكهم لا خوفا منه ولا طمعا فيما بيديه من المال.
ويخص الشاعر الأهرام من بين تلك الآثار، فيقول:
أهرامهم تلك حي الفن متخذا
من الصخور بروجا فوق كيوان
42
قد مر دهر عليها وهي ساخرة
بما يضعضع من صرح وإيوان
43
لم يأخذ الليل منها والنهار سوى
ما يأخذ النمل من أركان ثهلان
44
كأنها والعوادي في جوانبها
صرعى، بناء شياطين لشيطان
45
وإذا كان الشعراء قبله قد تحدثوا عن بقاء الأهرام، فقد انفرد صبري بإحساسه بأنها تسخر بما يهدمه من القصور والأواوين، وربما كان يريد بذلك ما صرح به البارودي من صرح بابل وإيوان كسرى. وجميل جدا تصويره ما استطاع الليل والنهار أن يأخذاه منها بما يستطيع النمل أن يأخذه من جبل ضخم، وهو بلا ريب شيء تافه لا يؤبه له.
ويذكرنا قول إسماعيل صبري بأن الأهرام كأنما بناها شياطين لشيطان بقول البحتري في وصف إيوان كسرى مبديا أقصى ما يمكن من الإعجاب به:
ليس يدرى أصنع إنس لجن
سكنوه، أم صنع جن لإنس
لأن كلمة الشيطان، ولا سيما في عصرنا الحاضر، وكلمة الجن توحيان بالأعمال الخارقة للعادة.
ويصور الشاعر الجموع التي تفد لزيارتها، فيجدون كل موجود ضخم صغيرا بالنسبة إليها، حقيرا إذا وزن بها، ويعودون معترفين بفضل المصريين، مقرين بما لهم من فضل وإحسان، فيقول:
جاءت إليها وفود الأرض قاطبة
تسعى اشتياقا إلى ما خلد الفاني
فصغرت كل موجود ضخامتها
وغض بنيانها من كل بنيان
وعاد منكر فضل القوم معترفا
يثني على القوم في سر وإعلان
46
وقصيدة إسماعيل صبري تشترك مع قصيدة البارودي في تمجيد الأهرام والإشادة ببناتها، وتنفرد عنها بالدعوة الملحة إلى التعب والجهاد لكي يصبح الأبناء جديرين بآبائهم الأمجاد.
ويتخذ السيد محمد توفيق البكري الهرمين شاهدين على عظمة المصريين شهادة لا يمكن إنكارها؛ إذ يقول:
ملك محيط الأرض يص
غر عن مداه ويكبر
في كل صرح مخبر
وبكل سفح منظر
هرمان فيه كشاهدي
ن شهادة لا تنكر
47
ونظر الشعر إلى الأهرام والآثار المصرية بعامة نظرة جديدة بعد إسماعيل صبري؛ تلك هي نظرة الفخر بها؛ لأنها من صنع أيدي آبائنا وأجدادنا. وكانت هذه النظرة طبيعية لشعراء وجدوا في عصر يريدون أن يكون من رسالة شعرهم أن يقوي الروح المعنوية في نفوس أبناء وطنهم، وكان فارس مجال هذه الحلبة أحمد شوقي، الذي بز جميع الشعراء في تمجيد الآثار المصرية والفخر بها؛ فهو في قصيدته كبار الحوادث في وادي النيل يقول:
وبنينا فلم نخل لبان
وعلونا، فلم يجزنا علاء
وملكنا، فالمالكون عبيد
والبرايا بأسرهم أسراء
قل لبان بنى فشاد، فغالى:
لم يجز مصر في الزمان بناء
ليس في الممكنات أن تنقل الأج
بال شما،
48
وأن تنال السماء
أجفل
49
الجن عن عزائم فرعو
ن، ودانت لبأسها الآناء
شاد ما لم يشد زمان ولا أن
شأ عصر، ولا بنى بناء
هيكل تنثر الديانات فيه
فهي والناس والقرون هباء
وقبور تحط فيها الليالي
ويوارى الإصباح والإمساء
تشفق الشمس والكواكب منها
والجديدان
50
والبلى والفناء
فاعذر الحاسدين فيها إذا لا
موا؛ فصعب على الحسود الثناء
زعموا أنها دعائم شيدت
بيد البغي ملؤها ظلماء
دمر الناس والرعية في تش
ييدها والخلائق الأسراء
أين كان القضاء والعدل والحك
مة والرأي والنهى والذكاء
وبنو الشمس من أعزة مصر
والعلوم التي بها يستضاء
فادعوا ما ادعى أصاغر آثي
نا، ودعواهم خنا
51
وافتراء
ورأوا للذين سادوا وشادوا
سبة أن تسخر الأعداء
إن يكن غير ما أتوه فخار
فأنا منك يا فخار براء
52
ولم تظفر الآثار المصرية من قبل بمثل هذا الدفاع المدعم بالحجة، ورفع الفراعنة عن أن يكونوا قد شادوا هذا المجد بيد الظلم وتسخير الرعية، وتحس في هذه الأبيات بروح الاعتزاز بتلك الآثار، وبتاريخ الآباء الذين حكموا وسادوا.
وشوقي يرى الأهرام جبالا نقلها الإنسان، وليس من الممكن نقل الجبال العالية، ولا بلوغ أعنان السماء، ويرى عزائم فرعون أشد بأسا من الجن؛ فقد شاد ما لم يستطع أن يشيده أحد في هذا الوجود. أما الهياكل التي أنشأتها مصر، فإنها خالدة في حين تفنى الديانات والناس والقرون، وأما القبور فإن الليالي تتكدس فيها، ويخشاها الليل والنهار، والبلى والفناء.
ذلك مجد باذخ أثار حساد مصر، فأرادوا أن يقللوا من شأنه، فزعموا أنها بنيت بيد الظلم، ويستبعد شوقي ذلك الزعم بما كان في مصر من قضاء عادل، وما كان لبنيها من حكمة وذكاء، وما أشرق فيها من علم ناضج، وما في أبنائها من عزة. وليس معيبا أن يقوم الأسرى بالعمل في إقامة هذه الآثار.
ويختم شوقي هذه الأبيات ببيت حماسي يتبرأ فيه من الفخر، إن كان الفخار غير ما أتى به هؤلاء الفراعنة.
وإذا كان شوقي قد نفى عن ملوك مصر القدماء تهمة التسخير، فقد نفاها قبله إسماعيل صبري، كما سبق أن رأينا.
غير أن شوقي قد سلم مرة بأن تلك الآثار قد شادها الظلم، ولكنه ظلم في سبيل إشادة المجد، وبناء آثار تنبئ عن عظمة الإنسان، حتى إن الظلم ليشرق وجهه فخرا عندما تعد تلك الآثار من صنع يديه:
هي من بناء الظلم إلا أنه
يبيض وجه الظلم منه ويشرق
لم يرهق الأمم الملوك بمثلها
فخرا لهم يبقى، وذكرا يعبق
53
وأعجب شوقي كغيره من الشعراء بالأهرام، ويرى عليها من الجلال ما لم يره على السهول والجبال، ولها من الروعة القدسية ما للمعابد، ويحس بأن لها روحانية. وهذا إحساس انفرد بتصويره شوقي، كما أنه يرى أنها قد استقرت قواعدها فوق الثرى بما أوتيه المصريون من عقل راجح وذكاء، وأنها ارتفعت إلى عنان السماء بفضل ما أوتوه من خلق رفيع هو بلا شك خلق الثبات والمثابرة والطموح؛ وذلك إذ يقول:
قل للأعاجيب الثلاث مقالة
من هاتف بمكانهن وشاد
لله أنت! فما رأيت على الثرى
هذا الجلال، ولا على الأوتاد
54
لك كالمعابد روعة قدسية
وعليك روحانية العباد
55
أسست من أحلامهم بقواعد
ورفعت من أخلاقهم بعماد
56
وهذا الشعور بروحانية الأهرام وقدسيتها رأيناه يظهر مرة أخرى عندما وقف عند قبر نابليون، فناجاه بقوله:
قم إلى الأهرام واخشع واطرح
خيلة الصيد
57
وزهو الفاتحين
وتمهل، إنما تمشي إلى
حرم الدهر، ومحراب القرون
هو كالصخرة عند القبط، أو
كالحطيم الطهر عند المسلمين
58
ويرى الأهرام توحي إلى الأجيال بمعنى الثبات والجد والكفاح، وتلك المعاني هي التي استوحاها نابليون في معركته ضد المماليك؛ ولذلك قال شوقي وهو يحيي الطيارين الفرنسيين، معيدا إلى أذهانهم تلك الذكرى، وكيف جرح نابليون عزة الأهرام، وجزته على ذلك بهزيمته في الحرب وأسره وموته في المنفى، فلما عاد إلى وطنه ليدفن فيه كان جريحا في عزته ومجده. لقد استوحى نابليون الأهرام عندما وقف على الهرم يشجع جنده: «أيها الجنود، إن أربعين قرنا تنظر إليكم من قمة الأهرام.» ويسجل شوقي ذلك في قوله:
أين «نسر» قد تلقى قبلكم
عظة الأجيال من أعلى بناء
جرح الأهرام في عزتها
فمشى للقبر مجروح الإباء
أخذت تاجا بتاج ثأرها
وجزت من صلف بالكبرياء
59
ويناجي نابليون قائلا:
وتسنم منبرا من حجر
لم يكن قبلك حظ الخاطبين
وأعدها كلمات أربعا
قد أحاطت بالقرون الأربعين
ألهبت خيلا، وحضت فيلقا
وأحالت عسلا صاب المنون
60
وإذا كان نابليون قد تلقى عظة الأهرام، ووعى الدرس الذي أوحت به إليه، فإنه يثور ثورة عنيفة على المصريين الذين لم يعوا هذا الدرس ولم يصغوا إليه. وتحس بهذه الثورة في قوله:
عظة قومي بها أولى، وإن
بعد العهد، فهل يعتبرون؟
هذه الأهرام تاريخهمو
كيف من تاريخهم لا يستحون؟
ولم تغب صورة الأهرام عن مخيلته وهو في مغتربه بالأندلس، فنسمعه يقول في قصديته السينية:
وكأن الأهرام ميزان فرعو
ن بيوم على الجبابر نحس
أو قناطيره تأنق فيها
ألف جاب، وألف صاحب مكس
61
روعة في الضحى، ملاعب جن
حين يغشى الدجى حماها ويغسي
62
وتخيل الأهرام موازين يشير إلى ضخامة ما يوزن بها من فدية الأعداء، وتخيلها قناطير يشير إلى ضخامة الثروة التي كانت لفراعنة مصر. وهو في منفاه يتخيل روعتها في الضحا، وما يكسوها من الرهبة إذا جن الليل، حتى كأنها ملعب للجن. وفي التعبير بروعة في الضحا تصوير لما يحمله لهذه الأهرام من الإعجاب.
ويقول في القصيدة النونية الأندلسية أيضا:
ولم يضع حجرا بان على حجر
في الأرض إلا على آثار بانينا
كأن أهرام مصر حائط نهضت
به يد الدهر لا بنيان فانينا
إيوانه الفخم من عليا مقاصره
يفني الملوك، ولا يبقي الأواوينا
63
كأنها ورمالا حولها التطمت
سفينة غرقت إلا أساطينا
64
كأنها تحت لألاء الضحا ذهب
كنوز «فرعون» غطين الموازينا
65
فهو عندما يتخيل الأهرام وبناءها يهتف من أعماق قلبه بأن ما قام في الأرض من حضارة في البناء إنما وضع أسسه المصريون، بل إن ثبات الأهرام وخلودها مما يوحي بأن الباني لها إنما هو الطبيعة نفسها، وكأنما نشأت بفعلها لا بيد فانية.
ولكنني لا أرى في تشبيهها بأساطين سفينة غرقت تشبيها يبرز جلالها، ويوحي إلى النفس بعظمتها وروعتها، وليس لهذا التشبيه أثر حظ من الجمال تحس به النفس، وإنما هو وقوف عند حد التصوير البصري.
وفي البيت الأخير عود إلى خواطر الميزان وكنوز فرعون، مما ألم به في القصيدة السينية.
ولم يكتف شوقي بما أنشأه شعرا في الأهرام، بل كتب في ذلك قطعة نثرية يقول فيها: «ما أنت يا أهرام؟ أشواهق أجرام؟
66
وأوضاح معالم،
67
أم أشباح مظالم؟ وجلائل أبنية وآثار، أم دلائل أنانية واستئثار،
68
وتمثال منصب من الجبرية،
69
أم مثال ضاح
70
من العبقرية؟
يا قليل البصر عن موضع العبر، قليل البصر
71
بمواقع الآيات الكبرى، قف ناج الأحجار الدوارس، وتعلم؛ فإن الآثار مدارس. هذه الحجارة حجور لعب عليها الأول، وهذه الصفاح صفائح
72
ممالك ودول، وذلك الركام
73
من الرمال، غبار أحداج
74
وأحمال، من كل ركب ألم ثم مال.
في هذا الحرم درج عيسى صبيا، ومن هذا الهرم خرج موسى نبيا، وفي هذه الهالة طلع يوسف كالقمر وضيا،
75
ووقعت بين يديه الكواكب جثيا.
76
وها هنا جلال الخلق وثبوته، ونفاذ العقل وجبروته، ومطالع الفن وبيوته، وها هنا تتعلم أن حسن الثناء مرهون بإحسان البناء.»
وفي هذه القطعة ألم شوقي بعناصر أربعة:
العنصر الأول:
يتساءل فيه شوقي عن بناء الأهرام، وهل هي آثار جليلة أم دلائل على الظلم والأنانية، وشواهد على إجرام منشئيها، وبموازنة ذلك بما سبق أن أوردناه لشوقي، يتبين هنا تردده، في حين أنه كان هناك قاطعا مرة بأنه لا أثر للظلم في بنائها، ومرة بأنها ظلم يبيض منه وجه الظلم. وأرى أن جعل الأهرام أشياء يستدل بها على الطريق أمر تافه لا يتناسب مع عظمة الأهرام.
والعنصر الثاني:
اتخاذ الأهرام عظة وعبرة لما مر عليها من دول، وما شاهدته من تعاقب الممالك في هذا الوادي. وجعل شوقي الرمال التي حولها غبار هذا الركب المسافر من الأجيال المعاقبة.
أما العنصر الثالث:
فهم الأنبياء الذين رأتهم الأهرام يدرجون في حرمها ويبعثون كموسى وعيسى ويوسف.
ويختم شوقي قطعته مبديا إعجابه بتلك الأهرام لما تدل عليه من خلق جليل أساسه المثابرة والثبوت، ومن جبروت عقل استطاع أن ينشئ هذه المعجزات، ومن فن رفيع كان هو مشرق الفن في هذا الوجود. •••
أما خليل مطران فلم ير في الأهرام ما رآه غيره فيها من الجلال، وما أحس به من أنها مصدر مجد وفخار، ولكنه رآها مصدر عار لبناتها؛ فإن الملوك الذين أشادوها استعبدوا أمتهم في بنائها، فاعتاد بنوها المعبودية، فسهل على العدو استعبادهم، وفي ذلك يقول مطران:
شاد فأعلى، وبنى فوطدا
لا للعلى، ولا له، بل للعدى
مستعبد أمته في يومه
مستعبد بنيه للعادي غدا
ويتخيل خليل تلك الأيام التي كان العمل يجري في بنائها، فيصور له الخيال عمالا كعدد الرمال لا يستطيع العد إحصاءهم، قد اصفرت وجوههم من تعب العمل، ونديت جباههم بالعرق، وذبلت أجسامهم من الضنى، فصاروا كالكلأ اليابس عليه قطرات الندى. لقد أحنى الجهد الثقيل أجسامهم يمشون في شقاء لا يسمع لهم صوت، مخلدين إلى الاستكانة والخضوع، يجتمعون فيخيل إليك أنهم البحر في اضطرابه، ويمضي كل فريق إلى عمله؛ كالجداول تنبثق من بحر، يصعدون وينحدرون.
وهنا يتساءل مطران عن هذا الجيش اللجب من المخلوقات الفانية قد اجتمعت في هذا الفضاء لتبني قبرا خالدا لإنسان سيفنى.
ويبلغ خليل مطران الذروة في تصوير هذا الشعور إذ يقول:
إني أرى عد الرمال ها هنا
خلائقا تكثر أن تعددا
صفر الوجوه ناديا جباههم
كالكلأ
77
اليابس يعلوه الندى
محنية ظهورهم، خرس الخطى
كالنمل دب مستكينا مخلدا
78
مجتمعين أبحرا، منفرعي
ن أنهرا، منحدرين صعدا
أكل هذي الأنفس الهلكى غدا
تبني لفان جدثا
79
مخلدا
فخليل لم يلحظ في الأهرام جلالها ، ولا جبروت عقل من أنشأها، ولا ما فيها من روعة الفن وعظمة البناء، وإنما لحظ جانب ما صحب بناءها من عسف وظلم، وكان ذلك وحده كافيا لانصرافه عنها، وتنديده بمن بناها. وهو من أجل ذلك يسأل هؤلاء الموتى: هل أفادتهم هذه الأهرام شيئا؟ لقد عرفت القبور التي تحصنوا فيها، وأصبح سوقة الناس يدوسون هام الملوك، وأجسادهم في المتاحف معروضة يراها كل من يريد أن يرى. أما العدو فطاغ مستبد يحكم البلاد كما يشاء.
80
ونحن اليوم نحاسبهم على ما فعلوا، فلم يغنهم ما رفعوه من شاهق البناء، وكان يغنيهم عن ذلك السير بالهدى وجميل الذكر، كما قال:
يأيها الموتى، ألم يسمعكم
صوت المنادي صادعا مرددا
81
قوموا انظروا السوقة فيما حولكم
تدوس هامات الملوك همدا
82
قوموا انظروا العدو في دياركم
يحكم فيها مستبدا أيدا
83
قوموا انظروا أجسادكم معروضة
في مشهد لمن يروم المشهدا
بعث به يسألكم حساب ما
قدمتم من راح منا واغتدى
لم يغنكم منه البناء عاليا
والأرض نهبا، والملوك أعبدا
84
وكان يغنيكم جميل الذكر لو
خفضتم اللحد، وشدتم بالهدى
أخطأ من توهم القبر له
حرزا يقيه بالردى من الردى
85
ولكن النظرة العادلة تدل على أن مطرانا كان في تلك النظرة ظالما غير منصف؛ فإنه على فرض أن هذه الأهرام أنشئت بالظلم، فإنه ليس من العدل أن تمحى لهؤلاء الملوك كل حسنة من أجل هذه السيئة. على أنه من المستبعد أن يكون الظلم هو الذي بناها مع ما عرف عن مصر في القديم من قضاء عادل، وما شهد به حكماؤها من العقل والذكاء، وما كان لملوكها من اعتزاز ببني وطنهم.
ومن الظلم، كما فعل مطران، أن تنسى هذه الحضارة التي أشرقت في هذا الوجود، وكان لها من الآثار ما لا يمكن أن ينساه التاريخ.
ولم يشارك خليلا في هذا الإحساس أحد من الشعراء، بل كان الاتجاه العام عندهم هو الفخر بتلك الأهرام وبناتها، حتى هؤلاء الذين ينحدرون من أصل عربي؛ كالشيخ محمد عبد المطلب، الذي يرى في ولادته بمصر سببا كافيا للاعتزاز بتاريخها وبناة أهرامها، فيقول:
رويدك، إنا في العلا يوم ننتمي
كلانا أبوه النيل، أو أمه مصر
لنا آية الأهرام يتلو قديمها
حديث الليالي، فهي في فمها ذكر
ملأنا بها لوح الوجود مناقبا
إذا ما خلا عصر تلاها به عصر
وللعلم من آثارنا في جبالنا
على الدهر آيات بها ينطق الصخر
إذا جهلوا «مينا» و«خوفو» و«خفرعا»
فليس «برمسيس» على ملكه نكر
لنا كل ما في الأرض من مدنية
بها تعمر الأمصار والبلد القفر
لنا في الورى حق المعلم لو رعوا
لنا ذمة، والدهر شيمته الغدر
86
وهكذا إذا استثنينا مطرانا رأينا الإعجاب بالأهرام وبناتها متوارثا على مر العصور، ورآها الشعراء المحدثون حافزا لهمم المصريين، ودافعا لهم إلى المجد والعلا، ومبعثا للفخر بها؛ لأنها أثر جليل من آثار الآباء والأجداد.
ولا تزال هذه النظرة باقية عند شعرائنا الأحياء فيما أنشئوه من شعر حول الأهرام، وما يحفظه تلاميذنا في مدارسهم من المحفوظات.
أبو الهول
قد رأينا الشعراء فيما عرضناه من الشعر يعدونه من العجائب، ورأينا بعضهم يتخيله كأنه رقيب على حبيبين يركبان هودجين. وهو خيال مجدب لا يحرك النفس، ولا يثير وجدانها؛ لأن هذا الجسد الضخم لأسد رأسه رأس إنسان أكبر من أن يقف عند حد رقيب على عاشقين. فهو خيال مصنوع دفع إليه الشبه البصري بين الهودج والهرم، والذي يركب في الهودج إنما هي المرأة، فلتكن عاشقة، وليكن أبو الهول رقيبا على العاشقين.
وتخيله البارودي كأنه مشتاق إلى مطلع الفجر. وإذا كان الشاعر يرمز بذلك إلى مطلع فجر المجد للوطن كان الإحساس عميقا.
ولعل خير قصيدة أنشئت في أبي الهول هي تلك التي أنشأها فيه أحمد شوقي، وقد قسمها الشاعر فقرات، كل فقرة تدور حول معنى، فجعل الفقرة الأولى تتحدث عن طول بقاء أبي الهول، حتى جعله الشاعر قد ولد مع الدهر، وبرغم بلوغه في الأرض أقصى العمر، وما مر عليه من عصور متطاولة، لا يزال أبو الهول كما كان في أول العهد به حدثا صغير السن ، ويسأله الشاعر إلى متى يظل يطوي الأصل، ويجوب الأسحار، ويتنقل عبر القرون مسافرا، حتى كأن بينه وبين الجبال عهد أن يظلا مقيمين إلى أن يزولا يوم القيامة، وذلك إذ يقول:
أبا الهول، طال عليك العصر
وبلغت في الأرض أقصى العمر
فيا لدة الدهر،
1
لا الدهر شب
ولا أنت جاوزت حد الصغر
إلام ركوبك متن الرمال
لطي الأصيل وجوب السحر؟
تسافر منتقلا في القرون
فأيان تلقي غبار السفر؟
أبينك عهد وبين الجبال
تزولان في الموعد المنتظر؟
وفي الفقرة الثانية يسأل أبا الهول عن طول بقائه، وهل جنى منه غير ضجر ثقيل على النفوس، وهنا يعجب الشاعر للقمان بن عاديا، الذي عمر عمر سبعة أنسر، كان آخرها يدعى لبدا. وكان لقمان حريصا على هذه النسور؛ لأن عمره مرهون بأعمارها. ويزعمون أنه عاش ثلاثة آلاف وخمسمائة سنة، فعجب الشاعر من طول هذا البقاء، وحرص لقمان عليه، كما عجب من لبيد الذي عاش - كما روي - مائة وأربعين سنة، فسئم من طول الحياة وقال:
ولقد سئمت من الحياة وطولها
وسؤال هذا الناس: كيف لبيد؟
ويتعمق شوقي في النفس الإنسانية فيراها مغرمة بطول البقاء، كما رأى المتنبي ذلك من قبله إذ يقول:
وإذا الشيخ قال: أف، فما مل
حياة، وإنما الضعف ملا
فيقرر شوقي أن لبيدا لو كان قصير العمر لشكا قصر حياته، وود أن لو طال عمره، وكيف بالخلود مع الحياة التي تفل الحديد وتبلي الحجر إذا دبت فيهما الحياة، فيقول شوقي:
أبا الهول، ماذا وراء البقاء
إذا ما تطاول، غير الضجر؟!
عجبت للقمان في حرصه
على لبد والنسور الأخر
وشكوى لبيد لطول الحياة
ولو لم تطل لتشكى القصر
ولو وجدت فيك يا ابن الصفاة
2
لحقت بصانعك المقتدر
3
فإن الحياة تفل الحديد
إذا لبسته، وتبلي الحجر
ويسائله في الفقرة الثالثة عن السر الذي يرمز إليه إقامته وإنشاؤه، فقد تحير الناس في أمره عندما رأوا رأس إنسان على جسم أسد، وكلما ظنوا أنهم اقتربوا من إدراك السر، عادوا فرأوا السر بعيدا عن الإدراك. ليت شعري هل يرى شوقي أن أبا الهول رمز للإنسان، فإنه برغم ما يحمله من العقل يضم بين جنبيه نفس سبع مفترس. ولننصت إليه إذ يقول:
أبا الهول، ما أنت في المعضلات
لقد ضلت السبل فيك الفكر
تحيرت البدو: ماذا تكون
وضلت بوادي الظنون الحضر
فكنت لهم صورة العنفوان
وكنت مثال الحجا والبصر
4
وسرك في حجبه كلما
أطلت عليه الظنون استتر
وما راعهم غير رأس الرجال
على هيكل من ذوات الظفر
ولو صوروا من نواحي الطباع
توالوا عليك سباع الصور
فيا رب وجه كصافي النمير
5
تشابه حامله والنمر
ويعود الشاعر مرة أخرى للسؤال عن طول عمر أبي الهول، وما كان أجدره أن يجعل هذه المقطوعة قبل المقطوعة السابقة التي تساءل فيها عن سر أبي الهول؛ لتكون المقطوعات التي تحدث فيها عن طول عمر أبي الهول متعاقبة متصلا بعضها ببعض.
وهو في المقطوعة الجديدة يثبت بعض ما أصاب الدهر به أبا الهول عندما امتدت يد الأيام إلى عينيه فأتلفتهما، فصار أعمى لا يبرح مكانه كأبي العلاء المعري الذي سمى نفسه: رهين المحبسين، وفي ذلك يقول شوقي:
أبا الهول، ويحك، لا يستقل
مع الدهر شيء، ولا يحتقر
تهزأت دهرا بديك الصباح
6
فنقر عينيك فيما نقر
أسال البياض، وسل السواد
وأوغل منقاره في الحفر
فعدت كأنك ذو المحبسين
قطيع القيام، سليب البصر
ويقلب الشاعر عينيه فيما حول أبي الهول من رمال، فيتخيل لكثرتها أنها ذنوب الناس تكدست من حوله، ويتخيله بينها كأنما هو رقيب يدبر أمر الأرض، أو كأنه ضارب رمل يرى في الرمل ما يكنه الغيب لهذا الوجود؛ إذ يقول:
كأن الرمال على جانبيك
وبين يديك ذنوب البشر
كأنك فيها لواء القضاء
على الأرض أو ديدبان القدر
كأنك صاحب رمل يرى
خبايا الغيوب خلال السطر
ويتجه شوقي إلى الناحية التاريخية، ولما كان أبو الهول قد ولد مع الزمن، فمن الواضح أنه قد شاهد أحداث العصور من أول خلق الحياة على هذا الكون، يودع عالما قد مضى، ويستقبل عالما جديدا، فعين تستقبل وأخرى تودع، فلا غرابة إذا استنبأه الشاعر أمر الذين مضوا منذ فجر التاريخ، وفي ذلك يقول:
أبا الهول، أنت نديم الزمان
نجي الأوان سمير العصر
بسطت ذراعيك من آدم
ووليت وجهك شطر الزمر
7
تطل على عالم يستهل
وتوفي على عالم يحتضر
8
فعين إلى من بدا للوجود
وأخرى مشيعة من عبر
فحدث؛ فقد يهتدى بالحديث
وخبر، فقد يؤتسى
9
بالخبر
ويسائله الشاعر عن الدول التي قامت في هذا الوادي منذ عصر الفراعنة إلى العهد الذي أنشأ فيه شوقي قصيدته.
والشاعر يرى عصر الفراعنة عصر عزة وحضارة، ومجد وآثار جليلة، أسس فيها الفراعنة كل ما أجدى وأثمر؛ يقول الشاعر لأبي الهول:
ألم تبل فرعون في عزه
إلى الشمس معتزيا والقمر
ظليل الحضارة في الأولين
رفيع البناء جليل الأثر
يؤسس في الأرض للغابرين
ويغرس للآخرين الثمر
وإنه من الطبيعي - بعد أن رأى أبو الهول هذه الحضارة الظليلة - أن يرتاع ويفزع عندما يرى هذه الحضارة تنهار تحت سنابك خيل لجيش غاز يدمر البلاد، ويروع الساكنين:
وراعك ما راع من خيل قمبي
ز، ترمي سنابكها بالشرر
جوارف بالنار تغزو البلاد
وآونة بالقنا المشتجر
أما الإسكندر الأكبر، فقد رآه أبو الهول في أوج المجد وهو شاب ناضر الشباب، غير أنه لم يبق في الملك طويلا:
وأبصرت إسكندرا في الملا
قشيب العلا في الشباب النضر
تألق في مصر إكليله
10
فلم يعد في الملك عمر الزهر
وشر ما بليت به مصر حكم الرومان، فقد استبد قيصر وأذل الرقاب، وتجبر أعوانه، وساموا الناس الخسف والهوان حتى جاء العرب قليلين في عددهم، نبلاء في أخلاقهم، فحطموا تاج قيصر، وهزموا جموعه، وقوضوا عرشه. وهكذا أذل الدهر من كبريائه:
وشاهدت قيصر كيف استبد
وكيف أذل بمصر القصر
11
وكيف تجبر أعوانه
وساقوا الخلائق سوق الحمر
وكيف ابتلوا بقليل العديد
من الفاتحين، كريم النفر
رمى تاج قيصر رمي الزجاج
وفل الجموع، وثل السرر
12
فدع كل طاغية للزمان
فإن الزمان يقيم الصعر
13
ومر شوقي في هذه الأبيات القليلة بمعظم الدول التي رآها أبو الهول في مصر، حتى جاءت الإشارة إلى العرب الفاتحين الذين جاءوا بدين جديد، فكان ذلك مثيرا لذكرى الديانات التي رآها أبو الهول في الوادي منذ نهضت فيه عبادة «إيزيس»، إلى أن جاء عمرو ومعه القرآن وصحابة الرسول، وكل ذلك في خطوات سريعة كأنما هي لمحات من خواطر قد أمعنت في بعد سحيق؛ وذلك إذ يقول:
رأيت الديانات في نظمها
وحين وهى سلكها وانتثر
14
تشاد البيوت لها كالبروج
إذا أخذ الطرف فيها انحسر
15
تلاقى أساسا وشم الجبال
كما تتلاقى أصول الشجر
و«إيزيس» خلف مقاصيرها
تخطى الملوك إليها الستر
تضيء على صفحات السماء
وتشرق في الأرض منها الحجر
و«آبيس» في نيره العالمون
وبعض العقائد نير عسر
تساس به معضلات الأمور
ويرجى النعيم، ويخشى سقر
ولا يشعر القوم إلا به
ولو أخذته المدى ما شعر
يقل أبو المسك عبدا له
وإن صاغ أحمد فيه الدرر
16
وآنست موسى وتابوته
ونور العصا، والوصايا الغرر
وعيسى يلم رداء الحياء
ومريم تجمع ذيل الخفر
17
وعمرو يسوق بمصر الصحاب
ويزجي الكتاب، ويحدو السور
فكيف رأيت الهدى والضلال
ودنيا الملوك، وأخرى عمر
ونبذ المقوقس عهد الفجور
وأخذ المقوقس عهد الفجر
18
وتبديله ظلمات الضلال
بصبح الهداية لما سفر
19
وتأليفه القبط والمسلمين
كما ألفت بالولاء الأسر
وواضح من هذا الشعر أن شوقي يعطف على الديانات التي قامت في مصر، إذا استثنينا عبادة العجل آبيس، فهو يرى فيها نيرا عسرا، ويسخر بعبادته. على العكس من «إيزيس»، فهو يعطف على عبادة قدماء المصريين لها، وهي رمز «للقمر»؛ ولذلك يقول شوقي: إنها تضيء على صفحات السماء، فإذا عبدت في الأرض أشرقت بعبادتها مقاصير الهياكل. وقد حدثنا الشاعر في همزيته أن عبادة «إيزيس» قد انتقلت من مصر إلى غيرها من الأقطار، ومنها اليونان:
فإذا قيل: ما مفاخر مصر
قيل: منها إيزيسها الغراء
20
وينتقل الشاعر ليتحدث عن حاضر أبي الهول، ويجعله حيا يحس ويشعر بما يجري في الحياة الحاضرة من حوله، بعد أن أعاد إليه ذكريات الماضي جميعها، فيراه رمزا للوفاء، فقد أطال وقوفه عند الهرمين. وهنا يتخيله حزينا مسرفا في الحزن، كأم فقدت ولدها. ولم لا يسرف في حزنه وهو يرجو أوبة من بنى الهرمين؟ ولكن تلك العودة مستحيلة؛ فقد صاروا رمة بالية، وكيف لا يكون حزينا وهو يجوس بعينه خلال الديار، وفوق نهر النيل، يريد أن يرى في «منف» عاصمة مصر القديمة ما اعتاد أن يراه من جيش ضخم، ذي عدة وعديد يمثل عظمة مصر وقوة سلطانها، ويلتمس ما ألفه فيها من علم وفن بلغا ذروة التقدم، ونالا من المصريين أوفى عناية ورعاية؟! ولكن أبا الهول لا يلبث أن يعود كسير القلب، حزين النفس، عندما يرى هذه العاصمة المجيدة لم تعد سوى قرية ضئيلة، لا يكسبها الجمال سوى آثارها الدارسة، وقد أغرقت في سبات عميق وجمود إلى درجة أن الأرض تكاد تنساها إذا دارت. وتحس بهذا الخاطر المؤلم في قول شوقي:
أبا الهول، لو لم تكن آية
لكان وفاؤك إحدى العبر
أطلت على الهرمين الوقوف
كثاكلة لا تريم الحفر
21
ترجي لبانيهما عودة
وكيف يعود الرميم النخر
22
تجوس بعين خلال الديار
وترمي بأخرى فضاء النهر
تروم بمنفيس بيض الظبا
وسمر القنا، والخميس الدثر
23
ومهد العلوم الخطير الجلال
وعهد الفنون الجليل الخطر
فلا تستبين سوى قرية
أجد محاسنها ما اندثر
24
تكاد لإغراقها في الجمود
إذا الأرض دارت بها لم تدر
ولكن نغمة الألم هذه لا يلبث أن يتلوها روح من الرجاء والأمل، يبدد ظلمة اليأس، وينشر نورا من التفاؤل في مستقبل مشرق بالتقدم، مزدهر بنيل الآمال، فيتمنى شوقي أن لو علم الآباء أن بنيهم قد اقتدوا بسيرهم، ومضوا يطلبون المجد، ويقدمون له أغلى ما يملكون، وأنهم ركبوا الشدائد في سبيل الوصول إلى أهدافهم، ووضعوا ثقتهم في أيد أمينة ذكية بعيدة النظر، تستطيع أن تبين عنه بالحجة البالغة، وإذا لم يكن لمصر أسطول ضخم تفتخر به يومئذ، فإنها تفتخر بدستورها.
إن هذه الآمال في نظر شوقي قد ملأت الناس ابتهاجا وغبطة، واستخفهم بها السرور، حتى لم يبق من لم يستخفه الطرب غير أبي الهول. وهو لذلك يختم القصيدة طالبا إليه أن يتحرك ؛ فقد تحرك كل شيء في هذا الزمان حتى الحجر الذي لا حياة فيه، وتسمع جمال هذا الرجاء في قول شوقي:
فهل من يبلغ عنا الأصول
بأن الفروع اقتدت بالسير
وأنا خطينا حسان العلا
وسقنا لها الغالي المدخر
وأنا ركبنا غمار الأمور
وأنا نزلنا إلى المؤتمر
25
بكل مبين شديد اللداد
وكل أريب بعيد النظر
26
نطالب بالحق في أمة
جرى دمها دونه وانتشر
ولم تفتخر بأساطيلها
ولكن بدستورها تفتخر
فلم يبق غيرك من لم يخف
ولم يبق غيرك من لم يطر
تحرك أبا الهول، هذا الزمان
تحرك ما فيه حتى الحجر
ويستمر شوقي في نغمة الرجاء عندما ينشئ شعرا على لسان أبي الهول، فما يكاد الشاعر يتم القصيدة حتى يجيب أبو الهول:
نجي أبي الهول، آن الأوان
ودان الزمان، ولان القدر
خبأت لقومك ما يستقون
ولا يخبأ العذب مثل الحجر
فعندي الملوك بأعيانها
وعند التوابيت منها الأثر
محا ظلمة اليأس صبح الرجاء
وهذا هو الفلق
27
المنتظر
فأبو الهول يطمئنه بأنه قد آن الأوان بأن يتحقق رجاء البلاد، وأن تتبدد ظلمة اليأس، ويعده بأنه قد خبأ له حياة عذبة مقبلة. كما تتجلى روح الفداء والأمل في مستقبل مشرق في هذا النشيد الذي يلقيه أمام أبي الهول فتى وفتاة يمثلان الجيل الناشئ، فيقولان:
اليوم نسود بوادينا
ونعيد محاسن ماضينا
ويشيد العز بأيدينا
وطن نفديه ويفدينا
وطن بالحق نؤيده
وبعين الله نشيده
ونحسنه ونزينه
بمآثرنا ومساعينا
سر التاريخ وعنصره
وسرير الدهر ومنبره
وجنان الخلد وكوثره
وكفى الآباء رياحينا
نتخذ الشمس له تاجا
وضحاها عرشا وهاجا
وسماء السؤدد أبراجا
وكذلك كان أوالينا
العصر يراكم والأمم
والكرنك يلحظ والهرم
أبني الأوطان ألا همم
كبناء الأول يبنينا
سعيا أبدا، سعيا، سعيا
لأثيل
28
المجد وللعليا
ولنجعل مصر هي الدنيا
ولنجعل مصر هي الدينا
29
وهو نشيد عامر بالأمل والطموح إلى سيادة وإعادة أمجاد الماضي، وتشييد عظمة الوطن، وتأييد حقه، وتجميله بالسعي والعمل، ولم لا وهو يضم سر التاريخ، وفي أرضه نهضت حضارة الإنسان في قديم الزمان، وهو جنة الخلد، ونيله كوثر هذه الجنة ، وذكرى آبائنا عطرة في صفحات التاريخ؟ إنه جدير بأن يكون تاجه من الشمس، وعرشه من الضحا، وأن يرقى بنوه في سماء السؤدد كما كان آباؤهم من قبل.
ويشهد النشيد على بني الوطن العصر والناس والكرنك والهرم، لكي يكون لهم همم تبني كما كان آباؤهم يبنون. ويختم شوقي نشيده بالدعوة إلى السعي لبناء المجد، وأن تصبح مصر للمصريين دينهم ودنياهم.
وفي هذا النشيد يجعل الشاعر الماضي المجيد وسيلة لحفز الهمم لبناء مستقبل مشرق سعيد جدير بهذا الماضي.
وإذا نحن وازنا بين الآمال التي كانت تجول بالنفوس يوم أنشأ شوقي قصيدته وبين ما وصلنا إليه اليوم، رأينا المدى الشاسع الذي وصلنا إليه في تحقيق أهداف كانت تجول في النفس رغبات وآمالا.
وكما أن الأهرام لم تبرح خيال شوقي وهو مغترب بالأندلس كما ذكرنا، لم يبرح أبو الهول خياله كذلك؛ ففي قصيدته السينية الأندلسية يقول عنه:
و«رهين الرمال» أفطس إلا
أنه صنع جنة غير فطس
30
تتجلى حقيقة الناس فيه
سبع الخلق في أسارير إنسي
لعب الدهر في ثراه صبيا
والليالي كواعبا غير عنس
31
ركبت صيد المقادير عيني
ه لنقد، ومخلبيه لفرس
32
فأصابت به الممالك «كسرى»
و«هرقلا» و«العبقري الفرنسي»
33
فالشاعر في مغتربه يتخيله بأنفه الأفطس، ويضع في كلمة «جن» ما يحمله لصانعيه من معاني الإكبار والتبجيل والإعجاب؛ لأنه يستعبد أن يكون صانعوه من الإنس، ويراه ممثلا لحقيقة الناس؛ فهم يحملون وجه آدمي، وفي أعماقهم أخلاق السباع وطباعهم، ويرى القدر على قوة سلطانه قد استعار عينيه لينقد بهما الناس، واستعار مخلبيه ليبطش بهما، فأصاب كسرى وهرقل ونابليون.
وقد رأينا شوقي بعدئذ يردد فكرته في تصوير أبي الهول لحقيقة الناس في قصيدته المطولة الرائية عن أبي الهول، كما سبق أن رأينا.
الهياكل
واسترعت معابد مصر المقامة على ضفتي الوادي أنظار بعض الشعراء، وبخاصة إسماعيل صبري وشوقي.
أما إسماعيل صبري فيرى تلك الهياكل المقامة في المدن المصرية تشهد بما للمصريين من سبق في المدنية، ومبالغة في إتقان العمل، ويرى أن مجد إقامتها وما تدل عليه من الحول والمقدرة يتقاسم الفخر فيه فرعون وقومه المصريون، والشاعر بذلك يرد الفضل إلى أصحابه، ولا يبخس الذين شادوا تلك الهياكل بسواعدهم حقهم من الثناء والتبجيل.
ويرى أن كل حجر في تلك الهياكل ينهض شاهدا على تلك العبقرية الخالدة، ويحس وهو يقف أمامها والناس خاشعون حيالها، كأنما هي صحف من غير هذا العالم الذي نعيش فيه.
ويصور صبري ما دار حول جدرانها من صور تفصح عما أراده منشئوها من المعاني. إنها صور كثيرة مفرطة في الكثرة؛ لدرجة أنها لو كانت ذوات أصوات لروعت بصوتها الصم من الإنس والجان.
ويتساءل الشاعر عن بناة هذه الهياكل الذين سجلوا سيرتهم في الصخور، وشادوا من الآثار ما يتضاءل أمامه آثار كل ملك فوق هذه الأرض. لقد بادوا أو بادت دول جاءت من بعدهم، ولكنهم خلفوا من الآثار ما هو خالد يقف في ثبات يحارب الدهر، ويقوى على مجالدة الزمان.
ويثور الشاعر على العلم الحديث الذي سطا على بناة هذه الهياكل، فجنى عليهم، وهتك أستارهم، واقتحم جلالهم، وأخرجهم من قبورهم إلى حيث يعرضون على الناس في المتاحف. وكان الأجدر بجلالهم أن يظلوا حيث كانوا، متحجبين بأستار من الوقار والجلال، ولنصغ إلى إسماعيل صبري إذ يقول:
تلك الهياكل في الأمصار شاهدة
بأنهم أهل سبق، أهل إمعان
1
وأن فرعون في حول ومقدرة
وقوم فرعون في الإقدام كفئان
إذا أقام عليهم شاهدا حجر
في هيكل قامت الأخرى ببرهان
كأنما هي والأقوام خاشعة
أمامها صحف من عالم ثان
تستقبل العين في أثنائها صور
فصيحة الرمز دارت حول جدران
لو أنها أعطيت صوتا لكان له
صدى يروع صم الإنس والجان •••
أين الألى سجلوا في الصخر سيرتهم
وصغروا كل ذي ملك وسلطان
بادوا وبادت على آثارهم دول
وأدرجوا طي أخبار وأكفان
وخلفوا بعدهم حربا مخلدة
في الكون ما بين أحجار وأزمان
وزحزحوا عن بقايا مجدهم، وسطا
عليهم العلم، ذاك الجاهل الجاني
ويل له، هتك الأستار مقتحما
جلال أكرم آثار وأعيان
للجهل أرجح منه في جهالته
إذا هما وزنا يوما بميزان
2
ويدل الشعر على لهفة الشاعر أن يبقى للفراعنة جلالهم، وألا يستباح لهم وقار.
ويقف شوقي أمام هذه الهياكل كما وقف إسماعيل صبري معجبا بما لها من جلال وروعة، فيتساءل عن أصحاب هذه الهياكل التي ارتفع بها الباني، حتى رسا أصلها في الأرض، وارتفع ذراها إلى الثريا في السماء. لقد بدا بعضها كالحصن، وبعضها كالجبل الأشم. إنها تظهر جديدة كأول العهد بها، ومن حولها يبدو القدم على كل شيء حتى على الأرض الفضاء.
إنها هياكل ضخمة يحس الشاعر كأن الدنيا متعبة بحملها، وكأن الأرض ضيقة عن سعتها. وهي أبعد من أن تصل إليها يد الفناء، لا يدري كيف يصل إليها أو يتمكن من تحطيمها، ولم لا وهي ثابته في الأرض كأنها الطود قد نهض محلقا في السماء. وإذا كانت قد بنيت بالظلم، فإنه ظلم مشرق مضن، لم يرهق الملوك أمما بمثلها؛ لأنها فخر خالد للأمم، وذكر لا يبيد.
لقد فتن الناس بهذه الهياكل؛ يحج إليها القاصي، ويرمقها المقيمون بعين من الإكبار والتبجيل، وزادها مر العصور مهابة وجلالا، يحس بهما الزائر، ويشم فيها عبير القدم.
ولكنه يرى التماثيل على سررها متقابلة، قد لبست رداء من الذل والإهمال، قد علاها التراب، وما كان يفوح منها سوى رائحة العطر وأخلاط الطيب. لقد وطئت حجراتها المقدسة، وهتك البلى أستارها ومزقها، وأفنى الزمان حليها وزينتها، ومع ذلك حسنها باق، وشبابها دائم.
لقد كان لهذه التماثيل معان يدركها عبادها، وقد نسيت هذه المعاني، فلو بعث فرعون وعاد إلى الحياة لعجب من أن هذه التماثيل لم يعد الناس يدركون معانيها، أو يفهمون ما ترمز إليه، وفي هذا يقول شوقي:
ولمن هياكل قد علا الباني بها
بين الثريا والثرى تتنسق
3
منها المشيد كالبروج، وبعضها
كالطود مضطجع أشم منطق
4
جدد كأول عهدها، وحيالها
تتقادم الأرض الفضاء وتعتق
5
من كل ثقل كاهل الدنيا به
تعب، ووجه الأرض عنه ضيق
6
عال على باع البلى، لا يهتدي
ما يعتلي منه وما يتسلق
7
متمكن كالطود أصلا في الثرى
والفرع في حرم السماء محلق
8
هي من بناء الظلم إلا أنه
يبيض وجه الظلم منه ويشرق
لم يرهق الأمم الملوك بمثلها
فخرا لهم يبقى، وذكرا يعبق
9
فتنت بشطيك العباد، فلم يزل
قاص يحجهما، ودان يرمق
10
وتضرعت مسك الدهور،
11
كأنما
في كل ناحية بخور يحرق
وتقابلت فيها على السرر الدمى
مسترديات الذل لا تتفنق
12
عطلت وكان مكانهن من العلى «بلقيس» تقبس من حلاه، وتسرق
13
وعلا عليهن التراب، ولم يكن
يزكو بهن سوى العبير ويلبق
14
حجراتها موطوءة، وستورها
مهتوكة، بيد البلى تتخرق
15
أودى بزينتها الزمان وحليها
والحسن باق، والشباب الريق
16
لو رد فرعون الغداة لراعه
أن الغرانيق العلى لا تنطق
17
وقد خلد شوقي من بين هذه الهياكل قصر أنس الوجود، الذي قال عنه شوقي: إنه «الأثر المحتضر، الذي جمع العبر، ومحاه الدهر أو كاد، وكان إحدى آياته الكبرى هياكل لفرعون وبطليموس، توارثها عن الكهنة القسوس، وصارت للمسيح، وكانت لهوروس،
18
ثم ظهر الأذان فيها على الناقوس، ثم لا تكون عشية أو ضحاها حتى يهوي في الماء كل حجر كان يقبل كالأسود،
19
وكل ركن كان يستلم كالحطيم.»
20
وقد أنشأ شوقي في هذا الهيكل قصيدة خالدة، سيظل فيها خالدا ما بقي الزمان، كما خلدت قصيدة البحتري إيوان كسرى.
وهو في مطلع قصيدته يطلب إلى رائد هذا الأثر الخالد الذي أحس به الشاعر عالي القدر، رفيع المكانة كالثريا في السماء، أن يدخل الهيكل خاشعا، خافض الطرف، يملؤه الجلال والمهابة، فيقول:
أيها المنتحي بأسوان دارا
كالثريا تريد أن تنقضا
اخلع النعل، واخفض الطرف، واخشع
لا تحاول من آية الدهر غضا
ويصف شوقي هذا الأثر الجليل، فيرى بعضه قد أمسك ببعض، كأنها قد خافت الغرق فأرادت أن يسند بعضها بعضا. إن قصور أنس الوجود يبدو بعضها ويخفى بعضها الآخر، في روعة وجمال كأنها العذارى السابحات.
إنها اليوم مشرفة على الزوال، وكانت من قبل تنهض رافعة الرأس في فخر وتيه تعلو كواكب السماء. لقد قدمت وتقادم العهد بها، ولكن الفن الذي يتجلى فيها لا يزال غضا ناضرا كأول العهد به، فرب نقش في هذا الأثر ، كأنما انتهى الصانع أمس من إتمامه، ورب طلاء لا يزال زيته مضيئا مشرقا، وخطوط دقيقة كأهداب العين وقد صنعها، وحسن طولها وعرضها، ورسم ضحايا قد أتقن صنعها إلى درجة أن الله لو نفخ فيها من الروح لصارت أحياء تمشي، ومحاريب كأنها الحصون بناها قوم لهم عزمات الجن، وحجرات كان المسك يفت في أرضها، واليواقيت تزين أرضها، فأبدلت بذلك التراب والحصى.
إن التخريب حظ هذه القصور في يومها، في حين أنها كانت بالأمس يصرف الملوك منها حظوظ الناس، فيرفعون ويضعون، حتى أصبح النحس الخالص من نصيبها.
ويختم شوقي هذا الجزء من قصيدته بصيحة إعجاب من هذه الصنعة التي تملأ العقول بالدهشة، ومن هذا الفن الذي كان فرضا على المصري أن يتقنه. واستمع إلى شوقي إذ يقول:
قف بتلك القصور في اليم غرقى
ممسكا بعضها من الذعر بعضا
كعذارى أخفين في الماء بضا
سابحات به، وأبدين بضا
21
مشرفات على الزوال، وكانت
مشرفات على الكواكب نهضا
شاب من حولها الزمان، وشابت
وشباب الفنون ما زال غضا
رب نقش كأنما نفض الصا
نع منه اليدين بالأمس نفضا
ودهان كلامع الزيت مرت
أعصر بالسراج والزيت وضا
22
وخطوط كأنها هدب ريم
23
حسنت صنعة وطولا وعرضا
وضحايا تكاد تمشي وترعى
لو أصابت من قدرة الله نبضا
ومحاريب كالبروج بنتها
عزمات من عزمة الجن أمضى
24
شيدت بعضها الفراعين زلفى
وبنى البعض أجنب يترضى
25
ومقاصير أبدلت بفتات ال
مسك تربا، وباليواقيت قضا
26
حظها اليوم هدة، وقديما
صرفت في الحظوظ رفعا وخفضا
سقت العالمين بالسعد والنح
س إلى أن تعاطت النحس محضا
27
صنعة تدهش العقول وفن
كان إتقانه على القوم فرضا
ويناجي شوقي تلك القصور الغريقة في النيل، وهي على وشك أن تتهاوى فملكه الحزن فبكى.
إنه يراها سطرا في كتاب أمجاد مصر، ويتألم كيف فض البلى ذلك الكتاب الذي كان مصونا، فكشف عن أسرار كان الفراعنة أنفسهم لا يدركونها لغموضها.
ويدعو شوقي من صميم فؤاده أن يظل لتلك القصور جلالها وعظمتها، وألا تنزل عن سماء عليائها ؛ فقد حارت عقول المهندسين في بنائها، وعجز العلم عن إدراك أسرارها.
ويسألها الشاعر عما شاهدته في ماضيها من ملك عال، وحضارة مترفة، وعما رأته من مواكب لفرعون كان بعضها يتلو بعضا؛ إذ كان يمضي لفتح الممالك، أو لإشادة الحضارة في أيام السلم، وعما كان لإيزيس من ملك عريض، وتقديس وعبادة، ثم أصبحت اليوم لا حامي لها، ولا ناصر لها على ما تلاقيه من نوائب الزمان. لقد صارت أسيرة سجن في البحر لا تستطيع الخلاص. واستمع إلى تلك المناجاة إذ يقول الشاعر:
يا قصورا نظرتها وهي تفضي
28
فسكبت الدموع، والحق يقضى
أنت سطر، ومجد مصر كتاب
كيف سام البلى كتابك فضا
وأنا المحتفي بتاريخ مصر
من يصن مجد قومه صان عرضا
رب سر بجانبيك مزال
29
كان حتى على الفراعين غمضا
قل لها في الدعاء لو كان يجدي
يا سماء الجلال، لا صرت أرضا
حار فيك المهندسون عقولا
وتولت عزائم العلم مرضى
أين ملك حيالها وفريد
من نظام النعيم أصبح فضا
30
أين فرعون في المواكب تترى
يركض المالكين كالخيل ركضا
ساق للفتح في الممالك عرضا
وجلا للفخار في السلم عرضا
أين «إيزيس» تحتها النيل يجري
حكمت فيه شاطئين وعرضا؟
أسدل الطرف كاهن ومليك
في ثراها، وأرسل الرأس خفضا
يعرض المالكون أسرى عليها
في قيود الهوان عانين جرضى
31
ما لها أصبحت بغير مجير
تشتكي من نوائب الدهر عضا
هي في الأسر بين صخر وبحر
ملكة في السجون فوق حضوضى
32
أين «هوروس» بين سيف ونطع؟
أبهذا في شرعهم كان يقضى؟
33
وهكذا خلد الشعر تلك الهياكل الضخمة في بنائها، المليئة بأسرارها، والتي كانت مقر عبادة آلهة المصريين القديمة، وموطن خشوعهم وتقديسهم. وقد راع الشعراء فيها تلك الضخامة، ودقة الصنع، وإحكام البناء.
وصور الشعر ما أحس به الشعراء من الإجلال والتقديس لدى هذه الهياكل المقدسة، وما أثارت في نفوسهم من ذكريات تاريخية مجيدة.
المقابر
وكانت عناية المصريين القدماء بمقابرهم من ناحية حفرها في أعماق الصخور مثار التفكير العميق.
وقد وقف شوقي متأملا في هذه الظاهرة، معجبا بعنايتهم البالغة بتلك القبور؛ فقد أقاموها بحيث لا يستطيع البلى أن يمسها، وكأنهم عندما رقدوا في تلك المقابر قد تحجبوا بالهيبة تحت الثرى، كما كانوا وهم أحياء يحجبون بهيبة لا تزال أستارها. لقد عرفوا حقيقة الحياة، وأدركوا أنها سر مغلق، فأحاطوا أنفسهم بالأسرار المغلقة، وآمنوا بأن السعادة لا يمكن أن تتحقق إلا بإدراك الخلود، فعملوا على أن ينالوه؛ فكانت بيوتهم التي يعيشون فيها أكواخا تفنى كهذه الحياة الفانية، في حين أن الحياة الآخرة هي الباقية الخالدة، فبنوا لهذه الحياة قبورا كالقصور الشم يبنونها من الصخور الصلدة، فيبدو ظاهرها جميلا رائعا كجمال هذه الحياة الدنيا، ويختبئ في باطنها حياة أخرى خالدة، يعيش فيها الملوك مخلدين لا يعرف البلى سبيلا إلى أجسامهم. فوراء هذه الأسوار التي نراها أسرار مختبئة، فإذا دخلت هذه القبور رأيت كأنها فنادق تمتلئ بالزاد، رحبة لا تضيق بسكانها، يقول شوقي:
أين الفراعنة الألى استذرى بهم
عيسى، ويوسف، والكليم المصعق
1
الموردون الناس منهل حكمة
أفضى إليه الأنبياء ليستقوا
2
الرافعون إلى الضحى آباءهم
فالشمس أصلهم الوضيء المعرق
3
وكأنما بين البلى وقبورهم
عهد على أن لا مساس وموثق
4
فحجابهم تحت الثرى من هيبة
كحجابهم فوق الثرى لا يخرق
بلغوا الحقيقة من حياة علمها
حجب مكثفة، وسر مغلق
وتبينوا معنى الوجود، فلم يروا
دون الخلود سعادة تتحقق
يبنون للدنيا كما تبني لهم
خربا غراب البين فيها ينعق
5
فقصورهم كوخ وبيت بداوة
وقبورهم صرح أشم وجوسق
6
رفعوا لها من جندل وصفائح
عمدا، فكانت حائطا لا ينتق
7
تتشايع
8
الداران فيه؛ فما بدا
دنيا، وما لم يبد أخرى تصدق
للموت سر تحته، وجداره
سور على السر الخفي، وخندق
وكأن منزلهم بأعماق الثرى
بين المحلة
9
والمحلة فندق
موفورة تحت الثرى أزوادهم
10
رحب بهم بين الكهوف المطبق
ويصف شوقي في هذه القصيدة حج الناس إلى هذه القبور، وكيف يأتون إلى «طيبة»؛ عاصمة مصر القديمة، في جماعات تضيق بها المدن والقرى، ويملئون البر برواحلهم، والبحر بسفنهم، حتى إذا ألقوا عصا التسيار بمعبدها المقدس وفوا نذورهم، وتقاربوا إلى آلهتهم ، وتصدقوا بما معهم ، ثم جرت الزوارق بالحجيج مسرعة من شاطئ يعج بالحياة إلى الشاطئ الآخر، وهو وادي الملوك حيث يرقد آباؤهم وأجدادهم، وحيث تغرب أرواحهم كما تغرب الشمس، وحيث يتساوى الناس عظيمهم وحقيرهم في لقاء الموت، وحيث تتناثر القبور على الرحب كأنها قطع السحاب. إنهم ينتقلون من زخرف الحياة على شاطئ طيبة، إلى شاطئ يضيء فيه سناء الحق كأنه الصبح، يعنو له الملوك، فيخلعون رداء العظمة والجلال، ويمشون على أقدامهم تكريما لهؤلاء الموتى، ويخشع الغني والفقير، ويضيق وادي الملوك بساكنيه، حتى كأنما قد بعث فيه الموتى، ويظل الأحياء مع موتاهم يتنادمون كأنهم لم يفترقوا، وشوقي يصور ذلك إذ يقول:
وإذا همو حجوا القبور حسبتهم
وفد «العتيق» بهم ترامى الأينق
11
يأتون «طيبة» بالهدي أمامهم
يغشى المدائن والقرى ويطبق
12
فالبر مشدود الرواحل محدج
والبحر ممدود الشراع موسق
13
حتى إذا ألقوا بهيكلها العصا
وفوا النذور، وقربوا، واصدقوا
وجرت زوارق بالحجيج كأنها
رقط
14
تدافع، أو سهام تمرق
من شاطئ فيه الحياة لشاطئ
هو مضجع للسابقين، ومرفق
15
غربوا غروب الشمس فيه، واستوى
شاه ورخ في التراب وبيدق
16
حيث القبور على الفضاء كأنها
قطع السحاب أو السراب الديسق
17
للحق فيه جولة، وله سنا
كالصبح من جنباتها يتفلق
18
نزلوا بها، فمشى الملوك كرامة
وجثا المدل بماله والمملق
19
ضاقت بهم عرصاتها، فكأنما
ردت ودائعها الفلاة الفيهق
20
وتنادم الأحياء والموتى بها
فكأنهم في الدهر لم يتفرقوا
وهو شعر يعطينا صورة حية لما كان يحدث في تلك الأزمان من عناية الناس بزيارة هيكل طيبة وقبور وادي الملوك، كما فسر الشعر قبله سر عناية المصريين القدماء بقبورهم أكثر من بيوتهم التي يعيشون فيها.
توت عنخ آمون
ومن تلك المقابر التي ظفرت بعناية شوقي وإبداعه مقبرة توت عنخ آمون، وما وجد فيها من آثار ظفرت بإعجاب العالم أجمع عندما كشف عنها.
وقد نظم شوقي فيها عدة قصائد: منها تلك القصيدة التي بدأها بمناجاة الشمس وسؤالها عما حدث في القرون الماضية لأنها رأت مصارع الأمم وسقوطها، فجدير بها أن تروي الأخبار وتعرف أنساب الناس وهي التي تلد ثم تأكل ما ولدت، وفي ذلك يقول شوقي:
قفي يا أخت يوشع خبرينا
أحاديث القرون الغابرينا
1
وقصي من مصارعهم علينا
ومن دولاتهم ما تعلمينا
2
فمثلك من روى الأخبار طرا
ومن نسب القبائل أجمعينا
3
نرى لك في السماء خضيب قرن
ولا نحصي على الأرض الطعينا
4
مشيت على الشباب شواظ نار
ودرت على المشيب رحى طحونا
5
تعينين الموالد والمنايا
وتبنين الحياة وتهدمينا
فيا لك هرة أكلت بنيها
وما ولدوا، وتنتظر الجنينا
وهذه المناجاة مناسبة كل المناسبة لحديثه عن هذا الملك المصري القديم، فهو - كما زعموا - ينحدر من الشمس من ناحية، وقد شاهدت الشمس ملكه وملك آبائه ومن جاء بعده من ناحية ثانية.
وينتقل شوقي من مناجاته للشمس واهبة الحياة والموت إلى حديثه إليها أما لملوك مصر القديمة، مباهيا بهؤلاء الملوك، ممتلئ القلب إعجابا بأمجادهم؛ فقد رآهم ملوكا جديرين بالملك، أناروا الأرض بحضارتهم، حينما كانت الدنيا في ظلام دامس، وكان الناس يعيشون في ضلال مبين، أخذت روما من حضارتهم، واقتبست أثينا من نور علمهم؛ إذ يقول:
أأم المالكين بني أمون
ليهنك أنهم نزعوا
6
أمونا
ولدت له المآمين الدواهي
ولم تلدي له قط الأمينا
7
فكانوا الشهب حين الأرض ليل
وحين الناس جد مضللينا
مشت بمنارهم في الأرض روما
ومن أنوارهم قبست أثينا
ويمضي شوقي مليئا بالفخر يتحدث عن هؤلاء الملوك الذين اتخذوا قبورهم في وادي الملوك، محجبين كما كانوا في حياتهم محجبين بالجلال. إنهم اليوم مقيدون في حياتهم تساق لهم الملوك أسرى في القيود والأغلال. وتنطلق صيحة إعجاب من شوقي بهم، فيرى أن أعمالهم المجيدة خارقة للسعادة كأنها السحر، ويرى من مظاهر هذا السحر أنهم ينطقون الحجر الأصم بما يقومون به من إتقان تنطق بما يراد منها. لقد أغرموا بالخلود، فعمدوا إلى بناء الآثار الخالدة التي تقوم على دعائم من الخلق المتين، وإتقان ما يصنعون، وأن الخلد لا ينال في سهولة ويسر؛ لأنه يحتاج إلى الهمم الكبيرة، والعبقرية الخارقة التي يمجدها التاريخ، وتدع الدنيا لسان ثناء، وأذنا تصغي إلى مجد الخالدين:
ملوك الدهر بالوادي أقاموا
على وادي الملوك محجبينا
فرب مصفد منهم، وكانت
تساق له الملوك مصفدينا
8
تقيد في التراب بغير قيد
وحل على جوانبه رهينا
تعالى الله كان السحر فيهم
أليسوا للحجارة منطقينا؟!
عدوا ينبون ما يبقى، وراحوا
وراء الآبدات مخلدينا
إذا عمدوا لمأثرة أعدوا
لها الإتقان والخلق المتينا
وليس الخلد مرتبة تلقى
وتؤخذ من شفاه الجاهلينا
ولكن منتهى همم كبار
إذا ذهبت مصادرها بقينا
وسر العبقرية حين يسري
فينتظم الصنائع والفنونا
وآثار الرجال إذا تناهت
إلى التاريخ خير الحاكمينا
وأخذك من فم الدنيا ثناء
وتركك في مسامعها طنينا
ويعقد شوقي موازنة بين شباب اليوم وشباب الأمس فيرى شباب اليوم قانعين بالكلام دون العمل، ويغالون في تقدير ما يفعلون وإن كان ضئيلا فيسخط شوقي ويقول:
فغالي في بنيك الصيد غالي
فقد حب الغلو إلى بنينا
شباب قنع لا خير فيهم
وبورك في الشباب الطامحينا
ويعود إلى الفخر بعرش مصر القديم الذي كان أخا لعرش الشمس، وكان يتحلى بالعزة والجلال، ويقوم على دعائم من القوة في البر والبحر ويكلأ أمجاد ملوكه من أمثال رمسيس وخوفو ومينا الذين ارتفعت رءوسهم عزة وكبرياء وأبوا أن يخضعوا وأن يذلوا:
فناجيهم بعرش كان صنوا
لعرشك في شبيبته سنينا
9
وكان العز حليته، وكانت
قوائمه الكتائب والسفينا
وتاج من فرائده ابن سيتى
ومن خرزاته خوفو ومينا
10
علا خدا به صعر، وأنفا
ترفع في الحوادث أن يدينا
11
ويتعرض شوقي للدفاع عن هؤلاء الملوك، ويرد على من زعم أنهم ظلموا الرعية، وعسفوا بالعمال وجلدوا الخدم في سبيل إقامة هذه الآثار؛ وذلك أننا في أيامنا التي نعيش فيها ناقصون فلا يليق بنا أن نطالب الأولين بالكمال، وليس أدل على هذا النقص من سجن الباستيل بفرنسا؛ فقد كان يخفي وراء جدرانه سجناء أكل الحديد أجسامهم، ومن هذه البيع التي ارتفعت على أكتاف الظلم والسخرة، وكم ارتكب في بنائها من ألوان القسوة، برغم أنها شيدت لرسول الحب والحنان:
ولست بقائل: ظلموا، وجاروا
على الأجراء، أو جلدوا القطينا
12
فإنا لم نوق النقص ، حتى
نطالب بالكمال الأولينا
وما البستيل إلا بنت أمس
وكم أكل الحديد بها سجينا
وربة بيعة
13
عزت، وطالت
بناها الناس أمس مسخرينا
مشيدة لشافي العمي عيسى
وكم سمل
14
القسوس بها عيونا
وبعد حديثه إلى اللورد كارنارفون الذي كشف عن قبر توت عنخ آمون، وتسجيله ما ذاع من أخذ بعض كنوز هذا القبر، يأتي الحديث عن قبر الملك الدفين فيخصه بالتحية، ويرى القبر لحسنه وطيبه تكاد حجارته تضيء، ويكاد طيبه تنتشر له رائحة زكية، ويخيل لرائيه أن حجارته لقداستها قد اقتطعت من جبل طور سيناء، الذي تجلى الرب عنده لموسى.
لقد كان نزيله يدعى ملكا، فصار اليوم يسمى كنزا ثمينا، لكن ذلك لا يحول دون الهتاف له كما كان بنو شعبه يهتفون، إذ لم ينقص له مقدار، فلا تزال له مهابته وجلاله الذي استمر برغم مرور القرون الأربعين التي مرت منذ عهده، بل إن جلال الملك أيام تنقضي، ولا ينقضي جلال الخالدين.
ويرحب شوقي بالملك القادم، ويحيي مقدمه المبارك، ويهدي إليه السلام يوم مات، ويوم كشف قبره. لقد ظهر إلى الوجود كما ظهر عيسى، عليه جلالة ووقار، وأخذ اسمه يجوب أرجاء العالم سهوله وجباله:
خليلي، اهبطا الوادي، وميلا
إلى غرف الشموس الغاربينا
وسيرا في محاجرهم
15
رويدا
وطوفا بالمضاجع خاشعينا
وخصا بالعمار وبالتحايا
رفات المجد من توتنخمينا
وقبرا كاد من حسن وطيب
يضيء حجارة، ويضوع
16
طينا
يخال لروعة التاريخ قدت
جنادله العلا من «طور سينا»
وكان نزيله بالملك يدعى
فصار يلقب الكنز الثمينا
وقوما هاتفين به، ولكن
كما كان الأوائل يهتفونا
فثم جلالة قرت، ورامت
17
على مر القرون الأربعينا
جلال الملك أيام وتمضي
ولا يمضي جلال الخالدين
وقولا للنزيل: قدوم سعد
وحيا الله مقدمك اليمينا
18
سلام يوم وارتك المنايا
بواديها، ويوم ظهرت فينا
خرجت من القبور خروج عيسى
عليك جلالة في العالمينا
يجوب البرق باسمك كل سهل
ويخترق البخار به الحزونا
19
ويسأل شوقي توت عنخ آمون عن فراقه لهذه الحياة الدنيا: أكان قصيرا كأنه سنة نوم، أم طال فاستغرق السنين الطوال؟ وكيف قطع في ظلام القبر ليلا طويل الأمد، لا يصل المرء إلى صبحه إلا بعد عناء وضنى؟ ويسأله عن سر الاحتفاظ بالجسد بعد موته، وهل ذلك لأن النفوس تبقى ما دامت أجسامها باقية، وتفنى إذا فنيت هذه الأجسام.
ويسأله عن قباب هذا القبر، وكيف ظلت مجهولة طول هذه القرون. إنها قباب ملساء يظنها الرائي برجا مدفونا في باطن الأرض، امتلأ بالأثاث فصار كأنه القصر، وتغطى بالصور فبدا كأنه المعبد.
ويعجب شوقي من حرص الملك على أن يدفن العرش معه، فهل ذلك لأنه يؤمل عودة إلى الحياة، ويكون له حينئذ ملك ودولة، أو لأنه سيبقى لكن وهو جالس على عرشه في حين يلقاه الناس مترجلين؟
ويعجب من الطعام وقد ظل ذا رائحة طيبة ومذاق طيب كما تركته أيدي صانعيه، لقد كان الملك لا يصبر عن الطعام يوما، فكيف صبر هذه المئين من الأحقاب؟
ثم يقول للملك: لقد حدث ما كان قومك يخافون؛ لأن الإنسان يحب أن ينبش أخاه حيا وهالكا، وها أنت ذا قد أخرجت من القبر يوم البعث، وسوف يأتي اليوم الذي تبعث فيه حقا إذا كان بعثك ليس بهذا البعث الموعود.
وما قيمة صيانة جسمك بعد الموت؟ إنك لا تحس بأذى بعد أن تفارق الحياة، ولا تشعر بألم، وإنما يشعر بذلك الأحياء. ولننصت إلى هذه المفاجأة الرائعة إذ يقول شوقي:
تعال اليوم أخبرنا: أكانت
نواك سنات نوم أم سنينا؟
20
وماذا جبت من ظلمات ليل
بعيد الصبح ينضي المدلجينا؟
21
وهل تبقى النفوس إذا أقامت
هياكلها، وتبلى إن بلينا؟
وما تلك القباب وأين كانت
وكيف أضل حافرها القرونا؟
ممردة
22
البناء تخال برجا
ببطن الأرض محطوطا دفينا
تغطى بالأثاث، فكان قصدا
وبالصور العتاق، فكان زونا
23
حملت العرش فيه، فهل ترجي
وتأمل دولة في الغابرين؟
24
وهل تلقى المهيمن فوق عرش
ويلقاه الملا مترجلينا؟
وما بال الطعام يكاد يقدى
25
كما تركته أيدي الصانعينا؟
ولم تك أمس تصبر عنه يوما
فكيف صبرت أحقابا
26
مئينا
لقد كان الذي حذر الأوالي
وخاف بنو زمانك أن يكونا
يحب المرء نبش أخيه ميتا
وينبشه، ولو في الهالكينا
سللت من الحفائر قبل يوم
يسل من التراب الهامدينا
فإن تك عند بعث فيه شك
فإن وراءه البعث اليقينا
ولو لم يعصموك لكان خيرا
كفى بالموت معتصما حصينا
يضر أخو الحياة، وليس شيء
بضائره إذا صحب المنونا
ثم يحدث الملك بأن الحكم المطلق قد انقضى، وحل مكانه حكم الشعب لنفسه، وأصبح الملوك ينزلون على حكم رعاياهم، وهكذا لم ينس شوقي وهو في غمرة الفخر تلك اللمحة إلى ما حدث في الحكم من تطور وتجديد؛ وذلك إذ يقول:
زمان الفرد يا فرعون ولى
ودالت
27
دولة المتجبرينا
وأصبحت الرعاة بكل أرض
على حكم الرعية نازلينا
28
أما القصيدة الثانية فقد تحدث فيها عن توت عنخ آمون، وهو في مجال ذكرى مكتشف قبره: «كارنارفون»، وهو في هذه القصيدة يتحدث عن أوبة الملك المصري القديم، وأنها ليست أوبة البعث، ويرجو أن يترك حيث هو في قبره بعيدا عن مظاهر الحكم والسلطان، لا أن يحمل، كما كان يحمل في حياته، فوق الرقاب؛ لأن الحاكم المستبد يطاق في قبره لا فوق عرشه:
ما آب جبار القرون، وإنما
يوم الحساب يكون يوم إيابه
29
فذروه في بلد العجائب مغمدا
لا تشهروه كأمس فوق رقابه
30
المستبد يطاق في ناووسه
لا تحت تاجيه، وفوق وثابه
31
والفرد يؤمن شره في قبره
كالسيف نام الشر خلف قرابه
32
ويستبعد الشاعر في هذه القصيدة أن يكون توت عنخ آمون قد تقمصت روحه بعوضة حقيرة لدغت كارنارفون وقتلته؛ لأن الملك المصري وفي لصحبه، ولا يمكن أن يكون ذلك جزاء من كشف عن قبره، وعرف الناس به:
هل كان «توتنخ» تقمص روحه
قمص البعوض ومستخس إهابه
33
أو كان يجزيك الردى عن صحبة
وهو القديم وفاؤه لصحابه
34
تالله، لو أهدى لك الهرمين من
ذهب لكان أقل ما تجزى به
أنت البشير به، وقيم قصره
ومقدم النبلاء من حجابه
35
أعلمت أقوام الزمان مكانه
وحشدتهم في ساحه ورحابه
لولا بنانك في طلاسم تربه
ما زاد في شرف على أترابه
36
ويصف الشاعر ما قام به اللورد الراحل من جهود، فقد فض الختم فأرانا أزمانا متطاولة، ونقلنا إلى فجر التاريخ، وكر راجعا إلى العصور القديمة حتى انتقل إلى فرعون في حياته العادية بين الطعام والشراب، متخذا عرشه من عود المندل الطيب الرائحة، ومحليا ثيابه باللؤلؤ الباهر الضياء، وكأنما الفاكهة قد جناها الجاني صباح اليوم لم يصبها تغير. لقد حوى القبر ما لم يستطع قصر غمدان أن يحويه، يقول شوقي:
أفضى الحمام على أبيه همة نفسه
في المجد والباني على أحسابه
أفضى إلى ختم الزمان ففضه
وحبا إلى التاريخ في محرابه
وطوى القرون القهقرى، حتى أتى
فرعون بين طعامه وشرابه
المندل الفياح عود سريره
واللؤلؤ اللماح وشي ثيابه
37
وكأن راح القاطفين فرغن من
أثماره صبحا، ومن أرطابه
38
جدث حوى ما ضاق «غمدان» به
من هالة الملك الجسيم وغابه
39
بنيان عمران، وصرح حضارة
في القبر يلتقيان في أطنابه
40
فترى الزمان هناك قبل مشيبه
مثل الزمان اليوم بعد شبابه
وتحس ثم العلم عند عبابه
تحت الثرى، والفن عند عجابه
41
والشاعر هنا معجب بما في القبر من آثار، ويراها مظاهر عمران وحضارة باذخة لا تقل عن هذه الحضارة التي نعيش اليوم فيها، وتريك هذه الآثار أنها ثمرة علم ناضج متبحر، وفن تجاوز غاية الإعجاب.
ويؤكد هذا المعنى في القصيدة نفسها فيقول:
أخرجت من قبر كتاب حضارة
الفن والإعجاز من أبوابه
42
وخص شوقي توت عنخ آمون وحضارة عصره بقصيدة مطولة أخرى، بدأها بالحديث عن هذا الكنز الذي مضت عليه القرون، فازداد بمضيها قدرا وقيمة. إنه كالسيف قد مضى الزمان عليه في غمده؛ حيث يقيم في مكان كأنه الغيب المكنون لا تصل إليه الظنون، حتى جاء العلم فكشف سره المصون، وأهل العلم كأهل بدر حلال لهم كل ما يصنعون.
لقد كشف العلم عن حضارة رائعة، وفن رفيع، واندس العلم يزيح الظلام عن أسرار هذه المخبآت وتلك الحفر المظلمة، وهذه الحجر التي تشبه المعاقل المرتفعة، والحصون العالية التي لا تهتدي إليها الريح العاصفة، ولا الغيث المدرار، وقد لجأ إليها الملك يستأمنها على نفسه وثروته، فخانت هذه الأمانة يوم باحت بسرها الدفين.
درجت على الكنز القرون
وأتت على الدن السنون
43
خير السيوف مضى الزما
ن عليه في خير الجفون
44
في منزل كمحجب ال
غيب استسر عن الظنون
45
حتى أتى العلم الجسو
ر، فغض خاتمه المصون
والعلم «بدري» أح
ل لأهله ما يصنعون
46
هتك الحجال
47
على الحضا
رة، والحذور على الفنون
واندس كالمصباح في
حفر من الأجداث جون
48
حجر ممردة المعا
قل في الثرى شم الحصون
49
لا تهتدي الريح الهبو
ب لها، ولا الغيث الهتون
50
خانت أمانة جارها
والقبر، كالدنيا، يخون
وينتقل شوقي إلى مناجاة للملك المصري، ويبدو في هذه المناجاة الحب والإعجاب؛ إذ يرى المصريين القدماء قد انفردوا بين العالم كله بحب الخلود، فربى ذلك في نفوسهم خلقا يتميزون به من بين الناس جميعا هو إتقانهم لكل ما يصنعون، ورغبتهم في إحسان ما يعملون.
وإذا كان الهدف الذي يسعون إليه هو الخلود، فإنهم ليسوا كالناس يبعثون بعد موت. ويسألهم شوقي أيسبقون العالم يوم القيامة كما كانوا السابقين في هذه الحياة الدنيا؟
ويبدو إعجاب شوقي بالغا عندما يجعل المصريين القدماء أصل الحضارة، والمحسنين في إشادة أركانها، والمتقنين الذين نالوا الخلود بسبب هذا الإتقان.
وتلمس الحب العميق والإعجاب البالغ عندما يقول شوقي مناجيا توت عنخ آمون:
يا ابن الثواقب من «رع»
وابن الزواهر من «أمون»
نسب عريق في الضحى
بذ
51
القبائل والبطون
أرأيت كيف يئوب من
غمر القضاء المغرقون
52
وتدول آثار القرو
ن على رحى الزمن الطحون
حب الخلود بنى لكم
خلقا به تتفردون
لم يأخذ المتقدمو
ن به، ولا المتأخرون
حتى تسابقتم إلى الإح
سان فيما تعملون
لم تتركوه في الجلي
ل، ولا الحقير من الشئون
هذا القيام فقل لنا: ال
يوم الأخير متى يكون؟
البعث غاية زائل
فان، وأنتم خالدون
السبق من عاداتكم
أترى القيامة تسبقون؟
أنتم أساطين الحضا
رة والبناة المحسنون
المتقنون، وإنما
يجزى الخلود المتقنون
وبعد هذا الحب والإعجاب بالحضارة المصرية القديمة، يتحدث عن قبر توت عنخ آمون، فيتساءل أهو قبر أم هو حجرة عرش الملك؟ إنه يبدو من قبور الموتى ومن قصور الأثرياء المتوفين، فليس هناك مظهر من مظاهر الحضارة إلا قد حواه ذلك المكان؛ فالملك الدفين تحيط به مظاهر الحياة، وكل آيات المدنية في عصره دينية ودنيوية، حتى انبهر أمام روعتها الزمن وأهله المعجبون بحضارتهم الراهنة، وظنت «باريس» أن ذلك المجد من صنع أبنائها، يقول شوقي:
أنزلت حفرة هالك
أم حجرة الملك المكين؟
أم في مكان بين ذ
لك يدهش المتأملين؟
هو من قبور المتلف
ن، ومن قصور المترفين
لم يبق غال في الحضا
رة لم يحزه، ولا ثمين
ملك تحيط به الحيا
ة زمانه معه دفين
وذخائر من أعصر
ولت، ومن دنيا ودين
حملت على العجب الزما
ن، وأهله المستكبرين
فتلفتت «باريس» تح
سب أنها صنع البنين
ويفصل شوقي بعدئذ ما عثر عليه في ذلك القبر من ذهب لم تذهب السنون ببريقه الوهاج، وقد صنعت أيدي القيون من هذا الذهب صفائح وسبائك وتوابيت متوهجة لا يتخذها الموتى. ولو أنهم فطنوا لهذه النواويس لمضوا ينبشون عنها، وحاول كل واحد أن تكون له. وقد فصل الكفن برقائق من الذهب، وقد لفه في رفق محنط رزين رفيق، كما يلف الطبيب الضماد في حنان، كما تحنو الكمائم على أوراق الورد.
وبدا القبر مزخرفا بالصور والصحف والتماثيل الرائعة، فيخيل إليك أنك في معبد للأصنام، وترى الصور تمثل لك الحركة، وتعبر لك في وضوح عما تريد، وقد مرت عليها عصور تلو عصور، ودهانها غض برغم الزمن المتطاول، حي لم تمته القرون. لقد خدع العيون فظنته حديث العهد، ومضت الأيدي تتلمسه لتتأكد من حياته وغضارته.
إن مظاهر الحياة تحيط بالملك في قبره، فصور غلمان القصر تجسمهم أمام أعيننا كأنهم لا يزالون يزاولون الصيد ويناولونك السهام، وكأن البوق يدوي صوته في الفضاء، والسهام والأقواس ترن، وكلاب الصيد تلهث لطول جريها، والخيل تجري في جنون، والوحش ينفر بين يديك يجري في السهول، وحينا يثب الجبال، والطير يئن من جراحه.
وكأن الناس قد اجتمعوا إليك من كل فج ، وكأننا لا نزال نعيش في عهد الفراعنة. ولننصت إلى هذا الشعر الذي يصور في قوة وروعة تلك الآثار الدفينة في هذا القبر، فيقول:
ذهب ببطن الأرض لم
تذهب بلمحته القرون
استحدثت لك جندلا
وصفائحا منه القيون
53
ونواوسا وهاجة
لم يتخذها الهامدون
54
لو يفطن الموتى لها
سرحوا الأنامل ينبشون
وتنازعوا الذهب الذي
كانوا له يتفاتنون
أكفان وشي فصلت
برقائق الذهب الفتين
55
قد لفها لف الضما
د محنط آس رزين
56
وكأنهن كمائم
57
وكأنك الورد الجنين
وبكل ركن صورة
وبكل زاوية رقين
58
وترى الدمى فتخالها ان
تثرت على جنبات زون
59
صور تريك تحركا
والأصل في الصور السكون
ويمر رائع صمتها
بالحس كالنطق المبين
صحب الزمان دهانها
حينا عهيدا
60
بعد حين
غض على طول البلى
حي على طول المنون
خدع العيون، ولم يزل
حتى تحدى اللامسين
غلمان قصرك في الركا
ب يناولون ويطردون
61
والبوق يهتف، والسها
م ترن، والقوس الحنون
وكلاب صيدك لهث
62
والخيل جن لها جنون
والوحش تنفر في السهو
ل، وتارة تثب الحزون
والطير ترسف
63
في الجرا
ح، وفي مناقرها أنين
وكأن آباء البري
ة في المدائن محضرون
وكأن دولة «آل شم
س»
64
عن شمالك واليمين
ويناجي شوقي الملك ويسميه ملك الملوك، ويحييه تحية ولاء وحب، ويسجل في شعره أنه مغرم بالوقوف عند آثار المجد، والاستغراق فيما توحي به من عظمة وجلال، ويرى أن هؤلاء الفراعنة مثل عليا ترفع أمام الشباب ليقتدوا بهم، ويعملوا على أن يكونوا مثلهم في حب الخلود، والغرام بالإتقان، ويؤمن بأن تاج مصر إنما استقر على جبين ملوكها معتمدا على ما كان لمصر من قوة حربية مستعدة، فتسمعه يقول:
ملك الملوك تحية
وولاء محتفظ أمين
هذا المقام عرفته
وسبقت فيه القائلين
ووقفت في آثاركم
أزن الجلال، وأستبين
كنتم خيال المجد ير
فع للشباب الطامحين
تاج تنقل في الخيا
ل، فما استقر على جبين
خرزاته السيف الصقي
ل يشده الرمح السنين
65
وهنا تثور في نفس شوقي آلام ممضة عندما يوازن بين القوة الحربية القديمة لمصر، وبين ما كانت عليه مصر من الضعف عندما كشف قبر توت عنخ آمون. ويبدو الألم البالغ في قول شوقي:
قل لي: أحين بدا الشرى
لك، هل جزعت على العرين؟
66
آنست ملكا ليس بالشا
كي السلاح ولا الحصين
البر مغلوب القنا
والبحر مسلوب السفين
لما نظرت إلى الديا
ر صدفت
67
بالقلب الحزين
لم تلق حولك غير «كر
تر» والنطاسي المعين
أقبلت من حجب الجلا
ل على قبيل معرضين
والله يعلم لم يرو
ه من قرون أربعين
وتبدو لوعة شوقي بالغة في هذا الجزء من القصيدة على ما وصلت إليه مصر من الضعف في ذلك الحين، فقد أحس بالملك المصري القديم حزينا أشد الحزن عندما فتح عينيه على وطن ألفه قويا بالغ القوة، عزيزا راسخ العزة، فوجده على غير ما اعتاد أن يراه، رآه بلدا أعزل، لا سلاح يحمي بره، ولا أسطول يدافع عن بحره؛ فلا غرابة إن أعرض عن الديار بقلب متألم حزين.
ولم لا يحزن وهو لم ير حوله أبناءه المصريين هم الذين اهتدوا إلى قبره، بل وجد وجها غريبا، وسحنة لا تمت بصلة إليه؟!
ولم لا يحزن وهو يرى قومه لا يسهمون في بناء الحضارة وإشادة المجد، كما كان هو يساهم في ذلك بحظ وفير؟!
ولكن الشاعر برغم تمجيده للملك المصري وحضارة عصره لا يقبل حكم الفرد، ولا يرضى عن حكم الجمهور نفسه بديلا، ويرى أولئك الذين يقبلون حكم الفرد متخلفين في التفكير، متأخرين لا يعيشون في عصرهم. واستمع إلى شوقي إذ يقول:
قسما بمن يحيي العظا
م، ولا أزيدك من يمين
لو كان من سفر إيا
بك أمس أو فتح مبين
أو كان بعثك من دبي
ب الروح أو نبض الوتين
68
وطلعت من وادي الملو
ك عليك غار الفاتحين
الخيل حولك في الجلا
ل العسجدية ينثنين
69
وعلى نجادك هالتا
ن من القنا والدارعين
70
والجند يدفع في ركا
بك بالملوك مصفدين
71
لرأيت جيلا غير جي
لك، بالجبابر لا يدين
72
ورأيت محكومين قد
نصبوا،
73
وردوا الحاكمين
إن الزمان وأهله
فرغا من الفرد اللعين
فإذا رأيت مشايخا
أو فتية لك ساجدين
لاق الزمان تجدهمو
عن ركبه متخلفين
هم في الأواخر مولدا
وعقولهم في الأولين
وتبدو نظرة شوقي الحزينة أيضا في أرجوزة أخرى ناجى بها توت عنخ آمون؛ حيث ثار على الضعف الذي كان عليه الوطن، فتخيل الملك المصري كما كان، قائدا مغوارا يقود جيشا يملأ السهل والجبل، يمضي به فاتحا منابع النيل.
ويحدثه عما اكتسبه وادي الملوك من الشهرة والازدهار يوم كشف عن قبر هذا الملك، الذي أعاد إلى الأذهان ذكرى دولة الفراعنة، الذين أبلت آثارهم قوى الدهر وفلت سطوته.
وظلت آثار الملك الراحل تسافر عبر القرون، حتى انقضى أربعون قرنا، حتى إذا عاد إلى وطنه وجد به إنجلترا وجيشها ومندوبها مقيمين فيه مسلولي السيوف؛ لتحمى الهند، وتفصل السودان، وتقتطع قناة السويس. يقول الشاعر للملك المصري القديم:
قم سابق «الساعة»،
74
واسبق وعدها
الأرض ضاقت عنك، فاصدع غمدها
واملأ رماحا غورها ونجدها
وافتح أصول النيل واستردها
شلالها، وعذبها، وعدها
75
واصرف إلينا جزرها ومدها
تلك الوجوه لا شكونا فقدها
بيضت القربى لنا مسودها
سللت من «وادي الملوك» فازدهى
وألقت الشمس عليه رأدها
76
واسترجعت دولته إفرندها
77
أبيض ريان المتون وردها
أبلى ظبى الدهر، وفل حدها
وأخلق العصور واستجدها
سافر أربعين قرنا عدها
حتى أتى الدار فألفى عندها
إنجلترا، وجيشها، ولوردها
مسلولة الهندي تحمي هندها
قامت على السودان تبني سدها
وركزت دون القناة بندها
78
وكانت هذه المفاجأة التي فوجئ بها الملك المصري مذهلة محزنة، فقال في حسرة: ليتني ظللت في القبر مختفيا وراء جدرانه، ولم أنتبه من رقدتي. حدثني أيها الشاعر المصري القديم عما حدث بعدي من لعب مصر واستهتارها، ونسيت جلال الآباء والأجداد، ولم يصدها عن هذا الاستهتار جلال الموت، ولا هيبة من ماتوا، يقول شوقي على لسان ملك مصر:
فقال والحسرة ما أشدها
ليت جدار القبر ما تدهدها
79
وليت عيني لم تفارق رقدها
قم نبني يا بنتئور،
80
ما دها؟
مصر فتاتي لم توقر جدها
دقت وراء مضجعي جازبندها
قد سحبت على جلالي بردها
ليت جلال الموت كان صدها
وهنا يمجد شوقي الملك المصري القديم، ويمجد ملوك مصر القديمة بعامة إذ يقول:
فقلت: يا ماجدها وجعدها
81
لو لم تك ابن الشمس كنت رئدها
82
لحدك ودته النجوم لحدها
أريتنا الدنيا به وجدها
سلطانها وعزها ورغدها
وكيف يعطى المتقنون خلدها
آثاركم يخطي الحساب عدها
انهدم الدهر، ولم يهدها
ولم يكن الشاعر هنا برغم احتلال الإنجليز للوطن المفدى متشائما، بل كان يرى مصر قد بلغت حدا من الرشد يبشر بمستقبل سعيد، وكانت ثورتها المباركة سنة 1919 دليل يقظة ورشد، فأرسلت وفدها إلى أوروبا، وأقامت البرلمان تستقبل فيه نواب البلاد، ولعل ذلك كان نقطة لبدء العمل الجليل لبناء مستقبل رشيد:
مصر الفتاة بلغت أشدها
وأثبت الدم الزكي رشدها
ولعبت على الحبال وحدها
وجربت إرخاءها وشدها
فأرسلت دهاتها ولدها
83
في الغرب سدوا عنده مسدها
وبعثت للبرلمان جندها
وحشدت للمهرجان حشدها
84
ويختم هذه الأرجوزة بالدعاء لمصر أن يقوي الله يدها، ويشد أزرها، وأن يفتح أمامها السبل ولا يسدها، وأن يجعلها تقدر لكل خطوة ما بعدها، وأن يبعدها عن صغار الأمور، ويوجهها إلى العظائم، حتى لا تذهب دماء الضحايا هدرا، وأن يكبح هوى النفوس ويكسر أحقادها، ويجمع القلوب على حب مصر الأم الرءوم، وأن يجعل النبوغ من حظ أبنائها، وألا تخلق بيديها من يستبد بأمورها.
ولعل الكشف عن آثار توت عنخ آمون، وقيام الثورة المصرية المباركة، وفتح البرلمان أبوابه لاستقبال نواب البلاد هو الذي أثار هذه الأماني الطيبة في صدر شوقي عندما قال:
يا رب قو يدها، وشدها
وافتح لها السبل، ولا تسدها
وقس لكل خطوة ما بعدها
وعن صغيرات الأمور حدها
واصرف إلى جد الشئون جدها
ولا تضع على الضحايا جهدها
واكبح هوى الأنفس، واكسر حقدها
واجمع على الأم الرءوم ولدها
واملأ بألبان النبوغ نهدها
ولا تدعها تحي مستبدها
وتنتحت براحتيها فردها
وهو هنا، كما سبق في شعره، يكره حكم الفرد ويمجد الشورى، وهكذا كان الكشف عن آثار توت عنخ آمون مثيرا لخواطر متنوعة في شعر شوقي، فحينا هو فخور بالمجد المصري القديم، تياه بهذه الحضارة الرفيعة التي دل عليها كشف ذلك القبر، وحينا يصف هذا الكنز الثمين، وحينا يوازن بين الماضي والحاضر، وحينا يتفاءل بمستقبل مزدهر لهذا الوطن العزيز، ولكنه في جميع الحالات لا يطمئن إلى حكم الفرد، ولا يرتاح إلى استبداده.
ومن كل ما عرضناه يبدو تبريز شوقي في وصف الآثار المصرية؛ مما يجعلنا نشعر بصدقه يوم افتخر بسيفه في ميدان الوقوف عند آثار مصر والإشادة ببناتها فقال:
هذا المقام عرفته
وسبقت فيه القائلين
تمثال رمسيس
كان نقل تمثال رمسيس من البدرشين حيث كان، إلى محطة القاهرة حيث أقيم، مثيرا في نفوس الشعراء كثيرا من الذكريات والخواطر، فهذا شاعر قد أثار فيه نقل التمثال ذكريات تاريخية عن رمسيس، هي ذكريات مجده الحربي، فتخيل رمسيس على رأس جيشه، وقد ملأ الوادي صهيل خيله، وزلزل الأرض هدير صوته الذي لا تزال ربى النيل تردده، وقد انتظم جنده من حوله يرون فيه القائد المظفر. إنهم يكونون جحفلا جرارا كأنهم السيل المنهمر يثقلون كاهل الأرض، لهم شجاعة الجبابرة الذين يطلبون أن يخلد التاريخ شجاعتهم، ولهم أصوات مفزعة.
أما رمسيس فتعنو لسيفه الأعناق المتوجة، وتهوي به يمينه كالقدر يردي فلول المنهزمين أمام بسالته، تحمله مركبة يحملها الدهر، ويرعاها الشمس والقمر، يسدد منها سهام الموت تحصد أعداءه، فتهون عزيمتهم أمام عزمه، ويدق بأسه الحصون السامقة، حتى انفرد في عصره بالمجد لا يشاركه فيه سواه.
وها هو ذا يعود إلى وطنه تطلق أبواق جنده عودته منتصرا على أعدائه، ذكريات يسجلها الشاعر فيقول:
رمسيس، ما أروع التاريخ محتشدا
وقد ذكرت فأصغت للعلا السير
صهيل خيلك في الوادي تردده
ملاحن جاوبتها الريح والشجر
وزلزل الأرض إيقاعا وتصدية
هدير صوتك والماضون قد نشروا
وفي ظلال العلا أجنادك انتظموا
يستلهمونك أمجادا لها انتصروا
سارت جحافلهم في الأرض تثقلها
كأنها السيل في الوديان ينهمر
عنت لسيفك أعناق متوجة
بالغار من قبل أن تذرى بها النذر
في مركب لك هام الدهر تحمله
والشمس ترعاه، والأفلاك والقمر
ودق بأسك حصنا كان سامقه
يطاول النجم، حتى ما له أثر
حتى انفردت بمجد الدهر أجمعه
فما تخطاك من عليائه وطر
والنصر بشراه في الآفاق تطلقها
أبواق جندك في الوادي، وقد ظفروا
1
وهذا شاعر يرى رمسيس قد عاد بعد هذه القرون الطويلة والأجيال المتعاقبة، عاد في موكب من المجد تنطق به الأفعال لا الأقوال، عاد يمشي في شعبه، رهيب الخطوة، فارع الطول، شامخ الأنف، رائع الجمال، يمسك بيده صحيفة أعماله التي سجل فيها كفاحه ونضاله.
وهنا يمجد الشاعر شعب مصر القديمة الذي أنشأ هذا التمثال الرائع، ويرى هذا الشعب صانع المجد، باعث الفن، قد سكب روحه في المعابد والأهرام، ويرى رمسيس رمز هذا الشعب الأبي؛ إذ يقول:
من وراء القرون والأجيال
عاد، لكن في صورة التمثال
عاد يزهو في موكب من فخار
صامت القول ناطق الأفعال
عاد يمشي في شعبه مشية الأم
س رهيب الخطى فسيح المجال
فارع الطول، شامخ الأنف، يبدو
رائع الفن، عبقري الجمال
في يديه صحيفة القدر الغا
لب مكتوبة بروح النضال
من بطون التاريخ ينشر ألوا
نا من الزهر والنقوش الغوالي
دبجتها الأكف من شعب مصر
صانع المجد في العصور الخوالي
باعث الفن والحياة بوادي الن
يل بين المصب والشلال
ساكب الروح في المعابد والأه
رام تجري بكهرب سيال
فهو رمز العلا لشعب أبي
بين أقرانه، عزيز المنال
وصور الشاعر خروج الشعب للقاء تمثال رمسيس، وما أثارته رؤيته في نفسه من ذكريات قديمة وحديثة، فتخيله راكبا عجلة الحرب يصمي أعداءه بالنبال، وتخيله قائدا مغوارا يهجم على أعدائه في معاقلهم، وتخيله وهو يبني معبد الرمسيوم، وتمثله في قرية «البدرشين» وهو ملقى في ساحتها طريح الرمال في مهب الريح ينظر إلى السماء، شاكيا ما وصل إليه أمره من سوء المآل بعد عز الحياة، حتى قيض الله له من نفض التراب عنه، ورفعه أمام الزمان أصيد عالي المكان. وهذه بعض أبيات تصور هذه الذكريات:
خرج الشعب كله يتملى
وجه رمسيس ذي العلا والجلال
كان عهدي به على عجلات ال
حرب يصمي أعداءه بالنبال
كان عهدي به أخا الفتح يغشى
في حمى الغاب موطن الرئبال
كان عهدي به أخا المجد يعلي
معبد «الرمسيوم» بين الجبال
وعندما كان في البدرشين:
طالما هبت الرياح عليه
وهو في ساحها طريح الرمال
ناظر للسماء يشكو إليها
بعد عز الحياة سوء المآل
يتمنى على المدى من بني مص
ر جريئا في فعله لا يبالي
ينفض الترب والغوائل عنه
ليراه الزمان أصيد
2
عال
ثم يناجيه الشاعر بما أثارته رؤيته في نفوس المصريين من آمال كبار في المجد والنصر، ويراه خطيبا بما اتصف به من الخصال السامية.
ويرحب الشاعر برمسيس في مصر الحديثة بعد الثورة، فقد تطهرت من عار الاحتلال، وصارت أمة تسعى إلى المجد والعلا، قد حزمت أمرها واتحدت كلمتها، وتخلص حتى السجين من الأغلال، فيقول له:
هذه مصر رحبت بك يا رم
سيس في موكب من الأبطال
فادخل اليوم أرضها، فهي طهر
غسلت من هزيمة واحتلال
ستراها كما عهدت قديما
أمة المجد والنهى والمعالي
حزمت أمرها اتحادا، وثابت
للهدى بعد فرقة وضلال
عيدها أن تراك فيها، وما ير
سف حتى السجين في الأغلال
3
أما هذا الشاعر فيستوقف نظره تمثال رمسيس وهو راقد في صحراء البدرشين؛ حيث تضربه الشمس نهارا ويناجيه القمر ليلا، فلو أن التمثال كان حديدا لانصهر في حرارتها. لقد مرت عليه آلاف الأعوام وتهاوت كما تهاوت أوراق الشجر لم تغير منه شيئا، يقول الشاعر:
من ذلك الراقد في الص
حراء من دهر غبر
تضربه الشمس، وفي الل
يل يواسيه القمر
لو أنه كان حدي
دا في لظاها
4
لانصهر
آلاف أعوام تها
وت مثل أوراق الشجر
ما غيرت منه، وكم
شوهد فيها من غير؟
ويسأله الشاعر عن سر هذا النوم الطويل، وهل كان ذلك لطول سهره على مصلحة رعيته وبناء مجدها؟ لقد نام طويلا نوما لم تزعجه فيه الأحلام، فكيف استيقظ بعد هذا النوم الطويل؟ ويجد الشاعر الجواب في هذه الثورة التي أيقظت في البلاد كل شيء حتى الحجر الأصم، فيقول:
يا نائما دهرا، أطو
ل النوم من طول السهر
ما كدرت نومك آ
لام، ولا حلم خطر
كيف انتبهت بعدما
خدرت ذلك الخدر
أيقظك العهد الذي
أيقظ في مصر الزمر
ويخاطب الشاعر رمسيس قائلا له: إنه قد نال الخلود في كل ناحية من النواحي، فخلد جسمه محنطا، وخلد تمثاله، وخلد تاريخه الباهر على الزمن. أما روحه فمكفول لها الخلد إلى يوم القيامة، وقد أمدها المصريون بالطعام، وحرسوها بالسلامة والتعاويذ من كل شر يستطيع أن يمسها؛ إذ يقول:
رمسيس، قد خلدت في الد
نيا على كل الصور
جسما، وتمثالا، وتا
ريخا على العهد بهر
والروح مكفول لها ال
خلد ليوم المستقر
أما أمدوها بما
تطعمه طول السفر
وعوذوها بالسلا
ح والرقى من كل شر
ويناجي الشاعر رمسيس فرحا بما أحرزته مصر على يد الثورة من أمجاد، فقد طهرت البلاد من أرجاس المستعمرين، ولو أن رمسيس رأى البلاد قبل الثورة لخزي لما يراه في مصر من خور تنحني له الرءوس خجلا، وينفطر له القلب أسى، ورام لو عاد إلى وحشة الصحراء، حتى لا يرى عار احتلال الأجنبي للبلاد؛ فقد دام سبعين عاما عاث فيها فسادا وظلما، حتى أرسل لها القدر من خلصها من عار ذلك الدنس، يقول الشاعر:
رمسيس، لو في مصر قب
ل اليوم لحت للنظر
لكان أخزاك الذي
يلقاك فيها من خور
وكان رأسك انحنى
وكان قلبك انفطر
ورمت لو عدت إلى الص
حراء زهدا في الحضر
هذا هو المحتل يج
لو بعدما في مصر قر
سبعين عاما عاث في
ها، واسترق وهدر
مستوزرا منها الذي
هان، ومان،
5
وغدر
حتى أتاها قدر
من جانب الغيب ظهر
فاجتث، واحتث،
6
ونم
ى وبنى، ثم عمر
ويختم الشاعر قصيدته متحدثا عن العدو الرابض لنا في الشرق، كما كان العدو رابضا لرمسيس في الشرق أيضا. وإذا كان رمسيس قد قضى على عدوه في معركة «قادش»، فإن الشاعر يتمنى أن يلقى العدو في معركة قادش أخرى يهزمه فيها هزيمة نكراء، فيقول:
رمسيس، يا سليل «رع»
سل «رع» يقي مصر الخطر
ما زال في الشرق لنا
خصم كخصمك انتظر
يا ليتنا في «قادش»
أخرى لقيناه، ففر
7
ويحس شاعر آخر أن رمسيس عندما هب من نومه واقفا على قدميه ظن أنه قد بعث، وكان على مدى العصور يحلم بالبعث ويتوق إليه، فأخذ يتساءل أين جنده وقصوره وعواصم بلاده، والمعبد الذي أقامه، ومن يملؤه من العباد؟ بل أين قلبه الذي يحس به الحياة والخلود؟
ويسرع الشاعر فيجيبه بأن ذلك بعث حقيقي؛ لأن النيل قد استيقظ بنوه، يستمدون مجدهم من مجد رمسيس، فلم يبق في الوادي نائم ولا كسلان، ولا خاضع ذليل، بل قد غدا الشعب كخلايا النحل، يعمل في جد ودأب، حتى أحال الصحاري التي كانت خرابا جنة مزدهرة. أما جيش رمسيس فهو في الوادي قد شمر عن ساعديه للأحداث، فجنده أسود في الحرب، ويحمون الحقوق في السلم.
وكل ما يمكن أن يراه رمسيس من فرق بين ما يراه اليوم وما كان يراه بالأمس، هو أن شعبه كان يدين بالعبادة لآمون، في حين أنه يدين اليوم لإله عزيز، رحيم، واحد، خالد، خلق الخلق كما شاء.
لقد بعث رمسيس اليوم في أشخاص أبنائه، فكلهم له قلب رمسيس وعزمه، وقد صمموا أن يكتبوا لأنفسهم تاريخا مجيدا، وأن يتخذوا من معركة قادش نموذجا ينسجون على منواله، يقول الشاعر:
هب من نومه على قدميه
ينشد البعث، وهو بين يديه
وصحا فاستقام يلقي على الد
نيا سؤالا يجول في عينيه
أوحقا بعثت للنيل أم أن
خيالي بالبعث يهفو إليه؟
أين جندي؟ وأين ركبي؟ وجيشي؟
وعتادي أمضي وأغدو عليه
أين ممفيس؟ أين طيبة؟ والمع
بد والعابدون في ساحتيه؟
أين قلبي أرده لضلوعي؟
أستمد الخلود من خفقتيه؟
فيجيبه الشاعر:
يا ابن آمون، إنه البعث فانظر
يقظة النيل والذين عليه
انظر النيل لا ترى فيه وسنا
ن،
8
ولا جاثيا على ركبتيه
شعبه قد غدا خلايا من الن
حل لجني الثمار من ضفتيه
والصحاري التي عهدت يبابا
9
قد نمت جنة على شاطئيه
وهنا جيشك المظفر قد شم
ر للحادثات عن ساعديه
جنده في الوغى أسود، وفي الس
لم حماة الحقوق من عنصريه
لم يعد ثم يا ابن رمسيس آمو
ن تفيض الخيرات من راحتيه
خالق الكون قد هدى الناس لل
إيمان والحي، واصطفاهم إليه
وحبا مصر كلها قلبك البا
سل، ترجو الخلود من خفقتيه
كل أبنائها لهم قلب رم
سيس وعزم الأسود من ساعديه
يوم «قاديش» يا ابن رمسيس قد
خلف جندا سينسجون عليه
10
وهكذا أثار تمثال رمسيس في نفوس الشعراء خواطر متعددة، فاستعاد بعضهم تاريخ رمسيس الحربي، وأحس بعضهم أنه قد عاد بين شعبه كما كان بالأمس، وملأته ذكريات الماضي والحاضر، وفاض أملا في مستقبل للوطن مزدهر، وكانوا جميعا فرحين بما ظفر به الوطن في العهد الجديد من حرية، ونهضة شاملة توحي بما ستكون عليه البلاد من مجد وعزة.
منارة الإسكندرية
وقد سبق وصفها في أول هذا البحث، وقد تحدث عنها المسعودي في مروج الذهب (1: 232)، والسيوطي في حسن المحاضرة (1: 43)، ويقول عنها ابن فضل الله العمري: وقد كانت المنارة سرح ناظر، ومطمح أمل حاضر، طالما جمعت أخدانا، وكانت لجياد الخواطر ميدانا، ولم يبق منها إلا ما هو في حكم الأطلال الدوارس، والرسوم الطوامس.
1
ومن هذه الخواطر التي حركتها خواطر شاعرين من أبناء القرن السادس الهجري؛ هما: ابن قلاقس، والوجيه ابن الذروي؛ فقد روي أنهما طلعا المنارة، فاقترح ابن قلاقس على صاحبه أن يصف المنارة، فقال الوجيه على البديهة:
وسامية الأرجاء تهدي أخا السرى
ضياء إذا ما حندس
2
الليل أظلما
لبست بها بردا من الأنس ضافيا
فكان بتذكار الأحبة معلما
3
وقد ظللتني من ذراها بقبة
ألاحظ فيها من صحابي أنجما
فخيل أن البحر تحتي غمامة
وأني قد خيمت في كبد السما
4
فاشتد سرور ابن قلاقس وفرحه، وقال يصفها:
ومنزل جاوز الجوزاء مرتقيا
كأنما فيه للنسرين
5
أوكار
6
راسي القرارة، سامي الفرع في يده
للنون والنور أخيار وأخبار
أطلقت فيه عنان النظم فاطردت
خيل لها في بديع الشعر مضمار
ولسنا الآن بسبيل نقد هذا الشعر، وتقدير قيمته الفنية، ولكننا بسبيل استنباط ما يدل عليه من الإعجاب بارتفاع المنارة في جو السماء، حتى خيل لابن قلاقس أنها بلغت عنان السماء، وتخيل الوجيه أنه خيم في كبدها، والإعجاب بهذا النور ينبعث منها فيهدي السارين إذا اشتد ظلام الليل، والإعجاب برسو أصلها في الأرض، واستقرارها في ثبات.
عمود السواري
وصفه المؤرخون للآثار المصرية من غير أن يرووا شعرا يصف إحساس الشعراء نحوه، أو إعجابهم بدقة صنعه وارتفاعه الشاهق في الجو.
وبعد، فهذه عجالة تبين الاتجاهات المختلفة التي نظر بها الأدباء إلى آثار مصر في القديم والحديث، وكلها باستثناء الشاعر خليل مطران معجبة بتلك الآثار، مسجلة ما تدل عليه من حضارة وعلم وخلق رفيع.
ناپیژندل شوی مخ