At-Tawdih ar-Rashid fi Sharh at-Tawhid
التوضيح الرشيد في شرح التوحيد
ژانرونه
- المَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ) أَنْكرَتِ المُعْتَزِلَةُ حَقِيْقَةَ السِّحْرِ! (١) وَقَالُوا إِنَّمَا هِيَ أَوْهَامٌ وَخِفَّةٌ فِي اليَدِ فَقَط! وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى﴾ (طَه:٦٦)، فَهُوَ خَيَالٌ فِي العَيْنِ فَقَط! وَأَيْضًا أَنَّ هَذِهِ الحِبَالَ كَانَتْ مَمْلُوْءَةً زِئْبَقًا (٢)! فَمَا الجَوَابُ؟
الجَوَابُ: أَنَّهُ يُقَالُ ابْتِدَاءً: لَا بُدَّ مِنَ العِلْمِ أَنَّ السِّحْرَ مِنْهُ مَا هُوَ حَقِيْقِيٌّ لَهُ تَأْثِيْرٌ، وَمِنْهُ مَا هُوَ جَارٍ عَلَى مَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ مِنَ الخِفَّةِ وَالاسْتِتَارِ وَالسُّرْعَةِ وَالخِدَاعِ، فَإِذَا أُثْبِتَ نَوْعٌ مَا بِدَلِيْلٍ فَهَذَا لَا يَعْنِي نَفْيَ الآخَرِ (٣).
بَعْدَ ذَلِكَ نَقُوْلُ إِنَّ مِنَ أَدِلَّة حَقِيْقَةِ وَأَثَرِ السِّحْرِ:
١) قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿قُلْ أَعُوْذُ بِرَبِّ الفَلَقِ، مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ، وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي العُقَدِ﴾ (الفَلَق:٥) وَالنَّفَّاثَاتُ فِي العُقَدِ: هُنَّ السَّوَاحِرُ (٤) مِنَ النِّسَاءِ، وَلَمَّا أُمِرَ بِالاسْتِعَاذَةِ مِنْ شَرِّهِنَّ عُلِمَ أَنَّ لَهُنَّ تَأْثِيرًا وَضَرَرًا حَقِيْقَةً. (٥)
٢) قَوْلُهُ تَعَالَى ﴿فَيَتَعَلَّمُوْنَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُوْنَ بِهِ بَيْنَ المَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّيْنَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ﴾ (البَقَرَة:١٠٢) ظَاهِرٌ فِيْهِ أَثَرُ السِّحْرِ فِي التَّفْرِيْقَ وَالضَّرَرَ. (٦)
٣) عَنْ عَائِشَةَ ﵂؛ قَالَتْ سَحَرَ رَسُوْلَ اللهِ ﷺ رَجُلٌ مِنْ بَنِي زُرَيْقٍ - يُقَالُ لَهُ: لَبِيْدُ بْنُ الأَعْصَمِ - حَتَّى كَانَ رَسُوْلُ اللهِ ﷺ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا فَعَلَهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ أَوْ ذَاتَ لَيْلَةٍ - وَهْوَ عِنْدِي - لَكِنَّهُ دَعَا وَدَعَا ثُمَّ قَالَ: (يَا عَائِشَةُ، أَشَعَرْتِ أَنَّ اللهَ أَفْتَانِي فِيْمَا اسْتَفْتَيْتُهُ فِيْهِ؟ أَتَانِي رَجُلَانِ؛ فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي، وَالآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟ فَقَالَ: مَطْبُوْبٌ. قَالَ: مَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيْدُ بْنُ الأَعْصَمِ. قَالَ: فِي أَيِّ شَيْءٍ؟ قَالَ: فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ وَجُفِّ طَلْعِ (٧) نَخْلَةٍ ذَكَرٍ، قَالَ: وَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: فِي بِئْرِ ذَرْوَانَ). فَأَتَاهَا رَسُوْلُ اللهِ ﷺ فِي نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَجَاءَ فَقَالَ: (يَا عَائِشَةُ كَأَنَّ مَاءَهَا نُقَاعَةُ الحِنَّاءِ، أَوْ كَأَنَّ رُءُوسَ نَخْلِهَا رُءُوسُ الشَّيَاطِيْنِ). قُلْتُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ، أَفَلَا اسْتَخْرَجْتَهُ؟ قَالَ: (قَدْ عَافَانِي اللهُ، فَكَرِهْتُ أَنْ أُثَوِّرَ عَلَى النَّاسِ فِيْهِ شَرًّا). فَأَمَرَ بِهَا فَدُفِنَتْ. (٨)
وَالشَّاهِدُ فِيْهِ مِنْ جِهَتَيْنِ: (التَّخْيِيْلُ، قَدْ عَافَانِي).
وَأَمَّا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى ﴿فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى﴾ (طَه:٦٦) أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى التَّخييلِ دُوْنَ الحَقِيْقَةِ! فَالرَّدُّ عَلَيْهِم مِنْ جِهَتَيْنِ:
أ) أَنَّ هَذَا التَّخْيِيْلَ - وَإِنْ كَانَ لَا حَقِيْقَةَ لَهُ فِي تَغْيِيْرِ أَعْيَانِ الأَشْيَاءِ - وَلَكِنَّهُ كَانَ مُؤَثِّرًا حَقِيْقَةً عَلَى العَيْنَ حَتَّى جَعَلَهَا تَتَخَيَّلُ. فَهَذَا دَلِيْلٌ عَلَى حَقيقَتِهِ وَأَثَرِهِ.
ب) لَا يَصِحُّ حَمْلُ ذَلِكَ السِّحْرِ عَلَى التَّخْيِيْلِ بِكَوْنِ الحِبَالِ وَالعِصِيِّ كَانَتْ مَمْلُوْءَةً زِئْبَقًا، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ سَعْيُ الحيَّاتِ هَذَا خَيَالًا بَلْ حَرَكَةً حَقِيْقِيَّةً، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ سِحْرًا لِأَعْيُنِ النَّاسِ أَصْلًا، وَلَا يُسَمَّى - أَصْلًا - سِحْرًا؛ بَلْ صِنَاعَةً مِنَ الصِّنَاعَاتِ المُشْتَرَكةِ. (٩)
(١) قَالَ النَّوَوِيُّ ﵀ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ (١٧٤/ ١٤) - بَابُ السِّحْرِ -: (قَالَ الإِمَامُ المَازِرِيُّ ﵀: مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَجُمْهُوْرِ عُلَمَاءِ الأُمَّةِ عَلَى إِثْبَاتِ السِّحْرِ؛ وَأَنَّ لَهُ حَقِيْقَةً كَحَقِيْقَةِ غَيْرِهِ مِنَ الأَشْيَاءِ الثَّابِتَةِ؛ خِلَافًا لِمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَنَفَى حَقَيقَتَهُ وَأَضَافَ مَا يَقَعُ مِنْهُ إِلَى خَيَالَاتٍ بَاطِلَةٍ لَا حَقَائِقَ لَهَا).
(٢) وَهِيَ مُجَرَّدُ دَعْوَى تُخَالِفُ ظَاهِرَ مَا وَرَدَ فِي النُّصُوْصِ القُرْآنيَّةِ مِنْ كَوْنِهِم جَاءُوا بِالسِّحْرِ؛ وَسَحَرُوا أَعيُنَ النَّاسِ؛ وَأَنَّهُ سِحْرٌ عَظِيْمٌ.
(٣) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ ﵀ فِي كِتَابِهِ (فَتْحُ البَارِي) (٢٢٥/ ١٠): (وَقَوْلُهُ ﴿فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى﴾ (طَه:٦٦): الآيَةُ عُمْدَةُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ السِّحْرَ إِنَّمَا هُوَ تَخْيِيْلٌ! وَلَا حُجَّةَ لَهُ بِهَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ وَرَدَتْ فِي قِصَّةِ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ، وَكَانَ سِحْرُهُم كَذَلِكَ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ جَمِيْعَ أَنْوَاعِ السِّحْرِ تَخْيِيْلٌ).
قُلْتُ: أَمَّا كَوْنُ سِحْرِهِم تَخْيِيْلًا فَصَحِيْحٌ، أَمَّا كَوْنُهُ لَيْسَ لَهُ حَقِيْقَةٌ فَخَطَأٌ، وَلَيْسَ فِي قِصَّةِ مُوْسَى مَا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ، بَلْ يَدُلُّ عَلَى حَقِيْقَتِهِ أَنَّهُ أثَّرَ فِي الأَعْيُنِ حَتَّى تَخَيَّلوا، فَتَحَوُّلُ الحِبَالِ وَالعِصِيِّ إِلَى أَفَاعِي لَيْسَ لَهُ حَقِيْقَةٌ، أَمَّا تَأَثُّرُ الأَعْيُنِ فَحَقِيْقَةٌ. وَاللهُ تَعَالَى المُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.
(٤) قَالَهُ البُخَارِيُّ ﵀ فِي الصَّحِيْحِ (١٣٦/ ٧).
(٥) وَفِي الحَدِيْثِ (مَنْ تَصَبَّحَ سَبْعَ تَمَرَاتٍ عَجْوَةً؛ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ اليَوْمَ سُمٌّ وَلَا سِحْرٌ). البُخَارِيُّ (٥٧٦٩) عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ مَرْفُوْعًا.
فعَطْفُ السِّحْرِ عَلَى السُّمِّ؛ يَدُلُّ عَلَى وُجُوْدِ التَّأْثِيْرِ الحَقِيْقِيِّ؛ بَلْ وَعَلَى عِظَمِ أَثَرِهِ كَالسُّمِّ المُمِيْتِ.
(٦) قَالَ القَاضِي عِيَاضُ ﵀ فِي كِتَابِهِ (إِكْمَالُ المُعْلِمِ) (٨٦/ ٧): (وَغَيْرُ مُسْتَنْكَرٍ فِي العَقْلِ أَنْ يَكُوْنَ البَارِي سُبْحَانَهُ يَخْرِقُ العَادَاتِ عِنْدَ النُّطْقِ بِكَلَامٍ مُلَفَّقٍ أَوْ تَرْكِيْبِ أَجْسَامٍ، أَوِ المَزْجِ بَيْنَ قِوىً عَلَى تَرتَيبٍ مَا - لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا السَّاحِرُ -).
(٧) (جُفِّ طَلْعٍ): الجُفُّ: وِعَاءُ الطَّلعِ وَغِشَاؤُهُ الَّذِيْ يُكِنُّهُ.
(٨) البُخَارِيُّ (٥٧٦٣)، وَمُسْلِمٌ (٢١٨٩).
(٩) وَأَيْضًا لَوْ كَانَ ذَلِكَ حِيْلَةً مِنْهُم - كَمَا قَالَ هَؤُلَاءِ -؛ لَكَانَ طَرِيْقُ إِبْطَالِهَا إِخْرَاجُ مَا فِيْهَا مِنَ الزِّئْبَقِ؛ وَبَيَانُ ذَلِكَ المُحَالِ، وَلَمْ يَحْتَجْ إِلَى إِلْقَاءِ العَصَا لِابْتِلَاعِهَا، وَأَيْضًا فَمِثْلُ هَذِهِ الحِيَلَةِ لَا يُحْتَاجُ فِيْهَا إِلَى الاسْتِعَانَةِ بِالسَّحَرَةِ؛ بَلْ يَكْفِي فِيْهَا حُذَّاقُ الصُّنَّاعِ، وَلَا يُحْتَاجُ فِي ذَلِكَ إِلَى تَعْظِيْمِ فِرْعَوْنَ لِلسَّحَرَةِ وَخُضُوْعِهِ لَهُم وَوَعْدِهِم بِالتَّقْرِيْبِ وَالجَزَاءِ. انْظُرْ (بَدَائِعُ الفَوَائِدِ) (ص٧٤٨) لِابْنِ القَّيِّمِ ﵀.
1 / 218