اسرار قصور
أسرار القصور: سياسية، تاريخية، غرامية، أدبية
ژانرونه
حمام الطوبخانة
لا يخفى أن يوم الذهاب إلى الحمام عند النساء التركيات من الأيام المعدودة عندهن للنزهة والسلوى؛ ولذا يغتنمن أقل فرصة للتملص من ربقة الاحتجاب، فيأخذن منذ الصباح بالتهيؤ والاستعداد فيحضرون المناشف المعطرة والثياب الحريرية الملونة، ويجلين الطاسات الفضية، ويشترين الأثمار اللذيذة والحلويات العديدة، ويعتنين خصوصا بالسجائر التركية؛ لأنها سلوتهن الوحيدة في مقاصيرهن، وما تكون ترى سلوى الطيور في أقفاصها، فيلبسن بعد الغداء «فراجياتهن»،
1
وينتشرن في الأسواق أزواجا وفرادى، ويقفن أمام كل واجهة من مخازن الحلي والأقمشة؛ لمشاهدة السلع كالأولاد الصغار، وقد اشتهر منذ عشرين سنة بين حمامات الأستانة العديدة حمام اسمه «الطوبخانة» حتى كاد يزاحم حمام «غلطه سراي» بشهرته، وما ذلك إلا لشهرة غسالاته اللائي كن يكثرن من وصف الأدوية المختلفة للحمل وأمراض العقل والبدن، وعبثا كان الإنسان يحاول إقناع النساء بخرافة ما يسمعن وأضرار ما تصف لهن الغسالات من الأدوية، فإنه كان كمن يضرب في حديد بارد، وكان هذا الحمام فخيم البناء على الهندسة العربية له باب عظيم من الرخام الجميل.
فحدث أن في غرة جمادى الأولى من تلك السنة؛ أي قبل ستة أشهر من عيد رمضان، اكتظ ذلك الحمام على اتساعه بالمستحمات، وكان بين غسالاته امرأة عجوز اسمها فاطمة لا ينظر إليها أحد بعين الاهتمام؛ لفقرها المدقع أولا ولأنفة نفسها خصوصا، فبقيت ذلك النهار بلا عمل على الرغم من كثرة الزائرات، فجلست تنظر بعين الحسد إلى زميلاتها وهن منهمكات وهي مكتوفة اليدين، وإذ رفع ستار الباب ودخلت جارية زنجية تحمل صرة ثياب وراءها امرأة في مقتبل العمر جميلة الصورة معتدلة القوام على سذاجة في الملابس، فظن الحاضرات أنها زوجة «أفندي عادي»، ولا سيما لأنها لم تكن مصحوبة إلا بجارية واحدة، والنساء التركيات يفاخرن بكثرة الجواري والعبيد والخصيان. فقامت فاطمة للقائها مؤملة أن تلقى منها التفاتا وإقبالا وقالت لها: هانم أفندي قد أخذت جميع المحلات في هذا الطابق، فهل تريدين الصعود إلى الطابق الأعلى؟ - لا بأس.
فتقدمتها فاطمة تدلها، وأدخلتها إلى مخدع جميل، وبسطت فيه سجادة عجمية، وساعدتها على نزع «فراجيتها»، ثم سألتها أتريدين غسالة أو تنوب الجارية منابها؟ - بل أريد غسالة ... وأريد أيضا أدوية ... وصبغ الحياء وجهها ...
فقالت فاطمة العجوز في نفسها ... وأي دواء تريد هذه المرأة الجميلة ذات البنية القوية؟ ثم قادتها إلى صحن الحمام الذي ينحصر فيه البخار، فدهشت المستحمات من جمال تلك الزائرة الجديدة، واعتدال قوامها، وبياض بشرتها الناصع، وقد سدلت شعرها الحالك على منكبيها فأزعجها تصويب الأنظار إليها، وطلبت غرفة مستقلة، فقادتها الغسالة إلى مخدع جميل وأجلستها على مقعد من رخام، وشرعت تسعى في تهيئة ما يلزم لها، وأما الجارية فبقيت في الطابق الأعلى تحرس ثياب سيدتها، فجلست المرأة، ثم تنهدت الصعداء من قلب مقروح، ووضعت رأسها بين يديها مفكرة وقد كبر الهم عليها.
فلما رأت الغسالة حالة تلك السيدة، رأت من باب الملاطفة أن تسألها عن حالها، فقالت لها: هانم أفندي ما لك حزينة كئيبة؟ هل ينقص هذا الجمال الفتان شيء من السعادة والهناء؟ - وا حسرتاه، أي سعادة وأي هناء! إني أشقى خلق الله، كأني من عبر عنه الشاعر بقوله:
ولو كان هم واحد لاحتملته
ولكنه هم وثان وثالث
ناپیژندل شوی مخ