اسرار قصور
أسرار القصور: سياسية، تاريخية، غرامية، أدبية
ژانرونه
هدية رمضان
كان ابتداء قصتنا يوم عيد رمضان المبارك من عام 1268 للهجرة، وكان قد انقضى شهر ذلك الصوم المجيد في فصل الشتاء، فاحتفل به أهل الأستانة كثيرا، وأطلقت المدافع برا وبحرا إجلالا وتبشيرا، وزينت البوارج والدوارع الراسية في البوسفور، ورفعت الأعلام العثمانية تخفق فوق رءوس المآذن الشاهقة العديدة.
وكان الجو في ذلك اليوم أدكن، والسحائب سوداء، والمطر يتدفق كمن أفواه القرب، ولكن هذا كله لم يحل دون ازدحام الطرق والشوارع، وقد زادها ازدحاما تكاثر الحمالين الناقلين على رءوسهم الأغنام المذبوحة والخدمة الحاملة أطباق الحلوى المغطاة بالشفوف الحريرية الوردية اللون.
وانقضى ذلك العيد في مبادلة التهاني، وتزاور العائلات بين رجال وسيدات، فكانت النساء تبسطن بعضهن لبعض هدايا أزواجهن في ذلك العيد من الحلي والجواهر والجواري يتحدثن ويتفاخرن بكرم مواليهن وسادتهن، وقد أكثرن جميعهن من أكل الحلوى والتدخين، وشارك الفقير الغني في أفراح ذلك العيد. ذلك من فضل تلك العادة القديمة التي هي أن يذبح كل غني أو وجيه عددا معينا من الأغنام أمام عتبة داره ويفرقها على الفقراء تبريكا وإحسانا. •••
وكان في أعلى محلة «الطوبخانة» بيت خشبي حقير تعصف ريح الشتاء في جوانبه، ويشعر الناظر إليه بأن أفراح ذلك العيد لم تطرقه، وكان في الغرفة الكبيرة منه شيخ هرم قد جلس مع امرأة عجوز حول مصطلى للنار يصطليان، وليس فيه إلا الرماد، وكان الصمت سائدا بين العجوزين، فلما أطلقت مدافع الغروب، وصعد المؤذنون يدعون المؤمنين إلى الصلاة صاح الشيخ بامرأته قائلا: أي فاطمة من كان يقول إنا سنصل يوما إلى هذا الحد من الشقاء والفقر المدقع؟ ها قد دخلنا في اليوم الثاني، ونحن بلا طعام نغتذي به، ولا نار نصطلي حرارتها. لم منعتني هذا الصباح من الذهاب إلى دار رشيد باشا؟ فلو تركتني لمكنتك الساعة من الاقتيات بقليل من اللحم، ولكن آه من النفوس إذا كانت كبارا، أنسيت أن الشبيبة قد فارقتنا، وأن الدهر قد حط بنا؟ فوالله ليشق علي أن أراك في هذه الحال ضئيلة هزيلة صفراء اللون ... فقاطعته امرأته الكلام قائلة: خفض عنك يا عثمان، فإن الموت خير لدي من أن أراك تمد يدك للسؤال والاستعطاء ... لا وألف لا؛ إن كريمة يوسف باشا لا تأكل خبز التسول، وزوجها لا يطرق أبواب الناس ينتظر كالكلاب قطعة من اللحم. فتنهد الشيخ من قلب مقروح، وقال بصوت منخفض: آه من الجنون. نعم، إن الحب جنون ... نعم، هذا الشقاء كله إنما هو ثمرة الحب:
الحب كالكأس قد طابت أوائله
لكنه ربما مجت أواخره
ثم صاح آه يا ربي لم عرفتني بها؟ كانت غادة غنية سعيدة هنية تركت كل شيء، وتبعتني وأنا لا أملك من حطام الدنيا إلا قلبا محبا كان لها مهرا ... والآن هي تموت جوعا، ولا يمكنني أن أغذيها. فصاحت به العجوز: ما هذا القول يا عثمان؟ أتجدف علي اسم الخالق؛ لأنه جمعنا سويا ...؟ أي ذنب عليك؟ لو لم يحط بنا الدهر لكنا في أحسن حال وأنعم بال، ولكن هذا كله قضاء وقدر ... أخذ أولادنا وفلاذ أكبادنا، وأضاع أموالنا، ولا يحق لنا مع هذا إلا حمده على كل حال في السراء وفي الضراء، والمحن إذا تناهت انتهت، والرزايا إذا توالت تولت، ولا بد أن يجعل بعد العسر يسرا، فدع عنك هذه الأوهام وقم بنا للصلاة، فها مدافع الغروب قد أطلقت وقد مضى النهار، فلم يذكرنا صديق ولا جاءنا أنيس مباركا. هذه سنة الله في أرضه، والذي نرجو رحمته ورضاه ...
قالت العجوز هذا ونهضت للحال، فتوضأت بالماء البارد رغما عن البرد القارس، والتفت بمنديلها، وبسطت سجادتها، وشرعت تصلي بحرارة وخشوع، واقتفى زوجها أثرها وصلى بعدها. فلما فرغا عادا إلى حول مصطلى النار يصطليان، وأخذت العجوز تحرك الرماد لعلها تجد فيه جذوة نار، فلم تجد إلا رمادا برماد، وجاء الليل بظلامه الدامس، ولم يكن عندهما نور فبقيا تحت جنح الظلام، وأخذت الشفقة الشيخ على امرأته فنزع فروته وألقاها على منكبيها وقاية لها من البرد، وساد الصمت مرة ثانية، وغاص كل في أفكاره يتأمل شقاء حاله ...
وكانت تلك الليلة عاصفة والرعود قاصفة فتلمع سيوف البرق على صفحات الأفق فتنيرهم من آن إلى آخر. وكانت الموسيقى العسكرية تعزف بألحانها الشجية في الثكنة القريبة منهما فتثير أشجانهما، وتزيد في قلبيهما الحسرات، وبينما هما على تلك الحالة وإذ طرق الباب بعنف شديد، فذعرت العجوز وقالت: أسمعت طرق الباب؟ قم مسرعا يا عثمان وانظر من الطارق، فقام الشيخ يتحسس في الظلام حتى اهتدى إلى زلاج الباب ففتحه فلم يجد أحدا، والتفت في الطريق ذات اليمين وذات الشمال، فلم يلق فيه عابرا أو زائرا، وكانت امرأته قد تبعته فسألته: ما هذا؟ - لا أعلم، فإني لم أجد أحدا.
ناپیژندل شوی مخ