أنت لا تعرفينني، لكنني آمل بعد أن أعرفك بنفسي أن نلتقي ونتكلم. أعتقد أنني ربما أكون ابن عمك الكندي؛ حيث وفد جدي إلى كندا من هولندا في فترة ما خلال القرن السابع عشر، وفي الفترة نفسها هاجر أخ له إلى أستراليا. اسم جدي ويليام، وهو اسمي أيضا، واسم أخيه توماس. بالطبع ليس لدي دليل على أنك سليلة توماس الذي أعنيه؛ كل ما في الأمر أنني تحققت من دليل هاتف مدينة بريسبين، وسعدت إذ عثرت على اسم ثورنابي بنفس الترتيب الهجائي. كنت أحسب من قبل أن مسألة اقتفاء أثر شجرة العائلة هذه من أكثر الأمور التي يمكن أن يتخيلها المرء سخافة ورتابة، لكن ها أنا ذا منشغل بها، واكتشفت أنها تحمل في طياتها إثارة عجيبة. ربما يكون عمري هو السبب - أبلغ من العمر 56 عاما - وهذا يدفعني إلى البحث عن أواصر. ولدي وقت فراغ طويل على غير العادة؛ فزوجتي تعمل في أحد المسارح هنا؛ ولذا فهي منشغلة طوال الوقت. إنها شابة ذكية جدا ومفعمة بالحيوية (إنها تعنفني إذا ما وصفت أية أنثى تتجاوز الثامنة عشرة من عمرها بالفتاة، وهي في الثامنة والعشرين من عمرها).
كنت مدرسا لمادة الدراما في مدرسة ثانوية في كندا، لكنني لم أعثر على وظيفة بعد في أستراليا.
زوجة. إنه يحاول أن يبدو محترما في عين ابنة عمه.
عزيزي السيد ثورنابي
الاسم المشترك بيننا قد يكون أكثر شيوعا مما تفترض، ولو أنني الوحيدة التي أحمله في دليل هواتف مدينة بريسبين. وربما قد يخفى عليك أن الاسم مستخلص من كنيسة ثورن آبي التي ما زالت أطلالها موجودة في مدينة نورث أمبرلاند. ويختلف هجاء الكلمة ثورنابي، وثورنبي، وثورنآبي، وثورنأبي. في العصور الوسطى، كان اسم صاحب المزرعة يستخدم من قبل كل العاملين بالمزرعة باعتباره لقبا، بمن فيهم العمال والحدادون والنجارون وغيرهم؛ ومن ثم فهناك أناس كثر منتشرون في جميع أنحاء العالم يحملون اسما لا يحق لهم الارتباط به أساسا. فقط الذين يستطيعون اقتفاء أثر أجدادهم وصولا إلى العائلات التي عاشت في القرن الثاني عشر الميلادي، هم المنتسبون حقا لعائلة ثورنابي، وأعني أن لديهم الحق في إظهار شعار النبالة، وأنا واحدة من هؤلاء. أما أنك لم تذكر أي شيء عن شعار النبالة، ولم تقتف أثر أجدادك إلى ما يتجاوز جدك ويليام، فظني أنك لست من العائلة نفسها. كان جدي يدعى جوناثان.
هذا ما كتبته جيل على آلة كاتبة عتيقة محمولة ابتاعتها من محل للأغراض المستعملة موجود بالشارع. آنذاك كانت جيل تعيش في 491 شارع هوتر، في بناية سكنية تعرف باسم «ميرامار»؛ وهي بناية من طابقين يغطيها الجص الداكن، ويدعمها عمودان مقوسان على جانبي المدخل المحمي بحاجز من القضبان. وتتمتع البناية بطابع مغربي أو إسباني أو كاليفورني أشبه بالمسارح القديمة التي تظهر في الأفلام السينمائية؛ ومع ذلك، قال لها مدير البناية إن شقتها عصرية جدا. «كانت تسكنها سيدة عجوز، لكنها اضطرت أن تدخل المستشفى، ثم جاء أحدهم بعد أن توفيت وأخرج أغراضها، لكن الشقة ما زالت تحتفظ بأثاثها الرئيسي. من أي ولاية أنت؟»
أجابته جيل: «أوكلاهوما.» السيدة ماسي من أوكلاهوما.
يبدو مدير البناية في السبعين من عمره تقريبا، ويرتدي نظارة تضخم حجم عينيه، ويمشي مسرعا، ولكن بشيء من الترنح حيث يميل بقده إلى الأمام، ويتحدث عن مشاق الحياة؛ زيادة شريحة الأجانب في البلاد مما يجعل من الصعب العثور على عمال الصيانة والإصلاحات، وإهمال بعض المستأجرين، والتصرفات الخبيثة للمارة الذين لا يكفون عن إلقاء القمامة على العشب. سألته جيل ما إذا كان قد أرسل إشعارا بعد إلى مكتب البريد. قال إنه كان يعتزم ذلك، لكن السيدة لم تتلق أي بريد بعد، فيما خلا خطابا واحدا. من العجيب أن الخطاب وصل في اليوم التالي لوفاتها. أعاده إلى الراسل. قالت جيل: «سأتولى أنا المهمة. سأخطر مكتب البريد.» «ولكن سيتعين علي التوقيع على الإشعار. أعطني واحدة من تلك الاستمارات التي لديهم، وسأوقع عليها، وحينئذ يمكنك تسليمها. سأكون ممتنا لك.» جدران الشقة مطلية باللون الأبيض. لا بد أن هذا ما يعنيه بالطابع العصري. تحتوي الشقة على ستائر من الخيزران، ومطبخ صغير، وأريكة خضراء تصلح لأن تكون فراشا، وطاولة، ودولاب، ومقعدين. ثمة صورة على الجدار، ربما كانت لوحة فنية أو صورة فوتوغرافية طبعت على ورق ملون، منظر طبيعي لصحراء خضراء مائلة إلى الصفرة، وصخور، وسلسلة من الجبال النائية المهيبة المعتمة. كانت جيل على يقين من أنها رأت هذا المنظر من قبل.
دفعت الإيجار نقدا وعدا، وانشغلت رغما عنها لفترة بشراء الملاءات والمناشف والبقالة، والقليل من القدور والصحون، والآلة الكاتبة. وتعين عليها أن تفتح حسابا في البنك، وتتحول إلى شخص مقيم بالمدينة لا مجرد سائحة. ثمة متاجر على بعد بناية واحدة تقريبا؛ محل للبقالة، وآخر للأغراض المستعملة، وصيدلية، ومقهى؛ وكلها محلات متواضعة علق أصحابها شرائط من الورق الملون على أبوابها، ولكل منها ظلة خشبية أمامية أعلى الرصيف، وعروض تلك المتاجر محدودة. المقهى يحتوي على طاولتين فحسب، ويكاد لا يحوي متجر الأغراض المستعملة سوى كومة من الأغراض المأخوذة من بيت عادي واحد. وعلب الحبوب في محل البقالة، وزجاجات الشراب المهدئ للسعال وعبوات الأقراص في الصيدلية؛ موجودة وحدها على الأرفف وكأن لها قيمة أو أهمية خاصة.
لكنها عثرت على ما يلبي حاجتها؛ ففي محل الأغراض المستعملة، عثرت على بعض الملابس القطنية الفضفاضة المزدانة بالأزهار، وسلة مصنوعة من القش تصلح لشراء البقالة. تبدو الآن أقرب شبها بالنساء الأخريات اللائي تراهن في الشارع. ربات البيوت اللائي بلغن منتصف العمر بأذرعهن وأرجلهن العارية الشاحبة، يتسوقن في الصباح الباكر أو في وقت متأخر بعد الظهر. ابتاعت قبعة عريضة من القش لتستظل بها على عادة النساء هناك. وجوه باهتة ناعمة يغطيها النمش وتسترق النظرات.
ناپیژندل شوی مخ