67

أطلقت صفيرا خافتا، وأشاح الرجل الذي بدا مقصودا بالصفير بوجهه عن طاولة الكتب التي كان يحملق فيها بالقرب من الجزء الخلفي من المكتبة. كنت أعلم أنه هناك، لكنني لم أربط بينه وبينها؛ حسبته واحدا من الذين يتسكعون في الشارع وحدهم فحسب، ويقفون ويتطلعون إلى ما حولهم وكأنهم يحاولون التعرف على المكان المحيط بهم، أو تفسير العلة وراء وجود هذه الكتب. لم يكن مخمورا ولا متسولا، وبالتأكيد لم يكن بالشخص الذي يثير القلق أو الشبهات؛ كان واحدا من المسنين الرثي الهيئة الذين ليس بمقدورهم التواصل مع الآخرين، والذين يرتبطون بالمدينة ارتباط الحمام بها؛ حيث كانوا لا يكفون عن الحركة طوال اليوم في مساحة محدودة دون أن ينظروا إلى الناس وجها لوجه مطلقا. كان يرتدي معطفا يمتد إلى كاحليه؛ معطفا من مادة لامعة مطاطية بلون بني مائل إلى الحمرة، وقبعة مخملية بنية اللون تتدلى منها مجموعة من الخيوط المؤتلفة كتلك التي ربما يرتديها عالم كبير في السن أصابه الوهن، أو كاهن في فيلم إنجليزي. ثمة تشابه بينهما إذن؛ فقد كانا يرتديان أشياء ربما كانت مهملة في صندوق أزياء، ولكن عند تدقيق النظر فيه، سنجده يبدو أكبر منها سنا بسنوات بوجهه الكئيب الشاحب، وعينيه البنيتين الذابلتين، وشاربه الكريه المنظر غير المشذب. ولعل بعض آثار الوسامة أو القوة بقيت لديه. شراسة مكبوتة. جاء تلبية لصفيرها الذي بدا مزيجا من الجد والهزل، ووقف على مقربة منا ساكنا وطيعا ككلب أو حمار، بينما تأهبت المرأة لسداد ثمن الكتاب.

آنذاك، كانت حكومة كولومبيا البريطانية قد فرضت ضريبة مبيعات على الكتب؛ وفي حالتها، بلغت الضريبة أربعة سنتات. قالت: «لا يمكنني دفع هذا المبلغ ضريبة على الكتب. أعتقد أن في ذلك انعداما للأخلاق. أفضل أن أسجن على أن أدفع هذا المبلغ. ألا توافقينني الرأي؟»

كان رأيي من رأيها، ولم أوضح لها - كعادتي مع الآخرين - أن المكتبة لن تعفى من دفع الضرائب لإحجام المشترين عن سدادها.

قالت: «ألا أبدو بشعة؟ هل ترين ماذا يمكن أن تفعل هذه الحكومة بالناس؟ إنها تصنع منهم «خطباء يدافعون عن حقوقهم».»

وضعت الكتاب في حقيبتها دون أن تدفع السنتات الأربعة، ولم تدفع ضريبة المبيعات لاحقا قط.

وصفت هيئتهما لكاتب العدل، فعرف على الفور عمن كنت أتحدث.

قال: «أسميهما الدوقة والجزائري. لا أعرف ما الخلفية التي دعتني لتسميتهما هكذا. أعتقد أنه إرهابي متقاعد؛ فهما يجوبان المدينة ويجران عربة كعاملي النظافة.» •••

استلمت رسالة فيها دعوة لي على العشاء ليلة الأحد، وكانت ممهورة بتوقيع شارلوت دون لقب العائلة، لكن الكلمات والكتابة كانت رسمية جدا. «يسعدني أنا وزوجي جوردي أن ...»

حتى تلك اللحظة، لم أكن أعقد الآمال على تلقي دعوات كهذه قط، وكنت سأشعر بالإحراج والاضطراب لو جاءني مثلها؛ ولذلك فاجأني الشعور بالسعادة الذي غمرني. كانت علاقتي بشارلوت واعدة؛ فهي لم تكن كالآخرين الذين لم أود رؤيتهم إلا في المكتبة فحسب.

كانت البناية التي يعيشان فيها تقع في شارع باندورا، وكانت مغطاة بالجبس الأصفر، وتحوي دهليزا صغيرا ممهدا بالبلاط ذكرني بالمراحيض العامة، لكن لم تكن تفوح منه رائحة كريهة، والشقة لم تكن في واقع الأمر متسخة، كل ما هنالك أنها كانت غير مرتبة؛ فالكتب مكدسة عند الجدار، وثمة قصاصات من قماش ذي نقوش تدلت على الجدار لتخفي تحتها ورق الحائط، وثمة ستائر من الخيزران على النوافذ، وصفحات من الورق الملون - القابل للاشتعال بالتأكيد - معلق على اللمبات.

ناپیژندل شوی مخ