عندما وقعت أعين لوتار والقس على بلدة سكودرا لأول وهلة، بدت وكأنها تطفو على المسطحات الطينية، وبدت قبابها وأبراج كنائسها لامعة وكأنها صنعت من السديم، ولكن عندما دخلاها والظلام قد بدأ يسدل أستاره، اختفى هذا السكون كله تماما. كانت الشوارع ممهدة بأحجار كبيرة وخشنة، وتعج بالناس والعربات التي تجرها الحمير، والكلاب الشاردة، والخنازير التي تساق إلى مكان ما، وتفوح منها رائحة النيران والطهي والروث وجلود الحيوانات العفنة. جاء رجل على كتفه ببغاء، وبدا أن ببغاءه يسب ويلعن بلغة غير مفهومة. أكثر من مرة، أوقف القس الفرنسيسكاني الناس في الشارع ليسألهم عن الطريق إلى بيت الأسقف، لكنهم كانوا إما يمرون به مسرعين دون أن يجيبوه، وإما يسخرون منه، وإما يتلفظون بألفاظ استعصى عليه فهمها. قال له صبي إنه سيدله على الطريق مقابل مبلغ من المال.
قال الفرنسيسكاني: «لا نملك مالا.» جذب لوتار إلى مدخل ما، وجلسا ليستريحا، قال لها: «في مالتسيا إي ماد، كثيرون ممن لديهم تقدير كبير لذواتهم يمكن أن يغيروا موقفهم سريعا.»
لم تعد لوتار تفكر في الفرار منه وتركه؛ فمن ناحية لم تكن ستتمكن من الاستفسار عن الطريق أفضل منه، ومن ناحية أخرى، راودها شعور بأنهما حليفان لا يقوى الواحد منهما على البقاء في مكان كهذا بمنأى عن الآخر. لم تكن تدرك كم كانت تعول على رائحة جلده، والإصرار المهموم في خطواته الواسعة، ونمو شاربه الأسود.
قفز القس الفرنسيسكاني من مكانه وقال إنه تذكر توا الطريق إلى بيت الأسقف. سبقها عبر الشوارع الخلفية الضيقة المحاطة بجدران عالية حيث تعذرت رؤية أي شيء داخل البيوت أو الساحات - مجرد جدران وبوابات. لم تكن الشوارع مرصوفة جيدا، وكان المشي عليها لا يختلف من حيث المشقة عن المشي في مجرى نهر جاف، لكنه كان على حق. أطلق صيحة انتصار عندما وصلا إلى بوابة بيت الأسقف.
فتح الخادم البوابة، ودعاهما للدخول، ولكن بعد نقاش محتدم، أمرت لوتار بالجلوس على الأرض بعد أن عبرت البوابة مباشرة، وسيق القس الفرنسيسكاني إلى البيت ليرى الأسقف، وسرعان ما أرسل أحدهم إلى القنصل البريطاني (ولم يخبر أحد لوتار بذلك)، وعاد وبصحبته خادم القنصل. كان الظلام قد حل حينئذ، وكان خادم القنصل يحمل مشكاة. سيقت لوتار بعيدا مرة أخرى حيث تبعت الخادم ومشكاته حتى القنصلية.
ثمة حوض استحمام به ماء ساخن كان بانتظارها في الساحة. أخذت ملابسها بعيدا، والأرجح أنها أحرقت، وقص شعرها الأسود الدهني المسكون بالقمل، وسكب الكيروسين على فروة رأسها. كان عليها أن تقص قصتها - قصة وصولها إلى مالتسيا إي ماد - الأمر الذي شق عليها؛ لأنها لم تكن اعتادت على تحدث الإنجليزية بطلاقة، ولأن تلك الفترة أيضا بدت بعيدة جدا وغير ذات أهمية. كان عليها أن تتعلم النوم على المرتبة، والجلوس على المقاعد، وتناول الطعام بالشوكة والسكين.
وضعوها على متن قارب بأسرع وقت ممكن.
توقفت شارلوت عن الحكي وقالت: «هذا الجزء ليس ذا أهمية.» •••
جئت إلى فيكتوريا لأنها أبعد مكان عن لندن وأونتاريو يمكنني الوصول إليه دون مغادرة البلاد؛ فزوجي دونالد يعيش في لندن، وكنت قد أجرت شقة بالطابق السفلي في بيتنا إلى الزوجين نيلسون وسيلفيا. كان نيلسون متخصصا في اللغة الإنجليزية بالجامعة، بينما كانت سيلفيا ممرضة. دونالد طبيب أمراض جلدية. وكنت بصدد إعداد أطروحة عن ماري شيلي ولو أنني كنت أتلكأ في إنجازها. التقيت دونالد عندما زرت عيادته إذ أصابني طفح جلدي في رقبتي. كان يكبرني بثماني سنوات، طويل القامة، يغطي النمش بشرته، ويتورد خجلا. كان بارعا أكثر مما كان يبدو عليه. طبيب الأمراض الجلدية يرى الحزن واليأس في أعين الناس، ولو أن المشكلات التي يأتيه الناس بها قد لا تنتمي إلى فئة الأورام وانسداد الشرايين؛ فهو يرى الانهيار الذي يصيب الناس من الداخل، والأقدار التعسة حقا؛ إنه يرى كيف أن أمورا كالحب والسعادة يمكن أن تتحكم فيها مجموعة من الخلايا المتهيجة. جعلت هذه التجربة دونالد طيب القلب بطريقة حذرة ومتجردة. قال إن الطفح الجلدي الذي كنت أعانيه ربما مرجعه التوتر، كما أخبرني بأنه يرى أنني سأمسي امرأة رائعة حالما أسيطر على القليل من المشكلات التي أعانيها.
دعونا سيلفيا ونيلسون لتناول العشاء بالطابق العلوي، وأخبرتنا سيلفيا عن المدينة الصغيرة التي ترعرعا فيها شمالي أونتاريو، وقالت إن نيلسون كان دائما أذكى الطلاب في صفهما وفي المدرسة كلها، وربما حتى في المدينة بأسرها. وعندما قالت ذلك، رمقها نيلسون بنظرة غير عابئة ولاذعة تماما، نظرة بدا بعدها وكأنه بانتظار تفسير على أحر من الجمر، وبشيء من الفضول، فضحكت سيلفيا وقالت: «إنني أمزح فحسب.»
ناپیژندل شوی مخ