لا يفيد أنّ للسّؤال ضدّا ينافي الموت أو يضادّه على الحقيقة، وأن هذا القائل قصد بجعل السؤال موتا نفى ذلك الضدّ، وأن يؤيس من وجوده وحصوله، بل أراد أن في السؤال كراهة ومرارة مثل ما في الموت، وأن نفس الحرّ تنفر عنه كما تنفر نفوس الحيوان جملة من الموت، وتطلب الحياة ما أمكن في الخلاص منه.
فإن قلت: المعنى فيه أن السؤال يكسب الذلّ وينفي العزّ، والذليل كالميت لفقد القدرة والتصرّف، فصار كتسميتهم خمول الذكر موتا، والذكر بعد الموت حياة، كما قال أمير المؤمنين علي ﵁: «مات خزّان المال، والعلماء باقون ما بقي الدهر، أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة».
قلت: إني آنس أنهم لم يقصدوا هذا المعنى في السؤال، وإنما أرادوا الكراهة، ولذلك قال بعد البيت الذي كتبته:
كلاهما موت، ولكنّ ذا ... أشدّ من ذاك لذلّ السّؤال (١)
هذا، وليس كل ما يعبّر عنه بالموت لأنه يكره ويصعب ولا يستسلم له العاقل إلّا بعد أن تعوزه الحيل فإنه يحمل هذا المحمل، وينقاد لهذا التأويل، أترى المتنبي في قوله: [من المتقارب]
وقد متّ أمس بها موتة ... ولا يشتهي الموت من ذاقه (٢)
أراد شيئا غير أنه لقي شدّة. وأمّا العبارة عن خمول الذكر بالموت، فإنه وإن كان يدخل في تنزيل الوجود منزلة العدم، من حيث يقال: إن الخامل لمّا لم يذكر ولم يبن منه ما يتحدّث به، صار كالميت الذي لا يكون منه قول، بل ولا
فعل يدلّ على وجوده فليس دخوله فيه ذلك الدخول. وذلك أن الجهل ينافي العلم ويضادّه كما لا يخفى، والعلم إذا وجد فقد وجدت الحياة حتما واجبا، وليس كذلك خمول
_________
(١) وفي نسخة. أشد من ذاك على كل حال.
(٢) الضمير راجع إلى الخمر فإن الكلام فيها، والبيت في ديوانه، وقال قبل هذا البيت:
وجدت المدامة غلابة ... تهيّج للقلب أشواقه
تسيء من المرء تأديبه ... ولكن تحسّن أخلاقه
وأنفس ما للفتى لبّه ... وذو اللب يكره إنفاقه
قال شيخنا في قوله تسيء المرء تأديبه إلخ: أي تغلبه فتخرجه عن قيود الحشمة في اللفظ والحركات، ولكنها تغلب منه الخوف والبخل فيشجع ويسخو هذا ما يريده تحسينها لأخلاقه.
(رشيد).
1 / 64