ومسّح بالأركان من هو ماسح على طواف الوداع الذي هو آخر الأمر، ودليل المسير الذي هو مقصوده من الشعر. ثم قال:
أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا فوصل بذكر مسح الأركان، ما وليه من زمّ الركاب وركوب الرّكبان، ثم دلّ بلفظة «الأطراف» على الصّفة التي يختصّ بها الرّفاق في السّفر، من التصرف في فنون القول وشجون الحديث، أو ما هو عادة المتظرّفين، من الإشارة والتلويح والرّمز والإيماء، وأنبأ بذلك عن طيب النفوس، وقوّة النشاط، وفضل الاغتباط، كما توجبه ألفة الأصحاب وأنسة الأحباب، وكما يليق بحال من وفّق لقضاء العبادة الشريفة ورجا حسن الإياب، وتنسّم روائح الأحبّة والأوطان، واستماع التهاني والتّحايا من الخلّان والإخوان.
ثم زان ذلك كلّه باستعارة لطيفة طبّق فيها مفصل التشبيه، وأفاد كثيرا من الفوائد بلطف الوحي والتنبيه، فصرّح أوّلا بما أومأ إليه في الأخذ بأطراف الأحاديث، من أنهم تنازعوا أحاديثهم على ظهور الرّواحل، وفي حال التوجّه
إلى المنازل، وأخبر بعد بسرعة السير، ووطاءة الظّهر، إذ جعل سلاسة سيرها بهم كالماء تسيل به الأباطح، وكان في ذلك ما يؤكّد ما قبله، لأن الظّهور إذا كانت وطيئة وكان سيرها السّير السهل السريع، زاد ذلك في نشاط الرّكبان، ومع ازدياد النشاط يزداد الحديث طيبا.
ثم قال: «بأعناق المطيّ»، ولم يقل «بالمطيّ»، لأن السرعة والبطء يظهران غالبا في أعناقها، ويبين أمرهما من هواديها وصدورها، وسائر أجزائها تستند إليها في الحركة، وتتبعها في الثّقل والخفّة، ويعبّر عن المرح والنشاط، إذا كانا في أنفسها، بأفاعيل لها خاصّة في العنق والرأس، وتدلّ عليهما بشمائل مخصوصة في المقاديم.
فقل الآن: هل بقيت عليك حسنة تحيل فيها على لفظة من ألفاظها حتى إنّ فضل تلك الحسنة يبقى لتلك اللفظة لو ذكرت على الانفراد، وأزيلت عن موقعها من نظم الشاعر ونسجه وتأليفه وترصيفه، وحتى تكون في ذلك كالجوهرة التي هي، وإن ازدادت حسنا بمصاحبة أخواتها، واكتست بهاء بمضامّة أترابها، فإنها إذا جليت للعين فردة، وتركت في الخيط فذّة، لم تعدم الفضيلة الذاتية، والبهجة التي في نفسها مطويّة والشّذرة من الذهب تراها بصحبة الجواهر لها في القلادة، واكتنافها لها في عنق الغادة، ووصلها بريق جمرتها والتهاب جوهرها، بأنوار تلك الدّرر التي
1 / 27