في جنس من الكلم بعينه أن يقع إلّا سابقا، وفي آخر أن يوجد إلا مبنيّا على غيره وبه لاحقا، كقولنا: إن الاستفهام له صدر الكلام، وإن الصفة لا تتقدم على الموصوف إلا أن تزال عن الوصفية إلى غيرها من الأحكام.
فإذا رأيت البصير بجواهر الكلام يستحسن شعرا أو يستجيد نثرا، ثم يجعل الثناء عليه من حيث اللّفظ فيقول: حلو رشيق، وحسن أنيق، وعذب سائغ، وخلوب رائع، فاعلم أنه ليس ينبئك عن أحوال ترجع إلى أجراس الحروف (١)، وإلى ظاهر الوضع اللغويّ، بل إلى أمر يقع من المرء في فؤاده، وفضل يقتدحه العقل من زناده.
وأمّا رجوع الاستحسان إلى اللفظ من غير شرك من المعنى فيه، وكونه من أسبابه ودواعيه، فلا يكاد يعدو نمطا واحدا، وهو أن تكون اللفظة مما يتعارفه الناس في استعمالهم، ويتداولونه في زمانهم، ولا يكون وحشيا غريبا، أو عامّيا سخيفا، سخفه بإزالته عن موضوع اللغة، وإخراجه عما فرضته من الحكم والصفة، كقول العامة
«أشغلت» و«انفسد». وإنما شرطت هذا الشرط، فإنه ربما استسخف اللفظ بأمر يرجع إلى المعنى دون مجرّد اللفظ، كما يحكى من قول عبيد الله بن زياد لما دهش: «افتحوا لي سيفي»، وذلك أن «الفتح» خلاف «الإغلاق»، فحقّه أن يتناول شيئا هو في حكم المغلق والمسدود، وليس السّيف بمسدود، وأقصى أحواله أن يكون كونه في الغمد بمنزله كون الثوب في العكم (٢)، والدرهم في الكيس، والمتاع في الصندوق. و«الفتح» في هذا الجنس (٣) يتعدّى أبدا إلى الوعاء المسدود على الشيء الحاوي له لا إلى ما فيه، فلا يقال: «افتح الثوب»، وإنما يقال: «افتح العكم» و«أخرج الثوب» و«افتح الكيس».
وهاهنا أقسام قد يتوهّم في بدء الفكرة، وقبل إتمام العبرة، أنّ الحسن والقبح فيها لا يتعدّى اللفظ والجرس، إلى ما يناجي فيه العقل النفس، ولها إذا حقّق النظر مرجع إلى ذلك، ومنصرف فيما هنالك، منها: «التجنيس» و«الحشو».
_________
(١) جمع جرس- بكسر الجيم وبفتحها- وهو الصوت، أو الخفي منه.
(٢) العكم- بالكسر- كالعدل وزنا ومعنى، والمراد بالعدل هنا الغرارة والجوالق، وهو نصف الحمل يكون على أحد جانبي البعير، أي: يكون على جانبي البعير عدلان، وقد سمي عدلا لتعادله وتماثله مع نظيره في الشق الآخر. والعكم أيضا: نمط تجعل المرأة فيه ذخيرتها.
(٣) وفي نسخة: المعنى.
1 / 15