تمهيد
1 - ما الأسلحة النووية؟
2 - بناء القنبلة
3 - «الاختيار بين السريع والقاتل»
4 - سباق تطوير القنبلة الهيدروجينية
5 - الردع النووي والحد من التسلح
6 - حرب النجوم
7 - الأسلحة النووية في عصر الإرهاب
المراجع والقراءات الإضافية
مصادر الصور
تمهيد
1 - ما الأسلحة النووية؟
2 - بناء القنبلة
3 - «الاختيار بين السريع والقاتل»
4 - سباق تطوير القنبلة الهيدروجينية
5 - الردع النووي والحد من التسلح
6 - حرب النجوم
7 - الأسلحة النووية في عصر الإرهاب
المراجع والقراءات الإضافية
مصادر الصور
الأسلحة النووية
الأسلحة النووية
مقدمة قصيرة جدا
تأليف
جوزيف إم سيراكوسا
ترجمة
محمد فتحي خضر
إلى زوجتي كانديس
تمهيد
هذا الكتاب سيتناول أهم الأسئلة - وأكثرها شيوعا وتكرارا - المتعلقة بتطوير الأسلحة النووية، إلى جانب السياسات التي تمخضت عنها. وترتكز هذه المناقشة على فرضية منطقية واحدة مفادها: أن الأسلحة النووية لا تزال مهمة. صحيح أن الأسلحة النووية لم تستخدم في أعمال الحرب منذ أن ألقيت القنبلتان الذريتان على كل من هيروشيما وناجازاكي منذ أكثر من ستين عاما، إلا أن المخاوف الواقعية بشأن إمكانية استخدام هذه الأسلحة ظلت حاضرة على نحو جلي على المسرح العالمي. وقد عبر ليزلي أسبن - أول وزير دفاع في إدارة الرئيس بيل كلينتون - عن الأمر على نحو ملائم بقوله: «لقد انقضت الحرب الباردة، وذهب الاتحاد السوفييتي إلى غير رجعة. لكن بكل تأكيد لا يعني انقضاء الحرب الباردة أن الحقبة النووية قد ولت هي الأخرى.» فرغم كل الجهود المبذولة لتقليص مخزون الأسلحة النووية إلى الصفر، فإنه في المستقبل المنظور ستظل القنابل النووية موجودة. فربما ولت الأيام التي كان فيها التعايش مع وجود القنابل النووية يعني - حسب كلمات وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة مادلين أولبرايت - أننا «كنا نعلم كل ليلة أنه في غضون دقائق - ربما بسبب سوء فهم ما - من الممكن أن ينتهي عالمنا ولا نرى ضوء النهار.» لكن رغم تراجع خطر نشوب حرب نووية، فإن هذا الخطر لم يتلاش تماما. فرغم الجهود المبذولة لم تتعد فكرة العالم الخالي من الأسلحة النووية كونها مجرد حلم جميل. بل في الواقع، ووفق استطلاع لآراء الخبراء النوويين أجرته لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي في عام 2005، فإن احتمال أن يشهد العالم ضربة نووية في غضون السنوات العشر القادمة يصل إلى 29٪. ولا يخالف هذا الإجماع في الرأي إلا قليلون.
تظل التهديدات النووية جزءا أساسيا في العلاقات بين العديد من الدول، كما يلوح خطر أن تزداد في الأهمية. وانتشار الأسلحة النووية سيكون من شأنه على الأرجح التسبب في نتيجتين مشئومتين؛ تتمثل أولاهما في احتمال حصول الإرهابيين على أسلحة نووية، وهو التهديد الذي أطل برأسه بوضوح في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر. بطبيعة الحال لم ينجح أتباع أسامة بن لادن بعد في شن هجوم نووي، لكن وفق تقارير المحللين ليس السبب هو عجزهم عن هذا. فباستخدام كمية صغيرة من اليورانيوم المخصب، ومقدار قليل من التجهيزات العسكرية المتاحة عبر الإنترنت، وفريق صغير من الإرهابيين المكرسين جهودهم لهذا الغرض، يمكنهم تجميع قنبلة نووية في غضون أشهر قلائل، ثم توصيلها إلى وجهتها المقصودة؛ إما عن طريق الجو أو البحر أو السكك الحديدية أو الطرق البرية. وسيكون تأثير مثل هذا الهجوم إذا جرى في قلب نيويورك أو لندن رهيبا إلى درجة لا تصدق.
النتيجة الثانية لانتشار الأسلحة النووية ستتمثل في ازدياد التهديدات باستخدامها، وهو ما سيعيق على نحو عظيم تحقيق الأمن العالمي، وسيكون من العسير من جوانب عدة التراجع فيه. فمع انضمام المزيد من الدول إلى النادي النووي بغرض تحسين وضعها الدولي أو التغلب على مواطن انعدام الأمن التي تراها لديها، سيتعين على هذه الدول أن تمر بمنحنى التعلم النووي الخاص بها، وهي عملية غير مضمونة النجاح، وهو ما تبينه لنا خبرة الدول النووية عبر الأعوام الستين الماضية. واحتمالات وقوع أحداث مؤسفة على مر الطريق شبه مؤكدة.
حين ألقيت القنبلة الذرية على اليابان في أغسطس من عام 1945 في المراحل الختامية للحرب العالمية الثانية، كان من الجلي على الفور أنها لم تكن سلاحا فعالا جديدا وحسب (وإن كانت كذلك بالفعل؛ إذ أثبتت القنبلة الذرية أنها أكثر فعالية من ألف غارة جوية تقليدية). فمن نواح عدة، لم يكن إلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما من نوعية اللحظات التاريخية الفاصلة التي لا يمكن استيعابها إلا بالنظر إليها من منظور مستقبلي؛ إذ وصف الرئيس هاري إس ترومان ذلك الحدث وقتها للعالم المشدوه بأنه «تسخير لقوة الكون الأساسية»، وهو الرأي الذي اعتنقه على نحو واسع علماء الذرة المؤثرون.
بعد سبع سنوات - عام 1952 - عضدت الولايات المتحدة ترسانتها النووية حين فجرت أول قنبلة نووية حرارية في المحيط الهادي. بلغت قوة القنبلة - المسماة «مايك» - 500 مرة قدر قوة القنبلة التي ألقيت على هيروشيما، وأدى انفجارها إلى محو جزيرة التجارب النووية التي فجرت القنبلة عليها من الخريطة. بدلت القنبلة الهيدروجينية قواعد اللعبة تماما، وغيرت طبيعة الحرب والسلام ذاتها. وقد عبر ونستون تشرشل عن الأمر بقوله: «إن القنبلة الذرية - بكل أهوالها - لم تخرجنا عن نطاق السيطرة البشرية أو الأحداث القابلة للتحكم فيها، سواء من ناحية الفكر أو الفعل، في السلام أو الحرب. لكن ... في وجود القنبلة الهيدروجينية، شهد الأساس الكامل للشأن الإنساني ثورة عارمة.» في الحقيقة، كان ذلك عالما جديدا وجميلا.
تمنحنا بعض الإحصائيات عن الحقبة النووية التي تلت هذه الأحداث تذكرة جدية بحجم المشكلة؛ فقد أنتج نحو 128 ألف سلاح نووي خلال السنوات الستين الماضية، 98٪ منها بواسطة الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. ولا يزال الأعضاء التسعة الحاليون للنادي النووي - الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا العظمى وفرنسا والهند وباكستان والصين وإسرائيل وكوريا الشمالية - يملكون نحو 27 ألف سلاح نووي جاهز للاستخدام. وتملك ما لا يقل عن 15 دولة ما يكفي من اليورانيوم عالي التخصيب لصنع سلاح نووي.
ضمن هذا السياق، سنستعرض علم الأسلحة النووية، وكيف تختلف هذه الأسلحة عن الأسلحة التقليدية، وسباق تصنيع القنبلة الذرية قبل العلماء النازيين، وتاريخ المحاولات المبكرة للسيطرة على القنبلة - مرورا بتفجير الاتحاد السوفييتي لقنبلته الذرية الأولى في أغسطس 1949 - وسباق تصنيع القنبلة الهيدروجينية وما لهذه القنبلة من تبعات، وتاريخ الردع النووي والحد من التسلح - وذلك على خلفية المشهد الدولي المتغير، من الحرب الباردة إلى وقتنا الحاضر - وتوقعات ووعود الدفاع الصاروخي - من نهاية الحرب العالمية الثانية، مرورا بحلم ريجان بحماية أراضي الولايات المتحدة من أي هجوم صاروخي سوفييتي شديد (منظومة «حرب النجوم» الدفاعية)، والهدف الأكثر تواضعا للإدارة الحالية والمتمثل في صد عدد صغير من الصواريخ البالستية (الدرع الصاروخي القومي) قد تطلقه أي من الدول المارقة - وأخيرا سننتهي باستعراض التهديد الذي تمثله الأسلحة النووية وتأثيراتها على ما يطلق عليه «عصر الإرهاب».
وعلى سبيل الشكر والتقدير، أود أن أسجل عرفاني لأصدقائي وزملائي التالية أسماؤهم: مانفريد ستيجر؛ من أجل جذبه انتباهي إلى سلسلة مقدمة قصيرة جدا من أكسفورد، ولاثا مينون - المسئولة الأولى عن اختيار وشراء الكتب بمطبعة جامعة أكسفورد - من أجل دعوتها لي لتأليف هذا الكتاب ولتشجيعها غير المتواني، وريتشارد دين بيرنز؛ من أجل سخائه في مشاركة معرفته المتعلقة بالحد من التسلح ونزع السلاح، وديفيد جي كولمان؛ من أجل أفكاره اللامعة بخصوص الردع النووي وصياغة الاستراتيجيات الدولية. وعلى المستوى الشخصي، يدين هذا الكتاب كثيرا للإلهام الذي تلقيته من أطفالي - هانا وتينا وجوزيف - الذين ورثوا ذلك العالم المضطرب الذي خلفه لنا القرن العشرون، وبالطبع أدين بالكثير لزوجتي، كانديس، التي أهدي لها هذا الكتاب. ومن نافلة القول أنني وحدي المسئول عن أي أخطاء قد يحويها هذا الكتاب.
بروفيسور جوزيف إم سيراكوسا
مدير قسم الدراسات الدولية
المعهد الملكي للتكنولوجيا في ملبورن
ملبورن، أستراليا
الفصل الأول
ما الأسلحة النووية؟
في عام 1951 أشرفت إدارة الدفاع المدني الفيدرالية الأمريكية - حديثة العهد في ذلك الوقت - على إنتاج فيلم يعلم الأطفال كيفية الاستجابة حال وقوع هجوم نووي. كانت النتيجة هي فيلم «اخفض رأسك واختبئ»؛ وهو فيلم مدته تسع دقائق عرض في مدارس الولايات المتحدة خلال عقد الخمسينيات وما بعده. كانت شخصية الفيلم الرئيسية شخصية كارتونية تسمى «بيرت السلحفاة»، وكانت تتسم بأنها «يقظة للغاية وتعلم جيدا ما يجب فعله: أن تخفض رأسها وتختبئ». وما إن ينبعث صوت صفارة الإنذار أو الضوء الساطع المشير لوقوع هجوم نووي، كانت شخصية بيرت السلحفاة تخفي جسدها على الفور داخل ترسها. بدا الأمر بسيطا، وأحب الكل تلك السلحفاة.
أدت مبادرات أخرى لإدارة الدفاع المدني في أوائل الخمسينيات إلى إنشاء «نظام إذاعة الطوارئ»، ومخازن الطعام، وصفوف الدفاع المدني، ومخابئ القنابل الخاصة والحكومية. أشرفت إدارة الدفاع المدني أيضا على إنتاج أفلام أخرى عن الدفاع المدني، لكن فيلم «اخفض رأسك واختبئ» صار أشهر أفلام هذا النوع. بل إنه في عام 2004 أدرجت مكتبة الكونجرس هذا الفيلم ضمن «سجل الأفلام الوطنية» للأفلام ذات الأهمية «الثقافية أو التاريخية أو الجمالية»، وهو شرف يتقاسمه هذا الفيلم مع أفلام سينمائية أخرى من الكلاسيكيات؛ مثل: فيلم «مولد أمة»، و«كازابلانكا»، و«قائمة شندلر». وحين أعود بذاكرتي إلى المرة الأولى التي رأيت فيها فيلم «اخفض رأسك واختبئ» - في أوائل خمسينيات القرن العشرين - إبان دراستي بالمدرسة الابتدائية في الجانب الشمالي من شيكاجو - ثالث كبرى المدن الأمريكية والهدف النووي الافتراضي لوقت طويل - أدرك بطبيعة الحال أن فيلم السلحفاة بيرت ليس ذا أهمية ثقافية أو تاريخية أو جمالية بقدر ما هو مرتبط بأغراض دعائية. فحال وقوع هجوم نووي، لن يعرف أطفال المدارس الأمريكان ما أصابهم.
علم الأسلحة النووية
الطاقة الذرية هي مصدر الطاقة لكل من المفاعلات النووية والأسلحة النووية. وهذه الطاقة تنشأ عن انقسام الذرات (الانشطار الذري) أو اتحادها (الاندماج النووي). ولفهم مصدر هذه الطاقة علينا أولا تقدير البنية المعقدة للذرة نفسها.
الذرة هي أصغر جزء من العنصر يحمل الخصائص المميزة لهذا العنصر. وقد نمت معرفتنا عن الذرة ببطء فيما قبل العقد الأول من القرن العشرين، ثم تحقق أحد الفتوح الأولى على يد سير إرنست رذرفورد في عام 1911 حين أثبت أن كتلة الذرة متركزة في نواتها، وافترض أيضا أن للنواة شحنة موجبة، وأنها محاطة بإلكترونات سالبة الشحنة. بعدها بعدة سنوات استكملت هذه النظرية الخاصة بالتركيب الذري على يد الفيزيائي الدنماركي نيلز بور، الذي عين موضع الإلكترونات في أغلفة أو مستويات كمية محددة. وبهذا تكون الذرة عبارة عن تركيبة معقدة من الإلكترونات سالبة الشحنة موجودة في أغلفة محددة حول نواة موجبة الشحنة. والنواة - بدورها - تحتوي على القدر الأكبر من كتلة الذرة، وهي تتألف من بروتونات ونيوترونات (خلا ذرة عنصر الهيدروجين الشائع وجوده، التي تحتوي على بروتون وحيد وحسب). وجميع الذرات لها الحجم عينه تقريبا.
شكل 1-1: تتكون الذرة من إلكترونات وبروتونات ونيوترونات. تؤلف البروتونات والنيوترونات نواة الذرة الكثيفة فيما تتجمع الإلكترونات فيما يشبه سحابة متناثرة تحيط بالنواة.
علاوة على ذلك، تتبع الإلكترونات سالبة الشحنة نمطا عشوائيا داخل أغلفة الطاقة المحددة الموجودة حول النواة. وأغلب خواص الذرة مبنية على عدد الإلكترونات الموجودة بها وترتيبها. البروتون هو أحد نوعي الجسيمات الموجودين داخل نواة الذرة، وهو جسيم موجب الشحنة. للبروتون شحنة مكافئة في مقدارها - لكنها معاكسة - لشحنة الإلكترون السالبة، وعدد البروتونات داخل نواة الذرة هو ما يحدد نوع العنصر الكيميائي الذي تنتمي له الذرة. الجسيم الآخر الموجود داخل النواة هو النيوترون. وقد اكتشف النيوترون على يد الفيزيائي البريطاني سير جيمس شادويك عام 1932، وهو متعادل الشحنة الكهربية ويملك كتلة مساوية لكتلة البروتون. ونظرا لأن النيوترون عديم الشحنة فإنه لا يتنافر مع شحنة سحابة الإلكترونات أو شحنة النواة، وهو ما يجعل منه أداة مفيدة لاستكشاف بنية الذرة. للبروتونات والنيوترونات المنفردة بنية داخلية، مكونة من جسيمات تسمى الكواركات، بيد أن هذه الجسيمات دون الذرية لا يمكن تحريرها ودراستها على نحو مستقل.
من الخصائص الأساسية للذرة عددها الذري، وهو يتحدد وفق عدد ما تحويه الذرة من بروتونات. تتحدد الخصائص الكيميائية للذرة بواسطة عددها الذري، أما العدد الإجمالي لما يسمى النيوكليونات (البروتونات والنيوترونات) داخل الذرة فيسمى عدد الكتلة الذري. والذرات التي تشترك في العدد الذري عينه، لكنها تتباين من حيث عدد النيوترونات - ومن ثم تتباين من حيث عدد الكتلة الذري - تسمى نظائر. وللنظائر خصائص كيميائية متطابقة، بيد أن لها خصائص نووية مختلفة. على سبيل المثال، هناك ثلاثة نظائر للهيدروجين؛ اثنان منها مستقران (غير مشعين)، لكن النظير الثالث (التريتيوم الذي يتألف من بروتون واحد واثنين من النيوترونات) غير مستقر. أغلب العناصر لها نظائر مستقرة، ومن الممكن معالجة النظائر المشعة للعديد من العناصر. ونواة عنصر اليورانيوم 235 تتألف من 92 بروتونا و143 نيوترونا (92 + 143 = 235)؛ ومن هنا جاءت التسمية «يورانيوم 235».
تقل كتلة النواة بنحو 1 في المائة عن مجموع كتل البروتونات والنيوترونات المؤلفة لها. وهذا الفارق في الكتلة يسمى «نقص الكتلة»، وهو ينشأ عن الطاقة المنبعثة عند اتحاد النيوكليونات (البروتونات والنيوترونات) معا لتكوين النواة. هذه الطاقة تسمى «طاقة الارتباط»، وهي بدورها تحدد أي النوى مستقر ومقدار الطاقة المنبعث في التفاعل النووي. للنوى الثقيلة جدا والنوى الخفيفة جدا طاقات ارتباط منخفضة، وهذا يعني أن النواة الثقيلة ستبعث طاقة عندما تنقسم (الانشطار النووي)، وأن النواتين الخفيفتين ستبعثان طاقة عندما تتحدان (الاندماج النووي). وتربط معادلة أينشتاين الشهيرة (الطاقة = الكتلة مضروبة في مربع سرعة الضوء) بين نقص الكتلة وطاقة الارتباط.
عام 1905 طور أينشتاين نظرية النسبية الخاصة، وكانت إحدى تبعاتها أنه بالإمكان تحويل المادة إلى طاقة والعكس بالعكس. وتنص هذه المعادلة على أنه بالإمكان تحويل الكتلة إلى مقدار هائل من الطاقة، وذلك بعد ضربها في مربع سرعة الضوء. ولأن سرعة الضوء كبيرة للغاية (186 ألف ميل في الثانية) فإن مربع سرعة الضوء رقم كبير جدا؛ ومن ثم يمكن تحويل أي مقدار يسير من الكتلة إلى مقدار هائل من الطاقة. إن معادلة أينشتاين هي مفتاح قوة الأسلحة النووية والمفاعلات النووية. استخدم تفاعل الانشطار النووي في أول قنبلة ذرية ولا يزال يستخدم في المفاعلات النووية، أما تفاعل الاندماج النووي فقد صار يلعب دورا مهما في الأسلحة النووية الحرارية وفي تطوير المفاعلات النووية.
ما الأهمية العملية للأسلحة النووية إذن؟ وفيم تختلف عما سبقها من أسلحة؟ إن الفارق الجوهري بين السلاح النووي والسلاح التقليدي - ببساطة - هو أن الانفجار النووي يمكن أن يكون أعتى بآلاف (أو ملايين) المرات من أكبر الانفجارات التقليدية. بطبيعة الحال يعتمد النوعان كلاهما على القوة المدمرة للانفجار أو موجة الصدمة، إلا أن الحرارة التي يصل إليها الانفجار النووي أعلى بكثير من نظيرتها الناتجة عن الانفجار التقليدي، ونسبة كبيرة من الطاقة الناتجة عن الانفجار النووي تنبعث على صورة ضوء وحرارة، وعادة ما يشار إليها بالطاقة الحرارية. هذه الحرارة قادرة على التسبب في حروق جلدية شديدة وعلى إشعال النيران في مساحات واسعة. بل في الواقع، الضرر الناجم عن العاصفة النارية التي يحدثها الانفجار النووي يمكن أن يكون أشد دمارا من تأثيرات الانفجارات التقليدية المعروفة.
الانفجارات النووية تكون مصحوبة أيضا بغبار ذري مشع، يدوم بضع ثوان، ويظل يمثل خطرا عبر فترة ممتدة من الزمن، قد تصل إلى أعوام. وفي الواقع، تتفرد الانفجارات النووية بأنها الوحيدة التي تطلق إشعاعا. فنحو 85 بالمائة من الانفجارات النووية تنتج انفجارا هوائيا (وصدمة) وطاقة حرارية، أما نسبة ال 15 بالمائة المتبقية من طاقة الانفجار فتنبعث على صورة أنواع مختلفة من الإشعاع، منها 5 في المائة تمثل الإشعاع النووي المبدئي - ذلك الإشعاع الذي ينتج في غضون دقيقة أو نحو ذلك من وقوع الانفجار - الذي يتكون في أغلبه من إشعاع جاما قوي. أما نسبة ال 10 بالمائة المتبقية من طاقة الانشطار فتمثل الإشعاع النووي المتبقي (أو المتأخر). وهذا يرجع بالأساس إلى النشاط الإشعاعي الذي تتسم به منتجات الانشطار النووي الموجودة في بقايا السلاح النووي، أو الحطام، وإلى الغبار الذري المتخلف عن الانفجار.
وعلى قدر مساو من الأهمية هناك الطاقة الانفجارية التي ينتجها السلاح النووي، وعادة ما تقاس بمسمى «قوة الانفجار». وقوة الانفجار تتحدد من حيث كمية المتفجرات التقليدية، أو مادة تي إن تي، التي من شأنها أن تولد القدر عينه من الطاقة لدى انفجارها. وعلى هذا فإن السلاح النووي بقوة 1 كيلوطن هو ذلك السلاح الذي ينتج نفس مقدار الطاقة التي ينتجها انفجار ألف طن من مادة تي إن تي، وبالمثل، السلاح النووي بقوة 1 ميجاطن له طاقة مساوية لانفجار مليون طن من مادة تي إن تي.
إن القنبلة الذرية القائمة على عنصر اليورانيوم التي دمرت مدينة هيروشيما في أغسطس 1945 - وكانت طاقتها ناتجة عن انقسام (انشطار) الذرات - بلغت قوتها التفجيرية 20 ألف طن من مادة تي إن تي، أما القنبلة النووية الحرارية - أو الهيدروجينية - التي اختبرت بواسطة الولايات المتحدة في المحيط الهادي في أكتوبر 1952 - وكانت طاقتها ناتجة عن اتحاد (اندماج) الذرات - فقد بلغت قوتها التفجيرية نحو 7 ميجاطن؛ أي ما يعادل 7 ملايين طن من مادة تي إن تي، إلى جانب إنتاج غبار ذري مشع قاتل من أشعة جاما. أجرى الاتحاد السوفييتي تجربة لقنبلة نووية حرارية مماثلة في أغسطس 1953، وهو ما دفع قوتي الحرب الباردة العظميين نحو سباق نووي مميت استمر حتى أفول الاتحاد السوفييتي في ديسمبر 1991.
لكن للأسف لم تعن النهاية السلمية للحرب الباردة نهاية التهديدات النووية للأمن العالمي. وهنا نقتبس ما قاله توني بلير رئيس الوزراء البريطاني في معرض دفاعه عن خطط الحكومة لتحديث منظومة الأسلحة النووية «ترايدنت» واستبدالها (انظر الفصل السابع): «هناك أيضا تهديد جديد قد يسبب خطرا كبيرا آتيا من دول مثل كوريا الشمالية التي تزعم بالفعل أنها طورت أسلحة نووية، أو إيران التي تخرق التزاماتها المتعلقة بمنع الانتشار النووي.» ناهيك عن «الصلة المحتملة بين هذه الدول والإرهاب الدولي». وإذا أضفنا إلى هذا المنظمات الإرهابية غير المحدودة بدولة معينة؛ التي تسعى للحصول على وسائل للقتل الجماعي، وشبكات السوق السوداء من الموردين المارقين المستعدين للإتجار في المواد والخبرات الفنية التي تفضي إلى الأسلحة النووية، فستكون الصورة أكثر وضوحا. ومن الممكن أن يتجسد الكابوس الناتج عن التعرض لتبعات التفجير النووي الإنسانية واللوجستية وتلك المتعلقة بحفظ القانون والنظام على نحو مؤثر غير متوقع، في أي مدينة كبرى، بحيث تتضاءل إلى جواره أحداث الحادي عشر من سبتمبر.
سيناريو مدينة نيويورك
على سبيل المثال، من الممكن لسلاح نووي صغير - قنبلة ذات قوة تفجيرية في حدود 150 كيلوطنا - صنعه إرهابيون وفجروه في قلب مانهاتن، أسفل مبنى الإمباير ستيت في ظهيرة يوم ربيعي صاف، أن يكون له تبعات كارثية. فبنهاية الثانية الأولى من الانفجار، ستتسبب موجة الصدمة في تغير مفاجئ في الضغط الجوي المحيط مقداره 20 رطلا لكل بوصة مربعة عبر مسافة قدرها أربعة أعشار الميل من نقطة الانفجار، وتدمر المعالم البارزة العظيمة لمانهاتن، مثل مبنى الإمباير ستيت، وقاعة ماديسون سكوير جاردن، ومحطة بين رود سنترال ستيشن، ومكتبة نيويورك التي لا نظير لها. أغلب المادة التي تتألف منها تلك المعالم ستظل موجودة وتتراكم حتى ارتفاع مئات الأقدام في مكانها، لكن لا شيء داخل هذه الحلقة سيكون من الممكن تمييزه. الأشخاص الواقعون خارج دائرة الانفجار سيكونون معرضين للتأثيرات الكاملة للانفجار، بما فيها من تلف حاد بالرئة والأذن، علاوة على التعرض للحطام المتطاير. أما الأشخاص الواقعون في المدى المباشر للانفجار فسيتعرضون للموجة الحرارية ويقتلون على الفور، بينما سيموت أولئك المحتمون من بعض تأثيرات الانفجار والحرارة جراء انهيار المباني فوقهم؛ وتقريبا سيموت 75 ألف شخص من أبناء نيويورك بهذه الطرق. وخلال الثواني الخمس عشرة التالية سيمتد الانفجار والعاصفة النارية حتى مسافة أربعة أميال تقريبا؛ ما سيتسبب في مقتل 750 ألف شخص آخرين إلى جانب إصابة نحو 900 ألف غيرهم. وما هذه إلا بداية المتاعب وحسب لمدينة نيويورك.
ستكون مهمة الاعتناء بالمصابين خارجة عن نطاق قدرة المؤسسة الطبية على الاستجابة تماما، بل ربما تكون خارج نطاق تصورها من الأساس. فجميع مستشفيات مانهاتن الكبرى، عدا واحدة، تقع داخل منطقة الانفجار وستكون مدمرة بالكامل. وليس هناك ما يكفي من الأسرة المتاحة في كل أنحاء نيويورك ونيوجيرسي لاستقبال حتى أكثر حالات الإصابة خطورة. إن عدد الأسرة الموجودة في مراكز الحروق في الدولة بأكملها لا يزيد عن 3 آلاف سرير، وسيموت الآلاف من نقص الرعاية الطبية. في الوقت ذاته، سيكون السواد الأعظم من نيويورك دون كهرباء أو غاز أو مياه أو صرف صحي. ستكون عمليات نقل المصابين وإحضار ما هو ضروري من مؤن وأشخاص ومعدات عسيرة للغاية، وسيصير مئات الآلاف من أبناء نيويورك دون مأوى، وستواجه مهمة أفراد الطوارئ في المناطق التي تظل مشعة على نحو خطير مشكلات قد يكون من المستحيل تخطيها.
سيتسبب الانفجار الإرهابي في مقدار من الغبار الذري المشع أكبر من المقدار الذي يمكن أن ينجم عن انفجار لم تمس خلاله كرة النار الأرض؛ وسبب هذا هو أن الانفجار السطحي ينتج جسيمات مشعة من الأرض علاوة على تلك الآتية من السلاح النووي نفسه. سيتساقط الغبار الذري المبكر على الأرض حسب اتجاه الريح السائد، مشكلا أنماطا بيضاوية الشكل تمتد من نقطة الانفجار وصولا إلى لونج آيلاند. ولأن الرياح ستكون خفيفة نسبيا، سيكون الغبار الذري متركزا في منطقة مانهاتن، شرقي الانفجار مباشرة . سيعاني الآلاف من أبناء نيويورك من التأثيرات الخطيرة للإشعاع، بما في ذلك تلف الكروموسومات وتدمير نخاع العظام والأمعاء، والنزيف. سيموت الكثيرون جراء هذه الإصابات خلال الأيام والأسابيع التالية على الانفجار. وكل شخص ناج من الانفجار من المنتظر بنسبة 20 بالمائة أن يموت جراء أي نوع من أنواع السرطان، علاوة على احتمالية قدرها 80 بالمائة أن يموت جراء أسباب أخرى كمرض القلب أو العدوى. وسيأتي التأثير الذي سيعاني منه الجيل التالي في صورة أمراض وراثية وعيوب خلقية.
في يناير 2007 حرك العلماء المشرفون على «ساعة يوم القيامة» عقارب الساعة بمقدار دقيقتين نحو منتصف الليل، الرمز النهائي لفناء الحضارة. فقد حرك القائمون على مجلة «نشرة علماء الذرة» - وهي المجلة التي استحدثت هذه الساعة في عام 1947 من أجل التحذير من مخاطر الأسلحة النووية - الساعة حتى خمس دقائق قبل منتصف الليل. وقالت مجموعة علماء الذرة في بيان لها: «إننا نقف على شفا عصر نووي ثان.» مشيرة إلى أولى تجارب كوريا الشمالية للسلاح النووي في 2006، وطموحات إيران النووية، وتجارب أمريكا على القنابل «المخترقة للمخابئ النووية المحصنة»، والأسلحة النووية التي تمتلكها الدول الأعضاء في النادي النووي، والبالغ عددها 27 ألف سلاح نووي. ذكرنا هؤلاء العلماء أيضا بأن 50 سلاحا نوويا فقط من الأسلحة الموجودة اليوم يمكن أن تقتل ما يصل إلى 200 مليون شخص.
منذ أن ضبطت عقارب ساعة يوم القيامة لدى إنشائها عام 1947 على سبع دقائق قبل منتصف الليل جرى تحريك هذه العقارب ثماني عشرة مرة. ومما لا يثير الدهشة أن أقرب موضع لهذه العقارب لمنتصف الليل النووي - دقيقتان قبل منتصف الليل - كان في أوائل عام 1953، في أعقاب الاختبار الأمريكي الناجح للقنبلة الهيدروجينية المسماة «مايك»؛ ذلك الاختبار الذي تسبب في محو الجزيرة التي فجرت عليها القنبلة من الخريطة. كان ذلك تقريبا هو الوقت الذي شاهدت فيه لأول مرة شخصية بيرت السلحفاة وتحذيرها القاتم «اخفض رأسك واختبئ». ولم يتغير الكثير منذ ذلك الوقت.
الفصل الثاني
بناء القنبلة
منذ أواخر عام 1944 والقاذفات الأمريكية طويلة المدى من طراز «بي-29» تنفذ أعنف هجوم جوي في التاريخ . وإجمالا، ألقي بنهاية الحرب نحو 160 ألف طن من القنابل على اليابان، بما في ذلك غارات القنابل النارية التي دمرت وسط مدينة طوكيو وعددا من كبرى المدن اليابانية الأخرى. تسببت هذه الغارات وحدها في مقتل 333 ألفا من الجنود والمدنيين اليابانيين، وجرحت نصف مليون آخرين.
لم تكن مثل هذه الخسائر الفادحة في الأرواح والممتلكات بالأمر غير المسبوق. فحتى استسلام النازيين في مايو 1945، قتل 635 ألف ألماني، أغلبهم من المدنيين، وشرد 7,5 ملايين من منازلهم مع إلقاء القنابل البريطانية والأمريكية على 131 مدينة وبلدة. كان المبرر بسيطا. وكما علق المؤرخ التنقيحي يورج فريدريتش في دراسته لقصف الحلفاء لألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية؛ فإن «الفكرة هي أن المدن وإنتاجها وروحها المعنوية كانت تسهم في الحرب. وبهذا لم تكن الحرب مقتصرة على الجيش وحسب، بل هي واجب الدولة بأسرها.» وفي الحرب الشاملة، كل شيء وكل شخص يصير هدفا مستباحا. لم يكن هذا بالأمر الجديد على أبناء تلك الفترة مثل جورج أورويل، الذي يذكرنا في مقاله الرائع بعنوان «إنجلترا هي لك» الذي كتبه في فبراير 1941 تحت القصف الألماني: «يطير فوق رأسي بشر فائقو التحضر، يحاولون قتلي.»
حل الدور على حلفاء هتلر. كان اقتصاد الحرب الياباني مدمرا أشد تدمير، ومع ذلك فقد رفضت اليابان الاستسلام. ورغم أن بعض أعضاء الحكومة اليابانية أدركوا منذ وقت طويل أنهم خسروا الحرب، فإن السياسة الرسمية للحلفاء استمرت كما هي مطالبة باستسلام اليابان غير المشروط. لذا، بينما كان القادة المدنيون اليابانيون - إلى جانب الإمبراطور هيروهيتو - يفضلون طلب السلام، كان العسكريون - وعلى رأسهم الجيش - يقاومون. وفي وجه هذه المقاومة العنيفة، قدرت هيئة الأركان الأمريكية أن الخسائر البشرية لغزو الجزر اليابانية الرئيسية لن تقل عن المليون جندي من جنود الولايات المتحدة ودول الحلفاء. ولشدة انزعاجه من هذا الاحتمال المؤرق، بدأ الرئيس هاري إس ترومان - الذي اعتلى سدة الرئاسة بعد الوفاة المفاجئة لسلفه فرانكلين ديلانو روزفلت في الثاني عشر من أبريل 1945 - في البحث عن بدائل.
من جانبه، أعلم وزير الحربية هنري إل ستيمسون الرئيس ترومان تفصيلا بتبعات ذلك السلاح الجديد المدمر الذي يتم تطويره في مشروع مانهاتن فائق السرية. ففي الثالث والعشرين من أبريل أعطى ستيمسون والجنرال ليزلي جروفز - مدير المشروع - الرئيس الجديد تقريرا وافيا عن السلاح الجديد الذي بتنا نعرفه الآن باسم القنبلة الذرية. وفي هذه الجلسة تحدث جروفز عن منشأ مشروع القنبلة الذرية وحالته الراهنة، بينما قدم ستيمسون مذكرة تشرح تأثير تلك القنبلة فيما يخص العلاقات الدولية. تناول ستيمسون القوة المرعبة للسلاح الجديد، ونصح الرئيس قائلا: «في غضون أربعة أشهر سنكون قد انتهينا على نحو مؤكد من تصنيع أكثر سلاح عرفته البشرية ترويعا؛ قنبلة واحدة باستطاعتها تدمير مدينة بأكملها.» ثم ألمح بعد ذلك إلى المخاطر التي أذن بها اكتشاف هذا السلاح وتطويره، مشيرا إلى صعوبة بناء نظام واقعي للسيطرة عليه.
لم يبد أن ترومان ركز كثيرا على التبعات الجيوسياسية لامتلاك القنبلة الذرية قدر ما ركز على العبء الشخصي المتمثل في التصريح باستخدام هذا السلاح المخيف. ويروى أنه تحدث إلى موظف بالبيت الأبيض، وكان الشخص الذي رآه مباشرة بعد أن غادر ستيمسون وجروفز مكتبه، قائلا: «سيكون علي أن أتخذ قرارا لم يضطر أي شخص آخر في التاريخ إلى أن يتخذ مثله. سوف أتخذ القرار، بيد أنه من المرعب أن أفكر فيما سيكون علي أن أقرره.» ومع الوقت، اتخذ ترومان قراره، وهو قرار ربما لم يبنه على الكثير من التفكير المتأني، بل على خبرته الحربية والمعلومات المتوفرة بين يديه.
بدايات مشروع مانهاتن
رغم أنه لم يفض قرار وحيد إلى إنشاء مشروع القنبلة الذرية الأمريكية، فإن أغلب الروايات عن ذلك الأمر تبدأ بمناقشة الرئيس روزفلت لخطاب وجهه إليه أشهر علماء القرن العشرين قاطبة، ألبرت أينشتاين. ففي الحادي عشر من أكتوبر 1939 تقابل ألكسندر ساكس - اقتصادي وول ستريت والمستشار غير الرسمي للرئيس فرانكلين ديلانو روزفلت - مع الرئيس روزفلت لمناقشة خطاب كتبه ألبرت أينشتاين في الثاني من أغسطس. كتب أينشتاين معلما روزفلت أن أحدث الأبحاث قد جعلت «من المرجح ... أن يكون من الممكن إنشاء تفاعل نووي متسلسل في كتلة كبيرة من اليورانيوم ، وبواسطة هذا التفاعل من الممكن توليد مقادير هائلة من الطاقة وكميات كبيرة من العناصر الشبيهة بالراديوم.» وهو ما من شأنه أن يؤدي «إلى بناء قنابل، ومن المتصور - وإن كان على نحو أقل ترجيحا - أن يبنى نوع جديد قوي للغاية من القنابل استنادا إلى هذا.» وكل هذا من المرجح أن يحدث «في المستقبل العاجل».
آمن أينشتاين - محقا - أن الحكومة النازية كانت تدعم على نحو نشط الأبحاث القائمة في هذا المجال، وحث حكومة الولايات المتحدة على أن تحذو حذوها. قرأ ساكس جزءا من خطاب توضيحي كان قد أعده وأعلم روزفلت بالنقاط الرئيسية التي يتضمنها خطاب أينشتاين. في البداية كان روزفلت مترددا وعبر عن مخاوفه بشأن توافر التمويل اللازم، لكن في اجتماع لاحق عقد على الإفطار في اليوم التالي صار روزفلت مقتنعا بقيمة استكشاف الطاقة الذرية. وما كان له أن يتخذ خيارا آخر.
خط أينشتاين خطابه الشهير بمساعدة المهاجر المجري ليو زيلارد، أحد ألمع الفيزيائيين الأوروبيين الذين فروا إلى الولايات المتحدة في ثلاثينيات القرن العشرين هربا من الاضطهاد النازي والفاشستي. كان زيلارد من أبرز الداعين إلى تدشين برنامج لتطوير القنابل استنادا إلى النتائج الحديثة في الكيمياء والفيزياء النووية. وقد آمن أتراب زيلارد - رفاقه الفيزيائيون المجريون الفارون إدوارد تيلر ويوجين ويجنر - بأن من مسئوليتهم الأخلاقية تنبيه الولايات المتحدة إلى احتمالية فوز العلماء الألمان بسباق بناء القنبلة الذرية، والتحذير من أن هتلر سيكون راغبا أيما رغبة في استخدام مثل هذا السلاح. لكن روزفلت - المنشغل بالأحداث الدائرة في أوروبا - تأخر في لقاء ساكس أكثر من شهرين بعد تلقيه تحذير أينشتاين. وقد فسر زيلارد ورفاقه استجابة روزفلت المتأخرة على أنها دليل على أن الولايات المتحدة لم تأخذ تهديد الحرب النووية مأخذ الجد. لكنهم كانوا مخطئين.
كتب روزفلت إلى أينشتاين في التاسع عشر من أكتوبر 1939 معلما إياه بأنه أنشأ لجنة استكشافية تتكون من ساكس وممثلين عن الجيش والبحرية من أجل دراسة اليورانيوم. وقد أثبتت الأحداث أن روزفلت كان لا يتوانى عن الفعل ما إن يحدد مساره. في الواقع ، كانت موافقة روزفلت على البدء في إجراء الأبحاث على اليورانيوم في أكتوبر 1939 - بناء على اعتقاده بأن الولايات المتحدة لا تستطيع أن تخاطر بأن تسمح لهتلر بأن يمتلك وحده «قنابل قوية للغاية» - هي القرار الأول من بين مجموعة من القرارات التي أفضت في النهاية إلى تأسيس الجهد الوحيد الناجح لبناء القنبلة الذرية في الحرب العالمية الثانية.
مع بداية الحرب العالمية الثانية كان هناك خوف متزايد بين العلماء في دول الحلفاء من أن ألمانيا النازية قد تكون في سبيلها لتطوير قنابل تعتمد على الانشطار النووي. كانت الأبحاث المنظمة في هذا المجال قد بدأت أول ما بدأت في برلين، كجزء من مشروع السبائك النفقية، وفي الولايات المتحدة قدم قدر يسير من التمويل للأبحاث المتعلقة بالأسلحة المعتمدة على اليورانيوم، وكانت البداية في عام 1939 بلجنة اليورانيوم برئاسة ليمان جيه بريجز. لكن بإلحاح من العلماء البريطانيين - الذين أجروا حسابات حاسمة تشير إلى اكتمال أول سلاح قائم على الانشطار الذري في غضون بضع سنوات - انتقل المشروع بصعوبة إلى أيد بيروقراطية أكفأ، وفي عام 1942 صار جزءا من مشروع مانهاتن. جمع المشروع أبرع العقول العلمية في ذلك الوقت، بمن فيهم العديد من الفارين من أوروبا النازية، إضافة إلى القوة الإنتاجية للصناعة الأمريكية؛ وذلك من أجل هدف وحيد هو إنتاج قنبلة قائمة على الانشطار الذري قبل أن ينتجها الألمان. وافقت لندن وواشنطن على حشد مواردهما ومعلوماتهما، لكن الحليف الرئيس الآخر - الاتحاد السوفييتي تحت زعامة ستالين - ظل خارج الصورة.
برلين، وطوكيو، والقنبلة
كان علماء دول الحلفاء يخشون برلين كثيرا، ولهم أسبابهم في ذلك. ففي أواخر عام 1938 اكتشفت ليز مايتنر وأوتو هان وفريتز شتراسمان ظاهرة الانشطار الذري. عملت مايتنر في ألمانيا برفقة الفيزيائيين هان وشتراسمان، حتى فرت إلى السويد هربا من القمع النازي. ومن خلال عملها في ألمانيا عرفت مايتنر أن نواة اليورانيوم 235 تنقسم (تنشطر) إلى نواتين أخف عند قصفها بأحد النيوترونات، وأن مجموع الجسيمات الناتجة عن عملية الانشطار لا يساوي في كتلته كتلة النواة الأصلية. علاوة على ذلك، خمنت مايتنر أن ذلك الفارق يخرج على شكل طاقة منطلقة؛ طاقة أعظم مائة مليون مرة من تلك المنطلقة في الأحوال العادية من التفاعل الكيميائي بين ذرتين. وفي يناير 1939 أثبت ابن أختها - أوتو فريش - هذه النتائج، وحسب - مع مايتنر - ذلك المقدار غير المسبوق من الطاقة المنطلقة. استخدم فريش المصطلح «انشطار»، المأخوذ من الانقسام البيولوجي للخلية، في تسمية هذه العملية. بعد هذا بوقت قصير أبحر الفيزيائي الدنماركي نيلز بور إلى الولايات المتحدة وأعلن عن الاكتشاف. وفي أغسطس، نشر كل من بور وجون إيه ويلر، إبان عملهما بجامعة برينستون، نظريتهما التي تقضي بأن النظير المسمى «يورانيوم 235»، الموجود بكميات ضئيلة داخل اليورانيوم 238، كان أكثر قابلية للانقسام من اليورانيوم 238؛ لذا ينبغي أن يكون هو محور تركيز الأبحاث العاملة على اليورانيوم. وقد افترضا أيضا أن عنصرا تاليا على اليورانيوم - لا يحمل مسمى علميا ولم يرصد بعد، ويوصف على نحو ملائم بأنه «شديد الاشتعال»، وينتج أثناء انشطار ذرة اليورانيوم 238 - سيكون قابلا للانشطار بدرجة كبيرة. سرعان ما أدرك إنريكو فيرمي وليو زيلارد أن الانقسام أو الانشطار الأول من شأنه أن يتسبب في انشطار تال، وهكذا دواليك، في سلسلة من التفاعل المتسلسل تتزايد بمتوالية هندسية. وكانت هذه هي اللحظة التي أقنع فيها زيلارد وزملاؤه من علماء الذرة أينشتاين بأن يكتب إلى روزفلت.
سرعان ما أدرك الفيزيائيون في كل مكان أنه لو أمكن تطويع التفاعل المتسلسل فمن الممكن أن يؤدي الانشطار إلى مصدر جديد واعد للطاقة. كل ما كان مطلوبا هو مادة يمكنها «تلطيف» طاقة النيوترونات المنبعثة من عملية التحلل الإشعاعي، بحيث يمكن لذرة أخرى قابلة للانشطار أن تقتنصها، وكان الماء الثقيل هو أبرز المواد المرشحة لأداء هذه المهمة. بعد اكتشاف عملية الانشطار الذري، طلب الفيزيائي النازي كورت ديبنر من فيرنر هايزنبرج - الفيزيائي الألماني الحاصل على جائزة نوبل - أن يعمل في مفاعل خاص بالتفاعل المتسلسل في سبتمبر 1939. وبينما اختار الأمريكان تحت قيادة فيرمي الكربون الطري (الجرافيت) من أجل إبطاء النيوترونات الناتجة عن انشطار اليورانيوم 235 أو تلطيفها بحيث يمكنها التسبب في المزيد من عمليات الانشطار في تفاعل متسلسل، اختار هايزنبرج الماء الثقيل. وقد حسب هايزنبرج الكتلة الحرجة اللازمة للقنبلة في تقرير أرسله في السادس من ديسمبر 1939 إلى إدارة التسليح الألمانية. وقد خلصت معادلته - في ظل قيم المؤشرات النووية المفترضة في ذلك الوقت - إلى كتلة حرجة قدرها مئات الأطنان من اليورانيوم 235 الخالص «تقريبا» من أجل تحقيق تفاعل متفجر؛ وهو نموذج هايزنبرج للقنبلة في ذلك الوقت. كان هذا بعيدا كل البعد عما يستطيع الألمان إنتاجه. وفي ظل استحالة الحصول على اليورانيوم المطلوب، اتجه الألمان صوب البلوتونيوم؛ وهو ما كان يعني بناء مفاعل نووي من أجل تحويل اليورانيوم الطبيعي إلى بلوتونيوم. لكن على عكس مشروع مانهاتن الأمريكي، لم يستطع برنامج الفيزياء النووية الألماني قط إنتاج مفاعل نووي للكتلة الحرجة، وذلك على الرغم من جهود هايزنبرج وديبنر. بل في الواقع بدت محاولة النازيين لبناء سلاح نووي واهنة وغير منظمة، أما جهودهم لبناء سلاح نووي فلم يكن لها وجود من الأساس. لكن الحلفاء لم يعلموا بهذا، كما لم يعلموا الكثير عن جهود اليابان لبناء سلاح نووي.
ففي طوكيو - خريف عام 1940 - خلص الجيش الياباني إلى أن بناء القنبلة النووية أمر ممكن. وقد عهد بالمشروع إلى معهد الأبحاث الفيزيائية والنووية - أو «ريكين» - تحت إدارة يوشيو نيشينا. أيضا عملت البحرية الإمبراطورية في اجتهاد على بناء «القنبلة الخارقة» الخاصة بها، وذلك في مشروع سمي
F-Go (أو
No. F ؛ حيث الحرف
F
اختصار لكلمة
fission
بمعنى «انشطار»)، ترأسه بونساكو أركاتسو، وذلك قرب نهاية عام 1945. وقد ظهر برنامج
F-Go
للنور في عام 1942. ومع ذلك، لم يكن الالتزام العسكري مدعوما بالموارد الملائمة، ولم تحقق الجهود اليابانية لبناء قنبلة ذرية سوى تقدم يسير بنهاية الحرب.
وقد تعطلت الجهود اليابانية النووية في أبريل من عام 1945 حين أتلفت غارة من قاذفات «بي-29» جهاز التوزيع الحراري الخاص بنيشينا. تزعم بعض التقارير أن اليابانيين بسبب هذا نقلوا عملياتهم النووية إلى هونجنام، وهي الآن جزء من كوريا الشمالية؛ ومن المحتمل أن يكون اليابانيون قد استخدموا هذه المنشأة من أجل تصنيع كميات صغيرة من الماء الثقيل. وقد استولت القوات السوفييتية على هذه المنشأة مع نهاية الحرب، وتزعم بعض التقارير أن منتجات منشأة هونجنام قد جمعت شهرا بعد الآخر بواسطة الغواصات السوفييتية، بوصفها جزءا من برنامج الطاقة النووية السوفييتي (انظر الفصل الرابع).
ثمة مؤشرات على أن البرنامج الياباني كان أكبر مما يعتقد إجمالا، وأنه كان هناك تعاون وثيق بين قوات المحور، بما في ذلك التبادل السري للمواد الحربية. فالغواصة النازية «يو-234» التي استسلمت للقوات الأمريكية في مايو 1945 كانت تحمل 560 كيلوجراما من أكسيد اليورانيوم الموجه للبرنامج الذري الياباني. وقد احتوى هذا الأكسيد على 3,5 كيلوجرامات من اليورانيوم 235؛ وهو ما يعادل خمس إجمالي كمية اليورانيوم 235 المطلوبة لبناء قنبلة واحدة. وبعد أن استسلمت اليابان في أغسطس 1945، عثرت قوات الجيش الأمريكي على خمسة معجلات دورانية من الممكن استخدامها في فصل اليورانيوم القابل للانشطار عن اليورانيوم العادي. وقد حطم الأمريكان هذه المعجلات وأغرقوها في ميناء طوكيو.
الطريق إلى ترينيتي
ضم مشروع مانهاتن - ذلك المشروع العلمي الصناعي الضخم الذي عمل به 65 ألف شخص - بين جنباته أعظم فيزيائيي العالم في المناحي العلمية والتطويرية. ومن جانبها، استثمرت الولايات المتحدة استثمارا غير مسبوق في أبحاث الحرب من أجل هذا المشروع، وهو المشروع الذي امتد عبر 30 موقعا في كل من الولايات المتحدة وكندا. كان التصميم والبناء الفعلي للأسلحة يتركز في مختبر سري في لوس ألاموس - بولاية نيومكسيكو - كان في السابق مدرسة ريفية بالقرب من سانتا في. وقد بدأ المختبر الذي صمم أولى القنابل الذرية وصنعها يأخذ شكله النهائي في ربيع عام 1942 مع التوصية بأن ينظر كل من «المكتب الأمريكي للتطوير العلمي والبحثي» والجيش في سبل تعزيز عملية تطوير القنبلة. وحين تولى الجنرال جروفز إدارة المشروع في سبتمبر كانت لديه أوامر بإنشاء لجنة لدراسة التطبيقات العسكرية للقنبلة. بعدها بوقت قصير ترأس جيه روبرت أوبنهايمر مجموعة من الفيزيائيين النظريين أسماهم النجوم الساطعة - تضمنت فيليكس بلوش، وهانز بيته، وإدوارد تيلر، وروبرت سيبر - بينما عاونه جون إتش مانلي عن طريق التنسيق بين الأبحاث التي تجري في جميع أنحاء البلاد على الانشطار النووي، وكذا دراسات المعدات والقياسات الآتية من مختبر علوم السبائك في شيكاجو. ورغم عدم اتساق النتائج الآتية من التجارب، كانت الآراء في بيركلي (حيث أعير أغلب العلماء) تجمع على أن المقدار المطلوب من المادة القابلة للانشطار يزيد بنحو الضعف عن ذلك الذي قدر قبل ستة أشهر. كان ذلك أمرا مقلقا، خاصة في ضوء وجهة النظر العسكرية التي كانت ترى أن ثمة حاجة لأكثر من قنبلة واحدة من أجل الانتصار في الحرب.
بطرق عدة، سار العمل في مشروع مانهاتن على نحو مشابه لما يحدث في أي شركة إنشاءات كبرى. فاشترى المشروع مواقع العمل وجهزها، وأجرى مناقصات لعقود العمل، وعين الموظفين ومقاولي الباطن، وبنى المساكن والمنشآت الخدمية وقام على صيانتها، وقدم طلباته من المواد الخام، وطور الإجراءات المحاسبية والإدارية، وأسس شبكات التواصل. وبنهاية الحرب، كان الجنرال جروفز والعاملون لديه قد أنفقوا نحو 2,2 مليار دولار على منشآت الإنتاج ومدنها في ولايات تينيسي وواشنطن ونيومكسيكو، وأيضا على الأبحاث التي تجري في المختبرات الجامعية في كل من جامعة كولومبيا، ومدينة نيويورك، وجامعة كاليفورنيا في بيركلي، علاوة على أوجه أخرى للإنفاق. لكن ما جعل مشروع مانهاتن مختلفا بوضوح عن أي شركة تؤدي وظائف مشابهة هو أنه بسبب الحاجة إلى التحرك بسرعة، فقد استثمر المشروع مئات الملايين من الدولارات في عمليات غير معروفة وأخرى لم تثبت صحتها حتى ذلك الوقت، وفعل كل هذا على نحو سري بالكامل. فقد كانت السرعة والسرية هما شعار مشروع مانهاتن.
وكم كانت السرية أمرا مفيدا! فرغم أنها اقتضت العمل في مواقع نائية، وتطلبت التمويه عند الحصول على العمالة والموارد، وشكلت مصدر إزعاج دائم للعلماء الأكاديميين العاملين بالمشروع، إلا أنها كانت ذات مزية طاغية؛ وهي أنها مكنت من اتخاذ القرارات دون اهتمام يذكر بالاعتبارات السائدة وقت السلم. كان جروفز يعلم أنه طالما حظي بدعم الرئيس فستكون الأموال متاحة وسيمكنه تكريس طاقته بالكامل لإدارة المشروع. وقد كانت السرية كاملة لدرجة أن العديد من العاملين بالمشروع لم يعلموا ما كانوا يعملون عليه إلى أن سمعوا بقصف هيروشيما على المذياع .
علاوة على ذلك، تسببت الحاجة إلى السرعة في توضيح الأولويات، وصارت سمة لعملية صنع القرار. فقد تعين استخدام أبحاث غير منتهية على ثلاث عمليات غير مثبت صحتها في تشكيل خطط التصميمات من أجل منشآت الإنتاج، حتى رغم معرفة أن النتائج اللاحقة ستحتم عمل بعض التغييرات. وفي خرق لجميع ممارسات التصنيع المتعارف عليها تم التغاضي عن المرحلة الاستطلاعية بالكامل، وهو ما أدى إلى عمليات توقف مؤقتة وعمليات لانهائية لحل المشكلات خلال التجارب الأولى في منشآت الإنتاج. وقد تسببت المشكلات الكامنة في ضغط المراحل بين المختبر والإنتاج الكامل في خلق مناخ مشحون انفعاليا، تقلبت فيه المشاعر بين التفاؤل والإحباط في تناوب محير.
ورغم تأكيدات جروفز أن القنبلة الذرية سيكون من الممكن إنتاجها بحلول عام 1945، فإنه هو وكبار المدراء ذوي الصلة بالمشروع أدركوا تمام الإدراك مدى عظم المهمة التي تنتظرهم. وإنه لإنجاز صناعي عظيم أن تستطيع مؤسسة كبرى أن تنقل أبحاث المختبرات إلى مرحلة التصميم، ثم البناء، ثم العمل، ثم تسليم المنتج في فترة قوامها عامان ونصف العام (من 1943 إلى أغسطس 1945). كان السؤال عن قدرة مشروع مانهاتن على إنتاج القنابل بحيث تؤثر على نتيجة الحرب العالمية الثانية سؤالا مختلفا بالمرة مع مطلع عام 1943. ورغم وضوح الأمر أمامنا الآن، ينبغي أن نتذكر أنه ما من أحد في ذلك الوقت كان يعلم أن الحرب ستنتهي في عام 1945، أو من الأطراف المتناحرة المتبقية - وهو الأمر المساوي في الأهمية - عندما تصبح القنبلة الذرية جاهزة للاستخدام، هذا إن أصبحت جاهزة للاستخدام من الأساس.
شكل 2-1: نسخة من قنبلة «الرجل البدين».
وفي تمام الخامسة والنصف صبيحة يوم الاثنين الموافق السادس عشر من يوليو 1945، شهدت مجموعة من المسئولين والعلماء تحت قيادة جروفز وأوبنهايمر التفجير الأول للقنبلة الذرية، وذلك في «ترينيتي»؛ وهو الاسم الكودي لموقع الاختبار التابع لمشروع مانهاتن في ألاموجوردو بنيومكسيكو. ولكم كان عرضا مذهلا! فقد شق سهم من الضوء الساطع ظلمة صحراء نيومكسيكو، مبخرا البرج ومحيلا الأسفلت حول القاعدة إلى رمل أخضر منصهر. أطلقت القنبلة قوة تفجيرية مقدارها نحو 19 ألف طن من مادة تي إن تي، وعلى نحو مباغت صارت سماء نيومكسيكو أشد سطوعا من شموس عدة. عانى بعض المراقبين من عمى مؤقت رغم أنهم كانوا ينظرون إلى الضوء الساطع عبر زجاج معتم. وبعد الانفجار بثوان حلت موجة انفجارية هائلة، أطلقت الحرارة المتقدة عبر الصحراء، وأطاحت أرضا ببعض المراقبين الواقفين على بعد 1000 ياردة. كما أطيح بحاوية من الصلب وزنها 200 طن تقف على بعد نصف الميل من نقطة الانفجار أرضا وتمزق جزء منها. وبينما تمددت كرة النار ذات اللونين البرتقالي والأصفر وانتشرت، ارتفع عامود آخر - أرفع من السابق - عاليا وتسطح على صورة سحابة عيش الغراب، مقدما للعصر الذري رمزا صار محفورا منذ تلك اللحظة في الوعي البشري. وقد أطلق ويليام لورانس - مراسل نيويورك تايمز - على الانفجار «أولى صرخات عالم وليد».
ولكسر من الثانية، كان الضوء المنبعث في موقع ترينيتي أعظم من أي ضوء أنتج من قبل على الأرض، وكان من الممكن رؤيته من كوكب آخر. وبينما خفت الضوء وارتفعت سحابة عيش الغراب، تذكر أوبنهايمر شطرا من نص بهاجافاد جيتا الهندوسي المقدس يقول: «أنا أصبحت الموت/مدمر العالم.» أما التعليق الأقل اقتباسا لكن الأكثر رسوخا في الذاكرة؛ فكان تعليق مدير الموقع كينيث برينبريدج الذي قال لأوبنهايمر: «أوبي، الآن صرنا جميعا أبناء عاهرات.» وقد ظل شبح القوة المدمرة المرعبة للأسلحة الذرية وما قد تستخدم هذه الأسلحة فيه يطارد العديد من علماء مشروع مانهاتن لبقية حياتهم.
شكل 2-2: نسخة من قنبلة «الولد الصغير».
بنهاية شهر يوليو، كان مشروع مانهاتن قد أنتج نوعين مختلفين من القنابل الذرية، حملا الاسمين الكوديين «الرجل البدين» و«الولد الصغير». كانت قنبلة الرجل البدين هي أكثر القنبلتين تعقيدا. كانت هذه القنبلة ذات الشكل الشبيه بالبصلة والبالغ طولها عشرة أقدام تحتوي على كرة من البلوتونيوم 239، وكانت هذه الكرة محاطة بكتل من مادة شديدة الانفجار مصممة بحيث تنتج انفجارا داخليا متناظرا عالي الدقة. من شأن هذا الانفجار الداخلي أن يضغط كرة البلوتونيوم حتى تصل إلى الكثافة الحرجة، ومن ثم يبدأ تفاعل نووي متسلسل . لم يكن العلماء في لوس ألاموس واثقين من تصميم قنبلة البلوتونيوم، ومن هنا كانت الحاجة إلى اختبار القنبلة في موقع ترينيتي. أما قنبلة الولد الصغير فكانت ذات تصميم أبسط بكثير من قنبلة الرجل البدين. كانت قنبلة الولد الصغير تطلق انفجارا نوويا - لا انفجارا داخليا - عن طريق إطلاق قطعة من اليورانيوم 235 صوب قطعة أخرى. وحين يتجمع قدر كاف من اليورانيوم 235، يستطيع تفاعل الانشطار النووي الناتج أن ينتج انفجارا نوويا. لكن من الضروري تجميع الكتلة الحرجة في سرعة شديدة، وإلا ستتسبب الحرارة المنطلقة عند بدء التفاعل في الإطاحة بأجزاء اليورانيوم بعيدا قبل أن يدخل معظمها في التفاعل. ولمنع هذا الانفجار السابق على أوانه استخدمت القنبلة مسدسا لإطلاق قطعة واحدة من اليورانيوم 235 داخل ماسورة صوب قطعة أخرى. علاوة على ذلك، كان من المعتقد أن شكل القنبلة الأشبه بماسورة البندقية موثوق به إلى درجة عظيمة بحيث استبعدت فكرة الاختبار التجريبي. ومن المثير للاهتمام أنه لم تكن هناك فرصة لاختبار هذه القنبلة على أي حال؛ وذلك لأن إنتاج قنبلة الولد الصغير استنفد كل كمية اليورانيوم 235 المنتجة حتى ذلك الحين. لكن ما من شك في أن مشروع مانهاتن استطاع أن ينقل اكتشاف الانشطار النووي من المختبر إلى ميدان المعركة.
قرار إلقاء القنبلة على هيروشيما
سرعان ما نقل الجنرال جروفز خبر التجربة إلى الضابط المعاون لوزير الحرب ستيمسون، الذي بدوره نقل الخبر إلى الوزير بطريقة مبهمة: «جرى العمل عليها هذا الصباح. لم يكتمل التشخيص بعد، لكن النتائج تبدو مرضية وتفوق توقعاتنا بالفعل.» بعد ذلك أعطى ستيمسون - المفعم بالإثارة - ترومان تقريرا مبدئيا في المساء، بعد عودة الرئيس ترومان من جولته في برلين وهو لا يزال في مؤتمر بوتسدام. ورغم أن نجاح القنبلة أزال عبئا كبيرا عن عاتقه، فإن ترومان - الذي لم يكن قد قرر حتى تلك اللحظة ما إذا كان سيحتاج مساعدة السوفييت من أجل الإجهاز على اليابانيين - أخبر ستالين على نحو عارض بأن الولايات المتحدة «تملك سلاحا جديدا ذا قدرة غير عادية على التدمير». ورد ستالين - الذي كان له جواسيس نشطون في نيومكسيكو - بقوله إنه يأمل أن يحسن الأمريكان استخدامه. وبالتأكيد، مع نجاح تجربة ترينيتي، رأت حكومة الولايات المتحدة أنها قادرة على إنهاء الحرب دون مساعدة من الروس؛ ومن ثم وجه ترومان من بوتسدام إنذارا إلى طوكيو بالاستسلام الفوري دون قيد أو شرط، وإلا فإنها ستواجه «دمارا فوريا وشاملا».
على أي حال، صارت الولايات المتحدة تملك في ترسانتها سلاحا ليس له مثيل من حيث التدمير، بل إن ستيمسون اقترح أن هذا السلاح من شأنه أن يخلق «علاقة جديدة بين الإنسان والكون». اتفق مستشارو ترومان على أن القنبلة الذرية قادرة على إنهاء الحرب في المحيط الهادي، لكنهم اختلفوا حول أفضل السبل لاستخدامها. وهنا تكمن المفارقة؛ فالعلماء الذين طوروا القنبلة كانوا يريدون استخدامها ضد النازيين، وشعروا بالجزع الشديد حين علموا أنها ستستخدم ضد اليابان. وقد اقترح البعض إظهار قدرات القنبلة من خلال تفجيرها في منطقة غير مأهولة، فيما نادى آخرون بأنها يجب أن تستخدم ضد القوات البحرية اليابانية ولا ينبغي استخدامها مطلقا ضد المدن اليابانية، بل وذهب البعض إلى أن المقصد ليس هزيمة اليابان بقدر ما هو توظيف «الدبلوماسية الذرية» ضد الاتحاد السوفييتي، وضرب المثل من أجل تيسير التعامل معه في شرقي ووسط أوروبا بعد انتهاء الحرب.
وبعد تدارس المقترحات المتعددة، خلص ترومان إلى أن السبيل الوحيد لتقصير زمن الحرب - وفي الوقت ذاته تجنب غزو اليابان - هو استخدام القنبلة ضد المدن اليابانية. وبعد الساعة الثامنة والربع بقليل صبيحة يوم السادس من أغسطس 1945، ألقت قاذفة وحيدة من طراز «بي-29» تدعى «إينولا جاي» قنبلة الولد الصغير فوق مدينة هيروشيما (عدد سكانها 350 ألف نسمة)، ثاني أهم المراكز الصناعية والعسكرية في اليابان؛ مما تسبب على الفور في مقتل ما بين 80 و140 ألف شخص، وإلحاق إصابات خطيرة بمائة ألف آخرين أو أكثر. كانت تلك أول قنبلة يورانيوم 235 (تلك القنبلة التي لم تختبر من قبل قط)، وكانت ذات قوة تفجيرية مقدارها 20 ألف طن من مادة تي إن تي، وهي قدرة تافهة بدائية مقارنة بمعايير القنابل النووية الحرارية اللاحقة. ومع ذلك، في تلك اللحظة الرهيبة، دمر 60 بالمائة من مدينة هيروشيما؛ أي 4 أميال مربعة، وهي مساحة تعادل ثمن مساحة مدينة نيويورك. قدرت حرارة الانفجار بأكثر من مليون درجة مئوية، وهو ما أضاء الهواء المحيط وشكل كرة نارية قطرها نحو 840 قدما. وقد أفاد شهود عيان يبعدون أكثر من خمسة أميال بأن سطوع الانفجار فاق سطوع الشمس بعشر مرات، وشعر الناس بالانفجار على بعد 37 ميلا. تهدم أكثر من ثلثي مباني مدينة هيروشيما، وتسببت مئات الحرائق المشتعلة والموجة الحرارية للانفجار مجتمعة في إنتاج عاصفة نارية أحرقت كل ما كان موجودا في مساحة محيطها 4,4 أميال من مركز الانفجار محيلة إياه إلى رماد. واختفت هيروشيما تحت زبد فائر من اللهيب والدخان.
شكل 2-3: سحابة عيش الغراب ترتفع فوق هيروشيما.
بعدها بثلاثة أيام، وفي التاسع من أغسطس، ألقت قاذفة وحيدة أخرى من طراز «بي-29» تدعى «بوكس كار» قنبلة الرجل البدين (القنبلة التي جرى اختبارها في موقع ترينيتي) على مدينة ناجازاكي (عدد سكانها 253 ألف نسمة)، التي تضم مصنعين حربيين كبيرين لشركة ميتسوبيشي على نهر أوراكامي؛ مما تسبب على الفور في مقتل 24 ألف شخص وإصابة 23 ألفا آخرين. كان لقوة قنبلة البلوتونيوم قوة تفجيرية مقدارها 22 ألف طن من مادة تي إن تي، وهو ما يعادل الحمولة المجتمعة لأربعة آلاف قاذفة من طراز «بي-29»، أو أقوى بألفي مرة من القوة الانفجارية لما كان في السابق أشد قنابل العالم تدميرا؛ قنبلة «الضربة الساحقة» البريطانية، تلك القنبلة التي تمثل تحسينا تكنولوجيا في استراتيجية قصف المدن طوره الحلفاء خلال قصف كل من هامبورج ودريسدن. لكن على العكس من هيروشيما، لم تكن هناك عاصفة نارية هذه المرة. ورغم هذا، كان الانفجار أشد تدميرا للمنطقة المحيطة المباشرة؛ وذلك بسبب الطبيعة الطبوغرافية والقوة الأعتى لقنبلة الرجل البدين. إلا أن المنطقة شبه الجبلية المليئة بالتلال حدت من مساحة الدمار لما هو أقل من هيروشيما، ولم تكن الخسائر في الأرواح فادحة كحال هيروشيما. وفي ظل عدم قدرة الأطباء اليابانيين على تفسير السبب وراء أن العديد من المرضى المدنيين الذين لم يصابوا باتوا يذوون حتى الموت؛ ارتفعت حصيلة الوفيات في كلتا المدينتين، بينما بدأ السكان يقعون ضحايا للأمراض المرتبطة بالإشعاع.
شعر بموجات الصدمة فيما وراء الجزر اليابانية. وجاهدت الصحف الغربية كي تشرح للجمهور - المنتشي بالانتصار والمتحير في الوقت نفسه - كيف تمكن آلاف العلماء الأمريكان والبريطانيين والكنديين من تسخير قوة الشمس بحيث تحقق مثل هذا التأثير القاتل. ولم يكن من اليسير أيضا تفسير الكيفية التي استطاعت بها الولايات المتحدة تنفيذ برنامج علمي وعسكري بحجم مشروع مانهاتن وطوله بهذه الدرجة من السرية. وقد كانت النظرة المتناقضة للإنجاز الحكومي مطابقة لاستجابة الجمهور الأمريكي للقنبلة ذاتها؛ إذ خفف الإدراك المتزايد لمدى عظم المسئوليات التي يفرضها امتلاك مثل هذا السلاح القوي من الابتهاج بإمكانية تحقيق السلام الفوري. وذهب المنتقدون مثل العالم البريطاني بي إم بلاكيت إلى أنه على أفضل تقدير يمكن النظر إلى هيروشيما وناجازاكي بوصفهما الفصل الأول من الحرب الباردة وليسا الفصل الختامي للحرب العالمية الثانية. وبعد بناء القنبلة على الفور تقريبا ظهرت الآراء المعارضة للطاقة النووية. وقد حذر «تقرير فرانك» - الصادر في الحادي عشر من يونيو 1945، والموقع عليه من عدد من العلماء العاملين بمشروع مانهاتن - وزير الحربية ستيمسون من أن أي هجوم غير مسبوق بتحذير من شأنه أن يفضي إلى سباق تسلح. بيد أنه تم تجاهل التقرير والعلماء الموقعين عليه.
امتد تأثير السلاح الجديد إلى ما وراء الدوائر العسكرية والعلمية التي جرى تطويره فيها، وإلى حد غير مسبوق بدأ يتسرب إلى خيال العامة، بينما صارت صور سحابة عيش الغراب رمزا للقدرة التدميرية الجديدة المكتشفة. إن «أعظم مقامرة علمية في التاريخ» - حسب وصف ترومان - قد نجحت بفعالية ساحقة، ولم يكن ثمة شك في أننا وصلنا بها إلى نقطة تحول في تاريخ العالم المعاصر. في الحقيقة، صارت «القنبلة» - وهو الاسم المختصر الذي سرعان ما أطلق عليها - الملمح المميز لعالم ما بعد الحرب العالمية الثانية.
وفي ظل الاستسلام الوشيك لليابان، وإدراكا من الاتحاد السوفييتي بأنه لو أراد أن يلعب دورا في آسيا ما بعد الحرب فإن عليه أن يدخل الحرب بسرعة؛ أعلن الاتحاد السوفييتي الحرب على اليابان في الثامن من أغسطس، وذلك قبل أسبوع من الموعد الذي تعهد ستالين في مؤتمر بوتسدام بإعلان الحرب فيه. وبعد تسع دقائق من هذا الإعلان شن الجيش والقوات الجوية التابعان لجناح الشرق الأقصى من الجيش السوفييتي هجوما ضخما على القوات اليابانية في منشوريا وشبه الجزيرة الكورية. كما شكل احتلال جزر الكوريل وجنوبي سخالين جزءا من الحملة السوفييتية بالقارة الآسيوية. وقد تسبب الهجوم السوفييتي الضاري في إيقاع عدد كبير من الضحايا في صفوف جيش كوانتونج الياباني؛ إذ قتل 80 ألف جندي ياباني (في مقابل 8219 قتيلا و22264 جريحا في صفوف السوفييت) في أقل من أسبوع. لقد أزفت الآزفة.
مستسلما لحقيقة الموقف، تمكن الإمبراطور هيروهيتو - مدعوما بمستشاريه المدنيين - أخيرا من فرض كلمته على طبقة العسكريين، وأمر باستسلام بلاده في الرابع عشر من أغسطس. ومن جانبها، وافقت الولايات المتحدة على الإبقاء على النظام الإمبراطوري، على أن يتخلى عن مزاعم الألوهية، وأن يكون خاضعا للاحتلال الأمريكي بقيادة الجنرال دوجلاس ماك آرثر. وفي الثاني من سبتمبر، وهو ما صار يعرف بعد ذلك ب «يوم النصر على اليابان»، أبحر أسطول كبير للحلفاء إلى خليج طوكيو. وعلى متن السفينة يو إس إس ميزوري، قبل الجنرال ماك آرثر الاستسلام الياباني نيابة عن قوات الحلفاء. وفي احتفال بسيط، أغلق آخر فصول الحرب العالمية الثانية.
الفصل الثالث
«الاختيار بين السريع والقاتل»
حين نتدبر أصول عملية نزع السلاح النووي والقضايا المتعلقة بها عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية مباشرة، علينا أن نضع في حسباننا أنه في بداية العصر النووي لم يكن هناك وجود لأي قواعد، ولا وجود لمعايير خاصة بمنع الانتشار النووي، ولا وجود لمفهوم الردع النووي، وتحديدا لم يكن هناك وجود لأي خطوط حمراء فيما يخص الحرب النووية. لكن كان هناك سباق تسلح واضح، يسير في جدية عقب صراع أدى إلى إزهاق نحو 60 مليون روح. في الوقت عينه، حملت التطورات في مجال الطاقة النووية آمالا مستقبلية في استخدام هذه الطاقة من أجل الأغراض السلمية؛ مثل إمكانية أن تمد الطاقة النووية العالم بمصدر لا ينضب من الطاقة. والمهم في الأمر أن العمليات المرتبطة بالاستخدامات العسكرية والمدنية للطاقة الذرية كانت واحدة تقريبا.
تقليديا، كانت هناك جهود لمشاركة المعلومات على المستوى الدولي، شأن ما يحدث في أغلب التطورات العلمية. لكن بسبب القدرة التدميرية المعروفة جيدا للقنبلة الذرية والقوة التي تمنحها هذه القنبلة للدولة التي تملكها؛ لم تكن الولايات المتحدة مستعدة للإفصاح عن أسرارها النووية في غياب نظام ضبط دولي فعال. ومنذ ذلك الوقت والتوفيق بين الرغبة في جني الفوائد السلمية لهذه القوة المسخرة حديثا وبين الحاجة للسيطرة على قدراتها التدميرية الممكنة يمثل مشكلة عويصة.
ركزت الجهود المبكرة على مجابهة المشكلة من خلال الاتفاقات الدولية، وساوت بين عدم الانتشار النووي ونزع السلاح النووي. فلم يكد يمر شهران على ضرب هيروشيما بالقنبلة الذرية حتى أخبر الرئيس هاري إس ترومان الكونجرس بأن «أمل الحضارة يكمن في الاتفاقات الدولية الساعية - إن أمكن - إلى التخلي عن تطوير القنبلة الذرية واستخدامها.» كان العديد من علماء الذرة البارزين يحملون نفس وجهة النظر. وقد أوصى «تقرير فرانك»، المسمى على اسم رئيس اللجنة التي أصدرته، في يونيو 1945 - وقبل أن تلقى القنبلة الذرية على اليابان - بأنه نظرا لأنه سيكون من المستحيل على الولايات المتحدة أن تحتكر السلاح النووي بشكل دائم، فمن الضروري أن يتحقق التخلص من الأسلحة النووية من خلال الاتفاقات الدولية.
استهدفت تحركات سياسية عديدة تأسيس إطار عمل يمكن فيه السيطرة على الطاقة النووية. وقد تم التوصل إلى «الإعلان المتفق عليه بين الدول الثلاث»، وذلك بين الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى وكندا، شركاء الحرب المتعاونين في تطوير القنبلة. وفي الخامس عشر من نوفمبر 1945 - في واشنطن - أعلنت الدول الثلاث عن نيتها أن تتشارك مع جميع الدول المعلومات العلمية المرتبطة بالطاقة الذرية من أجل الأغراض السلمية أو المدنية. وإدراكا للمعضلة المتمثلة في التوفيق بين القوتين التدميرية والسلمية للطاقة الذرية؛ دعا الإعلان إلى الامتناع عن نشر هذه المعلومات إلى أن توضع الضمانات الملائمة قيد التنفيذ . وبعد ذلك دعا الإعلان الأمم المتحدة إلى تأسيس لجنة من أجل التوصية بنظام عالمي للسيطرة على الطاقة الذرية.
وفي اجتماع «مؤتمر الوزراء» الذي انعقد في موسكو في السابع والعشرين من ديسمبر 1945، وافق الاتحاد السوفييتي على هذه المبادئ في «إعلان موسكو»؛ وهو بيان سوفييتي إنجليزي أمريكي. ضم الإعلان أيضا نصا خاصا بقرار مقترح للأمم المتحدة من أجل تأسيس لجنة معنية بالسيطرة على الطاقة الذرية، وقد دعا الإعلان فرنسا والصين وكندا للمشاركة في رعاية القرار، وبالفعل تمت الموافقة على القرار بالإجماع خلال أولى جلسات الجمعية العامة للأمم المتحدة في الرابع والعشرين من يناير 1946.
بهذه الطريقة، تأسست «لجنة الأمم المتحدة للطاقة الذرية». وتكونت اللجنة من كل أعضاء مجلس الأمن (أستراليا، والبرازيل، والصين، ومصر، وفرنسا، والمكسيك، وهولندا، وبولندا، والاتحاد السوفييتي، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة)، إضافة إلى كندا؛ أي ما مجموعه اثنتا عشرة دولة. وقد دعا القرار إلى إنشاء لجنة تابعة لمجلس الأمن، تهيمن عليها الولايات المتحدة وبريطانيا والصين والاتحاد السوفييتي. وهذه الخطوة - التي اقترحتها موسكو - بينت كيف أن جهود التشارك في المعرفة الذرية ستكون خاضعة لاعتبارات مجلس الأمن. وقد امتلكت الدول دائمة العضوية بمجلس الأمن حق النقض (الفيتو)، وذلك فيما يخص القضايا الموضوعية لا الإجرائية. وقد لعب حق النقض - ولا يزال - دورا مهما في جهود السيطرة على الطاقة الذرية.
تضمنت مسئوليات لجنة الأمم المتحدة للطاقة الذرية - من بين ما تضمنت - الإشراف على تبادل المعلومات العلمية الأساسية من أجل الأغراض السلمية، والسيطرة على الطاقة الذرية من أجل ضمان استخدامها للأغراض السلمية وحسب، وإزالة الأسلحة النووية من ترسانات أسلحة الدول، والضمانات الفعالة عن طريق التفتيش وغيره من الوسائل من أجل حماية الدول الملتزمة من مخاطر الانتهاك والتهرب.
في الوقت عينه، شكل وزير الخارجية الأمريكي جيمس إف بيرنز لجنة لدراسة طرق السيطرة والضمانات من أجل حماية الولايات المتحدة، وذلك خلال المفاوضات. جاء الأعضاء الخمسة للمجموعة - بقيادة مساعد وزير الخارجية دين أتشيسون - من دوائر عسكرية وسياسية ذات صلة بعملية تطوير القنبلة. نظرت لجنة أتشيسون إلى «مجلس من الخبراء » بوصفه مصدرا للمعرفة بالجوانب الفنية للطاقة الذرية. كان هذا المجلس تحت رئاسة ديفيد ليلينثال - رئيس هيئة تينيسي فالي - وضم ثلاثة علماء آخرين أبرزهم جيه روبرت أوبنهايمر، الفيزيائي الذي لعب دورا كبيرا في مشروع مانهاتن.
تمخضت جهود هاتين المجموعتين عن وثيقة بعنوان «تقرير عن السيطرة الدولية على الطاقة الذرية»، والذي صار يعرف على الفور باسم «تقرير أتشيسون-ليلينثال». يبرز هذا التقرير - الصادر في أواخر مارس من عام 1946 - الخصائص الفنية التي من شأنها أن تحدد طبيعة نظام السيطرة الدولي على الطاقة الذرية. والأهم من ذلك أن المشاركين في إعداده رأوا فيما خلص إليه من نتائج أساسا للمناقشة وليس خطة نهائية. وقد اعتمد مقترح الولايات المتحدة بتأسيس لجنة الأمم المتحدة للطاقة الذرية اعتمادا شديدا على الأفكار الواردة في تقرير أتشيسون-ليلينثال من أجل إرساء نظام للسيطرة الدولية.
خطة باروخ
هذه هي الخلفية الكامنة وراء المقترحات الأمريكية المقدمة إلى الأمم المتحدة في يونيو 1946. وكانت الخطة المعروفة باسم «خطة باروخ» - والمسماة باسم كبير مفاوضيها برنارد باروخ؛ رجل الدولة العجوز الذي عمل مع رؤساء أمريكيين في وظائف متعددة منذ الحرب العالمية الأولى - تهدف إلى منع انتشار الأسلحة النووية، ظاهريا من خلال تأمين التكنولوجيا والمواد الذرية، وذلك عن طريق السيطرة على الأمم المتحدة حديثة المولد. وفق هذه الخطة، من شأن هيئة تابعة للأمم المتحدة أن تشرف على السيطرة على مناجم المواد الخام المستخدمة في الأسلحة النووية وأن تكون مسئولة عن أي عمليات إنتاج. أيضا - بموجب هذه الخطة - سوف تتخلى الولايات المتحدة عن أسلحتها ومنشآتها النووية عبر عملية انتقال مرحلية.
وخلال عرض الخطة على الأمم المتحدة في الرابع عشر من يوليو 1946، استعان باروخ بتلميح ميلودرامي لماضي الولايات المتحدة أيام فترة الغرب المتوحش قائلا: «نحن هنا كي نتخذ خيارا بين السريع والقاتل ... إذا فشلنا، فسنكون قد حكمنا على كل رجل أن يكون عبدا للخوف. دعونا لا نخدع أنفسنا؛ علينا إما أن نختار «السلام العالمي» أو «الدمار العالمي».» كانت أسس خطة باروخ بسيطة بما يكفي بحيث يمكن للجمهور استيعابها، واقترح باروخ - الرئيس السابق لمجلس الصناعات الحربية إبان فترة حكم وودرو ويلسون - إنشاء «هيئة دولية للتطوير الذري» يكون واجبها الوحيد الإشراف على كل مراحل تطوير الطاقة الذرية وعلى استخدامها، على أن يكون مفتاح نجاح عمل هذه الهيئة هو فعاليتها في السيطرة والتفتيش على الأنشطة المتعلقة بالطاقة الذرية؛ لأنه عندئذ - وفقط عندئذ - ستكون الولايات المتحدة مستعدة للتوقف عن تصنيع الأسلحة النووية وكذلك التخلي عن مخزونها من هذه الأسلحة.
عدد باروخ أنشطة متنوعة من الممكن اعتبارها أنشطة إجرامية؛ وهي: امتلاك المواد الخام الذرية المناسبة للاستخدام في القنابل الذرية أو فصلها، والاستيلاء على ممتلكات مملوكة للهيئة أو رخصت بها الهيئة، والتدخل في أعمال الهيئة، وأخيرا الانخراط في مشروعات «خطيرة» تتعارض مع عمل الهيئة أو تتم دون ترخيص من الهيئة. ثم أضاف باروخ إسهامه المميز داعيا إلى توقيع عقوبات شديدة على الدول التي تنخرط في مثل هذه الأعمال. ورغم إقراره بأهمية حق النقض لأعمال مجلس الأمن، فإنه قال إنه فيما يخص الطاقة الذرية «يجب ألا يكون هناك حق نقض يحمي أولئك الذين يخرقون اتفاقاتهم الرسمية القاضية بألا يطوروا أو يستخدموا الطاقة الذرية لأغراض تدميرية.»
تباينت ردود الأفعال حيال الخطة تباينا واسعا. فبعد قراءة الخطبة، امتدح ونستون تشرشل باروخ قائلا: «ما من رجل أفضل أن يتولى زمام مثل تلك المشكلات البغيضة خلاف برنارد باروخ.» وبينما عارض البعض هذه الخطة لأنها تتخلى عن أكثر مما ينبغي، عارضها آخرون لأنها غير منصفة للاتحاد السوفييتي، ودعوا إلى وقف عمليات تصنيع القنابل الذرية فورا. وقد قال نحو 30 من أعضاء مجلس الشيوخ إن الخطة ليست قابلة للتنفيذ العملي، بينما قال رئيس لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكي آرثر فاندنبرج إن الخطة كانت «أهم لسلام العالم من أي شيء آخر حدث في نيويورك». وبحلول شهر سبتمبر، أفاد استطلاع للرأي بأن 78 بالمائة من الجمهور الأمريكي يؤيد الخطة.
أثارت قضية حق النقض تعليقات مؤيدة وأخرى ناقدة. وقد اتهم الكاتب الصحفي الشهير والتر ليبمان باروخ بأنه يقود الولايات المتحدة إلى طريق مسدود في ظل وجود شرط حق النقض ، بينما دعم قاضي المحكمة العليا - ويليام أو دوجلاس - مقترح باروخ الداعي لتجريد مجلس الأمن من حق النقض فيما يخص الشئون الذرية. وقد رأت صحيفة «ديلي ووركر» الأمريكية الناطقة بلسان الحزب الشيوعي الأمريكي في إلغاء حق النقض فرصة لواشنطن ولندن كي «تحرزا قصب السبق» على الاتحاد السوفييتي، وأن هذا الإلغاء «يمثل انطلاق النسر الأمريكي في جولة افتراس جديدة». وقد جاء رد الكرملين على خطة باروخ بعدها بخمسة أيام - في التاسع عشر من يونيو - في خطاب ألقاه نائب وزير الخارجية السوفييتي أندريه جروميكو.
خطة جروميكو
تحاشى جروميكو في حديثه الحجة الأمريكية المتعلقة بالسلام الذري، وبدلا من هذا دعا إلى مؤتمر دولي يهدف إلى حظر إنتاج الأسلحة النووية واستخدامها، وفي الوقت ذاته طالب بنزع سلاح الولايات المتحدة النووي كشرط سابق على أي اتفاق. ولتحقيق هذا المقصد، نادى جروميكو بإصدار قرارين؛ أولهما يدعو المؤتمر إلى حظر استخدام القنابل الذرية وإنتاجها، وتدمير الأسلحة الموجودة في غضون ثلاثة أشهر، وفي الوقت نفسه يطلب من المسئولين إصدار قوانين داخل بلادهم لمعاقبة المخالفين، أما القرار الثاني فيدعو إلى تشكيل لجنتين؛ واحدة لتبادل المعلومات العلمية والأخرى لإيجاد السبل لضمان الالتزام بهذه الشروط.
جاء الرد السوفييتي المباشر الوحيد على خطة باروخ في صورة معارضة لإلغاء حق النقض، وذلك على النحو التالي: «إن محاولات تقويض المبادئ، التي أرساها ميثاق مجلس الأمن - بما في ذلك إجماع أعضاء المجلس عند تقرير القضايا الجوهرية - لا تتفق مع مصالح الأمم المتحدة ... [و] يجب أن ترفض.» لم يكن من المرجح أن يقول ممثل جوزيف ستالين غير ذلك، خاصة وقد بدأت الحرب الباردة تتخذ هيئتها.
كان رد فعل واشنطن الرسمي متحفظا. وفي مؤتمر صحفي قال أحد أعضاء الوفد الأمريكي إنه لا يشعر باليأس، ووصف المقترح السوفييتي بأنه «مفتوح للنقاش وليس موقفا سوفييتيا نهائيا». ولتجنب التسبب في شقاق صريح في هذه المرحلة المبكرة من المفاوضات، قدم الوفد الأمريكي إفادات صحفية غير مصحوبة بأسماء كي يعلن عن موقفه. ومن ثم، أفادت صحيفة «ذا نيويورك تايمز» بأنه وفقا لما صرح به مصدر موثوق فإن الولايات المتحدة لم يكن بوسعها أن تقبل خطة جروميكو، على الأقل في غياب الضمانات التي اقترحها باروخ؛ لأن هذا يعني تخلي الولايات المتحدة عن مصدر قوتها العسكرية.
في البداية، وافقت لجنة الأمم المتحدة للطاقة الذرية على أن توقف عملها وتتحول إلى لجنة جامعة عاملة؛ وذلك لكي تصيغ خطة تضم كل الأفكار التي اقترحت من أجل هيئة السيطرة الدولية. وقد أعادت كل من واشنطن - التي لاحظت مستوى الدعم الذي حظي به مقترحها - وموسكو التأكيد على موقفيهما السابقين. وبعد قدر من التأخير من جانب جروميكو بسبب الاسم، تشكلت مجموعة أصغر - سميت «اللجنة الفرعية الأولى» - لصياغة الملامح الممكنة التي قد تملكها خطة السيطرة، وكانت الدول الأعضاء بهذه اللجنة هي: فرنسا، والمكسيك، وبريطانيا، والولايات المتحدة، والاتحاد السوفييتي.
اجتمعت اللجنة الفرعية الأولى في الأول من يوليو، بعد يوم واحد من تجربة الولايات المتحدة قنبلة ذرية في جزيرة بيكيني، وهو ما رآه البعض دليلا على أن الولايات المتحدة ليس لديها أي نية للتخلي عن احتكارها للقنبلة. وقد منح استمرار التجارب الذرية الأمريكية للسوفييت نصرا دعائيا، ناهيك عن أنه أمدهم بالحافز كي يواصلوا مسعاهم الخاص في هذا الصدد. وفي الخامس والعشرين من يوليو أجرت الولايات المتحدة تجربة أخرى. لكن في سبتمبر، أجل ترومان التجربة التالية - المقرر القيام بها في مارس 1947 - وكان احترامه للمفاوضات الجارية أحد الأسباب التي دعته لذلك.
أبرزت المناقشات التي جرت في اللجنة الفرعية الأولى بعضا من الخلافات الرئيسية بين الجانبين. فقد أصر جروميكو في البداية على تجريم الأسلحة الذرية بحكم القانون، ولم يكن مهتما بقدر كبير بنظام السيطرة. ومن جانبهم، طالب الأمريكان بنظام سيطرة ملائم قبل أن يتخلوا عن أسلحتهم. كما أن الموقفين المتعارضين للدولتين بشأن مسألة حق النقض زاد من حدة الشقاق بينهما. ورغم أن هدف الأمريكان من تقديم المذكرة كان الحصول على استجابات أكثر تحديدا من السوفييت، فإن جروميكو تشبث بموقفه.
أدرك رئيس اللجنة الفرعية الأولى، وزير شئون الخارجية الأسترالي هربرت إيفات، الطريق المسدود الذي وصلت إليه المفاوضات ، واقترح على اللجنة بأسرها تشكيل ثلاث لجان فرعية جامعة من أجل تناول القضايا الفنية، مع تنحية المسائل السياسية جانبا؛ وذلك على أمل العثور على أرضية مشتركة. وبموافقة الأغلبية وافقت اللجنة على تشكيل «اللجنة الثانية» و«اللجنة الفنية والعلمية» - وهي اللجنة الوحيدة التي دعم السوفييت تشكيلها - إضافة إلى «لجنة قانونية». وقد جرى العمل الأهم داخل اللجنة الفنية.
اجتمعت اللجنة الثانية أولا، بيد أنها عجزت عن تجاوز الخلافات التي شهدتها اللجنة الفرعية الأولى، وصارت منتدى لرفض جروميكو الصريح لخطة باروخ. وقد صرح جروميكو في الرابع والعشرين من يوليو 1946 قائلا إنه اختصارا «من المستحيل أن يقبل السوفييت المقترحات الأمريكية في صيغتها الحالية على الإطلاق، إجمالا أو تفصيلا.» كما رفض بالمثل الإذعان لفكرة إلغاء حق النقض. وقد شدد جروميكو، مستحضرا عملية تأسيس الأمم المتحدة، على أهمية قضية السيادة القومية في مداولاته. وقد أشار جروميكو إلى أن خطة باروخ تعتبر الطاقة الذرية شأنا ذا أهمية دولية، لا قومية. ومن ثم، فقد نظر إلى هذا المبدأ بوصفه خرقا للفقرة السابعة من البند الثاني من ميثاق الأمم المتحدة؛ والتي تدعو إلى عدم التدخل في الشئون الداخلية للدول الأعضاء.
بدأت اللجنة الفنية والعلمية اجتماعاتها في التاسع عشر من يوليو، وكان الإطار الذي عمل الأعضاء داخله ناجحا نجاحا عظيما. شكلت اللجنة مجموعة غير رسمية من العلماء، ووافقت على أن أعضاء هذه المجموعة لا يمثلون دولهم، بل هم يستكشفون الجوانب الفنية للضمانات بوصفهم أفرادا، وأي نتائج سيتوصلون إليها من شأنها أن تحال إلى اللجنة الرئيسية. وبالإضافة إلى المعلومات الفنية الواردة في تقرير أتشيسون- ليلينثال، قدمت الولايات المتحدة معلومات عامة وأخرى تخص الاستخدام المفيد للطاقة الذرية في أحد عشر أطروحة مختلفة. واستجابة لأمر تكليفها، أكملت اللجنة الفنية تقريرها في الثالث من سبتمبر، وخلصت إلى أنه تعذر عليها أن تجد «أي أساس فيما هو متاح من حقائق علمية يدعم الافتراض بأن السيطرة الفعالة غير ممكنة من الناحية التكنولوجية». لكن ستظل مشكلة أخرى حاضرة على الدوام؛ المشكلة السياسية.
نظرا للتأخير الشديد الذي شهدته أعمال اللجنة، قرر باروخ أن يكتب خطابا إلى ترومان يطلب فيه الموافقة على توصيتين؛ الأولى تقضي بضرورة فرض تصويت داخل لجنة الأمم المتحدة للطاقة الذرية في موعد مبكر، ويفضل قبل يناير 1947، حين تتغير الدول الأعضاء باللجنة، والثانية تقضي بالدعوة للتأهب العسكري في مجال الطاقة الذرية، في حالة الفشل - المرجح - لعمل اللجنة.
جرت زيارة باروخ إلى البيت الأبيض من أجل تسليم خطابه في الثامن عشر من سبتمبر على خلفية من التغطية الصحفية الواسعة لآراء وزير التجارة هنري والاس، الذي كان معارضا لخطة باروخ. وقد ضربت ملاحظات والاس - التي لاقت قبولا واسعا من الجمهور الليبرالي - باروخ في الصميم، وأضرت بصورته العامة على نحو بالغ. قال والاس إن أحد العيوب الأساسية لخطة باروخ كان الإصرار الأمريكي على أن تتخلى جميع الدول الأخرى عن حقها في استكشاف استخدامات الطاقة النووية، وأن تسلم المواد الخام إلى هيئة دولية، بينما لن تتخلى الولايات المتحدة عن أسلحتها إلى أن تتأكد من إرساء نظام كهذا. وكان والاس يرى أن الولايات المتحدة لم تكن لتقبل بمثل هذه الصفقة لو أنها كانت على الطرف الآخر من طاولة المفاوضات.
رأى باروخ أن مثل هذا الشقاق لن يؤدي إلا إلى تقويض أثر التصويت القادم باللجنة. وفي مؤتمر باريس للسلام لوزراء الخارجية، تقدم وزير الخارجية جيمس إف بيرنز بشكوى مماثلة، زاعما أن تصريحات والاس قد فتت في قوة موقفه هناك. ومن ثم هدد كل من باروخ وبيرنز بالاستقالة ما لم يتراجع والاس عن تصريحاته. وفي ضوء هذه الأزمة طلب ترومان من والاس الاستقالة؛ وبالفعل تلقاها منه في العشرين من سبتمبر.
وبينما تواصلت قضية والاس-باروخ في الصحافة، دعا السوفييت أخيرا إلى تصويت على تقرير اللجنة الفنية والعلمية. وقد سعدت المجموعة بالتصويت السوفييتي لصالح التقرير، بيد أنها كانت سعادة قصيرة الأجل؛ إذ صرح المندوب السوفييتي بأن صوته مصحوب بتحفظ مبني على حقيقة أن المعلومات التي بنيت عليها نتائج التقرير كانت معلومات غير كاملة؛ ومن ثم ينبغي اعتبارها معلومات مفترضة ومشروطة. قبلت اللجنة الثانية بشكل رسمي تقرير اللجنة الفنية والعلمية في الثاني من أكتوبر، وبدأت في سماع شهادة عدد من خبراء المجال.
ورغم سير أعمال اللجنة الثانية على نحو سلس، أوضحت بعض الأفعال السوفييتية خلال شهر أكتوبر 1946 بجلاء أن الطرفين كانا مختلفين أشد الاختلاف. في الوقت عينه ضغط باروخ على ترومان من أجل تلقي رد على الخطاب الذي أرسله له في شهر سبتمبر ودعا فيه إلى تصويت مبكر. وحين تلقى باروخ في نوفمبر الإذن بفرض التصويت بنهاية العام، كانت خطة باروخ قد رفضت بالكامل تقريبا، وصارت سمعته عرضة لهجمات شرسة من جانب السوفييت في الأمم المتحدة.
الحرب الباردة تدخل الصورة
في الثالث عشر من نوفمبر، في أول اجتماع عام للجنة الأمم المتحدة المعنية بالطاقة الذرية، كانت نتيجة التصويت على ضرورة تسليم اللجنة نتائجها وتوصياتها إلى مجلس الأمن قبل الحادي والثلاثين من ديسمبر 1946 موافقة عشر دول مقابل امتناع دولتين (الاتحاد السوفييتي وبولندا) عن التصويت. ورغم تحركات السوفييت الهادفة للتأخير، اقترب باروخ من هدفه المتمثل في عمل تصويت مبكر على خطته. وفي الخامس من ديسمبر اقترح باروخ - الذي تعزز موقفه بفضل الدعم الذي تلقاه من البيت الأبيض - أن يتم تبني الخطة التي تحمل اسمه كتوصية إلى مجلس الأمن، بيد أنه لم يصر على التصويت في ذلك اليوم. وفي العشرين من ديسمبر رفضت لجنة الأمم المتحدة للطاقة الذرية مقترحا سوفييتيا بتأجيل التصويت لمدة أسبوع، فيما اقترح الوفد البولندي إحالة خطة باروخ إلى اللجنة السياسية والاجتماعية التابعة للجمعية العامة للأمم المتحدة. عند هذه النقطة، رفض جروميكو الاستمرار في المشاركة، واستمر على هذا الموقف حتى نهاية العام.
بعدها بعدة أيام، وفي السادس والعشرين من ديسمبر، أقرت اللجنة الثانية تقريرها عن الضمانات، ورفعته إلى اللجنة العاملة، التي ناقشت في اليوم التالي خطة باروخ فقرة بفقرة. كانت هناك نقطة خلاف وحيدة: حق النقض. وافقت المجموعة على نقل الأمر إلى لجنة الأمم المتحدة للطاقة الذرية الكاملة مع رسالة إحالة تشرح الخلاف المتبقي، وملحوظة تفيد بعدم مشاركة السوفييت. وفي الاجتماع الأخير للجنة الأمم المتحدة للطاقة الذرية، والذي جرى في الثلاثين من ديسمبر، وافقت المجموعة على مقترح باروخ الخاص بتبني تقرير اللجنة العاملة وتقديمه إلى مجلس الأمن اليوم التالي. كانت الموافقة بالأغلبية، لكن دون موافقة السوفييت، وهو ما أفضى إلى ما سماه سيناتور كونيتيكت المستقبلي جوزيف آي ليبرمان، «نصرا زائفا» للولايات المتحدة.
استقال باروخ، كما كان متفقا عليه - بعيد التصويت - تاركا مكانه لمندوب الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، وارن أوستن، وهو ما يفترض به تقوية المركز الأمريكي من خلال الجمع بين منصبي المفاوض والمندوب في شخص واحد. ناقش مجلس الأمن التقرير دون نجاح كبير حتى مارس 1947، حين أصدر قرارا بإحالة المناقشات مرة ثانية إلى لجنة الأمم المتحدة للطاقة الذرية. قدمت لجنة الأمم المتحدة للطاقة الذرية تقريرها الثاني في سبتمبر، وتضمنت المداولات اثني عشر تعديلا سوفييتيا على التقرير الأول للجنة، رفضت جميعها. لم يناقش مجلس الأمن التقرير الثاني للجنة، واستمرت اللجنة في عملها خلال ربيع عام 1948. خلص التقرير الثالث للجنة إلى أن المجموعة وصلت إلى طريق مسدود، وطلب من مجلس الأمن تعليق المداولات. وفي صيف عام 1948 استخدم السوفييت حق النقض ضد قرار بمجلس الأمن يقضي بالموافقة على كل تقارير لجنة الأمم المتحدة للطاقة الذرية، بينما وافق قرار غير ملزم صادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة على الخطة التي أقرتها الأغلبية، على أمل أن تجد لجنة الأمم المتحدة للطاقة الذرية يوما ما سبيلا لوضع الأسلحة النووية تحت السيطرة. لكن الأمل تبدد على ما يبدو في نوفمبر 1949 حين وافقت الجمعية العامة على تعليق أعمال لجنة الأمم المتحدة للطاقة الذرية.
حين قدم برنارد باروخ مقترح الولايات المتحدة المبدئي للتعامل مع الأسلحة الذرية مع بدء عمل لجنة الأمم المتحدة المعنية بالطاقة الذرية في يونيو 1946، فتح الباب أمام مئات - إن لم يكن آلاف - المناقشات ثنائية الأطراف ومتعددة الأطراف بشأن إجراءات السيطرة على التسلح على مدار العقود الستة التالية. كانت خطة باروخ تهدف إلى إنشاء «هيئة دولية للتطوير الذري»؛ من أجل السيطرة على جميع الأنشطة المرتبطة بالطاقة الذرية، بداية من المواد الخام إلى التطبيقات العسكرية، والتفتيش على جميع الاستخدامات الأخرى. وقد عارض المندوب السوفييتي، ومندوبو دول أخرى، المقترح الأمريكي؛ نظرا لأن الولايات المتحدة لم تتخل عن ترسانتها النووية، في الوقت الذي تنتظر فيه من الدول الأخرى أن تتخلى عن تطوير ترساناتها. ولم يكونوا مخطئين تماما. فقد أكد باروخ في ديسمبر 1946 على أن «أمريكا تستطيع الحصول على ما تريد لو أنها أصرت على ذلك، ففي نهاية المطاف نحن من نملك القنبلة الذرية وليسوا هم، وسيستمر الوضع كذلك لفترة طويلة قادمة.» بيد أنه كان مخطئا في كلتا النقطتين؛ إذ رفض السوفييت خطته، وسرعان ما أنتجوا قنابلهم الذرية (انظر الفصل الرابع).
لخص المؤرخ بارتون بيرنشتاين الموقف بقوله: «لم تكن الولايات المتحدة ولا الاتحاد السوفييتي مستعدين في عام 1945 أو عام 1946 لتقبل المخاطر التي يطلبها الطرف الآخر من أجل الوصول لاتفاق. وبهذا المعنى، كان الطريق المسدود الذي وصلت إليه مناقشات موضوع الطاقة الذرية رمزا لانعدام الثقة المتبادل الذي شاب العلاقات السوفييتية الأمريكية.» وقد لعب إصرار واشنطن المتواصل - بداية بخطة باروخ - على فرض أنظمة التفتيش التدخلي من أجل التحقق من الالتزام بالمعاهدات - والذي رآه الاتحاد السوفييتي تجسسا واضحا - دورا بارزا في جعل المساعي المستقبلية للسيطرة على التسلح تصل إلى طريق مسدود. وليس لنا أن نندهش لو سار الأمر على نحو مختلف في «صراع من أجل روح البشرية ذاتها» حسب الكلمات التي تحدث بها الرئيس السابق جورج دبليو بوش بعد ذلك بسنوات عدة في سياق مختلف وإن كان ذا صلة.
الفصل الرابع
سباق تطوير القنبلة الهيدروجينية
ظهيرة الثالث والعشرين من سبتمبر 1949، وقف رئيس الوزراء البريطاني كليمنت آتلي على درجات مقر الإقامة الرسمي في 10 شارع داوننج، وقرأ بيانا مختصرا جاء فيه: «إن حكومة جلالته تملك أدلة على أنه في غضون الأسابيع القليلة الماضية وقع تفجير ذري في الاتحاد السوفييتي.» وباستثناء الدعوة لمزيد من التعاون نحو السيطرة الدولية على الأسلحة الذرية لم يقدم البيان أي معلومات أخرى. لم يحدد البيان وقت وقوع التفجير ومكانه أو كيفية رصده، رغم أنه اتضح لاحقا أن البيان ألقي بعد مرور قرابة الشهر على التفجير الفعلي - وهو تفجير تجريبي لقنبلة من البلوتونيوم أجري في التاسع والعشرين من أغسطس - الذي تم رصده بعد وقوعه بالفعل بواسطة طائرة تجسس كانت تأخذ عينات من الهواء. لكن لم يكن أي من هذا له أهمية في ذلك الوقت. وحين حاول الصحفيون المتحمسون إثراء القصة وجدوا تكتما مماثلا من جانب المسئولين الحكوميين. كان الاستقبال الجماهيري للخبر فاترا على نحو لافت. وحين استهلت هيئة الإذاعة البريطانية نشرة أخبارها المسائية بهذا الخبر، تحدث التقرير بلهجة محايدة تقليدية. وعلى الجانب الآخر من الأطلسي، أصدر الرئيس هاري ترومان بيانا مماثلا في الوقت عينه تقريبا، ولم يقدم هذا البيان هو الآخر سوى القليل من التفاصيل، بيد أنه عمد إلى تلطيف الاحتجاج السياسي الداخلي من خلال التأكيد على أن حتمية تطوير الاتحاد السوفييتي للقنبلة يوما ما «كانت موضوعة في اعتبارنا طوال الوقت». كانت تبعات الأمر غير واضحة لكن الرسالة كانت كذلك؛ فقد انتهى الاحتكار الذري الأمريكي في وقت مبكر للغاية عما توقعه أكثر المراقبين جدية. بالنسبة للشعب البريطاني، مثل الأمر تذكرة له بأن جزره الصغيرة كثيفة السكان كانت معرضة على نحو خطير للسلاح الجديد. أما بالنسبة للشعب الأمريكي - المحمي بعاملي الوقت والموقع - فقد كان إحساس الخطر الوشيك أقل إلحاحا على الدوام.
كانت دهشة الجماهير من خبر إتقان الاتحاد السوفييتي للقنبلة الذرية فاترة على نحو لافت. لقد جاء تطوير القنبلة في وقت مبكر عما توقعه الجميع تقريبا، بيد أن هذه القدرة لم تكن في حد ذاتها مصدرا للصدمة. كانت التوقعات بشأن الوقت الذي سيتمكن فيه الاتحاد السوفييتي من دخول العصر الذري متباينة بدرجة كبيرة، وهو ما يعكس ندرة الأدلة الملموسة المتعلقة بالبرنامج الذري السوفييتي. وقد تنبأ أول التقديرات الصادرة عن وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية - وكان تاريخه الحادي والثلاثين من أكتوبر 1946 - أن السوفييت سيكونون قادرين على إنتاج القنبلة «في وقت ما بين عامي 1950 و1953». شددت تقديرات لاحقة تشديدا أكبر على الحد الثاني لهذه الفترة الزمنية. وقبل أن يفجر الاتحاد السوفييتي قنبلته الأولى بخمسة أيام وحسب كانت وكالة الاستخبارات المركزية قد تنبأت بأن «أقرب موعد ممكن» سيكون فيه الاتحاد السوفييتي قادرا على تطوير القنبلة سيكون منتصف عام 1950، وإن كان «الموعد الأكثر ترجيحا» هو منتصف عام 1953. أسهم العديد من صناع السياسات بتخميناتهم بشأن هذا الأمر. فمثلا أخبر السفير الأمريكي في موسكو، والتر بيدل سميث - الذي ترأس لاحقا وكالة الاستخبارات المركزية - جيمس فورستال إبان ذروة حصار برلين في سبتمبر من عام 1948 أن الاتحاد السوفييتي سيحتاج ما لا يقل عن خمسة أعوام كي يطور القنبلة. وقد أخبر فورستال قائلا: «ربما يملكون المعرفة النظرية بشأن هذا الأمر، بيد أنهم لا يملكون القدرات الصناعية المعقدة لترجمة هذه المعرفة المجردة إلى أسلحة فعلية.» أما سير هنري تيزارد - رئيس برنامج الطاقة الذرية البريطاني - فقد رأى أن الموعد المتوقع هو عام 1957 أو 1958. ذهب البعض إلى أن الموعد سيكون متأخرا عن هذا، فيما رأى آخرون أن الاتحاد السوفييتي لن يستطيع التغلب مطلقا على الصعوبات التكنولوجية التي تحف هذه العملية. وحتى أكثر السيناريوهات تشاؤما - والذي تصورته مجموعات داخل القوات الجوية الأمريكية - فقد رأى أن الموعد المرجح هو عام 1952 أو 1953.
حظي الإعلان بتغطية مكثفة في الصحافة العالمية، لكن إجمالا كان رد الفعل الجماهيري هادئا نسبيا. بل إن البعض استغل غياب المعلومات التفصيلية من أجل التشكيك فيما إذا كان التفجير السوفييتي قد وقع من الأساس. لقد رفضت الإعلانات العامة عن القنبلة منح أي معلومات عن الكيفية التي رصد بها التفجير، وهو ما أشعل بدوره المزاعم الآتية من دعاة الانعزال المتشددين بالكونجرس، مثل السيناتور أوين بروستر (العضو الجمهوري بمجلس الشيوخ عن ولاية مين) القائلة بأن الاتحاد السوفييتي - في واقع الأمر - لم يملك قنبلة ذرية. وقد ساعد غياب أي إعلان لاحق من جانب السوفييت على تعزيز موقف هؤلاء المتشككين. ولم يختبر الاتحاد السوفييتي قنبلته الثانية إلا بعد عامين تاليين. ففي الرابع والعشرين من سبتمبر 1951، التقطت منظومة كشف الطاقة الذرية التابعة للقوات الجوية إشارات صوتية شديدة على نحو غير معتاد آتية من داخل الاتحاد السوفييتي، وقد تم لاحقا التأكيد على أنه تفجير ذري آخر.
وقد كشفت عمليات إعادة تقييم القدرات النووية السوفييتية في ضوء هذه الأخبار عن أن المخزون السوفييتي من القنابل الذرية سيرتفع من معدل قنبلتين شهريا إلى إجمالي خمس قنابل أو أكثر شهريا بنهاية عام 1950. ووفق تقديرات الاستخبارات الأمريكية من شأن هذا أن يؤدي إلى نمو الحصيلة التي كان من المرجح أن يمتلكها الاتحاد السوفييتي من القنابل الذرية بحلول منتصف عام 1950 من ما يقدر ب 10 إلى 20 قنبلة إلى نحو 200 قنبلة بحلول منتصف عام 1954. شكل هذا الرقم نوعا من العتبة الحرجة من منظور التخطيط العسكري الأمريكي؛ إذ قرر القائمون على التخطيط العسكري الأمريكي أنه ما إن يملك السوفييت القدرة على إلقاء نحو 200 قنبلة ذرية على أهداف داخل الولايات المتحدة، فسيكونون قادرين على تدمير الكثير من أهم الأهداف الأمريكية؛ وبذا يوجهون ضربات قاصمة للقدرة الحربية الأمريكية.
الاحتكار الذري الأمريكي
تحركت الولايات المتحدة ببطء يثير الدهشة في هذه الأيام الأولى من أجل صياغة سياسة استراتيجية متماسكة تربط التخطيط العسكري بأهداف السياسة الخارجية. لقد تمتعت الولايات المتحدة لما يربو على أربع سنوات بقليل باحتكار ذري. وخلال تلك الفترة، فشلت واشنطن - ومعها حلفاؤها على الجانب الآخر من الأطلسي، وخصوصا بريطانيا العظمى - في صياغة عقيدة متماسكة تجعل القوة الرهيبة للأسلحة الذرية في خدمة السياسة الخارجية الغربية، حتى مع تصاعد الإجماع في الرأي على أن الغرب كان في حرب من نوع جديد مع النظام الشيوعي في الاتحاد السوفييتي. كل ما كان بمقدورهم توجيهه كان نوعا من التهديدات الفارغة نسبيا بشأن موضوعات متفرقة. وقد شكا وزير الدفاع الأمريكي جيمس فورستال من هذا النهج واصفا إياه بأنه «جهد مشتت». وبعد أن جرى على نحو رسمي تبني مفهوم «احتواء» الاتحاد السوفييتي في أواخر نوفمبر 1948، افترض أغلب صناع السياسات بإدارة ترومان - أو بالأحرى أملوا - أن الاحتكار الذري الأمريكي سيردع السوفييت عن خرق السلام مخافة التسبب في حرب شاملة.
بيد أنه لو كانت هذه نية ترومان بالفعل، فيبدو أنها لم تنجح. لقد كان من المفترض أن تكون القنبلة هي «السلاح الرابح»، لكن بحلول عام 1948 كان من الواضح بجلاء أن الغرب لم يكن في طريقه لربح الحرب الباردة أو لمنع موسكو من تحدي المصالح الغربية على نحو متكرر، وبدا أن السوفييت يملكون زمام المبادرة على كل الجبهات ذات الأهمية. وقد كتب المحلل الاستراتيجي الفرنسي ريمون آرون في عام 1954 قائلا إنه «حين يستعرض المرء الفترة الكاملة التي أعقبت قصف هيروشيما، من الصعب مقاومة الانطباع بأن الاحتكار الذري الشهير سبب للولايات المتحدة الخسارة لا المكسب؛ إذ لم يكن لهذا الاحتكار أي فائدة خلال الحرب الباردة.» استمرت الأزمات السياسية في التلاحق: في يوغوسلافيا وإيران واليونان وإيطاليا وفرنسا وألمانيا. وقد ارتكز الجدل بشأن ما إذا كانت القنبلة الذرية ستستخدم أم لا على سؤال أهم؛ وهو ما إذا كان «ممكنا» من الأساس استخدام القنبلة الذرية.
لقد تحول الانتباه الآن إلى بناء قدرة ذرية حقيقية. وقد أدت الضغوط السياسية المطالبة بإعادة القوات المحاربة إلى أرض الوطن علاوة على التحول السلس من اقتصاد الحرب إلى اقتصاد السلم إلى عملية تسريح ضخمة من الجيش الأمريكي في أعقاب الحرب العالمية الثانية. كانت هناك أولويات محلية تسبق عملية الاستعداد لحرب أخرى، وفي الجدل الأزلي بين السلاح والغذاء انتصر الغذاء. وقد رأى أولئك القلقون من التهديد البازغ للاتحاد السوفييتي - مثل جيمس فورستال - أن عملية التسريح تجاوزت الحد المقبول. تغلغل القلق في نفوس المخططين العسكريين الأمريكيين من أن عملية التسريح التي تلت الحرب جعلت الولايات المتحدة قادرة بالكاد على الوفاء بالتزاماتها الحالية، وأنه لو حدث أن أقدم السوفييت على عمل عسكري في مسرح آخر، فلن يكون هناك ما يكفي من القوات الغربية لدرئه. كانت القيود سياسية، وليست اقتصادية أو لوجستية. فعلى النقيض من القوى العظمى الأخرى، خرجت الولايات المتحدة من الحرب العالمية الثانية مرتكزة على أساس اقتصادي متين، ولم تتعرض أراضيها أو نسيجها المجتمعي لضرر. ومن منظور منتقدي حدود الإنفاق الدفاعي المنخفضة التي فرضتها إدارة ترومان كان كل ما يتطلبه الأمر لوقف تدهور الموقف الأمريكي هو الإرادة السياسية لعمل ذلك .
أحد النواتج الجانبية لعملية التسريح التي أعقبت الحرب كان توقف البرنامج الذري الأمريكي بشكل شبه تام. كان الرئيس ترومان حين أعلن قصف هيروشيما بالقنبلة الذرية قد ألمح إلى أن عملية إنتاج القنابل الذرية تسير على قدم وساق؛ إذ قال: «هذه القنابل قيد الإنتاج في صورتها الحالية، كما يتم تطوير أنواع أخرى أشد قوة.» ورغم أن ما قاله ليس خطأ من الناحية الشكلية، فإنه كان مضللا عن عمد. في الواقع، كانت لدى الأمريكيين حفنة قليلة من القنابل في ذلك الوقت وإبان المراحل المبكرة من الحرب الباردة، وهذا كان نتاجا لقرارات سياسية اتخذتها واشنطن وليس بسبب أي قيود لوجستية. فبنهاية عام 1945 كانت الولايات المتحدة قد بنت ست قنابل ذرية، وبنهاية عام 1947 كانت تملك 32 قنبلة فقط، فيما وصل عدد القنابل بنهاية عام 1948 إلى 110 قنابل. وبنهاية عام 1949، حين فجر الاتحاد السوفييتي أولى قنابله الذرية، كانت الولايات المتحدة تملك 235 قنبلة ذرية. ثم نما مخزون القنابل الذرية على نحو أسرع بكثير بعد عام 1950، حين أمر ترومان بتعزيز القوة العسكرية على خلفية الحرب الكورية.
لم يكن بناء المزيد من القنابل الذرية ليحقق الكثير دون تطوير عقيدة نووية وسياسة إشهار قابلتين للتطبيق. وقد كانت أول أزمة من أزمات الحرب الباردة تؤكد على هذا هي أزمة برلين عام 1948، والتي تعد أولى الأزمات النووية الحقيقية التي شهدتها الحرب الباردة. ويزعم أحد المراقبين أنه في ضوء السابقة التي أرستها هذه الأزمة، «من الجلي دون أدنى شك أنها كانت أخطر أزمات الحرب الباردة.» وحين حاصر ستالين برلين في منتصف عام 1948 بدا أن هذا يقدم الدليل الملموس الذي كانت تفتقر إليه حتى ذلك الوقت تحذيرات فورستال وغيره من أن الاتحاد السوفييتي لا يملك مصالح متعارضة مع مصالح الولايات المتحدة وحسب، بل إنه أيضا لن يتورع عن العمل على تحقيق هذه المصالح. ردا على هذا الحصار التزم ترومان التزاما صريحا بالحفاظ على الوجود الغربي في برلين، رغم أنه لم يكن يملك أدنى فكرة عن كيفية تحقيق هذا. وكانت أشهر ردود الفعل على هذا التحدي هو الجسر الجوي إلى برلين، ذلك الجهد البارع الهادف لتوصيل المؤن للمليوني شخص القاطنين بالقطاع الغربي من المدينة جوا. بيد أن ترومان لم ير في الجسر الجوي أكثر من محض وسيلة للمماطلة.
كانت هيئة الأركان المشتركة قد أوضحت بما لا يقبل الشك أنه لم يكن هناك من سبيل للفوز في حرب تقليدية في أوروبا ضد الجيش الأحمر. ورغم أن بعض الخطط الأمريكية الحربية شديدة السرية حاولت استخدام القنابل الذرية، فقد ظلت الكيفية التي يمكن أن يسهم بها هذا السلاح الجديد في الجهد الحربي غير واضحة. وقد أمل المخططون العسكريون أن تكون القنبلة الذرية «مزية متفردة» في الحرب ضد الاتحاد السوفييتي، بينما كانوا يدركون في الوقت عينه أن الطبيعة والبنية الجغرافية للاتحاد السوفييتي لا تسمح إلا بوجود القليل من الأهداف ذات القيمة العالية. كان استهداف مدن مثل موسكو ولينينجراد أمرا ممكنا، بيد أنه كان سيتسبب في مضار كثيرة دون فوائد مماثلة؛ إذ إنه في نظر بلد خسر نحو 27 مليونا من أبنائه في الحرب العالمية الثانية لن تكون للصدمة قيمة كبيرة ومن غير المرجح أن تسهم هذه الخطوة في النصر. لقد بينت الحرب العالمية الثانية قيمة استهداف المنشآت الحربية للعدو بواسطة القوة الجوية الاستراتيجية، لكن كان الاتحاد السوفييتي يختلف اختلافا كبيرا عن اليابان أو ألمانيا. فنظام النقل السوفييتي، الذي وصفه المخططون العسكريون بأنه «أهم التروس في ماكينة الحرب السوفييتية»، كان يمتد عبر مسافات شاسعة دون أن يحوي سوى محاور تجميع قليلة، وقد كان شديد الانتشار بحيث يستحيل أن يمثل هدفا ممكنا للعدد القليل نسبيا من القنابل الذرية الذي كانت تملكه الولايات المتحدة في تلك الفترة. كانت الصناعات العسكرية السوفييتية موزعة بدرجة كبيرة هي الأخرى، ووحدها المصادر البترولية للدولة هي التي مثلت هدفا ممكنا للقصف. ولم ير مجلس الأمن القومي الأمريكي أن الولايات المتحدة تملك القدرة على تنفيذ «ضربة حاسمة» ضد الاتحاد السوفييتي إلا في عام 1956.
استنزفت عملية التسريح التي أعقبت الحرب على نحو خطير الخيارات العملية المتاحة أمام الرئيس لاستغلال الاحتكار الذري ، كما أعاقت السرية الشديدة المحيطة بالمعلومات المرتبطة بالأسلحة الذرية هذه الخيارات بدرجة أكبر؛ فالرئيس نفسه لم يكن قادرا على أن يحصل على إجابة مباشرة حول عدد الأسلحة الموجودة في المخزون الأمريكي وما يمكنها أن تفعله. وفي مواجهة العجز العسكري الواضح الذي كشف عنه غياب أي خيارات جيدة للتعامل مع حصار برلين، عملت هيئة الأركان المشتركة على مراجعة الوضع الدفاعي للولايات المتحدة، بداية بالاستراتيجية النووية. وقد استغل فورستال وهيئة الأركان المشتركة الحصار في مساعيهم الهادفة لمعارضة ميزانيات ترومان الدفاعية الشحيحة، واستغلوا الفرصة للقول بأن الاعتماد على محض تصور للقوة لم يكن بالأمر الكافي، ولا بد أن يكون مدعوما بقدرات عسكرية ملموسة. وفي ذروة حصار برلين، خول فورستال - وقد أحبطه تردد ترومان في حسم مسألة «ما إذا كانت القنبلة الذرية ستستخدم في الحرب أم لا» - من تلقاء نفسه هيئة الأركان المشتركة بأن تبني تخطيطها للحرب على الافتراض بأن السلاح النووي سيستخدم بالفعل.
علاوة على ذلك، أظهر الحصار عدم كفاءة الاستراتيجية النووية الأمريكية حين أجبرت واشنطن على ارتجال نوع من الردع الذري عن طريق إرسال القاذفات «الذرية» من طراز «بي-29» إلى بريطانيا وألمانيا. وكان كل ذلك محض خداع.
قليلون فقط هم من فكروا في الكيفية التي ستشن بها حرب ذرية. وقد اقترح ونستون تشرشل توجيه إنذار للسوفييت يهدد بأنه ما لم تتراجع القوات السوفييتية عن حصار برلين، وتنسحب من ألمانيا الشرقية، وتتراجع حتى الحدود البولندية؛ فإن القاذفات الذرية الأمريكية ستمحو المدن السوفييتية من الوجود. وقد اتخذ قائد القوات الأمريكية في ألمانيا، الجنرال لوشيوس دي كلاي، موقفا مشابها وأخبر فورستال أنه «لن يتردد في استخدام القنبلة الذرية وسيضرب موسكو ولينينجراد أولا.» كما كان وزير الخارجية البريطاني إرنست بيفن متحمسا هو الآخر كي يري موسكو «أننا جادون فيما نقول».
رغم إغراء الهجوم على موسكو، كانت واشنطن تخطو في تمهل. فعلى حد تعبير السياسة الحكومية البريطانية الرسمية، بدا من المشكوك فيه أن يضيف الغرب «لدغة العقرب» إلى تلك التهديدات النووية، وهو ما أقر به واضعو السياسات الأمريكان في هدوء. إن محض إقدام ستالين على حصار برلين في خطوة استفزازية في المقام الأول، رغم الاحتكار الذري الأمريكي، كان في حد ذاته دليلا واضحا على أن الردع لا بد وأن يكون ظاهرا جليا، وأن وجود الأسلحة الذرية في حد ذاته ليس بالأمر الكافي. علاوة على ذلك، خشي الكثيرون من أن تكون الولايات المتحدة قد قطعت على نفسها التزامات تفوق قدراتها العسكرية.
القنبلة السوفييتية
أظهر ستالين عدم اكتراثه بالتأثير الرادع للقنبلة. وقد كان هذا نذيرا بالفجوة الواسعة بين الفهم السوفييتي والفهم الأمريكي لمفهوم الردع النووي، وهي الفجوة التي ترسخت في العقود التالية، وكما صرح ستالين في تعليقات نشرتها صحيفة «برافدا» في سبتمبر 1946 فإن «القنبلة الذرية مقصود منها إخافة ذوي الأعصاب الضعيفة، لكنها تعجز عن تحديد مصير الحرب.» عوضا عن ذلك عبر عن إيمانه الراسخ بأن ما أسماه العوامل الدائمة من شأنها أن تضمن تفوق الاتحاد السوفييتي في أي حرب مستقبلية، كما حدث في الحرب الماضية.
كان عدم الاكتراث المحسوب من جانب ستالين مناورة استراتيجية. لقد كان أمرا ملائما من الناحيتين السياسية والدبلوماسية، بيد أنه كان يخفي الحقيقة عن عمد. فخلف هذا المظهر العام الزائف، كشفت تعليقات ستالين الخاصة وتوجيهاته عن فهم أدق للتأثير المحتمل للقنبلة الذرية على العلاقات الدولية. كان علماؤه أنفسهم قد حذروه في مايو 1942 من أن البريطانيين والأمريكيين ربما يعملون على نحو مشترك من أجل بناء القنبلة الذرية - بل إنه في واقع الأمر علم بشأن مشروع مانهاتن قبل أن يعلم به هاري ترومان نفسه - لكن استيعابه لمعنى ذلك السلاح الجديد كان بطيئا. فقد كان متشككا في البداية في أن مثل هذا السلاح قد يكون مهما، وحين أعلمه مدير الاستخبارات بأن بعض التقارير تفيد بأن البريطانيين والأمريكيين يتعاونون من أجل بناء القنبلة الذرية، عبر ستالين عن شكوكه من كون هذا جزءا من برنامج تضليل متعمد. لكن ما إن اقتنع ستالين بالأمر - وهو ما جرى على سبيل المفارقة عن طريق الغياب المريب للمعلومات العلمية من الدوريات، وذلك في إطار الجهود الحكومية الأنجلو أمريكية لحجب المعلومات عن الألمان، لا عن طريق أي تأكيد إيجابي - حتى أدرك أهمية القنبلة. ويزعم بافل سودوبلاتوف - وهو جاسوس سوفييتي سابق - أنه حين اقترح أحد كبار العلماء السوفييت على ستالين في أكتوبر 1942 أن يسأل روزفلت وتشرشل عن البرنامج، رد ستالين قائلا: «ستكون من السذاجة السياسية أن تعتقد أنهما سيطلعانني على معلومات بشأن أسلحة ستهيمن على العالم في المستقبل.» وهو تعليق مثير الاهتمام؛ لأنه يبين شكه الواضح في حلفائه كما يبين إقراره بالقدرة الثورية للقنبلة الذرية.
بدأ السوفييت برنامج القنبلة الذرية عام 1943 خوفا من أن يتوصل الألمان إلى القنبلة أولا، بيد أن الموارد المخصصة لهذا الأمر تفاوتت مع الوقت بسبب وجود العديد من القضايا الأخرى الملحة. على أي حال، كانت تلك مخاطرة ضخمة مكلفة؛ إذ وحدها الولايات المتحدة كانت تملك رفاهية الأمن الإقليمي والموارد الطبيعية وملياري دولار كي تنفقها على البرنامج. ولم تحتل الأسلحة الذرية قمة الأولويات إلا بعد قصف هيروشيما.
قبل هذا الوقت، بدا وكأن ستالين قد بخس قيمة مقدار الدمار الذي يسببه هذا السلاح الجديد، وإن كان هذا قد تغير دون شك بعد القصف الذري المأساوي لليابان. ويتضح الدليل الأكبر على أن ستالين أدرك قدرة القنبلة على قلب موازين السياسة الدولية من أوامره إلى رئيس جهاز الأمن السوفييتي لافرينتي بيريا، وكبير علماء الذرة السوفييت إيجور خرشاتوف بألا يدخرا أي موارد في سبيل تقوية برنامج القنبلة السوفييتي «على المستوى الذي يليق بروسيا». وقد وعد ستالين بمنح علماء الذرة السوفييت حرية غير مسبوقة في عملهم وكل الدعم المادي الذي تستطيع الدولة تقديمه. وقد أخبر علماءه قائلا: «لقد زلزلت هيروشيما العالم بأسره. لقد اختل التوازن. ابنوا القنبلة؛ فسوف يدرأ هذا عنا الخطر العظيم.» وقد كان لهذا القرار تأثيرات واسعة النطاق على تطوير قطاع صناعي عسكري سوفييتي حديث، ومهد فعليا الطريق لخلفائه من أجل امتلاك برنامج نووي ضخم من شأنه أن يوجد تكافؤا استراتيجيا عمليا مع الغرب في غضون عقدين من الزمان.
شكل 4-1: جوليوس وإيثيل روزنبرج وهما يغادران محكمة مدينة نيويورك الاتحادية بعد توجيه الاتهام الرسمي لهما. وقد أدين الزوجان لاحقا بتهمة التجسس وأعدما.
لعب الجواسيس السوفييت دورا مهما. فرغم أن مشروع مانهاتن كرس أغلب موارده الأمنية في سبيل حماية المشروع من التجسس الألماني، استفاد السوفييت من تيار ثابت من المعلومات التفصيلية - بما في ذلك تصميمات أصلية محددة - هربها من البرنامج بعض المتعاطفين والعملاء؛ مثل: كلاوس فوش وديفيد جرينجلاس، وجوليوس وإيثيل روزنبرج (أعدم الأخيران بتهمة الخيانة عام 1953).
وترسم لنا الأرشيفات السوفييتية التي صارت متاحة للعلن في أوائل عقد التسعينيات، إضافة إلى نزع صفة السرية عما يطلق عليه «وثائق فينونا» - وهي ترجمات لنحو ثلاثة آلاف رسالة أرسلت بين موسكو ومحطات الاستخبارات السوفييتية في الولايات المتحدة في عقد الأربعينيات - صورة للعصر الذهبي للتجسس السوفييتي. هذه المعلومات - بدورها - كان يتم توجيهها مباشرة إلى العلماء السوفييت عن طريق منظمة بيريا. وفي ذلك الوقت - بواكير الحرب الباردة - قل من يشكون في أن هذه المعلومات سرعت على نحو مباشر من عمل برنامج القنبلة الذرية السوفييتي.
خلال سنوات حكم ستالين، تجاهلت العقيدة العسكرية السوفييتية بالأساس الأسلحة النووية بوصفها أسلحة هجومية. لكن كانت هناك جهود نشطة للدفاع ضد القاذفات الأمريكية طويلة المدى التي قد تكون مسلحة بقنابل ذرية. ونحو عام 1948 احتلت المنظومات الدفاعية المضادة للطائرات الأولوية القصوى، وذلك في الوقت عينه تقريبا الذي بدأ فيه العلماء السوفييت ووزارة الدفاع السوفييتية في البحث في تكنولوجيا الصواريخ البالستية (القوسية) العابرة للقارات والمنظومات الدفاعية المضادة للصواريخ البالستية.
تغيرت آراء ستالين في القنبلة الذرية تدريجيا. وبجمع هذا التغير مع السرية الشديدة المفروضة من جانب النظام السوفييتي، فإن الجهود الهادفة لتحديد ما إذا كان الزعيم السوفييتي قد شعر بالردع بفعل القنبلة الأمريكية تواجه تعقيدات كبيرة. وقد ذهب فلاديسلاف زوبوك - وهو من كبار الباحثين في السياسة الخارجية السوفييتية - إلى أن تفكير ستالين بشأن القضايا النووية - شأنه شأن أغلب زعماء النادي النووي الآخرين - قد تطور مع الوقت. ويقول زوبوك:
لو أن أحدا قد سأل ستالين بعد قصف هيروشيما عام 1945 ومرة ثانية قرب وفاته في أواخر عام 1952 عما إذا كان يؤمن بأن القنبلة سوف تؤثر على احتمالية نشوب الحرب في المستقبل، فمن المحتمل أن يحصل على إجابتين مختلفتين. ففي عام 1945 كان ستالين سيرد على الأرجح بقوله إن الاحتكار الذري الأمريكي كان يشجع الولايات المتحدة في مسعاها للسيطرة على العالم، وإنه جعل احتمالية نشوب الحرب أمرا أكثر ترجيحا. لكن في بدايات عام 1950، وبعد أول اختبار سوفييتي للقنبلة الذرية، كان ستالين على استعداد أن يقول إن ميزان القوى تحول مجددا إلى صالح قوى الاشتراكية والسلام.
أما تشرشل فقد أصر على أن القنبلة الذرية الأمريكية كانت الحائل الوحيد ضد المد الشيوعي. وقد أخبر جمهوره في ويلز عام 1948 قائلا: «لا شيء يحول بين أوروبا وبين الخضوع التام للطاغية الشيوعي إلا القنبلة الذرية التي يملكها الأمريكيون.» وكان يكثر من ترديد هذه المقولة.
أهي حقا «سنوات الفرصة» الضائعة؟
بالنظر للأمر من منظورنا الحالي، من المثير للدهشة أن القوة الذرية الوحيدة في العالم - الولايات المتحدة - لم تقدم على تحركات أكثر حزما لمنع غيرها من الدول من تطوير القنبلة الذرية. لا يعني هذا أن فكرة الحرب الوقائية لم تخضع للنقاش؛ إذ خضعت بالفعل لنقاش مطول داخل دوائر سرية. وقد ذهب البعض إلى أن الولايات المتحدة قد أضاعت المزية التي كانت تتمتع بها، وأن مصدر القوة العسكرية الأمريكية الأعظم قد أضيع هباء، وهو قرار كان يمكن أن يكون له تبعات كارثية. وقد كتب جيمس فورستال في أواخر عام 1947 يقول إن السنوات المتبقية من عمر الاحتكار - مهما امتد عمر الاحتكار - ستكون هي «سنوات الفرصة». ومنذ وقت مبكر يرجع إلى يناير عام 1946 قال الجنرال ليزلي جروفز - القائد العسكري لمشروع مانهاتن: «إذا كنا واقعيين أشد الواقعية، فلن نسمح لأي قوة خارجية لا تربطنا بها علاقة تحالف وثيق ... بأن تصنع أسلحة ذرية أو تمتلكها. وإذا بدأت دولة كتلك في تصنيع الأسلحة الذرية فسندمر قدرتها على تصنيعها قبل أن تتقدم على نحو كاف بحيث تمثل تهديدا لنا.» ومع هذا، لم تتبن الولايات المتحدة أي استراتيجية للحرب الوقائية، ولم يدعم أكثر المسئولين الحكوميين نفوذا الفكرة.
شاع هاجس السوء بين ظهراني دوائر صناعة السياسات حيال ما يمكن أن يفعله السوفييت لو أنهم امتلكوا القنبلة، وهو ما أدى إلى نطاق واسع من التوصيات. كان الحديث عن الحرب الوقائية مثيرا للجدل، وقد حمل مسحة من الاهتمام وصلت ذروتها في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات، بيد أن هذا الاهتمام سرعان ما خبا وسط الثورة النووية الحرارية للرءوس الحربية الهيدروجينية والصواريخ البالستية بعيدة المدى.
ورغم الفتور الواضح الذي قابل به الجمهور الأمريكي فكرة الحرب الوقائية - إذ أظهرت استطلاعات عدة للرأي في أوائل الخمسينيات أن نسبة المؤيدين للحرب الوقائية ضد السوفييت تتراوح بين 10 إلى 15 بالمائة - فإن فكرة شن حرب على السوفييت قبل أن يتمكن ستالين من بناء ترسانته الذرية الكبيرة تمتعت بدعم عريض على نحو لافت، وإن كان بمنأى عن الدعاية - في الأوساط الرسمية في واشنطن - وكانت موسكو على علم بذلك. وكان هذا في جزء منه أمرا متوقعا.
كانت القوات الجوية ومؤسسة راند منبع فكرة الحرب الوقائية، وظلا مؤيدين لها لفترة طويلة بعد رفضها في الدوائر الأخرى. لكن في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات، حين كانت نافذة الفرصة لا تزال موجودة، جاء دعم الحرب الوقائية من مصادر أقل ترجيحا. فقد نقل عن عالم الذرة الكبير ليو زيلارد دعمه للحرب الوقائية منذ وقت مبكر يعود إلى أكتوبر 1945. كما وجد جورج كينان وزميله المختص بالشأن السوفييتي بوزارة الخارجية تشارلز بولن - وكلاهما من المعتدلين فيما يخص السياسة العسكرية للحرب الباردة - أن منطق الحرب الوقائية له وجاهته.
أدى عدد من الأسباب إلى عدم انتصار ذلك الرأي. بادئ ذا بدء، كان الأمر راجعا إلى طبيعة الشخصية الوطنية؛ فلم تكن الولايات المتحدة معتادة على شن الحروب. فبعد تلقيها الضربة الأولى على صورة هجوم مباغت في بيرل هاربر، وضع صانعو السياسات - والجمهور الأمريكي - السياسة الخارجية الأمريكية موضع إكبار. ورغم أن الولايات المتحدة احتفظت لنفسها بالحق في اتخاذ فعل عسكري وقائي، فإن تنفيذ ذلك على أرض الواقع كان عليه أن يتغلب على قناعات قومية عميقة مفادها أن شن الحروب ليس بالسبيل الأفضل للتصرف على الساحة الدولية.
الأهم من ذلك هو الشك في أن الحرب الوقائية ضد الاتحاد السوفييتي من شأنها أن تحقق نجاحا. لقد وضعت عملية التسريح التي أعقبت الحرب قيودا شديدة على القدرات العسكرية الأمريكية، ولم يكن الحلفاء في أوروبا الغربية في موضع يمكنهم من تقديم أي إسهام عسكري ذي معنى. وسيكون الطريق ممهدا أمام الجيش الأحمر السوفييتي - الذي حافظ ستالين عليه بأعداد ضخمة بوصفه وسيلته الخاصة في «الردع» - حتى القنال الإنجليزي. هذا بدوره أثار سؤالين؛ أولهما: كي تكون الحرب الوقائية فعالة، هل ستحتاج ما هو أكثر من ضربات جوية بالقنابل الذرية؟ والثاني: ألن تكون الولايات المتحدة مضطرة لإرسال قوات أرضية لاحتلال أراض في قلب روسيا؟ كانت الحقيقة الواضحة أن الولايات المتحدة لم تكن قادرة على شن حرب وقائية ضد الاتحاد السوفييتي لمنع القنبلة الشيوعية ولا ميالة لذلك.
قرار القنبلة الهيدروجينية
من الجلي أن موسكو لم تشعر بالترويع بسبب الاحتكار الذري الأمريكي. أما الآن وقد تحطم هذا الاحتكار، بات العديد من المراقبين مقتنعين بأن السوفييت سيصيرون أشد خطورة. وقد أدركت المصادر المطلعة - ومن بينها مجتمع الاستخبارات - أن الاتحاد السوفييتي سيستغرق بعض الوقت حتى يطور مخزونا قابلا للاستخدام من القنابل الذرية؛ إذ كان السوفييت يملكون بحلول عام 1950 نحو 5 قنابل ذرية مقارنة ب 369 قنبلة تملكها الولايات المتحدة. كان أمام الولايات المتحدة طريقان؛ الأول هو استغلال الفرصة والضغط من أجل نزع سلاح الطرفين. كان السوفييت قد عارضوا الجهود المبكرة للسيطرة الدولية على الأسلحة الذرية على أساس أن هذا سيسلبهم الحق في تطوير قدراتهم الذرية بينما ستظل الولايات المتحدة محتفظة بترسانتها. أما الآن وقد صارت القوتان تملكان القنبلة الذرية، فسيكون الأمر في حقيقته عملية تضحية متبادلة. أما الطريق الثاني فكان الانخراط في منافسة وسباق تسلح شاملين. ولعدد من الأسباب - أغلبها نابع من عقلية الحرب الباردة - اختارت الإدارة الأمريكية الطريق الثاني. وكانت تلك نقطة فاصلة.
ومع هذا، استمر الصقور داخل الحكومة الأمريكية في الضغط من أجل تنفيذ أهدافهم. كان جيمس فورستال قد شكا طويلا من أن أسقف الميزانية المنخفضة التي فرضتها إدارة الرئيس ترومان كانت تفرض وجود «استراتيجية في حدها الأدنى، لا استراتيجية ملائمة». وقد كان خلفه، لويس جونسون، ميالا من الناحية الأيديولوجية نحو الانضباط المالي، ولم يكن يميل إلى تحدي توجيهات الميزانية التي يحددها له القائد الأعلى. لكن بسبب سلسلة من إخفاقات الحرب الباردة - وخصوصا الاختبار الذري السوفييتي و«خسارة» الصين لصالح حزب ماو تسي تونج الشيوعي، وكلاهما حدث عام 1949 - أجبرت الضغوط السياسية ترومان في نهاية المطاف على إعادة النظر في الإنفاق الدفاعي والاستراتيجية التي تتماشى معه. وبنهاية هذه العملية، زاد الإنفاق الدفاعي بنسبة 458٪ بنهاية عام 1952 المالي مقارنة بميزانية عام 1951 المالي، وارتفع عدد القوة العاملة في وزارة الدفاع من نحو 2,2 مليون عام 1951 إلى نحو 5 ملايين.
خلال شتاء 1949-1950، استعر نقاش عالي السرية في الدوائر العلمية ودوائر وزارة الدفاع حول إمكانية الاستمرار في جيل جديد من الأسلحة يستغل الطاقة المنطلقة عند اندماج ذرات الهيدروجين، وليس الانشطار الذري كما الحال في القنبلة الذرية. حمل هذا النوع الجديد من القنابل على نحو غير رسمي اسم القنبلة «الخارقة»، في إشارة إلى قدرته الفائقة مقارنة بالقوة التفجيرية للقنبلة الذرية، كما حمل عدة أسماء أخرى مثل القنبلة الهيدروجينية أو القنبلة النووية الحرارية، أو القنبلة النووية وحسب. أجريت الأبحاث الأولية على هذا السلاح داخل مشروع مانهاتن على يد فريق من العلماء بقيادة الفيزيائي إدوارد تيلر. لكن مع انعدام الأمل في تحقيق نجاح فوري وتقلص الميزانيات العسكرية في ظل البيئة الاقتصادية لما بعد الحرب، توقفت الأبحاث. واستنادا إلى بيانات نظرية، تنبأ تيلر بأن القنبلة الهيدروجينية ستفوق في قوتها قنبلة هيروشيما بمئات المرات، وستكون قادرة على تدمير مساحة قدرها مئات من الأميال المربعة، مع انتشار أكبر للإشعاع.
تركز النقاش حول ما إذا كانت هناك حاجة لمثل هذا السلاح، وحول مدى أخلاقية تصنيعه، وحول أثر تطويره على العلاقات مع موسكو. تسبب النقاش في إشاعة جو من المرارة، وفي النهاية أدى إلى انقسام ليس فقط في صفوف صناع السياسات، بل في صفوف علماء الذرة أنفسهم. وفي يناير 1950 استقبل ترومان وفدا برئاسة دين أتشيسون - وزير الخارجية وقتها - مؤيدا لتطوير القنبلة الهيدروجينية. وبعد اجتماع استمر سبع دقائق وحسب، قرر الرئيس الاستمرار في الأبحاث، رغم عدم وجود أدلة ملموسة على أن القنبلة الهيدروجينية من المؤكد أن يتم بناؤها بالفعل، ورغم أن عددا من العلماء زعم أنه يستحيل بناؤها. بل ونادى كثيرون غيرهم، من بينهم جيمس كونانت وجيه روبرت أوبنهايمر - الفيزيائي الذي ترأس فريق لوس ألاموس خلال مشروع مانهاتن - بأن بناء هذه القنبلة أمر غير ضروري. بل إن ألبرت أينشتاين عارض تطوير القنبلة الهيدروجينية علانية قائلا:
إن فكرة تحقيق الأمن عن طريق التسليح القومي هي - في ظل الحالة الراهنة للأساليب العسكرية - وهم مدمر ... وإن سباق التسلح بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي - المفترض به أساسا أن يكون إجراء وقائيا - بات يحمل طبيعة هيستيرية.
وقد أكدت اللجنة الاستشارية التابعة للجنة الطاقة الذرية على أن القنبلة الهيدروجينية الهدف منها أن تستخدم في الإبادة الجماعية، ولا شيء آخر:
من شأن استخدام هذا السلاح أن يتسبب في إزهاق عدد لا يحصى من الأرواح البشرية؛ فهو ليس سلاحا يمكن استخدامه فقط في تدمير المنشآت المادية ذات الأغراض العسكرية أو نصف العسكرية. ومن ثم فإن استخدامه يعزز سياسة إبادة التجمعات السكانية المدنية أكثر بكثير مما تفعل القنبلة الذرية نفسها.
لم يكشف بيان ترومان الذي أفصح من خلاله عن توجيهاته عن الجدال الذي شاب المناقشات عالية السرية التي جرت في الكواليس. ففي بيان هزيل مختصر تضمن الدعوة لمزيد من السيطرة الدولية على الأسلحة الذرية أعلن ترومان أنه:
من مسئولياتي بوصفي القائد الأعلى للقوات المسلحة أن أحرص على أن يكون بلدنا قادرا على الدفاع عن نفسه ضد أي معتد محتمل. ومن ثم، فقد أصدرت توجيهاتي للجنة الطاقة الذرية بأن تواصل عملها على كل أشكال الأسلحة الذرية، بما في ذلك ما يسمى القنبلة الهيدروجينية أو القنبلة الخارقة. وشأن كل الأعمال الأخرى في مجال الأسلحة الذرية، يتم العمل الآن ومستقبلا على أساس يتفق مع الأهداف الشاملة لبرنامج السلم والأمن الخاص بنا.
كان قرارا جللا، يعبد الطريق للثورة النووية الحرارية وسباق التسلح الذي صاحبها.
أملى إحساس الضرورة القصوى التصرف بسرعة. لذا بعد أسابيع قليلة من إعلان ترومان، طلب لويس جونسون - بتشجيع من هيئة الأركان المشتركة - «التنفيذ الفوري لعملية تطوير شاملة للقنابل الهيدروجينية ووسائل إنتاجها وإلقائها». ومع بداية مارس من عام 1950 ارتقى برنامج الأسلحة النووية الحرارية إلى مرتبة «الأمور ذات الأولوية القصوى».
وفي اليوم عينه الذي أمر فيه ترومان بتطوير القنبلة الهيدروجينية، أعطى أيضا تعليماته لكل من أتشيسون ولويس جونسون بتقييم التهديد السوفييتي في ضوء القدرة الذرية السوفييتية الوليدة وتطورات الحرب الباردة الأخيرة. وتحت توجيه بول إتش نيتز، خلف كينان في منصب مدير هيئة تخطيط السياسات بوزارة الخارجية، صاغت مجموعة من مسئولي وزارتي الدفاع والخارجية بيانا شاملا لاستراتيجية للأمن القومي وقدمته إلى الرئيس في أوائل أبريل عام 1950. هذه الوثيقة - التي عرفت باسمها البيروقراطي: تقرير مجلس الأمن القومي رقم 68 «أهداف الولايات المتحدة وبرامجها للأمن القومي» - أثارت المخاوف على نحو متعمد، ودعت إلى حشد ضخم للموارد وإلى استراتيجية أكثر خشونة بما يتماشى معه. وبلهجتها الملحة وتوصياتها السياسية الجافة المتسمة بطابع الصقور، عكست هذه الوثيقة تغيرا في الاتجاه من حيث السياسات المتبعة، لكن جوهرها عبر عن آراء الكثيرين من صناع السياسات بواشنطن، تلك الآراء التي ظلت تختمر لفترة من الوقت.
كان تقرير مجلس الأمن القومي رقم 68 مهتما بالأساس بمشكلة «أسلحة الدمار الشامل» (وهو أول تقرير يستخدم هذا المصطلح في الوثائق الخاصة بالسياسات). وقد قدر التقرير أنه «في غضون السنوات الأربع القادمة سيحوز الاتحاد السوفييتي القدرة على إلحاق ضرر بالغ بمراكز حيوية داخل الولايات المتحدة، شريطة أن يوجه الضربة الأولى، وشريطة أيضا أن لا تواجه الضربة برد أكثر فعالية مما نملك حاليا.» وقد حذر التقرير أنه ما إن يملك الاتحاد السوفييتي «قدرة ذرية كافية لشن هجوم مفاجئ علينا، ودحض تفوقنا الذري، وإنشاء موقف عسكري في صالحه على نحو حاسم، قد يقع الكرملين فريسة إغراء توجيه ضربة سريعة وبطريقة سرية.» في هذه الظروف ، وفي ضوء أن إجراءات السيطرة الدولية على الطاقة الذرية ليس من المتوقع أن يكون لها وجود يذكر، رأى نيتز ورفاقه أن الولايات المتحدة لا تملك خيارا آخر تقريبا خلا زيادة قدراتها الذرية والنووية الحرارية إن أمكن، وذلك بأسرع ما يمكنها. ينبغي زيادة مخزون الأسلحة الذرية بسرعة، وينبغي الاستمرار في برنامج القنبلة الهيدروجينية بوتيرة أسرع وأسرع.
حذر التقرير أيضا من مخاطر «العدوان التدريجي» الذي بموجبه يستطيع الاتحاد السوفييتي تهديد المصالح الأمريكية دون اللجوء إلى مواجهة عسكرية مباشرة. فمن خلال استغلال عدم استعداد واشنطن لاستخدام أسلحتها الذرية ما لم تتعرض لهجوم مباشر، ربما تمثل موسكو تهديدا عسكريا من خلال طرق أخرى أكثر إبهاما، وهو ما قد يصيب سياسة الدفاع الأمريكية بالبلبلة، ويتجاوز التأثير المحدود الذي قد يكون عليه الردع الذري. وحين دخلت قوات كوريا الشمالية كوريا الجنوبية في الخامس والعشرين من يونيو 1950، في ذروة نقاش حام داخل الإدارة الأمريكية بشأن تقرير مجلس الأمن القومي رقم 68، طرحت هذه الخطوة ما كان في جوانب عدة تحديا جديدا؛ إذ لم يكن هذا السيناريو متوقعا من جانب الاستراتيجية الغربية الحالية. وحسب كلمات المحلل الاستراتيجي الفرنسي ريمون آرون فإن «الحرب الكورية علمت زعماء العالم أن هناك من الأشياء في السماوات والأرض أكثر مما هو موجود في النماذج.» وقد طرح التفوق السوفييتي من حيث القوة العسكرية التقليدية - والذي ضم «قدرة انشطارية مرجحة وقدرة نووية حرارية ممكنة» - تحديا خطيرا جاهد المخططون العسكريون في تفسيره. ومن ثم، استحث هذا الأمر عملية إعادة تقييم شاملة لافتراضات الأمن القومي الأمريكي، وبدا أنه يرجح كفة الآراء الداعية لتبني ما ورد في تقرير مجلس الأمن القومي رقم 68.
ما وراء عالم المنطق
كان للقرار على الفور آثار عميقة على عملية تطوير الأسلحة النووية وعلى السياسة النووية. فقد تلقت الترسانة الذرية تعزيزا جديدا، مع انخراط العلم والتكنولوجيا الأمريكيين في إنتاج رءوس ذرية أصغر وأرخص مكنت الجيش الأمريكي من نشر آلاف الأسلحة الذرية التكتيكية على ميدان المعركة. كما تعززت عمليتا البحث والتطوير النوويتان بفعل رغبة كل فرع من فروع القوات المسلحة في المشاركة في العمل. وخلال عقد الخمسينيات حول الجيش تركيزه نحو الصواريخ البالستية الأرضية فوق متوسطة المدى، فيما ركزت البحرية أولا على القاذفات الذرية المنطلقة من حاملات الطائرات، ثم بعد ذلك إلى الغواصات العاملة بالطاقة النووية والمسلحة بالرءوس النووية. لكن قاذفات القيادة الجوية الاستراتيجية ظلت الدعامة الأساسية للقوات الاستراتيجية الأمريكية. والأهم من ذلك أن العمل على مشروع القنبلة الهيدروجينية جرى تسريعه، وفي الحادي والثلاثين من أكتوبر 1952 فجرت الولايات المتحدة أولى قنابلها النووية الحرارية (الهيدروجينية) في المحيط الهادي.
مثل التفجير ذروة جهد استثنائي من جانب إدارة الرئيس ترومان للحفاظ على تفوقها على الاتحاد السوفييتي في المجال النووي، ومثل أيضا نقطة تحول فيما يخص الردع. أما وقد صارت المراحل الافتتاحية للثورة النووية الحرارية واقعا ملموسا، فقد جاهد صانعو السياسات في محاولة لفهم نطاق الدمار الذي ستتسبب فيه تلك التكنولوجيا الجديدة. لقد تنبأ إدوارد تيلر في عام 1947 بأن السلاح الجديد سيكون قادرا على تدمير مساحة قدرها 300 أو 400 ميل مربع، وأن الإشعاع سينتقل لمسافة أبعد من ذلك. ومن منظور الاستراتيجية العسكرية، غير هذا النطاق الإقليمي على نحو جلي من طبيعة السلاح ككل. بيد أنه لم يمر وقت طويل حتى صار مفهوما أن مثل هذا السلاح من شأنه أن يغير طبيعة الحرب والسلام نفسيهما. وكما قال تشرشل: «إن القنبلة الذرية - بكل أهوالها - لم تخرجنا عن نطاق السيطرة البشرية أو الأحداث القابلة للتحكم فيها، سواء من ناحية الفكر أو الفعل، في السلام أو الحرب. لكن ... [في وجود] القنبلة الهيدروجينية، شهد الأساس الكامل للشأن الإنساني ثورة عارمة.»
ورغم أن إدراك هذه الفجوة المعنوية المتعاظمة بين الأسلحة الاستراتيجية والنصر حفز على تركيز حاد للفكر الاستراتيجي استمر لما لا يقل عن العقد ونصف العقد، فإن صناع السياسات الأمريكيين أجبروا على التعامل مع تبعاته على مستوى أكثر إلحاحا. فقد أعلن القائد العسكري المخضرم أيزنهاور أنه في وجود أسلحة نووية حرارية قابلة للاستخدام «لم تعد الحرب تتسم بالمنطق على الإطلاق». وإثباتا لهذه النقطة ، نجح الاتحاد السوفييتي في تفجير أولى قنابله النووية الحرارية بعد أقل من عام، في الثاني عشر من أغسطس عام 1953، وقد كان انفجارا محدودا أقل بنحو 25 مرة من نظيره الأمريكي. وفي نوفمبر 1955 نجح السوفييت في إلقاء قنبلة هيدروجينية جوا، بقدرة تدميرية 1,6 ميجاطن.
انضمت بريطانيا العظمى للنادي النووي في الثالث من أكتوبر 1952، بتفجير ذري ناجح قرب جزر مونت بيلو قبالة ساحل أستراليا، وللنادي النووي الحراري في الخامس عشر من مايو 1957 حين فجرت قنبلة هيدروجينية بقوة تتراوح بين 200 إلى 300 كيلوطن، وذلك في جزر عيد الميلاد في المحيط الهادي. وتحت الإشراف اللصيق لشارل ديجول، بنت فرنسا قوتها النووية وأجرت تفجيرا ذريا في الصحراء الكبرى في الجزائر عام 1960 تبعه آخر نووي في جزر فاناجاتاوفا أتول جنوبي المحيط الهادي عام 1968. كما انضمت الصين - المتوجسة من القوتين العظميين والمترقبة للهند - للنادي النووي عام 1964 والنادي النووي الحراري عام 1967، وذلك بقنبلة ألقيت على موقع لوب نور التجريبي.
وخلال عقد الستينيات صارت إسرائيل - تحت الإشراف المبدئي لفرانسيس بيرين، «الأب الروحي» للقنبلة الذرية الفرنسية الذي شيد منشأة ديمونة للأبحاث النووية - سادس دولة قادرة على إنتاج الأسلحة النووية، رغم إنكار الحكومة الإسرائيلية لذلك. وقد صارت الهند (1974) وباكستان (1998) الدولتين النوويتين السابعة والثامنة، اللتين ركزتا الانتباه على الصراع الحامي بينهما في جنوب آسيا. كما انضمت كوريا الشمالية إلى النادي النووي في أكتوبر عام 2006 (انظر الفصل السابع).
خلال عقد السبعينيات، دشن مجلس الطاقة الذرية بجنوب أفريقيا برنامجا للأسلحة النووية، وباستخدام موارد مفتوحة إلى حد بعيد قام بتخصيب اليورانيوم. وفي أغسطس 1977، اكتشف قمر صناعي سوفييتي موقع التفجير التجريبي التابع لجنوب أفريقيا في صحراء كالاهاري، لكن تحت ضغوط من جانب الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي وفرنسا أرجأت جنوب أفريقيا مؤقتا خططها حتى عام 1982، وبحلول ذلك الوقت كانت قد طورت أولى قنابلها النووية المكتملة. وبعد ذلك - ولأسباب خاصة بها كما يظن - أنهت جنوب أفريقيا برنامجها النووي وفككت منشآتها النووية عام 1989. وبعدها بعامين انضمت إلى معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية (انظر الفصل السابع).
ورغم أن معارضة الطاقة النووية ظهرت بعد وقت قصير من بناء القنبلة الذرية، فإن المعارضة الملموسة للأسلحة النووية لم تظهر إلا في خمسينيات القرن العشرين. وقد تسبب تفجير القنبلة الهيدروجينية في جزيرة بيكيني في مارس 1954 في جعل العالم متيقظا بشكل حاد للغبار الذري المشع للمرة الأولى. فقد انهمر الغبار الذري الناجم عن الانفجار على ساكني جزيرة مارشال وعلى سفينة صيد يابانية لا حول لها تدعى «لاكي دراجون». بعدها بوقت قصير، بدأت مجموعة من ربات المنازل بلندن حملة للضغط على الحكومة الأمريكية من أجل وقف تجاربها النووية، وصارت هذه بداية لحركة حظر التجارب النووية التي وفرت الدعم والأساس لمعاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية بعدها بأربعة عقود. ولاحقا صار اعتراضهن المبدئي يسمى «الحملة القومية لنزع السلاح النووي» التي كان الفيلسوف والرياضي البريطاني برتراند راسل المرشد الروحي لها. فإذا لم يعد للحرب معنى، فما من معنى كذلك للمزيد من تجارب الأسلحة النووية.
الفصل الخامس
الردع النووي والحد من التسلح
حين أعلنت الملكة إليزابيث - في نهاية السبعينيات - أن «القوة التدميرية الرهيبة للسلاح النووي قد حفظت العالم من حرب عظمى على مدار الأعوام الخمسة والثلاثين المنصرمة» كانت تعكس رأيا يعتنقه أغلب رجال الدولة إبان حقبة الحرب الباردة، كما اعتنقه العديد من الأكاديميين بالتبعية. ولاحقا، نظر المؤرخ جون لويس جاديس إلى الحرب الباردة التي امتدت لخمس وأربعين عاما بوصفها «فترة السلام الطويل»؛ نظرا لعدم نشوب صراعات مباشرة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي خلالها. وقد ذهب جاديس إلى أن هذا كان إنجازا غير مسبوق؛ لأنه «قبل تلك الفترة - وخلا استثناءات قليلة - زادت التحسينات في الأسلحة من تكاليف خوض الحروب دون أن تقلل من نزعة خوضها.» بهذا المعنى، إذن، كانت الثورة النووية أشبه بالزلزال العظيم؛ إذ أطلقت سلسلة من موجات الصدمة شقت طريقها تدريجيا في أرجاء النظام السياسي.
لكن لم يتفق جميع المراقبين على هذا الرأي. فقد اقترح البعض أن الأسلحة النووية كانت «لا صلة لها بالأساس» بعملية حفظ السلام؛ لأنه حتى في غياب هذه الأسلحة الجديدة المدمرة كانت أي حرب عالمية جديدة ستصير مكلفة للغاية بما يمنع أي قيادة رشيدة من الانخراط فيها. وقد أقر مسئول وزارة الخارجية السابق ريموند إل جارثوف بأن وجود الأسلحة النووية في أيدي كلتا القوتين العظميين كان له دون شك «تأثير مقيد رادع». وخلص إلى أنه لو أن الأسلحة النووية لم تكن موجودة «فمن المرجح بدرجة كبيرة أنه لم تكن الولايات المتحدة لتهاجم الاتحاد السوفييتي والعكس بالعكس، وكان من المرجح أيضا - وإن كان بدرجة أقل تأكيدا - أنه لم تكن أيهما لترتكب أفعالا حربية من الاستفزاز بدرجة تتسبب في نشوب حرب شاملة بين القوتين العظميين.»
ثمة احتمال ضعيف أن يتفق الجميع مع الافتراض العام القائل بأن القوة المدمرة للأسلحة النووية حافظت على سلام نسبي بين القوتين العظميين. لكن ثمة استدراك مهم ينبغي وضعه هنا. ففي عام 1985 على سبيل المثال، صرح اللورد كارينجتون - الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (الناتو) - برأيه في قيمة الردع قائلا: «لا أظن وحسب أن الردع قد نجح، بل أعلم هذا يقينا. فلم تنشب حرب طيلة أربعين عاما ... و[لا] توجد وسيلة أخرى في وقتنا الحالي لحفظ السلام في العالم.» وقد كان يقصد بعبارة «حفظ السلام في العالم» عدم وقوع أي حرب نووية؛ نظرا لأن الدول غير النووية استمرت في شن الحروب التقليدية بحرية، وإن كانت الدول النووية لم تقدم على الأمر بمثل هذه الحرية.
كانت الحروب التي استخدمت فيها الأسلحة التقليدية أمرا شائعا خلال الحرب الباردة، وكان بإمكان الدول غير النووية أن تخوضها دون قيود تذكر، بينما كانت الدول النووية قادرة على خوض حروب تقليدية، لكنها امتنعت عن محاربة بعضها البعض. وقد كشفت دراسات الحالة التي أجريت على صراعات الحرب الباردة عن وجود قاعدتين راسختين غير مكتوبتين؛ الأولى: أنه لا يحق لدولة نووية أن تستخدم القوة العسكرية ضد دولة نووية أخرى، والثانية: أنه حين تستخدم الدولة النووية القوة العسكرية ضد دولة غير نووية فإنه لا يحق لها استخدام الأسلحة النووية ضدها. علاوة على ذلك، لم يكن امتلاك أسلحة نووية يردع الدول غير النووية عن شن الحروب على دول واقعة تحت حماية الدول النووية، وهو ما شهدت عليه الولايات المتحدة في حربي كوريا وفيتنام.
تطور الردع النووي
لم يصبح خطر الأسلحة النووية، وإدراك هذا الخطر، كافيين لخلق حالة الردع والجمود التي سادت الحرب الباردة إلا مع حلول العقد الثاني من العصر النووي. وقد اختار يوجين روبينوفيتش - محرر مجلة «نشرة علماء الذرة» - العام 1956 تاريخا لمولد «عصر الردع»، وأطلق على هذا العام اسم «العام الأول للردع». كما حدد آخرون العام الأول للردع في الأعوام 1954 أو 1955 أو 1957. وقد اختار قاموس «راندم هاوس دكشناري» (طبعة عام 1987) العام 1955 بوصفه عام ظهور الردع النووي، وعرف الردع بأنه: «توزيع الأسلحة النووية بين الدول بحيث لا تقدم دولة على بدء أي هجوم مخافة الرد الانتقامي.» أيضا عرفت هذه الحالة باسم «توازن الرعب»، وهو المسمى الذي صار شهيرا حين ورد على لسان ونستون تشرشل، بيد أنه كان صارخا لدرجة كبيرة صعبت من استيعاب العامة له، أما مصطلح «الردع» فكان أسهل استيعابا.
مراحل تطوير السلاح النووي
مرحلة الأبحاث والتطوير:
وهذه المرحلة قد تستغرق ما بين عام أو اثنين إلى أكثر من عشرة أعوام، وخلال هذه الفترة تستكشف المفاهيم والأوجه التكنولوجية الأساسية.
مرحلة الهندسة وتطوير التصنيع:
يمكن أن تحتاج مرحلة هندسة العمليات التصنيعية وتطويرها ومنظومة التجميع خمسة أعوام أو أكثر.
الاختبار التطويري:
ويتم هذا عبر مرحلتي الأبحاث والتطوير والهندسة وتطوير التصنيع؛ من أجل التعرف على نقاط القوة والضعف للمنظومة الجديدة، ومن أجل تطبيق هذه التكنولوجيات في بيئة عسكرية.
مرحلة الاختبار التشغيلي:
ويتم هذا الاختبار باستخدام معدات الإنتاج في بيئة تشغيلية واقعية؛ في الليل، أو في طقس سيئ، أو ضد إجراءات مضادة واقعية.
مرحلة الإنتاج:
في البداية يكون الإنتاج بكميات صغيرة ولاحقا - بعد الاختبار التشغيلي الناجح - قد تدخل المنظومة مرحلة «الإنتاج الشامل».
مرحلة النشر:
وهي مرحلة نشر النظام الجديد - بكميات صغيرة أو كبيرة - في الوحدات العسكرية من أجل تطوير الطرق والأساليب والإجراءات الخاصة باستخدام المنظومة الجديدة إذا لم يكن هذا قد جرى بالفعل خلال مرحلة التطوير.
فيليب إي كويل
مجلة «آرمز كنترول توداي»، المجلد 32، العدد 4 (مايو 2002)، صفحة 5
ومع دخول القنابل النووية الحرارية (الهيدروجينية) المشهد واستحداث الصواريخ البالستية طويلة المدى الحاملة للرءوس النووية في أواخر الخمسينيات، اكتسب مفهوم الردع النووي رواجا واسعا. ومع توسع الترسانة النووية في ستينيات القرن العشرين، استخدمت مصطلحات مثل «سياسة الردع» و«استراتيجية الردع» كتعبيرات لطيفة عوضا عن «السياسة النووية» (اختصارا ل «سياسة الأسلحة النووية») و«الاستراتيجية النووية». وتدريجيا ألحق المنظرون الاستراتيجيون نعوتا؛ مثل: «الموثوق به»، و«الفعال»، و«المستقر»، و«المتبادل» بمفهوم التوازن النووي أو الردع النووي.
قدم هؤلاء المنظرون أيضا تخميناتهم بشأن طرق استخدام الترسانات النووية والتوسع فيها. فمن الممكن أن تحدث «ضربة نووية أولى» حين تعتقد دولة ما أنها تملك من القوة النووية ما يكفي للتغلب على العدو، ومن ثم يتحقق لها النصر. أما مفهوم «الضربة الاستباقية» فهو قريب من هذا المعنى، ويعني شن ضربة نووية حين تتوقع الدولة أن عدوها يعد العدة لشن هجمة نووية. ويشير مصطلح «الضربة الانتقامية» أو «الضربة الثانية» إلى قدرة الدولة على امتصاص ضربة نووية أولى والاحتفاظ بما يكفي من الأسلحة النووية كي توقع ضررا غير مقبول - أو تأمل أنه غير مقبول - بالدولة المعتدية.
إلا أن صناع السياسات والجمهور نادرا ما رأوا مثل هذه الفروق الواضحة بين الاستراتيجيات. وعليه، فقد ظهر مفهوم الردع لا بوصفه استراتيجية عسكرية ولا استراتيجية سياسية، بل جرى تقبله وحسب على أنه أمر واقع. وحين رأت حكومتا الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي أن قوتي دولتيهما العسكريتين قادرتان على امتصاص ضربة نووية أولى مع الحفاظ في الوقت ذاته على قوة تكفي لشن ضربات انتقامية - وهو ما حدث بنهاية عقد الستينيات - صار الردع المتبادل أمرا واقعا، حتى إن لم يكن على صورة سياسة رسمية.
ورغم أن الردع المتبادل تحقق على نحو تدريجي، فإن تصورات القوتين العظميين وسياساتهما شهدت تباينا كبيرا منذ مطلع الحرب الباردة. وقد أوجد نظاماهما السياسيان الاجتماعيان - المبنيان على طموحات سياسية واقتصادية وجيوسياسية وأيديولوجية آخذة في الاختلاف - مخاوف حقيقية بشأن مقاصد كل منهما ونواياه. وقد تحسر ستروب تالبوت في حديثه لمجلة تايم قائلا: «لأكثر من أربعة عقود ظلت السياسة الغربية مبنية على مبالغة مفزعة لما يمكن أن يفعله الاتحاد السوفييتي لو أراد، ومن ثم ما قد يفعله، ومن ثم ما يجب على الغرب أن يكون مستعدا له ردا على ذلك.» وقد أدى هذا إلى افتراضات متشائمة مبالغ فيها للغاية بشأن القدرات السوفييتية. في الوقت ذاته، بدأ تغير مقلق في الحدوث داخل الولايات المتحدة مع تسلل النزعة العسكرية إلى الحياة الأمريكية. وبدأ التشكك حيال السلاح والجيش، ذلك التشكك الذي أرشد المجتمع الأمريكي منذ تأسيسه، في الاختفاء. وصار القادة السياسيون - من الليبراليين والمحافظين على حد سواء - مغرمين بالقوة العسكرية. وقد أقر السفير السوفييتي في واشنطن أناتولي دوبرينين في مذكراته بأن سياسات موسكو إبان الحرب الباردة كانت محكومة على نحو غير عقلاني بالفكر الأيديولوجي، وأدى هذا إلى مواجهة متواصلة. وفي وقت لاحق خلص ميخائيل جورباتشوف إلى أن القوتين العظميين تسمرتا في مكانيهما بفعل الخرافات الأيديولوجية.
هذه التوترات الأيديولوجية والسياسية أدت إلى تبني استراتيجيات مختلفة لتجنب أي صدام نووي. وبالتبعية، تعاملت الولايات المتحدة مع مشكلة منع الحرب بالكامل تقريبا عن طريق القدرات العسكرية. ومن جانبه، تعامل الاتحاد السوفييتي مع مشكلة منع الحرب بالأساس عن طريق الحوافز والمقاصد السياسية. وقد كان للتركيز المختلف للقوتين تأثيرات مهمة على العقيدة والقوات العسكرية لكل منهما.
خلال فترة الحرب الباردة تبنى الرؤساء الأمريكان استراتيجية نووية ثبت في نهاية المطاف أنها كانت متناقضة. على سبيل المثال، كان الرئيس هاري إس ترومان مقتنعا - من ناحية - بأن الأسلحة النووية لعبت دورا رئيسا في الدفاع عن العالم الديمقراطي ضد أعدائه، لكنه من ناحية أخرى كان يخشى أن تؤدي الحرب التي تستخدم فيها الأسلحة النووية إلى دمار الولايات المتحدة والحضارة الحديثة. وفي خطاب الوداع الذي ألقاه في يناير 1953 قال ترومان إن «بدء حرب نووية أمر من غير المتصور أن يفكر فيه أي رجل عاقل.» وقد صرح لاحقا أن «سبب هذا هو أن الحرب النووية تؤثر على المدنيين وتقتلهم بالجملة.» وقد كان الرئيس دوايت دي أيزنهاور يرى أن الحرب باستخدام الأسلحة النووية الحرارية «أمر مستحيل من فرط سخافته». لكن رغم إقرار إدارته والإدارات اللاحقة بأن الحرب النووية «أمر غير متصور»، فإن القادة السياسيين وقادة الجيش الأمريكيين واصلوا سعيهم لبناء الترسانات النووية التي قد تعضد أهدافهم السياسية الأكثر محدودية.
سعت إدارة ترومان إلى ربط فكرة الردع بطريقة لفرض سياسة جديدة للاحتواء كان يقصد من ورائها منع - وفي النهاية تراجع - التوسع المباشر وغير المباشر للهيمنة والنفوذ السوفييتيين. وقد سعت استراتيجية الاحتواء القومية الأساسية للإدارة ليس فقط إلى «وقف أي توسع للقوة السوفييتية»، وإنما أيضا أن يتم هذا «بكل الوسائل خلا الحرب»؛ وذلك من أجل «الحث على تقهقر سيطرة الكرملين ونفوذه ... بغرض إلغاء دافع الكرملين للهيمنة على العالم وإبطاله». وقد أملت واشنطن أن يتسبب احتكارها الذري في التوسع في نظرية الردع (منع أي هجوم نووي على الولايات المتحدة) بحيث تشمل إمكانية «الإجبار» (بمعنى إجبار السوفييت على الانسحاب من أوروبا الشرقية).
لم يكن لتدمير هيروشيما سوى تأثير رادع طفيف على موسكو، إلا أنه حفز الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين على الإصرار على أن تملك روسيا السلاح النووي من أجل الحفاظ على توازن القوى. كما أن ستالين نظر على نحو مختلف إلى التوسع السوفييتي في أوروبا الشرقية؛ إذ رآه بوصفه حاجزا ضد أي طموحات ألمانية مستقبلية، علاوة على أنه ساعد على استعادة الحدود التاريخية لروسيا.
خلال المراحل المبكرة من الحرب الباردة، بذلت بعض الجهود من جانب الولايات المتحدة من أجل تطبيق «الإجبار الذري»؛ وذلك في محاولة لاستدراك الموقف. وقد أكد الرئيس ترومان في مذكراته أن الاحتكار الذري الأمريكي تسبب في الضغط على موسكو حتى انسحبت من شمالي أذربيجان في مارس 1946. بيد أن الوثائق اللاحقة أفادت بأن السوفييت لم يتأثروا بتهديداته.
وفي مناقشات سرية جرت خلال الأزمات التي وقعت بين عامي 1953 و1955 أصر الرئيس الأمريكي دوايت دي أيزنهاور على أن استخدام الأسلحة الذرية «ليس بالأمر المتصور أو المجدي»، وحين ألمح أيزنهاور إلى استعداده لاستخدام القوتين التقليدية والنووية في حل القضايا المترتبة على الهدنة الكورية، وتلك الخاصة بالهند الصينية والجزر الصينية التي يحكمها القوميون الصينيون، فإنه كان مقتنعا بأن موسكو لن تتدخل لمساعدة الصين أو تتسبب في تصعيد موقف إقليمي يخاطر بإشعال مواجهة مع الولايات المتحدة التي تملك قوى نووية أكبر حجما. وفي محاولة من أيزنهاور لإحداث تأثير ملموس، فقد أطلق برنامج «النظرة الجديدة» الذي قلص التمويل الممنوح للجيش والبحرية، وفي الوقت ذاته زاد من الأموال المخصصة للتوسع في القيادة الجوية الاستراتيجية وزيادة الترسانة النووية الأمريكية.
وقد أسهب وزير الخارجية الأمريكي جون فوستر دالاس في مقاله الشهير بمجلة تايم عام 1954 بعنوان «سياسة الجرأة» في وصف جهود الإدارة الأمريكية بشأن «الإجبار الذري». وقد ذهب دالاس إلى أنه يجب دعم الحلفاء الإقليميين بواسطة «قوة انتقامية ضخمة». كما ذهب إلى أن «سبيل ردع العدوان هي أن يكون المجتمع الحر مستعدا للرد بقوة - وقادرا على ذلك - وهذا في الأماكن التي يختارها وبالوسائل التي يختارها.» ليس من الواضح أن تكون مثل هذه التهديدات قد غيرت من سياسات اتخاذ القرار السوفييتية أو الصينية، لكنها بالتأكيد أقضت مضاجع الكثيرين من جمهور السياسة الخارجية الذين أشاروا إلى أن الأنظمة الشيوعية الكبرى ليس لها سوى تأثير محدود في العديد من الصراعات المحلية، مثل الصراع في الهند الصينية.
في وقت لاحق، تسببت تطورات ثلاثة في إثارة قلق الشعب الأمريكي، وشكلت تحديا لسياسات أيزنهاور الدفاعية. ففي الثاني والعشرين من نوفمبر 1955، فاجأ السوفييت الإدارة الأمريكية بتفجير قنبلتهم الهيدروجينية الأولى، وفي أغسطس 1957 اختبر السوفييت صاروخا بالستيا عابرا للقارات، وفي أكتوبر من العام ذاته أذهل السوفييت العالم حين أطلقوا سبوتنك 1، أول قمر صناعي يدور حول الأرض. أقنع القلق الشعبي الرئيس بتشكيل لجنة برئاسة روان جايثر بهدف تقييم مدى ضعف الأمة. وبالفعل صدر تقرير جايثر بعنوان «الردع والبقاء في العصر النووي» في السابع من نوفمبر 1957، وجاء فيه أن السوفييت سيملكون ما يفوق عشرة صواريخ بالستية عاملة عابرة للقارات في غضون العام، بينما ستحتاج الولايات المتحدة ما بين عامين إلى ثلاثة أعوام للحاق بالسوفييت، وهو ما سيخلق «فجوة صواريخ». (وسرعان ما أدرك الرئيس جون إف كينيدي أن السوفييت هم من يواجهون «فجوة صواريخ».)
في يوليو 1958 عرض على الرئيس أيزنهاور سيناريوهان مقلقان: في السيناريو الأول «تمحو» ضربة نووية سوفييتية الحكومة الأمريكية وتدمر اقتصاد الدولة، وفي السيناريو الثاني يدمر السوفييت جميع قواعد القيادة الجوية الاستراتيجية ويلحقون ضررا بالغا بالدولة. سوف يعاني السوفييت جراء الرد الانتقامي الأمريكي أضرارا بالغة تناهز ثلاثة أضعاف الأضرار الأمريكية، بيد أن الولايات المتحدة ستتكبد خسائر فادحة تصل إلى نحو 65 بالمائة من السكان البالغ عددهم نحو 178 مليون نسمة. صدم أيزنهاور من هذين السيناريوهين، وتغيرت آراؤه جذريا - وقد أشار إلى أنه في الحرب الشاملة لا يوجد طرف رابح - ومن ثم أجاز استخدام الأسلحة النووية الحرارية لأغراض الردع وحسب.
الدمار المؤكد المتبادل
في سبتمبر 1967 جرى التخلي رسميا عن سياسة الانتقام واسع النطاق، وحل محلها إقرار وزير الدفاع روبرت ماكنمارا بأن المخزون النووي السوفييتي كان يقترب من نظيره الأمريكي، وهو ما يخلق موقفا من «الدمار المؤكد» (أضاف الناقد دونالد برينان كلمة «المتبادل»). لم تلق فكرة الدمار المتبادل المؤكد قبولا لدى القادة العسكريين الأمريكان الذي كانوا يرون في القوة طريقا لفرض السلام. وقد كتب الجنرال توماس بي باورز عام 1965 أن «أول مبدأ من مبادئ الردع هو الحفاظ على قدرة موثوق بها على تحقيق النصر العسكري تحت أي أحوال أو ظروف.» وقد أكد كيرتس ليماي - وهو جنرال ساخط بالقوات الجوية - على أن «فلسفة الردع التي نتبعها حاليا استنزفت قدراتنا العسكرية.»
ومع هذا، في ضوء تعرض الميزانيات المخصصة له للخطر، طور الجيش الأمريكي صيغة (ثلاثية الجوانب) أمدت كل فرع من فروعه بوظيفة استراتيجية؛ فالقوات الجوية تملك القاذفات الاستراتيجية والصواريخ البالستية ذات الرءوس النووية العابرة للقارات، بينما تملك البحرية الصواريخ البالستية المطلقة من الغواصات، فيما يملك الجيش الصواريخ البالستية فوق متوسطة المدى والمدفعية والألغام النووية، علاوة على المنظومات الدفاعية المضادة للصواريخ. نظريا، قلل الثالوث النووي هذا - على الأقل - من فرص أن يتمكن أي عدو من تدمير جميع القوى النووية التي تملكها الدولة في هجمة أولى، وهو ما يضمن قدرة الولايات المتحدة على توجيه ضربة انتقامية مدمرة.
أساسيات الصواريخ النووية
تصنف الصواريخ النووية وفق المسافة القصوى التي تستطيع أن تقطعها، وهذه المسافة تعتمد على كل من قوة محرك الصاروخ ووزن الرأس الحربي للصاروخ. ولإضافة المزيد من المسافة إلى مدى الصاروخ، تصف الصواريخ فوق بعضها في ترتيب يعرف باسم «المراحل».
هناك أربعة تصنيفات عامة للصواريخ البالستية، وهي:
الصواريخ البالستية قصيرة المدى:
وتقطع أقل من 1000 كيلومتر (620 ميلا تقريبا).
الصواريخ البالستية متوسطة المدى:
وتقطع بين 1000 كيلومتر و3000 كيلومتر (620-1860 ميلا تقريبا).
الصواريخ البالستية فوق متوسطة المدى:
وتقطع بين 3000 كيلومتر و5500 كيلومتر (1860-3410 أميال تقريبا).
الصواريخ البالستية العابرة للقارات:
وتقطع أكثر من 5500 كيلومتر.
يشار إلى الصواريخ البالستية قصيرة المدى ومتوسطة المدى باسم صواريخ مسرح العمليات (الصواريخ التعبوية)، فيما توصف الصواريخ البالستية العابرة للقارات بالصواريخ البالستية الاستراتيجية.
لجميع الصواريخ البالستية ثلاث مراحل طيران (الصواريخ البالستية قصيرة المدى ومتوسطة المدى قد لا تخرج من الغلاف الجوي للأرض، وقد لا ينفصل الرأس الحربي بها عن الصاروخ الأساسي الدافع):
مرحلة الدفع:
وتبدأ مع إطلاق الصاروخ، وتستمر حتى يتوقف محرك الصاروخ عن الاشتعال ودفع الصاروخ بعيدا عن الأرض. اعتمادا على نوع الصاروخ تستمر هذه المرحلة ما بين ثلاث وخمس دقائق. وخلال السواد الأعظم من هذا الوقت يطير الصاروخ بسرعة بطيئة نسبيا، لكنه قرب نهاية هذه المرحلة يمكن أن تصل الصواريخ العابرة للقارات إلى سرعات تزيد عن 24 ألف كيلومتر في الساعة. يظل الصاروخ قطعة واحدة خلال هذه المرحلة.
المرحلة الوسيطة:
وتبدأ بعد أن تنتهي الصواريخ الدافعة من الاشتعال، ويكون الصاروخ الأساسي في مسار بالستي (قوسي) نحو هدفه. هذه هي أطول مراحل رحلة الصاروخ، وتستمر إلى نحو 20 دقيقة في حالة الصواريخ العابرة للقارات. وخلال الجزء الأول من المرحلة الوسيطة لا يزال الصاروخ يعلو متجها نحو نقطة الذروة، لكن خلال الجزء الثاني يهبط الصاروخ نحو الأرض. وخلال هذه المرحلة تنفصل أي رءوس حربية - وكذلك الرءوس الخداعية - عن الصاروخ الناقل.
المرحلة النهائية:
وتبدأ حين يعاود الرأس الحربي دخول الغلاف الجوي للأرض، وتستمر إلى أن يصطدم الرأس بهدفه أو ينفجر. تستغرق هذه المرحلة أقل من دقيقة في حالة الرءوس الحربية الاستراتيجية، والتي يمكن أن تتحرك بسرعات تزيد عن 3200 كيلومتر في الساعة. (مجلة «آرمز كنترول توداي»، 31-34 يوليو/أغسطس 2002)
وقد سعى محللو وزارة الدفاع - بدافع من بغضهم لفكرة التساوي والاكتفاء - إلى العثور على سبيل لتوظيف الأسلحة النووية وكذلك العثور على سبب يدفعهم للتوسع في ترساناتهم. وللحظات قصيرة تدبر هؤلاء عدة أفكار بشأن كيفية شن حرب نووية - كالحرب النووية المحدودة، و«الردع التدريجي»، و«التكافؤ الأساسي»، وإطلاق الأسلحة النووية فور صدور إنذار، والضربات الاستباقية ... إلخ - لكنهم سرعان ما كانوا ينبذون كل فكرة من هذه الأفكار. على سبيل المثال، وجدت مجلة إيكونومست اللندنية أن «الردع التدريجي» له عيبان أساسيان؛ الأول: هو «أن السلاح الرادع قد يفقد بعضا من قدرته على الردع بسبب تغير درجة استخدامه وفقا لمستوى العدوان الواقع.» والثاني: أنه لو استخدم «السلاح الرادع» بطريقة محدودة، فقد لا ينظر إلى ضبط النفس بوصفه ضبطا للنفس.
وبما أن الجيش السوفييتي لم يتلق أي أسلحة نووية حتى عام 1954، ولم يكن يملك منظومات التوصيل الكافية لعدة سنوات تالية، لم تعتمد موسكو على الردع النووي. ومن ثم كان النهج السوفييتي لتجنب الحرب نهجا سياسيا بالأساس. وعلى النقيض من التركيز الأمريكي على الردع بوصفه جوهر استراتيجية الولايات المتحدة وسياستها، فإن القادة السوفييت المتوالين استجابوا للحقبة النووية من خلال تعديل استراتيجياتهم وسياساتهم، بل وحتى أيديولوجياتهم، من أجل منح الأولوية القصوى لمنع الحرب.
في السنوات التالية مباشرة على الحرب العالمية الثانية لم يكن ستالين يعتقد أن الأمريكيين والبريطانيين ينوون الانخراط في فتوحات عسكرية، وآمن بأنه يستطيع من حين لآخر أن يفت في عضد العزم الغربي دون إثارة حرب شاملة. بيد أنه أخطأ في حساباته حين سمح لكوريا الشمالية بالهجوم على جارتها الجنوبية وحين سعى إلى الضغط على الغرب من أجل الانسحاب من برلين. ومع هذا فخلال هذه السنوات السابقة على الحقبة النووية السوفييتية بدت الخطط العسكرية السوفييتية وكأنها خطط دفاعية بالأساس.
وضع خلفاء ستالين الردع ضمن اعتباراتهم منذ منتصف الخمسينيات من الناحية النظرية، ومنذ منتصف الستينيات من ناحية القدرة الحقيقية المؤقتة، وفي أوائل السبعينيات ومنتصفها من ناحية التكافؤ التقريبي. وبعد أن فجر السوفييت قنبلتهم الهيدروجينية الأولى كان رئيس الوزراء السوفييتي جورجي مالينكوف أول زعيم سوفييتي يحذر من أن الحرب النووية ستعني نهاية العالم المتحضر. وقد تعرض مالينكوف للشجب من جانب خصومه السياسيين - مثل نيكيتا خروشوف - لأنه كرر تحذير أيزنهاور، لكن هؤلاء المنتقدين أنفسهم حين خلفوه في سدة الحكم سرعان ما رددوا الرسالة عينها.
في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات عمدت موسكو إلى التلويح بأسلحتها النووية، والمفارقة أنها في ذلك الوقت كانت في أضعف موقف نسبي في هذا الصدد. وبدءا من أزمة السويس عام 1956 وصولا إلى أزمة الصواريخ الكوبية في أكتوبر 1962 حاول خروشوف أن يقلب الضعف السوفييتي إلى قوة رادعة، بل إلى قوة سياسية، عن طريق التضخيم الصارخ المخادع لقدراته النووية. وحين قرر خروشوف نشر الصواريخ البالستية السوفييتية متوسطة المدى وفوق متوسطة المدى، وأسلحة نووية تكتيكية، وقاذفات متوسطة المدى قادرة على حمل رءوس نووية سرا في كوبا - حيث ستكون موجهة من أجل ضرب السواد الأعظم من القارة الأمريكية في غضون دقائق - كان هدفه دعم قوة الردع السوفييتية. وقد اختلف الباحثون منذ ذلك الوقت وإلى اليوم حول ما إذا كان خروشوف ينتوي استخدام قوة الردع هذه على نحو هجومي أم دفاعي. وما إن اكتشفت عملية نشر الصواريخ هذه حتى استجاب الرئيس جون إف كينيدي للتحدي عن طريق فرض حصار بحري على جزيرة كوبا والتهديد بعمل عسكري ما لم تزل الصواريخ والقاذفات. وبعد أسبوع على هذا الموقف المتأزم - وضعت خلاله قوات القيادة الجوية الاستراتيجية في حالة استنفار - وافق الزعيم السوفييتي على إزالة الصواريخ، وبعدها بشهر وافق على إزالة القاذفات. وبعد هذا الفشل الذريع توقفت موسكو عن محاولة تحقيق مكاسب سياسية استنادا على ترسانتها النووية الهامشية. بل إنه حتى أثناء بناء الاتحاد السوفييتي لقوته النووية الحقيقية في الستينيات والسبعينيات، ومع وصوله لنقطة التكافؤ في الثمانينيات - وهو ما عزز قدرته على الردع النووي - فإنه لم يحاول مجددا تعويض التوازن النووي بالقوة، أو حتى بالتهديد باستخدام القوة.
يشير القدر اليسير المعروف عن التخطيط الحربي السوفييتي (والأمريكي) خلال الحرب الباردة إلى سعي القوات المسلحة لفرض هيمنتها في حالة ما إذا فشل الردع. ففي عام 1955 أحدث المارشال بافل روتميستروف تحولا في العقيدة النووية السوفييتية من أجل منع أي هجوم مفاجئ من شل قدرة السوفييت على شن ضربة انتقامية؛ وذلك عن طريق التصديق على شن ضربة استباقية (وجاء هذا التحول بعد خمس سنوات على تبني إدارة ترومان للمفهوم عينه) عند رصد أي هجوم نووي معاد وشيك. وقد شدد روتميستروف - في تلك الحقبة التي كانت الهيمنة فيها للقاذفات - على فكرة أن الضربة الاستباقية ليست بأي حال من الأحوال غطاء لهجوم مفاجئ أو حرب وقائية قائلا: «إن واجب القوات المسلحة السوفييتية هو عدم السماح بأي هجوم مفاجئ من جانب العدو على بلادنا، وفي حالة إقدام العدو على الهجوم فإن واجب قواتنا ليس فقط درء الهجوم بنجاح، بل أيضا أن توجه للعدو ضربات مباغتة متزامنة مع الهجوم أو حتى تسبقه، على أن تكون هذه الضربات ذات قوة طاغية ساحقة.» وفي الستينيات حل محل هذه العقيدة الاستباقية عقيدة أخرى تقضي بإطلاق الصواريخ حال التعرض لهجوم. وفي الثمانينيات جرى تبني عقيدة إطلاق الصواريخ كرد انتقامي على أي هجوم.
وفي واشنطن، استمر النقاش طيلة فترة الحرب الباردة حول ما إذا كان السوفييت مستعدين حقا لتقبل فكرة الردع أم كانوا يطورون الأسلحة والاستراتيجيات من أجل تجاوز الردع «الدفاعي». بيد أن الزعماء السوفييت لم ينظروا إلى الردع الأمريكي بوصفه ردعا حميدا أو دفاعيا (كما كانت تنظر له واشنطن)، وإنما رأوا أن الردع الأمريكي هجومي، وأنه مصدر تهديد وترهيب.
مع استعراضنا لعملية الردع ثمة سؤال يطرح نفسه: ما مقدار الردع الكافي؟ صرح دينيس هالي - السياسي المنتمي لحزب العمال البريطاني ووزير الخارجية بحكومة الظل في أوائل الثمانينيات - بأن 5 بالمائة فقط من الرءوس النووية الموجودة كانت ضرورية في الواقع لردع موسكو، أما نسبة ال 95 بالمائة المتبقية فكان الهدف منها طمأنة العامة. وفي عددها الصادر في مايو 1992 وجهت مجلة «نشرة علماء الذرة» لمجموعة من المتخصصين في الشأن النووي السؤال التالي: ما الذي يجب فعله بالأسلحة النووية؟ وقد أراد جميعهم تخفيض أعداد الأسلحة الموجودة بالترسانات النووية الحالية «تخفيضا كبيرا»، واتفق أغلبهم على أن الدول عليها أن تحافظ على «أقل قدر [مطلوب] من أجل الردع». وقد رأى أغلبهم أن عدد الأسلحة الذي يحبذ الاحتفاظ به يبلغ نحو 100 سلاح فقط. لكن من الواضح أن أغلب الجهد الذي بذلته الدول تحت مسمى ردع عدو مرتقب كان في الحقيقة يهدف إلى طمأنة شعوب هذه الدول وحلفائها.
عام 1996 خلصت «لجنة كانبيرا المعنية بالتخلص من الأسلحة النووية» - وهي لجنة دولية مكونة من أفراد بارزين أقامتها الحكومة الأسترالية - إلى نتيجة مفادها أن «الأسلحة النووية [لا تزال] تمثل تهديدا لا يحتمل للبشر أجمعين وبيئتهم، ومع هذا فعشرات الآلاف من هذه الأسلحة لا تزال موجودة في ترسانات بنيت في وقت ساد فيه عداء عميق على نحو استثنائي. لقد ولى هذا الوقت وانقضى، ومع هذا تتواصل التأكيدات على الحاجة لهذه الأسلحة.» وحتى في عام 2007، بعد أن جرى قدر من التخفيض في الترسانات النووية، ظلت روسيا تمتلك أسلحة نووية تستطيع قوتها التدميرية القضاء على البشرية 29 مرة، فيما تمتلك الولايات المتحدة من الأسلحة ما يكفي للقضاء على البشرية 18 مرة.
إن انتهاء الحرب الباردة على نحو سلمي عوضا عن نشوب حرب نووية إنما جاء نتيجة للحظ السعيد والحصافة المتبادلة. وفي غياب أي جهود جادة لحل الخلافات السياسية بين القوتين العظميين، فإن المفاوضات المستمرة بشأن اتفاقات الحد من التسلح الموجه للاستخدام العسكري - التي ضمت العديد من المشروعات الأخرى المتعلقة بالأسلحة والممارسات بخلاف تلك المذكورة أعلاه - ساعدت على نحو عظيم في إقناع موسكو وواشنطن - رغم الخطاب الاستفزازي المستخدم كثيرا - بالتزام الحرص. لكن هل يمكن لهذا الحظ السعيد والحصافة المتبادلة أن يستمرا في حقبة ما بعد الحرب الباردة.
الاستقرار النووي والحد من التسلح
من المتعارف عليه أن سباقات التسلح جاءت نتيجة تعارض أهداف السياسات الخارجية، وأنها سوف تخبو مع قلة التوترات السياسية الدولية. بيد أن هذه المقولة ذات الأساس التاريخي فقدت الكثير من قيمتها في عقد الستينيات، حين قلبت الصواريخ البالستية العابرة للقارات ذات الرءوس النووية هذه الفرضية رأسا على عقب. فبدلا من أن تدعم القوة العسكرية السياسة الخارجية، باتت إدارة الأسلحة النووية أحد الأهداف الرئيسية للسياسة الخارجية. إن مفاوضات الحد من التسلح التي تلت عام 1945 كثيرا ما كان ينظر لها على أنها مناقشات سرية غير ذات جدوى، بيد أنها في الواقع لعبت دورا مهما، وإن كان كثيرا ما جرى التغاضي عنه. فخلال الحرب الباردة صارت مفاوضات الحد من التسلح القناة الرئيسية للعلاقات السوفييتية الأمريكية، وحتى في أوقات التوتر واصلت هذه المفاوضات طريقها المتعثر بشكل أو بآخر.
حظيت سياسات الحد من التسلح ونزع السلاح خلال الحرب الباردة بدعم كبير لعدة أسباب: منها تحسين أمن الدولة، وتقليل الإنفاق العسكري، والتأثير في الرأي العام الدولي، والفوز بأفضلية سياسية حزبية داخل البلاد. إلا أن السبب الطاغي الذي دفع القوى العظمى للانخراط في مفاوضات ممتدة أدت إلى العديد من الاتفاقات كان ضرورة الحفاظ على بيئة دولية مستقرة إبان الحقبة النووية.
كانت جهود برنارد باروخ غير المكللة بالنجاح التي هدفت إلى التعامل مع الأسلحة النووية مع تدشين لجنة الأمم المتحدة للطاقة الذرية في يونيو 1946 (والتي ناقشناها في الفصل الثالث) بداية لما صار لاحقا مئات - إن لم يكن آلاف - المناقشات ثنائية الأطراف ومتعددة الأطراف بشأن إجراءات الحد من التسلح على امتداد أربعة عقود تالية. إن إصرار واشنطن المتواصل منذ ذلك الوقت على إجراء عمليات التفتيش التدخلي من أجل التحقق من الالتزام بالمعاهدات - وهو ما رأته موسكو بوصفه عملية تجسس رسمية - لعب دورا بارزا في وصول المساعي المستقبلية للحد من التسلح إلى طريق مسدود. وقد ذهب بعض المنتقدين - ولهم مبرراتهم المعقولة في ذلك - إلى أن قضايا التحقق من الالتزام بالمعاهدات احتلت مكانة أكبر مما ينبغي في مفاوضات الحد من التسلح، كما ذهبوا إلى أن مطالب الولايات المتحدة كانت مصممة عن عمد بحيث إما تعيق تقدم هذه المفاوضات أو تحسن فرصها كثيرا في جمع معلومات عامة إذا تم الموافقة عليها.
تحولت أنشطة الحد من التسلح صوب أهداف فنية أكثر محدودية في عقد الخمسينيات، وذلك مع إثارة الغبار الذري المشع المتساقط بفعل التجارب النووية في الغلاف الجوي جهودا عالمية هادفة لوقف هذه التجارب. وقد طلب الرئيس أيزنهاور من الخبراء الفنيين أن يطوروا نظاما للتحقق، وهي خطوة كان لها نتائج غير متوقعة بعيدة المدى؛ نظرا لأن الخبراء عادة ما يعقدون القضايا التي يعملون عليها حتى تصير مستعصية على الحل. وبعد أن طور الخبراء سبلا للتمييز بين الزلازل وبين جميع أنواع التفجيرات النووية التي تتم تحت الأرض تقريبا، واصلوا عملهم سعيا لتقليل نسبة الخطأ المنخفضة بالفعل. وقد صار من المستحيل التفاوض على حظر شامل للتجارب النووية؛ لأن المنتقدين ذهبوا إلى أنه ليس بوسع المرء أن يكون واثقا ثقة تامة من عدم حدوث أي خرق. وفي واقع الأمر تسبب هذا التأكيد المبالغ فيه على التفاصيل الفنية في جعل مسألة التحقق من حظر التجارب أكثر صعوبة على نحو متزايد؛ لأن نظام التحقق الذي طالب به السياسيون الأمريكيون شديدو التركيز على الأنشطة الزلزالية - التي تتسبب فيها التجارب النووية - كان في نظر السوفييت شديد التدخل لدرجة لا يمكن قبولها.
بينما نجح أيزنهاور في الحصول على وقف مؤقت للتجارب النووية وحسب، دخل كينيدي فترته الرئاسية وهو عازم على التفاوض حول حظر شامل للتجارب النووية. وحين ذهب السفير دبليو أفريل هاريمان في يوليو 1963 إلى موسكو لإتمام حظر التجارب النووية - وهو ما جاء كأحد النتائج المترتبة على حل أزمة الصواريخ الكوبية - اصطحب معه مستشاريه العلميين، بيد أنه تعمد إقصاءهم عن فريق التفاوض، مؤكدا أن مفاوضات الحد من التسلح هي بالأساس شأن سياسي. وكما أوضح في وقت لاحق، فإن «دور الخبير أن يوضح كل الصعوبات والمخاطر ... لكن دور الزعماء السياسيين أن يقرروا ما إذا كان من الممكن للمكاسب السياسية والنفسية وغيرها أن توازن هذه المخاطر حال وجودها.» لكن بحلول ذلك الوقت كان من المؤكد أن إتمام معاهدة شاملة كهذه أمر بعيد المنال. فبالإضافة إلى تعذر حصول مثل هذه المعاهدة الشاملة على موافقة مجلس الشيوخ الأمريكي، كثيرا ما كرر خروشوف اعتراضاته على ما تقتضيه هذه المعاهدة من عمليات تفتيش داخل مواقع التجارب النووية؛ إذ لم يكن الاتحاد السوفييتي ليقدم على «فتح أبوابه لجواسيس حلف شمال الأطلسي».
إلا أن خروشوف أشار إلى أنه مستعد لعقد معاهدة محدودة - أو جزئية - لحظر التجارب النووية. وبناء عليه، وبعد عشرة أيام من المفاوضات الشاقة التي تابعها وأشرف عليها الرئيس كينيدي بنفسه، تم التوقيع بالأحرف الأولى على «معاهدة حظر تجارب الأسلحة النووية في الجو وفي الفضاء الخارجي وتحت سطح الماء» - ما يعرف بمعاهدة الحظر الجزئي للتجارب النووية - في موسكو من جانب رئيسي فريقي التفاوض، وذلك في الخامس والعشرين من يوليو 1963.
حين حقق الاتحاد السوفييتي تكافؤا تقريبيا في الأسلحة الاستراتيجية في أواخر الستينيات، دعا صقور الحرب الباردة الأمريكيون واشنطن إلى بذل جهود مكثفة من أجل تحقيق التفوق العسكري. في الوقت ذاته، ذهب مناصرو الحد من التسلح - سواء الموجودون داخل الإدارة الأمريكية أو خارجها - إلى أن القيود التي تم التفاوض عليها بشأن سباق التسلح كان من المرجح أن تؤدي إلى الأمن على المدى الطويل أكثر مما سيكون عليه الحال لو جاهد كل طرف من أجل الحصول على مزية عسكرية مؤقتة. وقد أكد الفيزيائي والدبلوماسي هربرت يورك على ذلك قائلا إن «المشكلة التي طرحتها معضلة الزيادة المطردة في القوة العسكرية والنقصان المطرد في الأمن القومي لكلا الطرفين ليس لها حل فني» بل الأمر بحاجة إلى حل سياسي.
تحدث نيكسون في خطابه الافتتاحي الذي ألقاه عام 1969 عن «عصر جديد من المفاوضات» تسعى فيه الدول كافة - خاصة القوى العظمى - «إلى تقليل عبء التسلح» وفي الوقت ذاته إلى تجديد «هيكل السلام». ورأى نيكسون أن هذا يمكن تحقيقه من خلال برنامج «للتواصل» أو الوفاق. وقد كان هو ومستشار الأمن القومي في إدارته، هنري كيسنجر، مستعدين للمضي إلى أبعد مما مضت إليه الإدارة السابقة في مناقشة الحد من الأسلحة الاستراتيجية وقضايا التجارة مع الاتحاد السوفييتي، لكنهما انتظرا من الكرملين أن يتعامل بالمثل عن طريق المساعدة في حل الصراعات القائمة في أفريقيا والشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا.
وفي نوفمبر 1969 بدأ وفدا القوتين العظميين محادثات ثنائية بشأن الحد من منظومات التسلح الاستراتيجية الدفاعية والهجومية، وتحديدا الصواريخ البالستية العابرة للقارات والصواريخ البالستية المطلقة من الغواصات. استمرت هذه المفاوضات - على نحو متقطع - وأسفرت عن معاهدتين للحد من الأسلحة الاستراتيجية (سولت 1 و2)، واتفاق الحد من الصواريخ النووية فوق متوسطة المدى (وهي المعاهدة الوحيدة التي قللت فعليا من عدد الأسلحة النووية الهجومية خلال الحرب الباردة)، ومحادثات تخفيض الأسلحة الاستراتيجية (ستارت 1) التي اختتمت أخيرا في عام 1991.
تكونت اتفاقات معاهدة سولت 1 التي وقعت في مايو 1972 من «معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية»، التي فرضت على كل طرف الاكتفاء بموقعين فقط، و«اتفاق مؤقت» (1972-1977) بشأن المنظومات الاستراتيجية، واتفاق سياسي على «المبادئ الأساسية». كانت الحدود التي فرضها الاتفاق المؤقت على المنظومات الاستراتيجية في الواقع أعلى مما هو موجود وقتها في كلتا الدولتين، بيد أنه وضع سقفا على النشر المستقبلي لهذه المنظومات. بغرض التغلب على منظومات الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية، كانت الولايات المتحدة قد طورت في العام 1967 الناقلات العائدة ذات الرءوس المتعددة فردية التوجيه، وهذه التقنية كانت تسمح بتحميل رءوس حربية متعددة على صاروخ واحد، بحيث يكون كل رأس منها قادرا على ضرب هدف مختلف. كان بمقدور الوفدين أن يتفقا على وقف برامج الناقلات العائدة ذات الرءوس المتعددة فردية التوجيه خلال مباحثات سولت 1، لكن البنتاجون وبعض المعارضين بالكونجرس حذروا كيسنجر من «العودة باتفاق يحظر الناقلات المتعددة». بعدها بثلاث سنوات، حين نشرت موسكو عددا معتبرا من الناقلات المتعددة الخاصة بها، دفع البنتاجون ثمن إصراره قصير النظر على امتلاك أفضلية وقتية؛ ذلك أن نشر الناقلات المتعددة جعل الضربات الاستباقية أكثر احتمالا لتحقيق نتائج واعدة في مواقف الأزمات؛ لأن الصواريخ البالستية العابرة للقارات المملوكة لكل طرف صارت عرضة للخطر.
وقع الكرملين بالأحرف الأولى على اتفاق «المبادئ الرئيسية للعلاقات»، ورغم أن هذا الاتفاق تعرض للتجاهل من طرف القيادة الأمريكية فإن المسئولين السوفييت اعتبروه «إعلانا سياسيا مهما». وقد كانوا يأملون أن يكون هذا الاتفاق - كما يذكر دوبرينين - أساسا ل «عملية سياسية جديدة من الوفاق في العلاقات»؛ لأنه كان يقر بالعقيدة السوفييتية المعنية بالتعايش السلمي ويعترف ب «مبدأ المساواة بوصفه أساسا لأمن كلا البلدين». آمنت موسكو أن القوتين العظميين يمكنهما التعاون في حل خلافاتهما الأساسية رغم وجود مشكلات «صغيرة» في العالم الثالث، لكن الولايات المتحدة رأت أن الوفاق يعني أن على الاتحاد السوفييتي والصين وكوبا أن يلتزموا بسياسة «كف الأيدي» في العالم الثالث. لكن الفشل في رسم حدود الوفاق وفي الحصول على قبول عام على الفكرة أدى إلى وأد الفكرة. وقد عارض صقور الإدارة الأمريكية بقوة أي محاولات لتحسين العلاقات مع الاتحاد السوفييتي.
اتفق الرئيس الأمريكي جيرالد فورد والزعيم السوفييتي ليونيد بريجينيف «من حيث المبدأ» في فلاديفوستوك في نوفمبر 1974 على أن تقتصر كل دولة على ما مجموعه 2400 من الصواريخ البالستية العابرة للقارات والصواريخ البالستية المطلقة من الغواصات والقاذفات طويلة المدى، على أن يملك 1320 من هذه الصواريخ رءوسا حربية متعددة، لكنهما لم يتما معاهدة سولت 2. ثم في أبريل 1979 - وبعد التعثر في المفاوضات في البداية - وافق الرئيس جيمي كارتر أخيرا على معاهدة سولت 2 البالغ طولها 78 صفحة، والتي اقتربت بشدة مما أطلق عليه مبادئ فلاديفوستوك، لكنها أيضا حدت من الصواريخ الجوالة «جو- أرض»، وشملت قائمة ممتدة من القيود النوعية. بيد أن كارتر فشل في حمل مجلس الشيوخ الأمريكي على التصديق على المعاهدة.
لم يدعم رونالد ريجان قط أي معاهدة للحد من التسلح، وذلك حتى وقت لقائه بالزعيم السوفييتي ميخائيل جورباتشوف. فقد عارض ريجان معاهدة الحظر الجزئي للتجارب النووية المبرمة عام 1963، ومعاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية لعام 1968، ومعاهدة سولت 1 لعام 1972، واتفاقات الحد من الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية، كما أدان معاهدة سولت 2 واصفا إياها بأنها «معيبة على نحو قاتل». علاوة على ذلك، في بواكير فترته الرئاسية الأولى، أوقف ريجان المفاوضات الهادفة للوصول إلى معاهدة حظر شامل للتجارب النووية، وأوقف التزام الولايات المتحدة بمعاهدة سولت 2 في مايو 1986. وعلى النقيض مما يراه المدافعون عن ريجان، كانت تنازلات جورباتشوف ضرورية للغاية من أجل إتمام اتفاقات الحد من التسلح خلال فترتي رئاسة ريجان.
وفي مايو 1982 أعلن ريجان عن خطة تهدف إلى «تقليل مرحلي عملي» للأسلحة الاستراتيجية. لكن رغم تحمس الجماهير لهذا الإعلان فإن المحللين وصفوا خطة ستارت 1 المبدئية بأنها غير قابلة للتفاوض؛ لأنها كانت تفرض على الاتحاد السوفييتي تفكيك أفضل أسلحته الاستراتيجية في الوقت الذي تحتفظ فيه الولايات المتحدة بغالبية صواريخها من طراز «مينيتمان»، وتنشر مائة من الصواريخ التجريبية الجديدة الضخمة، وتنشر صواريخها الجوالة الجديدة، وتحدث أساطيلها من الغواصات والقاذفات. وقد واجهت محاولات تعديل الخطة خلال السنوات الأربع التالية خلافات لا نهاية لها بين الوكالات الحكومية الأمريكية، وهو ما دفع أحد كبار أعضاء مجلس الأمن القومي إلى أن يقول: «حتى لو لم يكن للسوفييت وجود، فربما لا نستطيع إتمام معاهدة ستارت بسبب الخلافات الموجودة في جانبنا.» كما شكا مسئول أمريكي آخر رفيع المستوى من أنه حتى لو «جاء السوفييت إلينا وقالوا لنا: «فقط اكتبوا المعاهدة وسنوقع عليها.» فلن نستطيع إتمامها.»
بينما بدأ الرئيس ريجان الإعداد لحملة إعادة انتخابه في يناير 1984، كان يواجه معضلة مزدوجة الأوجه؛ إذ كان عليه أن يخفف التوتر القائم مع موسكو، ويتفادى انتقادات المعارضين للأسلحة النووية، سواء داخل البلاد أو خارجها، ويهدئ الأعضاء المتشددين داخل مجلس الشيوخ والمتحمسين لعقاب الاتحاد السوفييتي بسبب بعض الخروقات المزعومة لاتفاقات الحد من التسلح. وقد نصح ويليام كاسي - مدير المخابرات المركزية - ريجان بأن تدريبات حلف شمال الأطلسي المسماة «آبل آرتشر» - والتي كانت تحاكي إجراءات الاستجابة النووية - قد أقلقت مسئولي الاستخبارات السوفييتية، الذين ظنوا أنها قد تكون مقدمة لهجوم نووي. وجد ريجان صعوبة في تصديق أن موسكو قد تكون خائفة بحق من هجوم أمريكي، لكن في السادس عشر من يناير تحدث ريجان عن «تقليل خطر الحرب، وخاصة الحرب النووية»، وذلك من خلال الحد من التسلح، بينما أثار الشكوك حول مدى التزام السوفييت بالمعاهدات وحالات الخرق الممكنة للمعاهدات السابقة. وكانت النتيجة أن مناشدة ريجان السلمية للروس، والمتبوعة بكيل اتهامات خرق المعاهدات لهم، أمدته - وهو الحاكم السابق لولاية كاليفورنيا - ببطاقات رابحة في حملة إعادة الانتخاب لعام 1984 كان من العسير على منافسيه الديمقراطيين أن يتغلبوا عليها.
بعد ذلك زعمت مجموعة من التقارير المرفوعة للكونجرس الأمريكي وقوع خروقات عدة من طرف السوفييت (واستجاب السوفييت بقائمتهم التي شملت أمثلة لتهرب الأمريكيين من التزاماتهم)، لكن أغلبها كان يصعب الفصل في مدى صحته. ومع ذلك كانت موسكو مذنبة في خرقين كبيرين؛ أولهما: بشأن موقع غير مكتمل للرادار، وهو ما يعد خرقا لبنود معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية، والثاني: مشروع تجريبي يخص الحرب البيولوجية (لم يكتشف بالأساس إلا بعد انتهاء الحرب الباردة)، وهو ما يعد خرقا لاتفاقية الحرب البيولوجية.
وفي قمة ريكيافيك في أكتوبر 1986، اقترح ريجان التخلص من جميع الصواريخ البالستية في غضون عشر سنوات. وسرعان ما قدم الزعيم السوفييتي ميخائيل جورباتشوف اقتراحا معارضا يقضي بالتخلص من جميع الصواريخ البالستية السوفييتية والأمريكية في غضون عشر سنوات، بالإضافة إلى اقتصار «مبادرة الدفاع الاستراتيجي» - خطة ريجان للدفاع الصاروخي التي أطلق عليها الإعلام اسم «حرب النجوم» (انظر الفصل التالي) - على مرحلة تجريبية لمدة عقد. وحين رفض ريجان القبول بأي تقييد لمشروع حرب النجوم، سحبت هذه المقترحات الجذرية لتخفيض التسلح من على الطاولة، وهو ما جاء على هوى القادة العسكريين الأمريكيين وأعضاء منظمة حلف شمال الأطلسي، وكذلك - دون شك - القادة العسكريين السوفييت.
ومع هذا فقد تحقق تقدم كبير في قمة ريكيافيك، وذلك حين وافق جورباتشوف على المطالب الأمريكية المتعلقة بعمليات التفتيش بالمواقع. في إطار معاهدتي الحظر الجزئي للتجارب النووية وسولت 1، كانت واشنطن قد ارتضت أن تتم عمليات التحقق من خلال وسائل فنية خاصة بها؛ من خلال عمليات الاستطلاع بالأقمار الصناعية، وعمليات المراقبة الإلكترونية، وغيرها من أساليب جمع المعلومات الخاصة بها. لكن بعد قمة ريكيافيك، صار السوفييت هم من يصرون على التفتيش التدخلي، لكن البنتاجون ووكالات الاستخبارات بدأت تراجع نفسها حين أدركت أنها لا تريد السماح للسوفييت بالتجول في المواقع الدفاعية الأمريكية . وقد أقر وزير الدفاع الأمريكي فرانك كارلوتشي قائلا: «لقد اتضح أن التفتيش أكثر تعقيدا مما كنا نخاله. والجانب الآخر من العملة أنه يجب تطبيقه علينا. وكلما فكرنا في الأمر، صار أكثر صعوبة.»
بعيد قمة ريكيافيك، فاجأ جورباتشوف حلف زعماء شمال الأطلسي والولايات المتحدة مجددا بقبوله «الخيار الصفري» الذي اقترحته الولايات المتحدة من أجل عقد اتفاق بشأن الصواريخ فوق متوسطة المدى، والذي استلزم أن يقوم السوفييت بتخفيض غير متكافئ في عدد الصواريخ، بما في ذلك الصواريخ السوفييتية في آسيا. وفي الثامن من ديسمبر 1987 وقع جورباتشوف وريجان معاهدة الحد من الصواريخ فوق متوسطة المدى التي ضمت أول تخفيضات في الصواريخ النووية ونظاما معقدا من التفتيش الأمريكي السوفييتي على المواقع النووية. وبعد انتهاء الحرب الباردة وقع الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب والزعيم الروسي ميخائيل جورباتشوف معاهدة ستارت 1 المعقدة البالغ عدد صفحاتها 750 صفحة، وتم ذلك في العاشر من يوليو 1991. كانت هذه أول اتفاقية دعت إلى تخفيضات ذات وزن في الأسلحة الاستراتيجية؛ إذ اقتضت أن تتخلص كل قوة من القوتين العظميين من نحو 50 بالمائة من الرءوس الحربية النووية المحمولة على صواريخ بالستية. وقد تقرر أن تسري المعاهدة لمدة خمسة عشر عاما على أن يتجدد العمل بها بعد ذلك. كانت تلك لحظة تاريخية في تاريخ الحد من الأسلحة النووية.
الفصل السادس
حرب النجوم
في مستهل الحرب الباردة في أواخر أربعينيات القرن العشرين، آمن المسئولون الأمريكيون بأن محض امتلاك الولايات المتحدة الحصري للقنابل الذرية من شأنه أن يردع الاتحاد السوفييتي عن التوسع داخل أوروبا الغربية أو آسيا. وبعد أن طور السوفييت قنابل ذرية وطائرات قادرة على توصيل هذه القنابل عبر القطب الشمالي في أوائل الخمسينيات؛ سرعت الولايات المتحدة جهودها الرامية لامتلاك صواريخ قادرة على إسقاط أي قاذفات معادية. وقد حث ابتكار الرءوس الحربية النووية الحرارية في أواخر الخمسينيات وتطوير الصواريخ البالستية العابرة للقارات ذات الرءوس النووية في أوائل الستينيات القوتين العظميين على البحث عن منظومات دفاعية صاروخية مضادة للصواريخ البالستية.
وقد وجدت موسكو وواشنطن نفسيهما عالقتين في سباق تسلح هجومي ودفاعي هدد استقرار منظومة الردع النووي التي لا تزال في مهدها. وبينما أخذ مفهوم الردع يترسخ، أثيرت مخاوف أولية بشأن ما إذا كانت أي منظومة دفاع صاروخية مضادة للصواريخ ستقدم بالفعل قدرا كافيا من «الدفاع»، وما إذا كانت فعالية مثل هذه المنظومة ترقى لتكاليفها. وفي النهاية تغلبت السياسة الداخلية الأمريكية - المدفوعة بالمشايعة الحزبية والتهديدات المتعلقة ب «محور الشر» - على المخاوف السابقة بشأن التكاليف والفعالية، وذلك حين أمر الرئيس جورج بوش الابن بنشر منظومة دفاع غير مجربة مضادة للصواريخ عام 2002.
المشاريع الدفاعية الصاروخية الأمريكية الأولية
بدأت البرامج الدفاعية الصاروخية الأمريكية في نوفمبر 1944 حين تعاقد الجيش الأمريكي مع شركة جنرال إلكتريك؛ بهدف دراسة طرق حماية القوات الأمريكية من الصواريخ الألمانية «فاو 2». ولاحقا، شهدت أبحاث جنرال إلكتريك بصدد الدفاعات الصاروخية البالستية دفعة كبيرة بفضل الوثائق الألمانية التي حصلت عليها الولايات المتحدة والعلماء الألمان الذين وصلوا إليها عام 1946. وفي غضون 12 شهرا كانت الولايات المتحدة قد جمعت وأطلقت نحو مائة صاروخ من الصواريخ «فاو 2» بهدف الحصول على بيانات أساسية بشأن مسارات الصواريخ البالستية الهجومية وكيفية دخولها مجددا إلى الغلاف الجوي. وفي النهاية أدت الأبحاث إلى إنتاج الصاروخ «نايك أجاكس» - الصاروخ المضاد للطائرات التابع للجيش - في عام 1953، وإنتاج الصاروخ «نايك هيركليس» بعدها بعام استكمالا لمنظومة الصواريخ المضادة للطائرات.
تسبب تطوران وقعا من جانب الاتحاد السوفييتي في عام 1957 في قض مضاجع الأمريكيين وفي الوقت عينه شكلا تحديا لعلمائهم من أجل تطوير منظومة مضادة للصواريخ. ففي أغسطس اختبر السوفييت صاروخا بالستيا عابرا للقارات، ثم في أكتوبر أذهل السوفييت العالم حين أطلقوا سبوتنك 1؛ أول قمر صناعي يدور حول الأرض. أثار هذان الحدثان التساؤلات بشأن مدى عرضة الولايات المتحدة لهجوم نووي مباغت، وهو الانطباع الذي كان الزعماء السوفييت حريصين على تعزيزه؛ حيث أعلنوا أن صواريخهم كانت قادرة على الوصول إلى أي جزء من أجزاء المعمورة. شكل الرئيس أيزنهاور لجنة عالية المستوى - برئاسة روان جايثر - أوصت من ضمن ما أوصت به بتطوير منظومة دفاعية صاروخية مضادة للصواريخ البالستية من شأنها أن تحمي قواعد الصواريخ التابعة للقيادة الجوية الاستراتيجية.
لعبت اعتبارات السياسة الداخلية والرغبة في بث الاستقرار في البيئة النووية دورا كبيرا في قرارات الأمريكيين والسوفييت حيال الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية في أعقاب الأزمة الكوبية التي وقعت عام 1962. فقد حث أعضاء من الكونجرس - استشعارا منهم للضعف الذي كانت الولايات المتحدة عليه إبان أزمة عام 1962 - الرئيس على النشر الفوري لمنظومات الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية. في الوقت ذاته استغنى السوفييت عن صواريخهم طويلة المدى ذات الوقود السائل - التي كانت تستغرق وقتا وعناية كبيرين للتجهيز من أجل الإطلاق - لصالح الصواريخ البالستية العابرة للقارات العاملة بالوقود الصلب، والتي تتسم بقدر أكبر من الاعتمادية وسرعة الإطلاق. وبحلول عام 1967 كان الاتحاد السوفييتي يملك ما يقدر ب 470 صاروخا بالستيا عابرا للقارات يعمل بالوقود الصلب، فيما كانت الولايات المتحدة تملك 1146 صاروخا من النوع ذاته، وهو ما يشي بأن كلتا القوتين العظميين كانت تملك من الصواريخ أكثر مما يكفي من أجل ردع القوة الأخرى بفاعلية. الاستثناء الوحيد - بالطبع - هو أن يملك أحد الجانبين منظومة دفاعية صاروخية فعالة.
في خطاب الموازنة الذي وجهه في الرابع والعشرين من يناير 1967 إلى الكونجرس، أشار الرئيس ليندون جونسون إلى أن تطوير المنظومة الدفاعية الواعدة المضادة للصواريخ البالستية المعروفة باسم «نايك إكس» سوف يستمر، بيد أن هذه المنظومة ليست جاهزة للنشر بعد. كانت المنظومة «نايك إكس» بالأساس منظومة دفاعية مضادة للصواريخ تابعة للجيش، تربط رادارا متعدد المراحل بصاروخ اعتراضي. لكن بعد ذلك أخبر الجنرال إيرل ويلر - رئيس هيئة الأركان المشتركة - لجنة المخصصات التابعة لمجلس النواب أن الولايات المتحدة يجب أن تنشر على الفور منظومة دفاعية صاروخية خفيفة، لكنه أقر أن هيئة الأركان كانت تفضل نشر منظومة دفاعية صاروخية ثقيلة مضادة للصواريخ البالستية من أجل حماية «أعلى المناطق المأهولة من حيث الكثافة السكانية». وقد أصر ويلر على أن «المنظومة مايك إكس جاهزة للنشر». وقد رغب أمريكيون بارزون آخرون - من ضمنهم لجنة السياسة الدفاعية الحصيفة - أن يتم نشر منظومة دفاعية صاروخية مضادة للصواريخ البالستية واسعة النطاق لمجابهة التحدي الذي أحدثته منظومة «جالوش» السوفييتية الدفاعية المضادة للصواريخ البالستية لاستقرار الردع.
لكن رغم الضغط الكبير تشكك وزير الدفاع الأمريكي روبرت ماكنمارا في مدى فعالية منظومة «نايك إكس»، وخشي من أن تتسبب المنظومات الدفاعية المضادة للصواريخ البالستية في زعزعة الاستقرار، وتعريض التكافؤ النووي الموجود في ذلك الوقت بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي للخطر. وقد حث الرئيس جونسون على المضي في هذا الأمر بتمهل نظرا لوجود بديلين آخرين أقل تكلفة؛ وهما: (1) تحسين القدرات الدفاعية للولايات المتحدة، و(2) التشاور مع السوفييت بشأن إمكانية الحد من الأسلحة الاستراتيجية الدفاعية والهجومية.
في اللقاء القصير الذي انعقد في يونيو 1967 في جلاسبورو بنيوجيرسي بين الرئيس ليندون جونسون والزعيم السوفييتي أليكسي كوسيجين، أكد كوسيجين على أن المنظومات الدفاعية الصاروخية السوفييتية المعتزمة «لا تقتل الناس، وإنما تحميهم». علاوة على ذلك فقد أكد على أن «الدفاع أمر أخلاقي، بينما الهجوم غير أخلاقي». ومن قبيل المفارقة أنه بعد ثلاثة عقود ونصف العقد ذهب كل من جيمس إم ليندساي ومايكل إي أوهانلون إلى أن «سياسة الأمن القومي التي تترك عن عمد الشعب الأمريكي عرضة لأي هجوم رغم قدرة التكنولوجيا على حمايتهم منه إنما هي سياسة غير أخلاقية وغير مقبولة. فترك الأمة من غير دفاع لا يتناقض على نحو صارخ مع المنطق السليم وحسب، وإنما يمكن أن يحجم الدور الأمريكي في العالم.»
آمن مناصرو الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية أنه من دون هذه المنظومات الدفاعية فإن الحكومات المعادية للولايات المتحدة التي تملك صواريخ بالستية ذات رءوس نووية، قد تعتقد أنه بمقدورها تهديد المصالح الأمريكية الممتدة حول العالم؛ ومن ثم تردع واشنطن عن اتخاذ إجراءات لحماية هذه المصالح. أيضا، دون وجود منظومة دفاعية صاروخية ملائمة قد يتشكك حلفاء الولايات المتحدة في مدى استعدادها للوفاء بتعهداتها الأمنية؛ ومن ثم يقل نفوذها العالمي. ولاحقا، ارتفعت المخاوف داخل الولايات المتحدة من أن تتمكن جماعات إرهابية من الحصول على صواريخ بالستية ذات رءوس نووية تستهدف بها مدنا أمريكية.
على النقيض، تشكك معارضو برامج الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية في التكاليف المرتفعة ومدى فعالية المنظومات الدفاعية الصاروخية الأمريكية المضادة للصواريخ البالستية. كما أبدوا قلقهم أيضا بشأن ما ستتسبب فيه مثل هذه المنظومات المضادة للصواريخ من عدم استقرار للعلاقات مع الحلفاء والخصوم على السواء. هل ستخشى الدول المعادية من أن الولايات المتحدة - حال آمنت واشنطن أن الولايات المتحدة منيعة على أي رد انتقامي - قد تتباهى بترسانتها النووية كوسيلة للضغط عليها من أجل الإذعان لرغبات واشنطن وإلا سيتعين عليها مواجهة عواقب وخيمة؟ هل ستجعل المنظومات الدفاعية الصاروخية الأمريكية أي دولة معادية مجبرة على أن تضرب الضربة الأولى - في بداية أي أزمة - بكل قوتها؟ هل هذه المنظومات - في واقع الأمر - ستعيق الجهود الرامية للحد من الأسلحة الاستراتيجية؟ هل ستتمثل الخطوة التالية في وضع الأسلحة النووية في الفضاء؟ هل ستتسبب المنظومات الدفاعية الصاروخية الأمريكية في بدء سباق التسلح بالأسلحة النووية الاستراتيجية مجددا؟
وبهذا ذهب معارضو برامج الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية إلى أنه لو تسببت منظومة دفاعية صاروخية تغطي البلاد بأسرها في جعل العدو يفكر في شن ضربة أولى، أو في الحث على سباق تسلح في الفضاء الخارجي، أو في انتشار الصواريخ البالستية وأسلحة الدمار الشامل، فسيقل كثيرا مقدار ما يتمتع به الأمريكيون من أمن. وقد حث هؤلاء على نحو متكرر على عدم التضحية بأنشطة الحد من الأسلحة الاستراتيجية لصالح البحث المكلف المشكوك في جدواه عن حلول تكنولوجية، أو تبديد هذه الجهود في مغامرات أحادية الجانب.
المشاريع الدفاعية الصاروخية السوفييتية
حفز الاحتكار الأمريكي للقنابل النووية في أواخر الأربعينيات - وامتلاك الولايات المتحدة للقاذفات القادرة على توصيل هذه القنابل - الاتحاد السوفييتي على التركيز على المنظومات الدفاعية. وفي عام 1947 بدأ السوفييت في تجريب صواريخ مضادة للطائرات مبنية على نماذج الصواريخ الألمانية المستخدمة في الحرب العالمية الثانية. وفي النهاية - في الخامس والعشرين من مايو 1953 - نجح الصاروخ السوفييتي «في 300» ومنظومة التوجيه الراداري في إسقاط قاذفة من طراز «تي يو 4» بدون طيار. وبعدها بستة أشهر بدأ تشييد منظومة دفاعية صاروخية مضادة للطائرات (تحت اسم «إس 5») حول موسكو من أجل حماية المدينة مما يصل إلى ألف قاذفة هجومية، وفي 1956 هيئت الحلقة الدفاعية لتلقي أول المنظومات السوفييتية الدفاعية المضادة للصواريخ البالستية (المسماة «إيه 35» أو «جالوش») بحلول نوفمبر 1967. بيد أن الاختبارات الخاصة بالصواريخ الاعتراضية «إس 350» المستخدمة في هذه المنظومة أشارت إلى أنه لن يواكب الناقلات العائدة ذات الرءوس المتعددة فردية التوجيه التي طورتها الولايات المتحدة حديثا. فكل صاروخ أمريكي بالستي عابر للقارات من هذا النوع (يشار له باسم «الناقلة») يستطيع الآن حمل العديد من الصواريخ الخداعية الزائفة إضافة إلى ثلاثة أو أكثر من الرءوس الحربية النووية.
في الوقت ذاته قرر السوفييت عام 1974 تطوير منظومة الدفاع الصاروخية «إيه 135» لتحل محل المنظومة «إيه 35». كانت المنظومة «إيه 135» قد صممت لاعتراض إما صاروخ واحد من الصواريخ البالستية العابرة للقارات أو صاروخ متعدد، وكان من المقرر أن تكون ذات قدرة دفاعية مزدوجة. الطبقة الأولى من هذه الصواريخ الاعتراضية المنطلقة من منصات المنظومة «إيه 350» من شأنها أن تهاجم الصواريخ البالستية العابرة للقارات وهي خارج الغلاف الجوي، أما الطبقة الثانية من منصات إطلاق المنظومة «إيه 350» فمن شأنها أن تتعامل مع الصواريخ البالستية العابرة للقارات وهي داخل الغلاف الجوي. واجهت منظومة الطبقة الأولى صعوبة في تحديد مواضع الرءوس الحربية والتمييز بين الخداعي منها والفعلي، وهي أعقد مشكلة تواجه أي منظومة صاروخية مضادة للصواريخ البالستية. وفي أعقاب الاختبارات الناجحة لمنظومة الطبقة المزدوجة في ساري شاجان في عامي 1975 و1976، أمر وزير الدفاع بتشييد سبعة مواقع للمنظومة «إيه 135» حول موسكو، بداية من منظومة الرادار متعددة الاستخدامات التي تحمل اسم «دون 2 إن» في 1978 والمئات من صوامع الصواريخ المعززة التي بدأت في عام 1981 واكتملت في نوفمبر 1987. إلا أن المنظومة «إيه 135» لم تعمل على نحو كامل إلا في حدود عام 1997.
لا تزال ثقة الروس قليلة في قدرة منظومات الصواريخ المضادة للصواريخ العابرة للقارات على منع اختراق أي من هذه الصواريخ البالستية لأراضيهم. وبالتبعية فقد ركز الروس منذ نهاية الحرب الباردة على تحسين صواريخهم البالستية العابرة للقارات وتزويدها بالرءوس الخداعية للتغلب على أي من المنظومات الأمريكية المضادة للصواريخ البالستية .
تسبب التطوير غير المقيد من طرف الولايات المتحدة للصواريخ الجوالة ذات الرءوس النووية - والتي يمكن إطلاقها من القاذفات أو الغواصات - في مواجهة الاتحاد السوفييتي لتهديدات جديدة. فبعد الإطلاق تستطيع الصواريخ الأمريكية الجوالة الطيران على ارتفاعات منخفضة، وهو ما يمكنها من دخول الأراضي السوفييتية دون أن ترصد من جانب الرادارات السوفييتية الحالية، ويمكنها أيضا من اختراق العمق السوفييتي وتدمير الصواريخ البالستية العابرة للقارات وهي في صوامعها.
لحماية صوامع الصواريخ العابرة للقارات علاوة على القطاعات الإدارية والصناعية من الصواريخ الجوالة، سعى العلماء السوفييت بين عامي 1975 و1980 لتطوير منظومة دفاعية لمسرح العمليات توظف منظومة صواريخ أرض-جو موحدة متعددة القنوات؛ المسماة بالمنظومة «سام 300». تستطيع المنظومة «إس 300 في» حماية الوحدات الأرضية للجيش السوفييتي، بينما تستطيع المنظومة «إس 300 إف» الدفاع عن السفن البحرية، فيما تحمي المنظومة «إس 300 بي» قوات الدفاع الجوي. كانت معدات ومنصات الإطلاق الخاصة بالمنظومة «إس 300 بي» تحمل على منصات مقطورة متحركة مربوطة بكابلات، وكان يطلق عليها الاسم «إس 300 بي تي». وفي عام 1980 نشرت المنظومة «إس 300 بي تي» التي تستخدم صواريخ أرض-جو من طراز «5 في 55» حول موسكو لمساعدة المنظومة «إيه 135». ظلت المنظومة «إس 300 بي تي» في موقعها حتى عام 1985، حين حلت محلها المنظومة المحدثة «إس إس 300 بي إم» المحمولة على قاطرات ذاتية الدفع مصممة لاجتياز أي منطقة ومتصلة اتصالا لاسلكيا بمراكز القيادة والتحكم.
في عامي 2005 و2006 بدأت القوات الجوية الروسية في الاستغناء عن منظومات «إس 300 بي» واستخدام منظومات الصواريخ أرض-جو التي تحمل الاسم «إس 400» («إس إيه 20 ترايمف» حسب تسمية حلف شمال الأطلسي) المزودة بصاروخ اعتراضي طويل المدى من طراز «48 إن 6 دي إم» مصمم من أجل تدمير الطائرات والصواريخ الجوالة والصواريخ البالستية قصيرة المدى ومتوسطة المدى، وذلك في مدى يصل إلى 400 كيلومتر (250 ميلا). كانت المنظومة «إس 400» تزيد بمرتين ونصف مقدار ما كانت تتمتع به المنظومة «إس 300 بي» من مدى وبمرتين مقدار منظومة «باتريوت أدفانسد كيبابليتي 3» الأمريكية. وستجهز المنظومة بصواريخ اعتراضية خفيفة الوزن من طراز «9 إم 96» مداها يصل إلى 120 كيلومترا (75 ميلا) لاعتراض الأهداف التي تطير على ارتفاعات منخفضة. وكما أوردت دورية «جينز ميسايلز آند روكتس» بعد ذلك فإنه في نهاية المطاف ستزود جميع الأفواج الخمسة والثلاثين بالمنظومة الجديدة، والتي سيتم استخدامها لحماية المراكز السكانية الكبيرة علاوة على التجمعات الصناعية والعسكرية.
عمدت موسكو إلى تسويق المنظومة «إس 400» بكل قوة عبر أنحاء آسيا وأوروبا والشرق الأوسط. وبين عامي 2003 و2004 أنفقت الصين نحو 500 مليون دولار على منظومات «إس 400» مستقبلية. بالإضافة لذلك، عرضت روسيا المنظومة «إس 400» على الإمارات العربية المتحدة، وثمة تكهنات بأن إيران - تلك القوة النووية المحتملة - تسعى حاليا إلى الحصول على صواريخ المنظومة «إس 400». وما إن أكملت المنظومة «إس 400» اختباراتها النهائية ودخلت مرحلة الإنتاج، كان من المتوقع أن تصير من أعلى المنظومات الدفاعية الصاروخية طلبا على مستوى العالم. لكن كما أثبتت منظومات الصواريخ باتريوت الأمريكية في حربي الخليج، لا تزال المنظومات الأمريكية والروسية تعاني من نقاط ضعف ولا يمكنها أن تضمن منع جميع الصواريخ الجوالة أو الصواريخ قصيرة المدى التي قد يطلقها العدو.
أول نشر أمريكي لمنظومات الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية
في سبتمبر 1967 وافقت إدارة جونسون الرازحة تحت ضغوط ثقيلة على نشر «خط رفيع» من المنظومة الدفاعية المضادة للصواريخ البالستية «نايك إكس» من أجل حماية الولايات المتحدة من تهديد الصواريخ النووية الصينية الأقل فاعلية، بيد أنها أوضحت أن المنظومة المقترحة - التي تحمل اسم «سنتينال» - لن تحمي الولايات المتحدة فعليا من أي هجوم سوفييتي بالصواريخ البالستية العابرة للقارات. وعن طريق استهداف الصين، تركت المنظومة الدفاعية المقترحة الباب مفتوحا أمام السوفييت كي يتدبروا بجدية تخفيض منظومات الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية والصواريخ البالستية العابرة للقارات أو الحد منهما. وقد وقع عبء التنفيذ الفعلي لعملية النشر على عاتق إدارة الرئيس نيكسون.
بعيد تنصيبه، أعلن نيكسون في الرابع عشر من مارس 1969 أنه: «بعد دراسة طويلة لكل الخيارات المتاحة، خلصت إلى أن برنامج «سنتينال» الذي جرى تبنيه سابقا ينبغي أن يخضع لتعديل جذري.» إن منظومة الصواريخ الجديدة المضادة للصواريخ البالستية «لن توفر الدفاع عن مدننا؛ لأنني وجدت أنه ما من سبيل يمكننا من الدفاع على نحو لائق عن مدننا دون تكبد خسائر غير مقبولة في الأنفس.» وعليه، وافق نيكسون في عام 1970 على منظومة جديدة باسم «سيف جارد»؛ وذلك بهدف حماية ما يصل إلى اثني عشر موقعا من مواقع الصواريخ مينيتمان 3 البالستية العابرة للقارات - في كل من قاعدة مالستروم الجوية بمونتانا، وقاعدة جراند فوركس الجوية في نورث داكوتا - من أجل الحفاظ على قدر معقول من الردع.
اختار نيكسون ألا يذكر التحسين الذي طرأ على منظومة «سيف جارد»، والذي زاد من عدد صواريخ الاعتراض المضادة بهدف حماية مواقع الصواريخ مينيتمان 3 البالستية العابرة للقارات، وغير من نطاق رادار برنامج «سنتينال» بحيث صار يغطي جميع أراضي البر الرئيسي للولايات المتحدة. وقد أشار كيسنجر في مذكراته إلى أن التغطية الرادارية الممتدة من شأنها أن توجد «قاعدة أفضل للتوسع السريع» في دفاعات مواقع الصواريخ البالستية العابرة للقارات إذا ما كانت هناك حاجة إليها في المستقبل. (وقد توقع العلماء السوفييت على نحو صائب أن تكون البيانات المحذوفة بشأن مدى التغطية الرادارية جزءا من خطة «سيف جارد».)
بسبب مواطن القصور الفنية بمنظومة «سيف جارد»، صوت مجلس النواب في الثاني من أكتوبر 1975 لوقف العمل في الموقع الوحيد المضاد للصواريخ البالستية الذي جرى العمل به (بدلا من المواقع الاثني عشر المخطط للعمل بها) في جراند فوركس بنورث داكوتا، بعد إنفاق ستة مليارات دولار به، وذلك بعد نحو أربعة أشهر من بدئه العمل. وقد جاء هذا الفعل بعد إدراك أن الرادارات الكبيرة متعددة المراحل لمنظومة «سيف جارد» تمثل هدفا سهلا للصواريخ السوفييتية، كما أنه عند انفجار الرءوس الحربية النووية المحمولة على الصاروخين الاعتراضيين «سبارتان» و«سبرنت» كانت الانفجارات تتسبب في عمى منظومة الرادار.
معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية 1972
بدأت أولى الخطوات نحو المفاوضات الأمريكية السوفييتية بشأن المنظومات الدفاعية الصاروخية في عام 1964، حين استكشف ويليام فوستر - المدير الأمريكي لوكالة تحديد الأسلحة ونزع السلاح - إمكانية عقد مفاوضات لحظر المنظومات الصاروخية المضادة للصواريخ البالستية أو الحد منها مع أناتولي دوبرينين سفير الاتحاد السوفييتي لدى الولايات المتحدة. حسب رواية دوبرينين فإن موسكو لم تستجب لهذه المقترحات الأمريكية المبدئية؛ لأن أعضاء المكتب السياسي لم يتمكنوا من الاتفاق حول إجراء التفاوض مع واشنطن من عدمه. وفي العاشر من أغسطس 1968، وافق الكرملين أخيرا على البدء في مناقشات الحد أو التخلص من الأسلحة الاستراتيجية الدفاعية والهجومية. لكن للأسف حادت هذه المباحثات المخطط لها عن مسارها في الرابع والعشرين من أغسطس، حين تدخل السوفييت في تشيكوسلوفاكيا.
في المناقشات الخاصة بالأسلحة الاستراتيجية التي بدأت في هلسنكي بفنلندا في السابع عشر من نوفمبر 1969، عرض الوفد الأمريكي مخاوفه - سواء على نحو رسمي أو خاص - من أن المنظومات الدفاعية الصاروخية المضادة للصواريخ البالستية تهدد استقرار الردع القائم وقتها. وفي بداية المباحثات أشار السوفييت إلى استعدادهم لإبقاء عمليات نشر الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية «في حدود منخفضة من الناحيتين العددية والجغرافية». وفي مواجهة عدد من القضايا المستعصية على الحل فيما يخص القوات الاستراتيجية الهجومية، تم الاتفاق في النهاية في عام 1971 على محاولة الوصول إلى اتفاقات منفصلة.
وفي أواخر أغسطس 1971 طلب من المندوب الأمريكي هارولد براون أن يوضح «مفهوم الولايات المتحدة لفكرة «التطوير» ومفهومها عن التطبيق العملي للحدود.» وبعد استشارة رؤسائه، أجاب براون في حرص قائلا:
بمصطلح «التطوير» نعني تلك المرحلة من تطور منظومة الأسلحة التي تعقب مرحلة الأبحاث (وفي مرحلة الأبحاث نضمن أنشطة التصميم المفاهيمي والاختبار المعملي) والتي تسبق مرحلة الاختبار الشامل. إن مرحلة التطوير - رغم تداخلها كثيرا مع مرحلة الأبحاث - عادة ما ترتبط ببناء نموذج أولي أو أكثر لمنظومة الأسلحة أو مكوناتها الأساسية واختباره. ومن منظورنا فإنه من المنطقي والعملي بالكامل أن نمنع - بهذا المعنى - تطوير تلك المنظومات التي يكون اختبارها ونشرها محظورا.
ودون علم من جانبه، قدم براون بهذا تعريفا سيستخدم في أوائل الثمانينيات من جانب معارضي منظومة «حرب النجوم» - التي تبناها الرئيس رونالد ريجان - في إعادة تأويل معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية لعام 1972.
وبحلول خريف عام 1971، وافق الوفدان الأمريكي والسوفييتي - في جنيف - على العناصر الأساسية للبند الخامس من معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية، والذي يقضي بما يلي : «على كل طرف التعهد بألا يطور أو يختبر أو ينشر منظومات صواريخ مضادة للصواريخ البالستية أو مكوناتها تكون ذات قاعدة بحرية أو جوية أو فضائية أو أرضية متحركة.» وقد تم تعريف المنظومات ذات القواعد الأرضية الثابتة في البند الثاني على أنها «منظومة لاعتراض الصواريخ البالستية الاستراتيجية أو عناصرها في مسار طائر، تتكون حاليا من» الصواريخ الاعتراضية ومنصات الإطلاق والرادارات المضادة للصواريخ البالستية. وقد أشار التعبير «تتكون حاليا من» إلى أن المعاهدة قصد منها أن تغطي كل المنظومات، الحالي منها والمستقبلي.
ظل السوفييت فضوليين بشدة حيال المنظومات «غير المعتادة» وهو ما يرجع في جزء منه إلى أنه لشهور ظل أفراد الوفد الأمريكي ممنوعين - بموجب أوامر من القادة العسكريين - من استخدام الليزر كمثال. كان السوفييت على معرفة ببرنامج الليزر الأمريكي، بل إنهم في الواقع كانوا يأملون في استخدام ما يملكونه من معدات ليزرية ضخمة في تجاربهم المضادة للصواريخ. وفي النهاية تخلى السوفييت عن تقصيهم، وربما عن أملهم في جمع معلومات عن البرنامج الأمريكي غير المعتاد، مع الاتفاق على حظر نشر منظومات صواريخ غير معتادة مضادة للصواريخ البالستية ذات قواعد ثابتة. وفي البيان المتفق عليه (د) الخاص بالمعاهدة نصت إحدى الحواشي على ما يلي: ... وافق الطرفان على أنه في حال بناء أي منظومات صواريخ مضادة للصواريخ على أي مبادئ فيزيائية أخرى وتتضمن مكونات قادرة على الحلول محل الصواريخ الاعتراضية أو منصات الإطلاق أو الرادارات المضادة للصواريخ البالستية في المستقبل، فإن قيودا خاصة على هذه المنظومات ومكوناتها ستكون خاضعة للنقاش ... والاتفاق.
فرضت معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية على كل طرف الاكتفاء بموقعين فقط من مواقع هذه الصواريخ (خفضت لاحقا إلى موقع واحد فقط) يفصلهما ما لا يقل عن 1300 كيلومتر (800 ميل)؛ وذلك لمنعهما من التداخل. وبالتبعية اقتصر كل موقع من الموقعين المسموح بهما على مناطق محددة ولا يستطيع أن يقدم سوى تغطية محدودة. وقد حظرت المعاهدة بوضوح إنشاء أي منظومة دفاعية صاروخية مضادة للصواريخ البالستية بطول البلاد. وفي موسكو - في الثاني والعشرين من مايو 1972 - تم الانتهاء من بنود اتفاق معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية والتوقيع عليها.
مقترح «حرب النجوم» لريجان
في أعقاب استعراض شامل أجراه مجلس علوم الدفاع التابع للبنتاجون، خلص البيت الأبيض في أكتوبر 1981 إلى أن «تكنولوجيا الصواريخ البالستية التي تملكها الولايات المتحدة لم [تكن] على المستوى» الذي يمكنها من أن توفر «دفاعا ضد الصواريخ السوفييتية». ووفقا لكاتب سيرة حياة ريجان، لو كانون، فإن هذه النتيجة لم تقلل من «رؤية الرئيس الخاصة بالمحرقة النووية واقتناعه الراسخ العميق بأن الأسلحة التي من الممكن أن تسبب هذا الجحيم على الأرض ينبغي الخلاص منها.» علاوة على ذلك، كان ريجان معارضا من الجانب الأخلاقي لعقيدة الردع الأمريكية «الدمار المؤكد»، البالغة من العمر عشرين عاما.
وفي أوائل عام 1983 كان الرئيس ريجان يجهز خطابا يدعم فيه زيادة أخرى في ميزانية وزارة الدفاع للعام المالي 1984، هذه الزيادة التي كانت تعارضها حركة شعبية تدعو لنزع السلاح النووي. رفض ريجان المسودة الأولى للخطاب لأنها كانت تعيد تكرار مبررات سابقة. وبدلا من ترديد أفكار قديمة، حث ريجان مستشار الأمن القومي روبرت سي ماكفارلين على تطوير شيء جديد لإبطال الرسالة الخاصة بمناصري فكرة نزع السلاح النووي. كشفت استطلاعات الرأي الجماهيرية في عام 1982 ويناير عام 1983 عن أن 66 بالمائة من الأمريكيين كانوا يرون أن ريجان لم يكن يؤدي كما ينبغي من ناحية تشجيع الحد من التسلح، ودعم 70 بالمائة منهم تجميد عمليات إنتاج السلاح النووي كخطوة أولى على طريق التخلص من جميع الرءوس الحربية النووية. وكان من المرتب عقد جلسة نقاشية بالكونجرس في نهاية مارس 1983 بشأن تجميد إنتاج الأسلحة النووية، وهو ما هدد الزيادات في الإنفاق العسكري.
كان كل من السيناتور مالكوم والوب (العضو الجمهوري بمجلس الشيوخ عن ولاية وايومنج) والجنرال دانيال أو جراهام (المتقاعد) والفيزيائي إدوارد تيلر من مختبرات ليفرمور لورانس بجامعة كاليفورنيا يضغطون على البنتاجون والكونجرس من عام 1979 إلى 1982 من أجل زيادة تمويل مشروعات الدفاع الصاروخي. وقد سعوا إلى الحصول على دعم مفاهيم مثل أجهزة الليزر ذات القاعدة الكيميائية أو النووية، والمحطات الحربية الفضائية التي تدور حول الأرض وتستخدم الليزر، والطائرات الفضائية المحسنة. وفي فبراير 1981 أخبر وزير الدفاع كاسبر واينبرجر لجنة القوات المسلحة التابعة لمجلس الشيوخ بأن الولايات المتحدة قد تكون قادرة على «نشر [الصواريخ] إم إكس في صوامع ثابتة تحميها منظومات صواريخ مضادة للصواريخ البالستية.» ومع ذلك لم يكن أي من هؤلاء المناصرين للمنظومات المضادة للصواريخ البالستية مشتركا على نحو مباشر في الإعداد لخطاب ريجان الذي ألقاه في مارس 1983.
وفي الحادي عشر من فبراير 1983 ناقش ريجان وهيئة الأركان المشتركة قائمة البنتاجون التي تحتوي على خمسة خيارات للتعامل مع الأسلحة الاستراتيجية الحالية. واحدة من هذه النقاط كانت المنظومة الدفاعية الصاروخية التي اقترحها رئيس العمليات البحرية الأميرال جيمس واتكينز الذي ذهب إلى أن من شأن المنظومة الدفاعية الصاروخية الاستراتيجية الجريئة أن «تنقل المعارك بعيدا عن شواطئنا وسمائنا». هذه المعارك ستكون «أخلاقية» ومقبولة لدى الشعب الأمريكي؛ لأن من شأن المنظومة الدفاعية الصاروخية أن تحمي الأمريكيين «وليس فقط أن تنتقم لهم» بعد وقوع هجوم سوفييتي. واختتم واتكينز بقوله إنه يبدو من الواقعي أن نمتلك برنامجا طويل المدى «لتطوير منظومة من شأنها أن تدرأ أي هجوم بالصواريخ». انجذب ريجان لفكرة واتكينز الخاصة بفكرة منظومة الدفاع الصاروخية بوصفها سبيلا للتخفيف من مقته الشخصي لحقيقة الردع النووي.
في تلك الأثناء، كان ماكفارلين والمستشار العلمي للرئيس، جورج كيوورث الثاني، يعدان مسودة خطاب ريجان المقرر إلقاؤه في الثالث والعشرين من مارس. عارض كيوورث في البداية إدراج خطة الدفاع الصاروخي، لكنه سحب اعتراضه في تردد بعد أن أعلمه ماكفارلين بأن إدراج منظومة الدفاع الصاروخي المقترحة كان قرارا سياسيا لا علميا.
وفق ما ورد في سيرة ريجان الذاتية فإن ريجان تلقى مسودة نهائية للخطاب في الثاني والعشرين من مارس، وفي تلك الليلة، حسبما يورد: «أعدت كتابة الكثير من العبارات، وفي أغلبها كنت أغير الكلام البيروقراطي إلى كلام يفهمه العامة.» في صورته النهائية، بدأ الخطاب بقسم طويل مصمم لإقناع الكونجرس بالموافقة على زيادة معتبرة في تمويله الخاص بالعام المالي 1984 من أجل مواصلة تعزيز القوة العسكرية الأمريكية. وبينما قارب خطابه على نهايته، أخبر ريجان جمهوره بالمناقشات التي أجريت حديثا مع هيئة الأركان المشتركة بشأن الدفاع الصاروخي. وبعد ذلك - بعد أن ذكر أن أمن الدولة كان يعتمد في الماضي على الردع النووي - واصل ريجان حديثه مضيفا:
دعوني أطلعكم على رؤية للمستقبل تحمل لنا الأمل. إننا نشرع في برنامج لمواجهة التهديد العسكري السوفييتي المروع بإجراءات دفاعية ... ماذا لو استطاعت الشعوب الحرة العيش في أمان في ظل معرفتهم أن أمنهم لا يرتكن إلى التهديد بالانتقام الأمريكي الفوري كرادع للهجوم السوفييتي؟ وماذا لو أننا قادرون على اعتراض وتدمير الصواريخ الاستراتيجية البالستية قبل أن تصل إلى أراضينا أو أراضي حلفائنا؟
وبعد أن أقر بأن هذا سيكون تعهدا صعب التنفيذ، اقترح ريجان أنه بما أن التكنولوجيا الحالية تقدم لنا الوعد، فقد حان الوقت للبدء في بناء درع دفاعي، فقال:
أدعو المجتمع العلمي في هذا البلد، ذلك المجتمع الذي منحنا الأسلحة النووية ... إلى أن يمنحنا الوسائل التي نجعل بها هذه الأسلحة عقيمة وبائدة. والليلة، وبما يتفق والتزاماتنا بمعاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية ... سأتخذ خطوة أولى مهمة، وآمر بالبدء في جهود مكثفة شاملة لرسم معالم برنامج طويل الأمد للأبحاث والتطوير من أجل البدء في تحقيق هدفنا النهائي المتمثل في التخلص من التهديد الذي تطرحه الصواريخ النووية الاستراتيجية.
حمل مقترح الرئيس اسما رسميا هو «مبادرة الدفاع الاستراتيجي» في يناير 1984، بينما أطلق عليه المنتقدون اسم «حرب النجوم».
كانت ردود الفعل على مقترح ريجان متباينة دون شك. فقد عارض وكيل وزارة الدفاع ريتشارد ديلاور - الذي كان يتبنى تمويل أبحاث الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية - مقترح ريجان واصفا إياه بأنه «محاكاة سياسية ساخرة غير ناضجة». أما روبرت مايكل - النائب عن إلينوي، وزعيم الأقلية بمجلس النواب - فحين حاصره أحد الصحفيين بالأسئلة رد قائلا إن الخطاب ربما كان «مبالغا فيه بشكل ما». وقد أشار الموضوع الرئيسي لمجلة تايم بعد الخطاب إلى أن مقترح ريجان كان أقرب إلى «رؤية آتية من عالم ألعاب الفيديو»، وعلى غلاف المجلة وضعت صورة ريجان أمام خلفية من أسلحة فضائية على نحو أشبه بقصص باك روجرز الخيالية المصورة التي تدور أحداثها في القرن الخامس والعشرين. لكن في غضون أسبوع اختفى مقترح ريجان بشأن الدفاع الصاروخي من الأخبار؛ لأنه لم يعد ذا جاذبية كبيرة، وتحول الاهتمام الجماهيري إلى قضايا أكثر إلحاحا. وفي الواقع، خلال حملة إعادة الانتخاب عام 1984 لم يأت ريجان على ذكر الدفاع الصاروخي، رغم أن المرشح الديمقراطي والتر مونديل شجب هذا المقترح واصفا إياه بأنه خدعة خطيرة تكلف دافعي الضرائب الأمريكيين مليارات الدولارات، وتسرع من سباق التسلح بينما لا تقدم أي حماية فعلية للشعب الأمريكي.
تعاملت وزارة الدفاع مع مقترح مبادرة الدفاع الاستراتيجي بجدية، وشكلت فريقين من الخبراء في ربيع عام 1983 - مجموعة فليتشر ومجموعة هوفمان - من أجل دراسة الأنظمة الدفاعية الصاروخية الممكنة. وقد ترأس جيمس سي فليتشر - المدير السابق لناسا - فريقا مكونا من 65 عضوا - 53 منهم لهم مصلحة مادية مباشرة في أبحاث مبادرة الدفاع الاستراتيجي - وطلب من الفريق التخطيط لمنظومة الدفاع الصاروخي. وفي بواكير عام 1984 أوصى الفريق بأن كل الجوانب البحثية لمبادرة الدفاع الاستراتيجي يجب تسريعها للوصول إلى قرار بشأن نشر منظومة دفاع صاروخي في أوائل التسعينيات.
اقترح فريق فليتشر منظومة دفاعية صاروخية اعتراضية متعددة الطبقات. تضمنت الطبقة الأولى أجهزة استشعار لاستكشاف الصواريخ البالستية العابرة للقارات التي تغادر صوامعها والإطلاق الفوري للصواريخ الاعتراضية لمهاجمة صواريخ العدو وهي لا تزال في مرحلة الدفع الأولى. الطبقة الثانية من الصواريخ الاعتراضية الأمريكية ستسعى إلى تدمير الرءوس الحربية المعادية في المرحلة التالية على مرحلة الدفع؛ أي مرحلة النقل. أما الطبقة الثالثة من الصواريخ الاعتراضية فستبحث عن أي رءوس حربية نشرها العدو خلال مرحلة منتصف المسار قبل أن تدخل إلى الغلاف الجوي. وأخيرا ستقوم طبقة رابعة من الصواريخ الاعتراضية بتمييز الرءوس الحربية من الرءوس الخداعية والحطام خلال المرحلة الختامية، وتدمر ما تبقى من رءوس حربية.
من شأن تدمير الصواريخ البالستية العابرة للقارات التي يطلقها العدو - وهي لا تزال في مرحلة الدفع التي تستمر من ثلاث إلى خمس دقائق - أن يوفر أفضل الفرص لتقليل عدد الرءوس الحربية الواردة. وبعد انقضاء مرحلة الدفع، سيواصل الصاروخ (ويسمى في هذه المرحلة الصاروخ الناقل) حمل الرءوس الحربية الحقيقية والخداعية. تستغرق مرحلة ما بعد الدفع من ست إلى عشر دقائق للوصول إلى أقصى ارتفاع لها، ويبلغ نحو 750 ميلا فوق سطح الأرض، وخلال هذه المرحلة ستحاول طبقة ثانية من صواريخ الاعتراض الأمريكية أن تدمر الصواريخ الناقلة. هذا هو ثاني أفضل وقت لاعتراض الرءوس الحربية النووية. عند وصول الصاروخ الناقل لأقصى ارتفاع له يعمد إلى تعديل مساره وإطلاق ما يصل إلى عشرة رءوس حربية، إضافة إلى عدد كبير من الرءوس الخداعية، وجميعها ستبدأ الهبوط نحو أهدافها المختارة على الأرض.
ستبدأ الطبقة الثالثة من الدفاع الصاروخي عملها خلال مرحلة منتصف المسار التي تلي إطلاق الناقلة للرءوس الحربية الحقيقية والخداعية، وتسبق دخول هذه الرءوس مرة ثانية إلى الغلاف الجوي للأرض. هذه الطبقة تمنح منظومة الدفاع الصاروخي الأمريكية أكبر قدر من الوقت المتاح - ما يصل إلى 20 دقيقة - من أجل تحديد موقع الرءوس المتجهة صوب أهدافها وتدميرها. بيد أن الصواريخ الاعتراضية الأمريكية قد تحيد عن الرءوس الحربية الحقيقية بسبب الرءوس الخداعية أو الحطام الذي قد تخال الصواريخ الاعتراضية أنه رءوس حربية معادية.
تبدأ مرحلة الدفاع الصاروخي الأخيرة حين تعاود الرءوس الحربية الحقيقية والخداعية دخول الغلاف الجوي على ارتفاع نحو 60 ميلا فوق سطح الأرض. وخلال هذه المرحلة تكون أمام الصواريخ الاعتراضية أجزاء من العشرة من الثانية لضرب الرءوس الحربية قبل أن تصل إلى أهدافها. المزية الوحيدة التي تمتلكها الصواريخ الدفاعية في هذه المرحلة هي أن غلاف الرءوس الحربية الحقيقية يسخن بفعل الاحتكاك مع الغلاف الجوي، أما الرءوس الخداعية - الأخف وزنا - فتبرد بعد انفصالها عن الرءوس الحربية.
كي تكون منظومة الدفاع الصاروخي مؤهلة للنشر ينبغي أن تفي بثلاث مهام؛ أولا: يجب أن تكون المنظومة قادرة على رصد الأهداف المعادية وتحديدها، بمعنى التمييز بين الصواريخ الدافعة للصواريخ البالستية والرءوس الحربية والرءوس الخداعية والحطام. ثانيا: يجب أن تكون أجهزة التعقب الخاصة بالمنظومة قادرة على تحديد ورسم مسار الهدف من أجل إرشاد الصواريخ الاعتراضية نحو أهدافها. وأخيرا: يجب أن تكون المنظومة الدفاعية قادرة على تقييم الضرر الذي أحدثته الأسلحة الدفاعية من أجل التأكد من تدمير الصواريخ الدافعة أو الصاروخ الناقل أو الرأس الحربي. وهذا أمر ضروري حتى يتمكن المدافعون من تحديد ما إذا كان عليهم إطلاق المزيد من الصواريخ الاعتراضية أم لا.
من الجلي أن مثل هذه المنظومة الدفاعية الصاروخية البالستية مثلت تحديا كبيرا للعلماء والفنيين الذين كان عليهم إجراء الأبحاث اللازمة لتطوير الأجزاء المعقدة للمنظومة واختبارها. أيضا تطلبت المنظومة زيادة كبيرة في ميزانية وزارة الدفاع، أكبر كثيرا من التقديرات المقدمة في البداية من جانب إدارة ريجان.
شكل 6-1: منظومة «حرب النجوم» الدفاعية.
في تلك الأثناء، كان بول نيتز - الدبلوماسي المشارك في مفاوضات الحد من التسلح - قد قدم صيغة ثلاثية الجوانب تحتاج أي منظومة لمبادرة الدفاع الاستراتيجي للوفاء بها قبل أن يؤخذ أمر نشرها في الاعتبار. وقد نصت «معايير نيتز» كما عرفت وقتها على أن المنظومة المضادة للصواريخ يجب أن تكون: (1) فعالة. (2) قادرة على الصمود في وجه هجوم مباشر. (3) فعالة اقتصاديا على نحو حدي، بمعنى أن تتكلف زيادة دفاعك أقل مما يتكلف العدو لزيادة هجومه عليها. وقد جرى تبني صيغة نيتز على صورة توجيه صادر عن الأمن القومي حمل الرقم 172 في الثلاثين من مايو 1985، وهو ما دفع البعض داخل البنتاجون إلى الخوف من أن التركيز على الفعالية الاقتصادية من شأنه أن يقضي على البرنامج. بينما تشكك آخرون - مثل روبرت ماكنمارا - في التزام إدارة ريجان بالشق الاقتصادي من هذه المعايير.
في الوقت ذاته، عمل فريق لدراسة الاستراتيجية الأمنية المستقبلية - 17 من بين أعضائه الأربعة والعشرين أوكل إليهم مستقبلا تنفيذ عقود تابعة لمبادرة الدفاع الاستراتيجي - برئاسة فريد إس هوفمان على تقييم الدفاعات الاستراتيجية للبلاد. وفي بواكير عام 1984 قدمت دراسة هوفمان تقييما أكثر واقعية للإطار الزمني الخاص بمبادرة الدفاع الاستراتيجي. وبدلا من أن يتوقع فريق هوفمان نشر الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية في أوائل التسعينيات ، فقد خلص الفريق إلى أن منظومة الدفاع المثالية قد «تستغرق وقتا طويلا ، وقد يتضح تعذر الحصول عليها بالمعنى الفعلي في مواجهة الجهود السوفييتية للرد على تلك المنظومة الدفاعية.»
لأكثر من عقد، ظل ينظر إلى التفسير التقليدي لمعاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية على أنه يمنع أي تطوير للمنظومة المضادة للصواريخ البالستية ذات القاعدة الفضائية أو اختبارها. لكن في أكتوبر 1985 أقنع نيتز وزير الخارجية الأمريكي جورج شولتز بقبول تفسير «واسع» لمعاهدة عام 1972 من شأنه أن يسمح ببحث أسلحة ذات قاعدة فضائية وتطويرها. بينما سعى بعض المتشددين داخل الإدارة الأمريكية - الذين كانوا يرغبون في إلغاء المعاهدة من الأساس - بدلا من ذلك إلى توسيع التفسير الجديد على نحو أكبر بحيث يسمح باختبار الأسلحة.
وفي السادس من أكتوبر، أخبر مستشار الأمن القومي روبرت ماكفارلين برنامج «لقاء مع الصحافة» الحواري على شبكة الإذاعة الوطنية أن معاهدة عام 1972 تسمح ببحث المنظومة الدفاعية الصاروخية التي تتضمن «مفاهيم فيزيائية جديدة» وتطويرها. وقد زعم أيضا أن المعاهدة تسمح باختبار الأنظمة والتكنولوجيات غير المعتادة، وهو ما يعني على الأرجح أشعة الليزر وحزم الجسيمات.
وقد زعم أبراهام دي سافاير - المستشار القانوني لوزارة الخارجية - أن سجل المفاوضات السري لمعاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية وبنود المعاهدة توضح أن لغة المعاهدة غامضة، وأن سجل تصديق مجلس الشيوخ على المعاهدة يدعم التفسير الواسع للمعاهدة. كما زعم سافاير - دون تقديم ما يدعم قوله - أن الاتحاد السوفييتي لم يقبل قط بأي حظر على المنظومات المتحركة للصواريخ المضادة للصواريخ أو على التكنولوجيات غير المعتادة. (في النهاية اضطر سافاير إلى الإقرار بأن سجلات عملية التصديق لم تدعم التفسير الواسع، وألقى بلائمة هذا الخطأ على «المحامين صغار السن» العاملين داخل فريقه المعاون.)
أثارت محاولات إدارة ريجان لتوسيع تفسير معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية لعام 1972 خلافا تنفيذيا تشريعيا كبيرا. وقد حذر السيناتور سام نان (العضو الديمقراطي بمجلس الشيوخ عن ولاية جورجيا) الرئيس من أن أي أفعال تنتهك التفسير التقليدي للمعاهدة من شأنها التسبب في «مواجهة دستورية ذات أبعاد عميقة»، كما أطلق السيناتور سلسلة من الدراسات عن التفسير المعاد خلصت إلى أن منطق سافاير القانوني كان «خاطئا بشدة». وقد دعم نان - بمشاركة السيناتور كارل ليفين (العضو الديمقراطي بمجلس الشيوخ عن ولاية ميشيجان) - تعديلا لقانون إقرار الدفاع الوطني يحظر أي اختبار تابع لمبادرة الدفاع الاستراتيجي يتعارض مع التفسير التقليدي لمعاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية. وبعد جدال حزبي حاد ومماطلة سياسية ممتدة من جانب الجمهوريين، تمت الموافقة على نسخة معدلة من صياغة نان-ليفين في أواخر عام 1987.
سيطر الجمهوريون على مجلسي النواب والشيوخ في عام 1994، وقد عزوا هذا الانتصار إلى «ميثاقهم مع الشعب الأمريكي» الذي كان يعكس ضمن قضايا أخرى إلى أي عمق صار الالتزام بنشر منظومة دفاعية صاروخية على مستوى البلاد متغلغلا في الأيديولوجية السياسية للحزب. وقد دعا الحزب إلى نشر «منظومة دفاعية صاروخية اقتصادية عاملة مضادة للصواريخ البالستية» في أقرب ما يمكن من أجل حماية الولايات المتحدة «من تهديدات الصواريخ البالستية (على سبيل المثال، عمليات الإطلاق العرضية أو غير المصرح بها لهذه الصواريخ أو الهجمات الآتية من دول من العالم الثالث) ...» علاوة على ذلك أكد الميثاق على أن معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية كانت «أثرا عتيقا من آثار الحرب الباردة لا يفي بالاحتياجات المستقبلية للولايات المتحدة ... وأنه من الواجب الأخلاقي أن يتم التوسع في الدفاعات الاستراتيجية الأمريكية وألا ترضخ إدارة كلينتون لمطالب الروس بأن يظل الأمريكيون دون دفاع في وجه العدوان النووي المحتمل ...» وخلال السنوات التالية سعى المشرعون الجمهوريون - دون نجاح - إلى فرض نشر منظومة دفاعية صاروخية على مستوى البلاد.
عين الجمهوريون لجنة مستقلة في نوفمبر 1996 من أجل «تقييم تهديد الصواريخ البالستية». وقد أكد الملخص التنفيذي للجنة التي وضعت تحت رئاسة ديفيد رامسفيلد - الذي سيصير مستقبلا وزيرا للدفاع - على أن: «الدول المزودة حديثا بصواريخ بالستية [كوريا الشمالية وإيران والعراق] ... ستكون قادرة على إيقاع دمار كبير بالولايات المتحدة في غضون خمس سنوات من اتخاذ قرار بامتلاك مثل هذه القدرات (عشر سنوات في حالة العراق).» وقد زعم أن كوريا الشمالية وإيران - اللتين رأت اللجنة أنهما تطوران أسلحة دمار شامل - وضعتا «أولوية كبيرة لتهديد الأراضي الأمريكية، وكل دولة من الدولتين تطور حاليا قدرات صاروخية بالستية متقدمة بهدف تهديد الأراضي الأمريكية على نحو مباشر».
لكن جريج ثيلمان - العضو السابق بمكتب الاستخبارات والأبحاث التابع لوزارة الخارجية - يرى أن «رأي رامسفيلد بشأن الصواريخ البالستية كثيرا ما تجاهل الآراء المدروسة بعناية للمتخصصين [الاستخباراتيين] لصالح السيناريوهات الأكثر تشاؤما التي افترضت وجود تهديد وشيك للولايات المتحدة وحثت على الاستجابة بصورة عسكرية، لا دبلوماسية.» ولم يكن هذا بالأمر المفاجئ.
جورج بوش الابن ونشر الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية
تعهد جورج دبليو بوش (جورج بوش الابن) - بعد وقت قصير من اعتلائه سدة الرئاسة في يناير 2001 - بالوفاء بالوعد الذي قدمه في حملته الانتخابية الخاص بالسعي على نحو نشط إلى نشر منظومة دفاعية صاروخية بطول البلاد. وبعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر الإرهابية أصر بوش على أن المنظومة الدفاعية الصاروخية كانت أمرا ضروريا لأمن الولايات المتحدة. ولإزالة أي قيود على عمليات بحث الدفعات الصاروخية وتطويرها واختبارها؛ أعلن بوش في الثالث عشر من ديسمبر 2001 أن الولايات المتحدة قد منحت موسكو إشعارا بنيتها الانسحاب بعد ستة أشهر من معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية لعام 1972.
بعدها بعام - في ديسمبر 2002 - أمر الرئيس بوش وزارة الدفاع بنشر العناصر الأولية لمنظومة دفاعية صاروخية استراتيجية. تضمنت عملية النشر المتواضعة عشرين صاروخا اعتراضيا دفاعيا لمنتصف المسار ذات قاعدة أرضية وعشرين صاروخا اعتراضيا دفاعيا تابعا للنظام أيجيس المضاد للصواريخ البالستية ذات قاعدة بحرية محمولة على ثلاث سفن. أيضا تضمنت المنظومة كمية غير محددة من صواريخ باتريوت بي إيه سي 3 ومنظومة رادارية محدثة للمساعدة في تحديد مواقع الأهداف المحتملة. كان الهدف من الصواريخ باتريوت بي إيه سي 3 والصواريخ الاعتراضية ذات القاعدة البحرية حماية الولايات المتحدة من الصواريخ البالستية قصيرة المدى ومتوسطة المدى، أما الصواريخ الاعتراضية الدفاعية العشرون لمنتصف المسار - يوضع ستة عشر منها في ألاسكا وأربعة في قاعدة فاندنبرج الجوية - فقد كانت الوحيدة المصممة للحماية من الصواريخ البالستية طويلة المدى. وقد تفهم المراقبون المطلعون جيدا أن اختبارات الاعتراض الخاصة بالصواريخ الاعتراضية لمنتصف المسار البدائية كانت مصممة بعناية بحيث تطرح تحديات متواضعة، وحتى «الناجح» من هذه الصواريخ لم يعمل في بيئة تقارب الظروف الفعلية. وبدا أنه يتعين الانتظار لسنوات حتى الحصول على منظومة صاروخية مضادة للصواريخ البالستية يمكن الاعتماد عليها.
اعتبارات أخرى
من ضمن العديد من الاعتبارات المتبقية المثيرة للنقاش ثمة ثلاثة أسئلة تستحق المزيد من التعليق؛ وهي: (1) هل ستوفر المنظومة الدفاعية الصاروخية الدفاع الأمثل ضد الدول المارقة والإرهابيين؟ (2) هل المشايعة الحزبية السياسية التي وقفت خلف قرار نشر المنظومة صارت التزاما مبنيا على الإيمان؟ (3) كم ستتكلف الدفاعات الصاروخية؟
يتفق أغلب الأمريكيين على أن امتلاك دفاع صاروخي فعال أمر مستحسن، لكن العديد من المتشككين قلقون من أن النشر المتهور لمنظومات غير مثبت فعاليتها، وبتكاليف كبيرة، يمكن أن يجعلنا نعجز عن تحقيق غطاء الحماية المنشود. وقد رأى العديد من المحللين أنه في ضوء الترسانة النووية الضخمة التي تتمتع بها الولايات المتحدة وقدرتها العظيمة على ضرب أي مكان حول العالم بهذه الأسلحة، فإنه ما من دولة ستسمح بإطلاق أي صواريخ بالستية من أراضيها؛ لأن مثل هذا العمل العدائي من شأنه أن يؤدي إلى رد انتقامي أمريكي وتدمير الدولة المعتدية.
ويرى هؤلاء المتخصصون أن التهديد الأكثر ترجيحا أن تتعرض له الولايات المتحدة إنما يتمثل في أن يستعين إرهابيون أجانب - إذا ما اختاروا استخدام سلاح للدمار الشامل - بسفينة أو شاحنة من أجل حمل هذا السلاح إلى داخل الولايات المتحدة، وليس صاروخا بالستيا طويل المدى؛ ذلك أن هذه الصواريخ من المعقد بناؤها ونشرها وإطلاقها بدقة. وعلى هذا فإن أعظم تهديد يواجه الولايات المتحدة - حسب كلمات أحد المعلقين - ليس من جانب الدول المارقة، وإنما الأفراد المارقين الذين لا يعملون انطلاقا من دولة بعينها.
منذ خطاب ريجان الحماسي الذي أعلن فيه عن مبادرة الدفاع الاستراتيجي، من الممكن إرجاع المناقشات الحامية والمطالبات بالنشر الفوري لدرع صاروخي إلى البيئة السياسية المحلية. فالجمهوريون المعروفون ب «المحافظين» صاروا يطالبون على نحو متزايد بإلغاء معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية لعام 1972 ونشر منظومة مضادة للصواريخ. وهذا الالتزام صار أشبه بالعقيدة، وظهر في الوثائق الرسمية للحزب، ولم يقبل بأي تنازلات تقريبا. علاوة على ذلك، لم تكترث مطالبات الجمهوريين بنشر هذه المنظومة بالإجراءات المثبتة صحتها على مر فترة من الزمن والخاصة بنشر منظومات الأسلحة، أو بالمخاوف المتعلقة بمواطن القصور التكنولوجية التي تشوب المنظومات المضادة للصواريخ، أو للتكاليف المادية، أو لتأثير نشر هذه المنظومات على الاعتبارات الأوسع للسياسة الخارجية.
الاعتبار الثالث هو أن عمليات البحث والتطوير السابقة تكلفت نحو 120 مليار دولار، وستستمر التكلفة في الارتفاع في ظل قرار نشر تكنولوجيا غير مجربة. وقد أوضح الجنرال رونالد كاديش - رئيس وكالة الدفاع الصاروخي - عدم اكتراث الإدارة بالتكاليف الخاصة، بما يعد في نظر الكثيرين عملية نشر سابقة على أوانها حين اقترح «الاختبار ثم الإصلاح ثم الاختبار ثم الإصلاح ثم الاختبار». ورغم أن هذا هو المعتاد في المرحلة التجريبية، فإنه يصير أكثر تكلفة بكثير حين تنشر الوحدات «العاملة» في مواقعها.
وقد تشكك ديوان المحاسبة الأمريكي في تقرير له صدر في يونيو 2003 في حكمة ضغط البنتاجون لنشر منظومة محدودة للدفاع الصاروخي على حساب تجاهل المسلك المجرب لتطوير منظومات الأسلحة، وكذلك لاستخدام سياسة «الاختبار ثم الإصلاح». وبالتبعية حذر ديوان المحاسبة الأمريكي من أن الإدارة الأمريكية كانت تخاطر بنشر منظومة مضادة للصواريخ تتسم بأنها مكلفة وغير فعالة.
قدرت وكالة الدفاع الصاروخي أن عملية النشر ستتكلف نحو 50 مليار دولار إضافية. بيد أن ديوان المحاسبة الأمريكي أكد على أن هذا المبلغ مرتبط فقط بتكاليف عمليتي البحث والتطوير، وأنه لا يشتمل على تكاليف الإنتاج والتشغيل والصيانة التي قدر البنتاجون سابقا أنها ستتكلف نحو 150 مليار دولار. وقد حث ديوان المحاسبة الأمريكي البنتاجون على التفكير في إعداد تقديرات شاملة لتكاليف منظومة الدفاع الصاروخي، وأنه ينبغي للبنتاجون وضع ميزانية لمواجهة أوجه الإنفاق هذه. وسيتسبب عدم القيام بهذا في إجبار وزارة الدفاع على استخدام الأموال المخصصة لبرامج تسليح أخرى من أجل الوفاء بتكاليف بناء منظومة الدفاع الصاروخي ونشرها.
إن التنبؤ بتكاليف منظومة دفاعية صاروخية متعددة الطبقات لهو مهمة شاقة . ومع ذلك فقد جمعت منظمة «الاقتصاديون المتحدون من أجل تخفيض السلاح» غير الحكومية التقديرات التي وضعها البنتاجون لكل العناصر الخاصة بالمراحل المتعددة لمشاريع إدارة بوش، بما فيها تشغيل المنظومة لمدة عشرين عاما، ووجدت أن الإجمالي يصل إلى تريليون دولار، وقد يصل إلى تريليون ونصف التريليون دولار. بل إنه في عالم تتغير فيه البيئة النووية الاستراتيجية العالمية على نحو سريع قد لا يكون هذا الرقم كافيا.
جدول 6-1: المنظومات الدفاعية الصاروخية الأمريكية السابقة (قائمة مختارة من البرامج الدفاعية الصاروخية الأمريكية).
المشروع
التاريخ
الأبحاث والهدف
ثامبر
1944
بحث تابع للجيش يسعى إلى الحماية من الصواريخ من النوع «فاو 2»، أدى إلى مشروع اعتراض الدوافع الصاروخية البالستية، وألغي عام 1961.
نايك
1945
الجيش يطلق بحثا من أجل الدفاع المضاد للطائرات.
جابا
1947
القوات الجوية تسعى إلى بناء «طائرات أرض جو بدون طيار»، أدمج عام 1949 مع برنامج «ثامبر» بهدف إصابة وتدمير الصواريخ البالستية.
بامبلبي
1947
البحرية تسعى إلى بناء صواريخ سطح-جو، أدى إلى برنامج «تالوس».
نايك أجاكس
1953
صاروخ مضاد للطائرات من تطوير الجيش.
نايك هيركليس
1954
منظومة مضادة للطائرات تابعة للجيش.
ويزارد
1955
صاروخ مضاد للصواريخ البالستية من تطوير القوات الجوية، في النهاية تحول إلى صاروخ هجومي.
نايك زيوس
1956
منظومة مضادة للصواريخ البالستية تابعة للجيش، يربط صاروخ الاعتراض برادار.
تالوس
1958
صار في النهاية برنامج بولاريس للصواريخ البالستية المنطلقة من الغواصات.
نايك زيوس
1960
الجيش يحث على نشر هذه المنظومة من أجل حماية القواعد العسكرية، أدت إلى المنظومة «نايك إكس».
نايك إكس
1963
إضافة الرادار متعدد المراحل والصاروخ سبرنت إلى المنظومة.
سنتينال
1968
تقرر نشر المنظومة «نايك إكس»، التي حملت الاسم الرسمي «سنتينال»، في أرجاء البلاد للحماية من الصواريخ الصينية.
سنتينال
1969
تغيرت تسميتها إلى المنظومة «سيف جارد»، وتقرر نشرها في صوامع الصواريخ البالستية العابرة للقارات في كل من داكوتا ومونتانا.
سيف جارد
1975
المنظومة «سيف جارد» تدخل الخدمة.
سيف جارد
1976
الكونجرس يأمر بوقف عمل المنظومة «سيف جارد».
جدول 6-2: المنظومات الدفاعية الجوية المدنية السوفييتية.
المشروع
التاريخ
الأبحاث والهدف
موسكو
إيه 25
1953
دفاع مضاد للقاذفات يستخدم صواريخ سطح-جو من طراز «في 300».
إيه 35
1958
بدء العمل بالمنظومة «جالوش»، *
المخطط لها أن تحمي الاتحاد السوفييتي من الصواريخ البالستية العابرة للقارات باستخدام الصواريخ «في 1000»، وذلك بحلول عام 1967.
1962
إضافة الصواريخ الاعتراضية «إس 350» للعمل خارج الغلاف الجوي، بيد أنها تفشل في اعتراض الناقلات العائدة ذات الرءوس المتعددة فردية التوجيه.
1967
توقف العمل بالمنظومة «جالوش»؛ بسبب عدم الفعالية في الاختبارات، وموسكو تحمى فقط عن طريق المنظومة «ألدان» المكونة من الطائرات المقاتلة «تي يو 126».
1975
تحديث المنظومة «إيه 350»؛ لتتمكن من اعتراض الناقلات العائدة ذات الرءوس المتعددة فردية التوجيه.
إيه 135
1978
تحديث المنظومة على نحو تدريجي.
1980
الصواريخ «5 في 55» توفر الحماية للوحدات الجوية الدفاعية.
1992
حلت محل المنظومة «إيه 35».
لينينجراد
1961
استخدام الصواريخ الاعتراضية «إس 500» (جريفين) *
ذات منصات إطلاق «سام» أحادية المرحلة، جرى التوقف عن استخدامها عام 1963.
1963
الصواريخ الاعتراضية «إس 200» (جامون) *
ذات منصات إطلاق «سام» ثنائية المرحلة.
1970
الصواريخ «إس 200 في فولجا» تزيد من مداها وتضيف إلى قوة الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية.
1974
الصواريخ «إس 200 دي فيجا»، التخلي عن النسخة المحدثة من الصواريخ «إس 200 في» بعد تعديل معاهدة الصواريخ المضادة للصواريخ البالستية لعام 1972 بحيث تسمح بموقع واحد فقط لكل طرف. *
التسمية الأمريكية.
الفصل السابع
الأسلحة النووية في عصر الإرهاب
نختتم تحليلنا للأسلحة النووية بسؤال بسيط ظاهريا: هل يجعل انتشار الأسلحة النووية العالم أكثر أمنا أم أكثر خطرا؟ أغلب الناس عادة ما يجيبون بالإجابة الغريزية على هذا السؤال: بالطبع يتسبب انتشار الأسلحة النووية في جعل العالم أكثر خطرا. وكيف يمكن ألا يكون الحال كذلك؟! ولهذا قد يبدو من المفاجئ ألا يتفق جميع المحللين النوويين على تلك الإجابة، وأن يظل النقاش مفتوحا دون حسم. وشأن العديد من القضايا المرتبطة بالأسلحة النووية، ينبني النقاش بالأساس على تخمينات وعلى خبرات تاريخية مبهمة؛ فالأسلحة النووية تظل خيارا جذابا في أعين الدول غير الآمنة أو الدول الطموحة. وفي الصراعات الإقليمية كما الحال في شبه القارة الهندية وشرق آسيا والشرق الأوسط، لا يزال للقنبلة تأثير بالغ. وبغض النظر عما قد يقوله المرء خلاف ذلك - وعلى الأرجح قيل كل شيء بالفعل بشأن الاستراتيجية النووية الخاصة بالعقود الستة الماضية - فإن تمتع الدولة بالقوة النووية يمنحها مكانة ونفوذا استثنائيين. لا تزال الدول التسع الأعضاء بالنادي النووي حاليا تملك نحو 27 ألف سلاح نووي عامل من مختلف الأنواع، كما أن ما لا يقل عن خمس عشرة دولة تملك ما يكفي من اليورانيوم المخصب لبناء سلاح نووي.
منذ عام 1945، العديد من الأصوات المؤثرة تعبر عن قلقها من أن انتشار الأسلحة النووية سيؤدي لا محالة إلى دمار العالم، وإلى الآن لم تثبت صحة هذا التنبؤ. لكن هل يرجع هذا إلى الجهود الفعالة المبذولة لمنع انتشار الأسلحة النووية أم أنه راجع ببساطة - حسب كلمات وزير الخارجية الأمريكي الأسبق دين أتشيسون التي قالها في أعقاب الأزمة الكوبية - إلى «الحظ الأعمى وحسب»؟
تظل قضية الانتشار النووي قضية ملحة ليس فقط بسبب خطر امتلاك التنظيمات الإرهابية لأسلحة نووية، وإنما أيضا لأن انتشار الأسلحة النووية يعني بالضرورة انتشار حالات الردع النووي؛ فالأسلحة النووية لطالما كانت ذات أثر مضاعف للقوة؛ إذ إنها قادرة على تعويض الفوارق في القوة العسكرية التقليدية. من قبيل المفارقة إذن أن يغري التفوق الكاسح للولايات المتحدة في القوة العسكرية والبراعة التكنولوجية الدول الأخرى لمحاولة الحصول على القنبلة كوسيلة للتأثير على - أو حتى ردع - مبادرات السياسة الخارجية الأمريكية. وقد نقل عن أحد القادة العسكريين الهنود قوله إن الدرس المستفاد من حرب الخليج الأولى هو أنك لا تستطيع محاربة الولايات المتحدة دون أن تملك القنبلة النووية، كما أن غزو عام 2003 للعراق يوضح بجلاء القوة الحامية للترسانة النووية. ليس هذا بتطور جديد، بل هو في واقع الأمر درس شغل اهتمام صناع السياسة الأمريكيين لوقت طويل، وهي قضية ليس من المرجح أن يكون لها حل بسيط. وقد أوضح ليس أسبن - وزير الدفاع في إدارة كلينتون - المشكلة في ديسمبر 1993 قائلا:
خلال الحرب الباردة، كان عدونا الأساسي يملك في أوروبا قوة تقليدية متفوقة عدديا بدرجة كبيرة، وبالنسبة لنا كانت الأسلحة النووية السبيل لمعادلة تلك القوة. كان التهديد باستخدام هذه الأسلحة حاضرا، وقد استخدم التهديد سبيلا لتعويض قلة أعداد قواتنا التقليدية مقارنة بالعدو، واليوم لا تزال الأسلحة النووية وسيلة لتعويض الفارق الكبير في القوة التقليدية. لكن اليوم صارت الولايات المتحدة هي الدولة صاحبة القوة العسكرية التقليدية التي لا تناهز، وصار أعداؤنا المحتملون هم من يسعون لامتلاك الأسلحة النووية.
ومن ثم فقد خلص أسبن إلى أن الولايات المتحدة قد ينتهي بها الحال وهي في موقف تكافؤ. ومن الأمثلة التاريخية على ذلك ما حدث حين أقر جون إف كينيدي في بدايات أزمة الصواريخ الكوبية بأن حتى العدد الصغير من الأسلحة النووية بإمكانه أن يردع أقوى الدول.
يدور عنصر رئيسي من عناصر النقاش الخاص بالانتشار النووي حول الفعالية المدركة للردع النووي. ويذهب مؤيدو الانتشار النووي إلى أنه لو عمل الردع على نحو يعتمد عليه، فمن المفترض ألا يتسبب انتشار الأسلحة النووية في مخاوف كبيرة. أما معارضو الانتشار النووي فيذهبون إلى أنه لو لم يعمل الردع النووي على نحو يعتمد عليه، فلن تؤدي زيادة أعداد الدول المالكة للأسلحة النووية إلى تعقيد المشهد على الساحة الدولية وحسب، بل إلى جعله أكثر خطرا أيضا.
ذهب بعض المحللين - على نحو مقنع - إلى أن الخوف من الانتشار النووي - بمعنى انتشار الأسلحة النووية - جرى المبالغة فيه كثيرا. بل ويذهب البعض إلى أبعد من ذلك ويرون أن الانتشار النووي قد يزيد في حقيقة الأمر من الأمن العالمي. وهذه الحجة تنطبق فقط على الأسلحة النووية، ولا تنطبق على الأنواع الأخرى مما يطلق عليها أسلحة الدمار الشامل؛ كالأسلحة الكيميائية والبيولوجية. فالأسلحة النووية - حسبما يذهب أصحاب هذا الرأي - تتسبب في دمار بالغ للغاية لدرجة أن استخدامها سيكون مقامرة كبيرة، وسيكون من قبيل الجنون أن تطلق دولة سلاحا نوويا ضد دولة نووية أخرى معادية. بعبارة أخرى، الدول النووية تعلم جيدا أنه حري بها ألا تخوض حروبا مع بعضها البعض. وقد طرحت الحجة التي تقضي بأن الانتشار النووي لا يمثل تهديدا خطيرا لتبرير التوسع الأفقي - أي امتلاك دول أخرى لأسلحة نووية - والتوسع الرأسي؛ أي زيادة ما تملكه الدولة من الأسلحة النووية. وقد ذكر مايكل ماندلباوم منذ نحو خمسة وعشرين عاما أنه «منذ عام 1945، كلما زاد ما يملكه كل طرف من الأسلحة النووية، قل إجمالا احتمال استخدام أي طرف لهذه الأسلحة.» وقد ذهب آخرون إلى الرأي عينه، ومنهم على سبيل المثال كينيث والتز الذي يرى أن الأسلحة النووية تحافظ على «سلام غير مثالي» في القارة الهندية بين الهند وباكستان. وردا على التقارير التي تفيد بأن جميع سيناريوهات الحرب التي وضعها البنتاجون بشأن الهند وباكستان تنتهي على الدوام بتبادل للقصف النووي، قال والتز: «هل نسي جميع من في ذلك المبنى أن الردع ينجح تحديدا؛ لأن الدول النووية تخشى أن تتصاعد الاشتباكات العسكرية التقليدية إلى المستوى النووي، ومن ثم فإنها تتراجع قبل فوات الأوان؟!»
خضعت هذه الفكرة لنقاش متكرر خلال حقبة الحرب الباردة. وقد ذكر الجنرال بيير جالو - المخطط الاستراتيجي العسكري - عام 1960 أن الطريق نحو المزيد من الاستقرار يكمن في زيادة الانتشار النووي. وقد قال: «قلة قليلة من الناس هم من يتفهمون أن تمتع الأسلحة الجديدة بقوة مدمرة تفوق كل تصور هو تحديدا السبب وراء أنها تفرض استقرارا أكثر رسوخا مما عرفه العالم من قبل. كما أنه ليس من اليسير أن تجعل الناس يدركون أنه كلما زادت الأسلحة الانتقامية التي يملكها الجانبان عددا وترهيبا، يصير السلام مؤكدا بشكل أكبر ... وأن الحد من الأسلحة النووية إنما هو في الواقع أكثر خطورة بكثير من انتشاره.» قدم جالو هذه الحجة في سياق تبرير القنبلة الفرنسية وزيادة القدرات النووية لحلف شمال الأطلسي. واختتم جالو بقوله: «هذا هو واقع الحال في زماننا.»
إذا استثنينا قلة من المناصرين البارزين لمبدأ «الانتشار النووي يعني المزيد من الأمن»، فسنجد أن الرأي العام يميل في مجمله إلى الكفة الأخرى، ويرى - خاصة منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر - أن انتشار الأسلحة النووية أمر سيئ؛ أمر سيئ للغاية في واقع الأمر. فالقضايا التي تحرك الدول المالكة للأسلحة النووية، بل وحتى الإرهابيين، لم تعد سياسية وحسب، فقد رأينا هوس الأصولية الدينية، والذي لا يبدو أنه ينصاع، سواء للدبلوماسية أو للقيود الإنسانية. بل في الواقع، منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر تغيرت «القواعد»، ويرى الخبراء أنه يوجد على الأقل بعض الإرهابيين الذين يرغبون في إيقاع عدد بالغ من الضحايا. وفي هذا السياق، لا يمثل الإرهاب النووي وسيلة للترويع والإجبار وحسب، وإنما يمثل أيضا تهديدا خطيرا للدول وللشعوب حول العالم.
أوضح سكوت ساجان - المتخصص في العلوم السياسية - أيضا الطرق التي يمكن أن تفشل بها المنظومات وعمليات التواصل. فمثلا، بدلا من النظر إلى الحوادث بوصفها أحداثا شاذة، ينبغي النظر إليها بوصفها جزءا أصيلا من أعمال أي منظومة. وحين تدخل الأسلحة النووية في الصورة، يصير خطر الحوادث الكارثية حتميا. علاوة على ذلك يؤمن ساجان بأن ثمة مستوى أساسيا من المخاطرة كامن في جميع منظومات الأسلحة النووية بغض النظر عن جنسيتها أو المنطقة التي توجد بها. ومن الجلي أن هذا العنصر يتعلق بمشكلة وجود الأسلحة النووية في مناطق لا تزال عالقة في توترات عرقية وثقافية ودينية عمرها قرون. فهذه العناصر تجتمع في بيئة خاضعة للسيطرة بالكاد - ألا وهي بيئة سياسات الأسلحة النووية الخاصة بالدول - أي إن الأمر بمنزلة كارثة تنتظر الوقوع.
وقف انتشار الأسلحة النووية
يقودنا هذا على نحو حتمي إلى سؤالنا الثاني الجوهري: كيف تستطيع دولة - أو مجموعة من الدول - منع انتشار الأسلحة النووية؟ منذ طرح هذا السؤال خلال المراحل الختامية للحرب العالمية الثانية، اقترح وجرب نطاق واسع من الحلول، بداية من الحلول التشريعية، مرورا بتلك المتعلقة بالمعايير والمعاهدات الدولية، وصولا إلى الأفعال العسكرية الوقائية. بيد أنه لم يثبت أي من هذه الحلول فعاليته بالكامل.
وبينما ساوت خطة باروخ بين السيطرة على الذرة وبين نزع السلاح (وهو ما ناقشناه في الفصل الثالث)، فإن الرئيس دوايت دي أيزنهاور تمكن من الفصل بين الأمرين في مقترحه الذي قدمه عام 1953 المعروف باسم «تسخير الذرة من أجل السلام». كانت نقطة تركيز المقترح هي وقف انتشار الأسلحة النووية، وليس نزع السلاح. وفي خطاب ألقاه أمام الأمم المتحدة في الثامن من ديسمبر 1953 دعا أيزنهاور إلى إعادة التأكيد على الاستخدامات السلمية للطاقة الذرية وعلى تقديم محفزات تجارية من أجل جني فوائد الطاقة الذرية. كان ثمن ذلك هو أن توضع جميع المواد القابلة للانشطار تحت وصاية وكالة تابعة للأمم المتحدة. ومجددا، حققت هذه المبادرة نجاحا متفاوتا. ففي جانبها الإيجابي، أسهمت المبادرة مباشرة في تأسيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية، في يوليو 1957، المعنية بمراقبة التكنولوجيا النووية وتشجيع الاستخدامات السلمية لها، وفي الوقت ذاته العمل كحارس دولي محايد ضد نقل الأسلحة النووية وتطويرها. الوكالة الدولية للطاقة الذرية منظمة مستقلة تحت إشراف الأمم المتحدة يبلغ عدد أعضائها 137 دولة ومقرها فيينا، وقد لعبت الوكالة دورا مهما في السنوات الأخيرة، لكن قوتها تعتمد أساسا على تحولات السياسة الدولية. أما في جانبها السلبي، فقد استغلت بضع دول - من بينها الهند - مشروع «تسخير الذرة من أجل السلام» في تأسيس برامج نووية خاصة بها.
وفي خمسينيات القرن العشرين وستينياته، بينما كانت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي وبريطانيا العظمى وفرنسا تبني ترساناتها النووية، تركزت التقديرات المتكررة بشأن العدد المستقبلي للدول المالكة للسلاح النووي حول ما يربو على العشرين دولة. لكن حين أجرت جمهورية الصين الشعبية تجربتها النووية الناجحة الأولى في أكتوبر 1964، قدم البيت الأبيض والكرملين - بدافع من شعورهما بالقلق - مقترحات للحد من انتشار الأسلحة النووية. وفي «اللجنة الثمانعشرية لنزع السلاح»، التي كانت تناقش هذه القضية، ذهبت دول عدم الانحياز إلى أنه يجب ألا تقسم معاهدة عدم الانتشار النووي دول العالم إلى دول «تملك» السلاح النووي وأخرى «لا تملكه»، وإنما يجب أن توزان بين الالتزامات. وقعت «معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية» عام 1968 بعد أن اتفق الأمريكيون والسوفييت على مضض على «متابعة التزاماتهما بإخلاص» من أجل وقف سباقات التسلح «في أقرب وقت ممكن» (وهي ورقة التوت التي كانا يستتران بها)، وأن يسعيا إلى «معاهدة بشأن النزع الكامل والشامل للسلاح تحت سيطرة دولية فعالة صارمة». وفي المؤتمرات اللاحقة الهادفة لمراجعة وضع معاهدة عدم الانتشار النووي أبدت الدول غير النووية ضيقها من الالتزام المشكوك فيه بهذا التعهد، بيد أن كل ما حصلت عليه هو تعهدات جديدة هشة من القوتين العظميين.
ومع هذا فقد صارت معاهدة عدم الانتشار النووي حجر الأساس لنظام فضفاض لمنع الانتشار النووي. أجرت الوكالة الدولية للطاقة الذرية حملات تفتيش وحراسة هدفت إلى منع تحويل المواد النووية إلى الاستخدامات العسكرية. وخلال عامي 1974 و1975 تأسست مجموعة موردي المواد النووية في لندن من أجل ضمان أن المواد والمعدات والتكنولوجيا النووية لن تستخدم في إنتاج الأسلحة. في الوقت ذاته مدت العديد من «المناطق الخالية من الأسلحة النووية» نطاق نظام عدم الانتشار النووي إلى كل من أمريكا اللاتينية (1967)، وجنوب المحيط الهادي (1996)، وأفريقيا (1996)، وجنوب شرق آسيا (1997)، ووسط آسيا (2002)، فيما أكملت معاهدة الحظر الشامل للتجارب النووية - التي رفض مجلس الشيوخ التصديق عليها - ملامح هذا النظام. ورغم كل مثالبها، فإن معاهدة عدم الانتشار النووي تبرز بوصفها الثمرة الأهم للجهود العالمية متعددة الجهات الهادفة لتأسيس نظام قابل للإنفاذ من أجل تقليص أي انتشار إضافي للأسلحة النووية.
وقت توقيع معاهدة عدم الانتشار النووي، كان النادي النووي يضم خمسة أعضاء بالفعل: الولايات المتحدة، والاتحاد السوفييتي، والمملكة المتحدة، وفرنسا، والصين. وقد قابلت هذه الدول أي إضافة جديدة للنادي النووي بدرجات متفاوتة من القلق. كان صناع السياسات الأمريكيون قد انخرطوا بالفعل في مناقشات جادة معارضة للبرنامجين النوويين السوفييتي والصيني قبل أن تفجر كل من الدولتين بنجاح أولى قنابلها الذرية في العامين 1949 و1964 على الترتيب. كما درست الحكومة الهندية في عهد رئيسة الوزراء إنديرا غاندي بجدية خططا لهجمات عسكرية وقائية على المنشآت النووية الباكستانية في أوائل الثمانينيات، لكنها في النهاية رفضت هذه الخطط. أما إسرائيل - الدولة غير الموقعة على المعاهدة - فقد شنت بالفعل ضربة عسكرية ضد المفاعل النووي العراقي تموز في أوزيراك في السابع من يونيو 1981. وقد حققت الوسائل الأقل عنفا هي الأخرى نجاحات متفاوتة. فقد تكونت الجهود الأمريكية لإعاقة البرنامج النووي البريطاني بالأساس من قطع تدفق المعلومات والمواد الخام عن حليفتها السابقة. أما الفرنسيون فقد كانت هناك محاولات نشطة لإثنائهم عن تطوير خيار نووي مستقل خاص بهم، وعرض عليهم بدلا من ذلك إنشاء قوة نووية أوروبية . لكن أيا من هذه الجهود لم يكن حاسما.
لم تنظر جميع الدول النووية - أو تلك التي في سبيلها لأن تصبح دولا نووية - إلى معاهدة عدم الانتشار النووي وتجديدها غير محدد الأجل في عام 1995 على نحو إيجابي. فعلى أي حال، وضعت المعاهدة أساسا بهدف تجميد الوضع الراهن. وكان من الطبيعي أن ترى الدول النووية الكبرى الموقعة على المعاهدة أن هذا التجميد أمر إيجابي؛ لأنه يحفظ لها مكانتها في الوقت الذي تظل محتفظة فيه بحريتها في تحديث ترساناتها النووية الخاصة بها، وهو ما فعلته بكل تأكيد. لكن دولا أخرى كالهند - غير الموقعة على المعاهدة - رأت أن المعاهدة تمنح امتيازا حصريا للقوى النووية، وعارضت ما اعتبرته معايير نووية مزدوجة من جانب الغرب وروسيا والصين. ووفقا لوزير الدفاع الهندي كيه سي بانت: «لقد اقترحنا بكل جدية خطة مدتها خمسة عشر عاما من أجل التخلص المرحلي من الأسلحة النووية. لكن بعد أن تم مد العمل بمعاهدة عدم الانتشار النووي «إلى ما لا نهاية»، صار من الجلي أن القوى العظمى ليست لديها نية التخلص من ترساناتها النووية.» وقد يكون السبب الكامن وراء تطوير الهند للأسلحة النووية هو تلك المعايير المزدوجة، ورغبتها في ألا يستخف بها.
ذهب منتقدو نزع السلاح أيضا إلى أنه بموجب معاهدة عدم الانتشار النووي، من المفترض بالقوى النووية ألا تتوسع في ترساناتها النووية بل أن تتحرك صوب النزع الشامل للسلاح النووي. والبند السادس من المعاهدة ينص بوضوح على أن: «على كل طرف موقع على المعاهدة التعهد بأن يواصل بإخلاص المفاوضات الخاصة بالإجراءات الفعالة المرتبطة بوقف سباق التسلح النووي في تاريخ مبكر وبنزع السلاح النووي، والخاصة بالوصول لمعاهدة بشأن النزع التام والشامل تحت سيطرة دولية حازمة وفعالة.» علاوة على ذلك تساءل هؤلاء المنتقدون: ما الغرض الذي يمكن أن تستخدم فيه الأسلحة النووية في الحرب على الإرهاب؟ وألا يمكن أن توجه الأموال المنفقة على تحديث القوى النووية إلى أغراض أخرى نافعة؟
كالمنتظر منه - ودفاعا عن قرار حكومته بتحديث منظومة الأسلحة النووية ترايدنت واستبدالها - رد رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير على المعارضة بتوضيح أن معاهدة عدم الانتشار النووي لم تلزم الدول الأعضاء بالنزع الكامل للسلاح، وإنما بعقد المفاوضات الخاصة بالإجراءات الفعالة، وأن حكومته قد أوفت بهذا التعهد بالفعل. لقد قلصت الحكومة البريطانية بالفعل القوة التفجيرية لأسلحتها النووية بنسبة 70 بالمائة منذ نهاية الحرب الباردة، وتخلت عن القنابل المحمولة بواسطة قاذفات استراتيجية، وقللت الاستعداد التشغيلي لغواصاتها النووية الأربع من طراز «فاجارد»، التي تحمل الواحدة منها ستة عشر صاروخا بالستيا من صواريخ ترايدنت زودتها بها الولايات المتحدة، وكل صاروخ منها مزود بما يصل إلى ثلاثة رءوس حربية. وعلى أي حال، في أي وقت بعينه تكون هناك غواصة واحدة فقط عاملة، وستحتاج قبل أن تطلق صواريخها إلى إشعار مسبق قبلها بعدة أيام. وفي الرابع والعشرين من فبراير 2007 جذبت مظاهرات «لا للصواريخ ترايدنت» أكثر من مائة ألف محتج إلى شوارع لندن لمطالبة الحكومة بوقف خططها القاضية ببناء جيل جديد من الأسلحة النووية يحل محل ترايدنت. كانت هناك أيضا مقاومة ملموسة من جانب أعضاء مجلس العموم عن حزب العمال، وصوت عدد كاف منهم ضد مقترح استبدال الصواريخ ترايدنت، وهو ما أجبر توني بلير على التماس الدعم من المحافظين. وبنهاية شهر مارس حقق بلير مبتغاه: غواصة بديلة، بما في ذلك الصواريخ والرءوس الحربية، وحتى هذه الغواصة، فسيستغرق تصنيعها ما لا يقل عن سبعة عشر عاما.
ميراث الحرب الباردة
منذ نهاية الحرب الباردة صارت مشكلة انتشار الأسلحة النووية أكثر تعقيدا، لا أقل. وقد لعب ميراث الحرب الباردة دورا مهما. فبعد سقوط حائط برلين وانهيار الإمبراطورية السوفييتية، كان التحدي الأول هو تفكيك ما أسماه الزعيم السوفييتي السابق ميخائيل جورباتشوف «البنية التحتية للخوف» التي هيمنت على علاقات الأمن العالمي خلال الحرب الباردة، وأعلنت واشنطن وموسكو انتهاء سباقات التسلح مع توقيع معاهدة ستارت في أغسطس 1991. إن وقف سباق التسلح أمر، لكن التخلص من مخزون الأسلحة أمر مختلف بصورة كلية.
من الصعب أن نجد من يستطيع تقديم حجة مقنعة تفسر استمرار احتياج الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي لآلاف الأسلحة النووية العاملة في مخازنها بعد كل هذه السنوات من انتهاء الحرب الباردة. فاليوم - وفقا لوزير الدفاع الأمريكي السابق روبرت ماكنمارا - تنشر الولايات المتحدة قرابة 4500 رأس حربي نووي هجومي استراتيجي فيما ينشر الروس نحو 3800 رأس. (القوة الاستراتيجية للمملكة المتحدة وفرنسا والصين أصغر من ذلك كثيرا؛ إذ يصل عدد الأسلحة النووية في ترسانة كل دولة من هذه الدول إلى ما بين 200 و400 سلاح نووي. أما أحدث أعضاء النادي النووي - الهند وباكستان - فتملك الواحدة منهما أقل من مائة رأس نووي.) ومن بين الثمانية آلاف رأس حربي نشط أو عامل تملكها الولايات المتحدة - وكل رأس منها ذو قوة تدميرية تزيد بعشرين ضعفا على قوة قنبلة هيروشيما - فإن ألفي رأس من هذه الرءوس موضوعة رهن الإطلاق الفوري، بحيث تكون جاهزة للإطلاق في غضون خمس عشرة دقيقة لو لزم الأمر. علاوة على ذلك، تظل الولايات المتحدة مستعدة للبدء في استخدام هذه الأسلحة ضد دولة نووية أو غير نووية رهن قرار شخص واحد؛ الرئيس، وذلك وقتما يرى الرئيس أن هذا الاستخدام يصب في مصلحة البلاد.
أحد أكثر مخاوف خبراء الأمن وصناع السياسات في أوائل التسعينيات إلحاحا كان تأمين أسلحة الاتحاد السوفييتي بعد انهياره. وفي عام 1991 بعد تفكك الاتحاد السوفييتي تبقت أسلحة نووية في الجمهوريات السوفييتية السابقة أوكرانيا وروسيا البيضاء وكازاخستان. وقد اقتنعت هذه الدول حديثة الاستقلال - والتي أصبحت منذ مولدها دولا نووية - في نهاية المطاف بالتخلي عن الأسلحة التي ورثتها، وتمت إعادة جميع هذه الأسلحة إلى روسيا، وإن لم يمر الأمر دون قلق بالغ؛ فتخلي هذه الدول حديثة الاستقلال عن أوراقها الرابحة القوية لم يكن بالأمر المضمون. وقد ساعد برنامج «نان- لوجار» - بتمويل أمريكي سخي من أجل تأمين هذه الأسلحة - في تحقيق هذا الانتقال بنجاح. إن العدد الكبير للأسلحة النووية، حتى مع اقترانه بمثل هذا التوزيع المحدود، أوضح بجلاء مشكلة التحكم والسيطرة والتأمين في بيئة ذات بنية تحتية عسكرية متداعية. فالتهديد الذي يواجهه المجتمع الدولي خطير بحق، سواء كان سبب ذلك سعي جهة عسكرية تفتقر إلى الأموال إلى تسييل جزء من أصولها عن طريق بيع أسلحة نووية، أو تسبب إجراءات التأمين المهلهلة في السماح بسرقة مثل هذه الأسلحة.
بدت المشكلة أكثر إثارة للمخاوف في ظل انتشار هذه الأسلحة خارج حدود الدول التي تملكها. فإبان الحرب الباردة نشرت كلتا القوتين العظميين عشرات الآلاف من الأسلحة النووية والصواريخ الناقلة القادرة على حمل رءوس نووية خارج حدودها تحت مسميات مثل الدفاع المبكر والتموضع السابق. وقائمة المواقع التي وضعت فيها أسلحة نووية أمريكية - سواء تكتيكية أو استراتيجية - خارج الولايات المتحدة طويلة على نحو مثير للدهشة، وتضم: ألاسكا، كندا، جرينلاند، جوام، هاواي، اليابان، جزر جونستون، كواجالين، ميدواي، المغرب، الفلبين، بورتوريكو، كوريا الجنوبية، إسبانيا، تايوان، بلجيكا، فرنسا، اليونان، إيطاليا، هولندا، تركيا، المملكة المتحدة، ألمانيا الغربية. وفي أوروبا وحدها نشرت الآلاف من الأسلحة النووية الأمريكية منذ سبتمبر 1954 في عملية متواصلة من الإحلال بفعل التقادم، ووصل العدد ذروته في عام 1971؛ إذ بلغ نحو 7300 سلاح نووي.
قلص عدد الأسلحة النووية الأمريكية المنتشرة خارج البلاد على نحو بالغ منذ تفكك الاتحاد السوفييتي. وفي عام 1991 أمر الرئيس جورج بوش الأب بسحب كافة الأسلحة النووية التكتيكية ذات القواعد الأرضية والبحرية من مواقعها خارج البلاد. لكن تظل الولايات المتحدة الدولة الوحيدة المحتفظة بأسلحة نووية ذات قواعد أرضية خارج حدودها (تواصل دول أخرى احتفاظها بأسلحة ذات قواعد بحرية أو جوية). ويبلغ عدد الأسلحة النووية الأمريكية الموجودة في أوروبا نحو 480 سلاحا نوويا.
الردع النووي في حقبة ما بعد الحرب الباردة
بشر تفكك الاتحاد السوفييتي بواقع جديد لم يعد فيه «احتمال قيام الاتحاد السوفييتي بغزو أوروبا دون إنذار مسبق تهديدا واقعيا». تبنى جورباتشوف هذا الرأي، واصفا إياه بثورة في التفكير الاستراتيجي؛ إذ لم يعد التهديد بالحرب هو الرادع عن الحرب. وكما قال: «هدفنا التالي هو الاستغلال الأمثل لهذه النقلة العظيمة من أجل جعل نزع السلاح عملية لا يمكن الرجوع فيها.»
لكن بحلول اعتلاء بيل كلينتون سدة الرئاسة، كانت نشوة نهاية الحرب الباردة في سبيلها للانسحاب لصالح التحليلات الأكثر واقعية. فقد صار من الجلي على نحو متزايد أن المشكلات المرتبطة بالأسلحة النووية لم تختف بالفعل، بل اتخذت شكلا مختلفا وحسب. وبدلا من أن تدشن نهاية الحرب الباردة حقبة جديدة من السلم والأمن العالميين، فإنها مهدت الطريق إلى عدم الاستقرار وطفو القضايا الإقليمية - التي لطالما ظلت مكبوتة - على السطح مجددا. وصارت أسماء مناطق مثل سراييفو وكوسوفو ورواندا مألوفة للجميع.
ومع هذا، فقد واصلت إدارة كلينتون العمل بكل قوتها من أجل توفيق السياسة النووية مع الظروف الجديدة. وفي أواخر عام 1993 أعلنت أن الحكومة تبنت فهما جديدا لمفهوم «الردع». وقد حدد «استعراض تفصيلي» شامل واسع النطاق أجراه البنتاجون خلال عام 1993 عددا من التهديدات الرئيسية لأمن الولايات المتحدة. ومن أبرز هذه التهديدات كان التهديد المتزايد لانتشار الأسلحة النووية وغيرها من أسلحة الدمار الشامل. ومن ثم سيكون «الردع» الجديد موجها ليس فقط إلى درء التهديد باستخدام الأسلحة النووية، وإنما أيضا امتلاك التكنولوجيا والمواد الذرية. وعن طريق توظيف الضغوط العسكرية والاقتصادية كزاجر، أملت الإدارة الأمريكية في تحييد بعض الجهات الكبرى المزعزعة للاستقرار؛ مثل: كوريا الشمالية والعراق وليبيا.
بيد أن الدافع الأساسي وراء السياسة النووية الأمريكية ظل احتمال انبعاث القوة الروسية من جديد. وبالتماشي مع التعريف الجديد للردع، أعلنت إدارة كلينتون في سبتمبر 1994 أنها بصدد تبني عقيدة نووية جديدة. فقد تقرر الاستعاضة عن عقيدة الدمار المؤكد المتبادل بسياسة جديدة من الأمان المؤكد المتبادل، تستهدف أساسا الدولة الروسية. حقق هذا هدفا ذا شقين؛ الأول: هو دعم القيادة الروسية من أجل مواصلة تقليص أعداد الأسلحة النووية، والثاني: والأهم، هو الوقاية من أي تراجع عن عملية الإصلاح في روسيا. فرغم أنه لا يزال من غير المرجح أن يتمكن الاقتصاد الروسي الضعيف من إعادة بناء القوة العسكرية التقليدية إلى نفس الدرجة التي كان عليها خلال الحرب الباردة، فقد رأى مخططو السياسات الأمريكيون أن الأسلحة النووية قد تمثل خيارا جذابا رخيص الثمن أمام الجيل الجديد من الزعماء الروس.
وفي نوفمبر 1997 أصدر كلينتون توجيها رئاسيا يصف على نحو عام أهداف الأسلحة النووية الأمريكية، وفي الوقت ذاته يرسم الخطوط العريضة من أجل تطوير خطط فعالة. كان هذا أول توجيه رئاسي من نوعه بشأن التوظيف الفعلي للأسلحة النووية منذ إدارة كارتر، وكان أبرز ما يميزه هو أن واشنطن تخلت أخيرا عن عقيدة الحرب الباردة التي كانت تقضي باستعدادها لخوض حرب نووية مطولة. ذكر التوجيه الرئاسي أيضا أن الأسلحة النووية الاستراتيجية ستلعب في الوضع الأمني الأمريكي دورا أقل من أي دور لعبته خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وإن كانت تظل جزءا حيويا من الجهود الأمريكية الهادفة للوقاية من أي تهديد مستقبلي محتمل. أما من رأوا أن زمن الردع قد ولى وانقضى فقد مثل توجيه كلينتون تذكرة قاسية بأن الكثير لم يتغير بالفعل. وبكلمات أشبه بتلك المستخدمة في ذروة الحرب الباردة، أعلنت إدارة كلينتون أن:
من المنتظر أن يضمن الردع تسليم الأعداء المحتملين بأن استخدام الأسلحة النووية ضد الولايات المتحدة أو حلفائها لن يفلح ... فثمة حاجة لنطاق عريض من الخيارات الانتقامية النووية من أجل ضمان ألا تترك الولايات المتحدة دون القدرة على الاستجابة على نحو ملائم ... وستحتفظ الولايات المتحدة بالقدر الكافي من الغموض بحيث يكون أي عدو غير واثق من أن الولايات المتحدة لن تشن عليه هجوما مضادا قبل وصول أسلحته إلى أراضيها.
في الوقت عينه، تساءل خليفة أسبن في منصب وزير الدفاع، ويليام كوهين، علانية عما إذا كانت القوة النووية الصغيرة ستجعل البلد هدفا أكثر إغراء، وتعمد تعزيز مفهوم الغموض الذي ارتكن إليه الردع.
وبينما كان الانتقال نحو وضع متماسك لما بعد الحرب الباردة غير تام بعد، تعاملت الولايات المتحدة علانية مع موسكو بوصفها حليفا، في الوقت الذي استمرت فيه سيناريوهات الحرب التي يطورها البنتاجون في النظر لموسكو بوصفها العدو الأساسي. ومن جانبها، حافظت روسيا على قوة نووية ذات اعتبار، والسبب الظاهري وراء ذلك هو تعويض التدهور الذي شهدته قدراتها العسكرية التقليدية.
فعالية جهود منع الانتشار النووي
حققت الجهود الهادفة لمنع الانتشار النووي في السنوات الأخيرة نتائج متباينة. فمن ناحية، تقلص مخزون الأسلحة النووية على نحو ملحوظ، وتحول جزء من تلك المواد القابلة للانشطار إلى أغراض سلمية عن طريق مزج البلوتونيوم واليورانيوم الصالحين للاستخدام في التفجيرات النووية بأنواع أقل جودة من العنصرين وأكثر ملاءمة لعملية إنتاج الطاقة النووية. وقد تفاخر السفير لينتون بروكس - مدير إدارة الأمن النووي القومي الأمريكي - قائلا: «واحد من كل عشرة مصابيح في الولايات المتحدة يحصل على طاقته من قنبلة سوفييتية سابقة.» لكن من ناحية أخرى، يبدو خطر وقوع الأسلحة النووية أو المواد القابلة للانشطار في الأيدي الخاطئة أكبر في وقتنا الحالي من ذي قبل.
في سبتمبر 2005 أكدت الوكالة الدولية للطاقة الذرية أنه منذ عام 1993 وقعت 220 حالة من حالات تهريب المواد النووية؛ وثماني عشرة من هذه الحالات تضمنت تهريب اليورانيوم عالي التخصيب. وقد اشتدت المخاوف بشأن قدرة روسيا على السيطرة على القنابل الصغيرة بحجم حقائب اليد بعد أن أعلن مستشار الأمن القومي الروسي الأسبق ألكسندر ليبيد في عام 1997 أن ما يصل إلى المائة من هذه القنابل غير معلوم مكانها. وهذه القنابل - التي كان الغرض من ورائها في الأساس أن يستخدمها الجواسيس خلف خطوط العدو في عمليات التخريب والهدم في حالة نشوب حرب - صممت كي تكون سهلة التنقل بدرجة كبيرة، ومتسمة بالكفاية الذاتية، وغالبا ما تتسم بالاختصار من حيث إجراءات التسليح والتفجير. بعبارة أخرى، إنها حلم كل إرهابي. وقد قال ليبيد في سبتمبر 1997 في مقابلة تليفزيونية لبرنامج «60 دقيقة»: «أكثر من مائة سلاح من الأسلحة المائتين والخمسين المفترضة ليست تحت إشراف القوات المسلحة الروسية. أنا لا أعرف مكانها، ولا أعرف ما إذا كانت قد دمرت أو خزنت في مكان ما أو بيعت أو سرقت. لا أعرف حقيقة.» وقد صارت مزاعم ليبيد موضوع نقاش حاد.
القضية تتعدى محض الفضول التاريخي. ففي الحادي عشر من أكتوبر 2001 - بعد شهر واحد فقط من الهجوم الإرهابي على نيويورك وواشنطن - أعلم جورج تينيت - مدير وكالة الاستخبارات المركزية - الرئيس جورج بوش الابن بأنه وفقا لمصادر للمخابرات المركزية فإن تنظيم القاعدة سرق قنبلة نووية صغيرة من الترسانة الروسية. وتلك القنبلة - وفق ذلك المصدر - كانت موجودة في مدينة نيويورك. بيد أنه تبين كذب هذه المعلومة. لكن سرقات المواد الصالحة للاستخدام النووي ومحاولات سرقة الأسلحة النووية لم تعد محض افتراضات، وإنما صارت حقيقة مثبتة متكررة الحدوث على المستوى الدولي. ويقول جراهام أليسون: «آلاف الأسلحة النووية، وعشرات الآلاف من المواد الممكن استخدامها في الأسلحة النووية (كتل بحجم كرة البيسبول من اليورانيوم والبلوتونيوم عاليي التخصيب) موجودة اليوم في منشآت تخزين غير مؤمنة داخل روسيا، عرضة للسرقة من جانب اللصوص العازمين الذين يمكن أن يبيعوها إلى إرهابيين.» وفي السنوات التي تلت نهاية الحرب الباردة كانت هناك حالات كثيرة لسرقة المواد النووية تم فيها القبض على اللصوص، في روسيا أحيانا، وفي أحيان أخرى في جمهورية التشيك وألمانيا وغيرهما.
هناك أيضا مشكلة انتشار الأسلحة النووية ووصولها إلى الدول الضعيفة أو المتداعية. ومن الأمثلة الموضحة لفداحة هذه المشكلة شبكة التهريب الدولية للتكنولوجيا والمواد الذرية التي أقامها عالم الذرة الباكستاني د. عبد القدير خان، والتي تعد «شبكة تسوق شاملة للأسلحة النووية». دون شك، اتسمت شبكة خان بكونها شبكة عالية التعقيد من التجهيز والإنتاج تمتد من باكستان إلى ليبيا وكوريا الشمالية وإيران وماليزيا وغيرها من الدول. وقد كان لإسقاط هذه الشبكة تأثيرات فورية. لقد لعبت شبكة خان دورا محوريا في تعزيز طموحات ليبيا النووية، وبعد أشهر قلائل من إسقاط هذه الشبكة في عام 2004 تخلت ليبيا عن برنامجها النووي، وسمحت للمفتشين الدوليين بدخول البلاد، وتخلت عن الكثير من التكنولوجيا الداعمة لهذا البرنامج.
شكل 7-1: متظاهرون باكستانيون مؤيدون يحملون صورا للدكتور عبد القدير خان، الذي يرون فيه «الأب الروحي للقنبلة الذرية الإسلامية».
كان ذلك أمرا مباغتا ذا تأثيرات غير عادية. وقد تسبب أيضا في إفاقة الكثيرين؛ إذ اتسمت الشبكة بالتعقيد والفعالية، وعملت في الخفاء لأعوام عدة. ورغم توقف أعمال عبد القدير خان وشركائه، يظل هناك سؤال كبير لم يجب عنه: من غيرهم ربما استطاع الوصول إلى التكنولوجيا النووية التي عمل هو وشبكته على نشرها؟ ببساطة نحن لا نعرف الإجابة، والسبب في ذلك حسب رأي جون تشيبمان - رئيس أحد بيوت الخبرة للدراسات الاستراتيجية في لندن - يرجع إلى أن:
باكستان لم تفصح علانية عن اعترافات خان، أو تفاصيل تحقيقاتها بشأن الشبكة، بما في ذلك الأشخاص المقبوض عليهم والأشخاص الذين تم احتجازهم «بغرض الاستجواب»، أو التهم والقوانين التي تم بموجبها احتجاز خان وشركائه، أو الأسس التي تم بناء عليها إطلاق سراحهم، أو هوية الأشخاص الذين وضعوا رهن نوع من «الإقامة الجبرية» المتواصلة.
توقفت باكستان عن الإعلان عن أي معلومات استنادا إلى أن قضية خان قد أغلقت رسميا. إضافة إلى ذلك، ظل أغلب شركاء خان في الشبكة أحرارا ولم يدن أو يسجن إلا ثلاثة أشخاص فقط. والمحصلة النهائية هي تخوف حقيقي من أن يكون إطار العمل الدولي للسيطرة على الصادرات لا يزال يحوي ثغرات خطيرة يمكن استغلالها من جانب شبكة مشابهة لتلك التي أقامها خان.
ما الذي نعرفه إذن؟ نعرف أن تفكيك شبكة عبد القدير خان يبدو أشبه بنجاح بارز للجهود الجادة لمنع الانتشار النووي، وربما أدى إلى تقدم ملموس في مجابهة الانتشار النووي حين أجبر ليبيا على التخلي عن طموحاتها النووية وبرامج التسليح المتقدمة. من الوهلة الأولى بدت الحالة الليبية نموذجا للردع الناجح، لكن اتضح أن المظاهر الأولى خداعة. فالتقارير الصحفية الأولية عن قرار ليبيا بإنهاء طموحاتها النووية لمحت ضمنا إلى أن الردع لعب دورا محوريا في هذا القرار، وقد تسبب توافق توقيت هذا القرار مع غزو العراق والبيئة السياسية الداخلية المحتدمة في تأييد هذه التقارير. وربما خشي العقيد معمر القذافي أن تواجه ليبيا مصير العراق. وقد ساعد الكشف اللاحق عن اعتماد ليبيا على شبكة خان على تقييم الأحداث على نحو أفضل. فرغم أن القذافي ربما استجاب للردع بقدر ما، فإن الردع لم يكن على الأرجح القوة الرئيسية التي وقفت خلف قرار طرابلس. فالأمر ببساطة أن ليبيا كشف أمرها وهي تخرق القواعد الدولية المتعلقة بنقل المواد والتكنولوجيا النووية. وفي مواجهة الأدلة الدامغة على جرمها هذا وحرمانها من مصدرها الأساسي لاستمرار البرنامج النووي، ربما رأت ليبيا مزية سياسية في «الاعتراف» والتخلي عن الأسلحة النووية بدلا من إنكار الواقع. وقد ثبت أن القذافي اتخذ القرار الصحيح.
ثمة مشكلة مقلقة أخرى بشأن السيطرة على الانتشار النووي؛ وهي الخط الغائم بين برامج الطاقة الذرية المدنية وبرامج الأسلحة الذرية. فقد وجهت الكثير من الجهود في السنوات الأخيرة نحو إرساء حدود واضحة بين الأمرين، لكن ظل من الممكن لبرنامج مدني للطاقة الذرية أن يتحول إلى برنامج للأسلحة النووية. فبرامج الطاقة الذرية المدنية تبني الخبرات وتسهم في التكنولوجيا وتنتج المواد النووية. وهذه السمة استغلتها مؤخرا دولتان من الدول الثلاث التي وصفها الرئيس جورج بوش الابن على نحو شهير بأنها «محور الشر». فلطالما أصرت إيران على أن طموحاتها النووية تقتصر وحسب على المفاعلات الذرية المدنية، لكن المجتمع الدولي - بما فيه الوكالة الدولية للطاقة الذرية - ظل غير مقتنع بهذا الزعم. وقد عمل زعم طهران على أن لها حقا «سلميا» في الحصول على كل ما تحتاجه للاقتراب من امتلاك القنبلة الذرية كتذكرة لما عملت معاهدة عدم الانتشار النووي على تجنبه. وتواصل إيران - أيا ما كانت أسبابها - رفض المطالبات الدولية بتعليق برنامجها الخاص بتخصيب اليورانيوم.
بموجب الاتفاقات المعقودة مع إدارة كلينتون، تم السماح لكوريا الشمالية بالاحتفاظ ببرنامج مدني للطاقة الذرية. من الواضح أن كوريا الشمالية كانت تنتوي استخدام مفاعلاتها في تخصيب اليورانيوم؛ المكون الأساسي في أي سلاح نووي. ولم تكن المشكلات مع كوريا الشمالية بشأن الانتشار النووي بالأمر الجديد؛ إذ بدأ النظام الحاكم هناك في بناء المفاعلات النووية في الستينيات، ولم تنضم كوريا الشمالية إلى معاهدة منع الانتشار النووي حتى عام 1985، بينما تأجل اتفاق الضمانات الذي بموجبه يسمح بالتفتيش على برنامجها النووي من طرف الوكالة الدولية للطاقة الذرية حتى عام 1992. وحين اقترح التفتيش المتأخر عن موعده أن كوريا الشمالية كانت تخفي مواد نووية، صارت كوريا الشمالية أول دولة تعلن انسحابها من معاهدة عدم الانتشار النووي؛ إذ أوقفت العمل بها على نحو درامي قبل يوم واحد من موعد تجديد العمل بها. ثم حلت الفترة الخاصة ب «إطار العمل المتفق عليه» في عام 1994، لكن هذا الإطار انهار في عام 2002. وقد استلزم «إطار العمل المتفق عليه» - والذي تمت صياغته بواسطة إدارة كلينتون - أن تساعد الولايات المتحدة كوريا الشمالية في الحصول على مفاعلات حديثة تعمل بالماء الخفيف من شأنها إنتاج الطاقة ولكنها لا تملك القدرة على إنتاج الأسلحة، واستلزم أيضا الانتقال نحو إقامة علاقات طبيعية. لم يحدث أي من الأمرين؛ إذ ضغط خليفة كلينتون من أجل إقامة ما سمي «المحادثات سداسية الأطراف» بشأن كوريا الشمالية، التي من المفترض أن تتوصل فيها الكوريتان والصين وروسيا واليابان والولايات المتحدة على نحو مشترك إلى حل مع نظام كيم إيل سونج ذي الطابع الستاليني.
وفي التاسع من أكتوبر 2006، فجرت كوريا الشمالية قنبلة بلوتونيوم داخل نفق في مكان يدعى بانجي في أقصى شمال البلاد، وبهذا صارت الدولة التاسعة في التاريخ - وعلى الأرجح أكثر الدول خطرا وافتقارا للاستقرار - التي تصرح بانضمامها لنادي الدول المالكة للأسلحة النووية. ما الذي يدفع كوريا الشمالية إلى امتلاك أسلحة نووية؟ أهي لغرض الدفاع أم الهجوم أم كورقة تفاوض دبلوماسية؟ لم يكن أحد متأكدا بشكل تام، كما كان من العسير للغاية معرفة ما سيتم فعله حيال هذا الأمر. رأت صحيفة نيويورك تايمز المتزنة عادة في آرائها أن الأمر سيصير مشكلة عويصة؛ لأن كوريا الشمالية كانت «تتسم بعدم الاستقرار والقسوة المفرطين ومستعدة بالكامل لبيع كل ما تملك مقابل الحصول على قنبلة نووية.» ويظل نقص المعلومات عن البرنامج النووي لكوريا الشمالية - تلك الدولة المنعزلة بشكل عام - قضية خطيرة يواجهها المجتمع الدولي، خاصة أن تلك الدولة أظهرت على نحو متكرر سياسات معادية للأمن الدولي.
إن احتمالات نشوب نوع من الصراع العسكري بشبه الجزيرة الكورية في السنوات القادمة مرتفعة، كما يبدو من المرجح بشدة أن تفكر كوريا الشمالية على نحو جدي في استخدام السلاح النووي في المعركة. إن البرنامج النووي الكوري الشمالي لن يختفي من تلقاء نفسه، رغم المقترح المعارض المتكرر المقدم من طرف البنتاجون والهادف إلى تخلي كوريا الشمالية عن برنامجها النووي في مقابل امتيازات دبلوماسية وأخرى خاصة بالطاقة. وفي هذه المرحلة الحاسمة، من الصعب أن نعرف تحديدا ما الذي من شأنه أن يحمل كوريا الشمالية على التخلي عن ترسانتها النووية، هذا إن وجد ما يدفعها إلى ذلك من الأساس.
وأخيرا، هناك مشكلة انتشار الأسلحة النووية بدول جنوب آسيا. لقد حققت الجهود الهادفة لوقف سباق التسلح النووي بين الهند وباكستان فشلا ذريعا. ومن الجلي أنه جرى التعامل مع المشكلة على نحو مختلف تماما عما حدث في حالة ليبيا. لقد انضمت الهند إلى النادي النووي حين أجرت اختبارا ناجحا في الثامن عشر من مايو 1974، وكانت الهند قد بدأت البرنامج استجابة إلى الصراع الحدودي بينها وبين الصين الذي وقع في نوفمبر 1962، وتطوير الصين لقنبلتها الذرية بعد ذلك التاريخ بعامين. ومنذ ذلك الوقت والهند تحافظ على نهج «الجبهة المزدوجة» فيما يختص بتخطيطها الدفاعي، واضعة الصين وباكستان نصب عينيها. لكن الجبهة الهندية الباكستانية هي التي سببت مخاوف عالمية شديدة بسبب تصاعد الموقف هناك على نحو بالغ الخطورة في منتصف عام 1998. لقد مر البلدان بتاريخ طويل من الصراع خلال العمر القصير نسبيا لدولة باكستان، واحتدم الصراع بينهما بسبب العديد من القضايا الثقافية والأمنية، وهناك نقطة مشتعلة جاهزة للانفجار تتمثل في إقليم جامو وكشمير المتنازع عليه.
منذ عام 1947، حين اقتطعت باكستان من الهند بواسطة البريطانيين، نشبت صراعات عسكرية خطيرة بين الجانبين أربع مرات على الأقل، وفي كل مرة كان الانتصار حليف الهند. ومن الطبيعي أن يؤدي إدخال الأسلحة النووية إلى هذا الموقف المعرض للانفجار إلى إثارة المخاوف. وفي مايو 1998، أجرت الهند خمس تجارب لأسلحة نووية. وقبل انتهاء الشهر عينه ردت باكستان في عجالة بست تجارب نووية خاصة بها. وقد انخرط الجانبان في تراشق لفظي حاد، وازداد التوتر في مناسبات عدة، أبرزها عمليات الحشد العسكري المجازفة في 2002. وقد أثارت التجارب النووية إدانة دولية واسعة لكلا الطرفين.
شكل 7-2: موقع هندي للتجارب النووية في راجاستان، مايو 1998.
ويظل السؤال بشأن ما إذا كانت الأسلحة النووية ستتسبب في دعم استقرار الصراع الهندي الباكستاني أم زعزعته؛ مثار جدل. فالمؤيدون للردع يذهبون إلى أن مخاطر أي تبادل بالقصف النووي - وإن صغر - بشبه الجزيرة - حيث ستؤدي طبيعة المدن المكتظة بالسكان إلى مقتل الملايين - من شأنها أن تجبر الطرفين على التراجع قبل الوصول إلى نقطة اللاعودة. ومن المنتمين لهذا المعسكر وزير الشئون الخارجية الهندي الأسبق جاسوات سينغ، والذي يضيف قائلا إن من يدينون سياسات الهند النووية على نحو صارخ إنما يمارسون ما أسماه «التفرقة العنصرية النووية». وقد قال أيضا: «إذا كان الردع يعمل بنجاح في الغرب، ويبدو أنه كذلك بوضوح، فبأي منطق لن يعمل بنجاح في الهند؟!» وقد أقرت القيادة الباكستانية برأي مشابه أنه من المؤكد عدم وجود طرف منتصر في الصراع النووي. وربما يبشر الردع النووي في جنوب آسيا بحقبة من السلام الدائم بين باكستان والهند، بحيث يقدم المحفزات الضرورية لحل جميع القضايا العالقة، خاصة تلك المتعلقة بإقليم جامو وكشمير. هذه هي وجهة نظر المتفائلين. أما معارضو الردع فيذهبون إلى أن هذه النظرة إنما تولي قدرا أكبر مما ينبغي من الثقة للنزاهة المؤسسية لكلتا المؤسستين العسكريتين. فهل بمقدور الجانبين فعلا السيطرة على أي أزمة ومنعها من التصاعد حتى إن رغبا في ذلك؟ يخشى خبراء أمنيون كثيرون أن الجواب بالنفي.
إن خبرتنا المتعلقة بموضوع الأسلحة النووية في السنوات الأخيرة تشير إلى أن النظام الأساسي المتمثل في إنشاء معايير دولية صارمة ونظم تفتيش رقابية يظل السبيل الأمثل والأكثر فعالية في السيطرة على التهديدات النووية. ويرى محمد البرادعي - المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية والفائز بجائزة نوبل للسلام عام 2005 - أننا «لا نستطيع الاستجابة لهذه التهديدات عن طريق بناء المزيد من الجدران، أو تطوير أسلحة أكبر، أو إرسال المزيد من القوات. فهذه التهديدات تتطلب منا بالأساس تعاونا دوليا.» تشرف الوكالة الدولية للطاقة الذرية على برامج نووية في أكثر من مائة دولة. وفي تقديرات البرادعي فإن ما يصل إلى 49 دولة تعرف كيفية بناء الأسلحة النووية، وهو يحذر من أن التوتر العالمي قد يدفع بعضها لعمل ذلك بالفعل. رغم ذلك ليس الموقف مقلقا مثلما خشي جون إف كينيدي عام 1963 حين تنبأ بأنه ستكون هناك ما بين خمسة عشر وعشرين قوة نووية بنهاية العقد. ومن المثير للاهتمام أن منبع قلقه لم يكن حصول الدول النامية على القنبلة، وإنما أن الدول الصناعية المتقدمة - وعلى الأخص ألمانيا الغربية واليابان - هي التي ستحصل عليها. والعديد من الدول الأوروبية في ذلك الوقت، ومن بينها السويد - التي كانت تطور خططا لبناء مائة سلاح نووي تعزز بها قواتها المسلحة - كانت تعمل في دأب على برامج للأسلحة النووية.
على الجانب المقابل، فإن سياسات إدارة جورج بوش الابن تشكلت على أساس من التشكك القوي في الفعالية الحقيقية للضوابط الدولية، وكثيرا ما أكدت على الجهود الاستباقية لمجابهة الانتشار النووي، محولة انتباهها أكثر وأكثر نحو منع الدول من امتلاك التكنولوجيا والمواد النووية، وهي السياسة التي بدأت في سنوات إدارة كلينتون. وقد كشف بوش أنه هو نفسه من المعارضين الأشداء للردع. وعند تبريره غزو العراق قال بوش: «لقد أقدمت على التصرف؛ لأنني لم أكن لأضع أمن الشعب الأمريكي بين يدي شخص مجنون. لم أكن لأقف وأنتظر وأثق في رجاحة عقل صدام حسين وقدرته على ضبط النفس.»
ومن ثم فإن غزو العراق في مارس عام 2003 اتخذ بالأساس شكل محاولة لتدمير برامج أسلحة الدمار الشامل العراقية، مخافة ألا يرتدع صدام وبالتبعية أن يحاول قلب الطاولة على الولايات المتحدة وحلفائها. وقد قالت مستشارة الأمن القومي كوندوليزا رايس في أكتوبر 2002 أثناء الإعداد للحرب: «نحن لا نريد أن يكون الدليل الدامغ هو سحابة عيش الغراب.» وكما هو معروف جيدا، تبين أن العراق لا يمتلك أسلحة دمار شامل، خاصة من النوع النووي. لكن من قبيل المفارقة أن الغزو أعاد تعزيز الحجة القائلة بأن أنظمة التفتيش - كنظام التفتيش الذي فرض على العراق منذ التسعينيات - يمكنها بالفعل أن تكون أدوات فعالة تكشف عن أي انتشار للأسلحة النووية أو تمنعه تماما. لكن لسوء حظ الشعب العراقي - والقوات المتعددة الجنسيات - فإن بوش فضح خداع صدام حسين.
لقد ولت الحرب الباردة بما اتسمت به من وضوح لأطراف الصراع، وحل محلها عالم مليء بالغموض والريبة يهدد فيه الأمن العالمي من قبل انهيار الأنظمة الحاكمة، والإرهاب النووي، والدول الحائزة حديثا على الأسلحة النووية، والصراعات الإقليمية، والترسانات النووية الموجودة من قبل. والمخاطر التي ينطوي عليها هذا المزيج تتعاظم كثيرا بفعل سهولة الحصول على التكنولوجيا النووية، والحماية غير الكافية لمخزون البلوتونيوم واليورانيوم عالي التخصيب، والتوافر المتزايد للصواريخ حول العالم (إذ تملك 31 دولة صواريخ بالستية)، وشبكات السوق السوداء التي تتعامل في المواد النووية، والتوجه نحو امتلاك قدرات «كامنة» لتصنيع الأسلحة النووية من خلال امتلاك الدورة الكاملة للوقود النووي. ونتائج ذلك واضحة؛ فمن بين جميع الأخطار الممكنة التي قد تتهدد المجتمع الدولي اليوم (بما في ذلك الاحترار العالمي)، فإن الأسلحة النووية - أشد الأسلحة التي تم ابتكارها فتكا، والسلاح الوحيد في الواقع ذا الدمار الشامل - تمثل على الأرجح الخطر الأعظم. حقا؛ لا تزال الأسلحة النووية أمرا شديد الأهمية.
المراجع والقراءات الإضافية
In addition to the giants on whose shoulders I have stood for more than 30 years and who are recognized in the text and bibliography that follows, I should like to thank the many archivists and librarians in the United States, Australia, and the United Kingdom who are all too often taken for granted. I should also like to thank my former students Jason Flanagan and Jacqui Bird for their thoughtful analyses of the career of J. Robert Oppenheimer and the role of atomic scientists in the making of nuclear weapons, respectively. Needless to say, there is a vast literature on various aspects of the politics of nuclear weaponry and the problems and prospects of dealing with nuclear weapons. The publications listed below represent the tip of that iceberg and include the most important studies in English. Constraints of space have made it necessary to omit many excellent and important works in the field.
الفصل الأول
The best place to begin the study of nuclear weapons is the pages of the
Bulletin of Atomic Scientists , founded in 1945 as a newsletter distributed among nuclear physicists concerned by the possibility of nuclear war; for 60 years the
Bulletin’s
Doomsday Clock has followed the rise and fall of nuclear tensions. For a discussion of the far-reaching effects of nuclear weapons, including the mass fire caused by firestorms, see Lynn Eden,
Whole World on Fire: Organizations, Knowledge, and Nuclear Weapons Devastation (Cornell University Press, 2004). The best introduction to the threat posed by nuclear terrorists is Graham Allison,
Nuclear Terrorism: The Ultimate Preventable Catastrophe (Times Books, 2004); also useful are Scott D. Sagan and Kenneth N. Waltz,
The Spread of Nuclear Weapons: A Debate Renewed (W. W. Norton, 2003) and Joseph Cirincione, Jon Wolfstahl, and Miriam Rajkumar,
Deadly Arsenals: Nuclear, Biological and Chemical Threats (Carnegie Endowment for International Peace, 2005).
الفصل الثاني
The Einstein letter together with FDR’s reply is found in Vincent C. Jones,
Manhattan: The Army and the Atomic Bomb (US Government Printing Office, 1985). A good introduction to the Einstein story, taking into account all the latest discoveries of letters and organized in a conventional chronological format, is Walter Isaacson,
Einstein: His Life and Universe (Simon and Schuster, 2007). For details on the German research effort, see Richard Rhodes,
The Making of the Atomic Bomb (Simon and Schuster, 1986); McGeorge Bundy,
Danger and Survival: Choices about the Bomb in the First Fifty Years (Random House, 1988); Mark Walker,
German National Socialism and the Quest for Nuclear Power, 1939-1949 (Cambridge University
Spying on the Bomb: American Nuclear Intelligence from Nazi Germany to Iran and North Korea (Norton, 2006). The best introduction to the making of the atomic bomb is still Henry D. Smyth,
A General Account of the Development of Methods of Using Atomic Energy for Military Purposes under the Auspices of the United States Government, 1940-1945 (US Government Printing Office, 1945).
For the role of the atomic scientists, see Robert Jungk,
Brighter Than a Thousand Suns: The Moral and Political History of the Atomic Scientists (Victor Gollancz, 1958); Robert Gilpin,
American Scientists and Nuclear Weapons
(Princeton University Press, 1962); and Gregg Herken,
Brotherhood of the Bomb: The Tangled Lives and Loyalties of Robert Oppenheimer, Ernest Lawrence, Edward Teller (Henry Holt, 2002). Also see Jacqueline Bird’s related essay in
The Politics of Nuclear Weaponry , ed. Richard Dean Burns and Joseph M. Siracusa (Regina Books, 2007).
The 'atomic diplomacy’ debate may be followed in Gar Alperovitz,
The Decision to Use the Atomic Bomb and the Architecture of an American Debate (Harper Collins, 1995); Robert James Maddox,
Weapons for Victory: The Hiroshima Decision Fifty Years Later (University of Missouri Press, 1995); and, most recently, Wilson D. Miscamble,
From Roosevelt to Truman: Potsdam, Hiroshima, and the Cold War (Cambridge University Press, 2007). For a useful distillation of the vast literature on this subject, see J. Samuel Walker,
Destruction: Truman and the Use of Atomic Bombs against Japan (University of North Carolina Press, 1997).
For the impact of wartime bombing of civilians, see Jorg Friedich,
Fire: The Bombing of Germany, 1940-45 (Columbia University Press, 2007), and the incomparable John Hersey,
Hiroshima (Penguin, 1946). The George Orwell quote is found in
Orwell in Tribune: 'As I Please’ and Other Writings, 1943-7 , compiled and edited by Paul Anderson (Politioco’s, 2007).
الفصل الثالث
The Baruch Plan and the Gromyko proposal are found in Joseph M. Siracusa,
The American Diplomatic Revolution: A Documentary History of the Cold War, 1941-1947 (Holt, Rinehart and Winston, 1976). For a detailed treatment of the Baruch Plan, which contains a fair amount of primary source material, see Leneice N. Wu’s essay in Richard Dean Burns (ed.),
Encyclopaedia of Arms Control and Disarmament (3 vols, Charles Scribner’s Sons, 1993), and Richard G. Hewlett and Oscar E. Anderson, Jr,
A History of the United States Atomic Energy Commission, vol. 1, The New World, 1939/1946 (University of Pennsylvania, 1962).
The best historical assessments include Barton J. Bernstein, 'The Quest for Security: American Foreign Policy and International Control of Atomic Energy’,
Journal of American History 60 (March 1974), 1003-44; and Larry Gerber, 'The Baruch Plan and the Origins of the Cold War’,
Diplomatic History 6 (Winter 1982), 69-95. The Bush quote is found in the introduction of Thomas C. Reed’s At the Abyss:
An Insider’s History of the Cold War (Ballantine Books, 2004).
الفصل الرابع
David G. Coleman,
Real-World Nuclear Deterrence: The Making of International Strategy (Praeger Security International, 2006). The famous NSC 68 document is found in Joseph M. Siracusa,
Into the Dark House: American Diplomacy and the Ideological Origins of the Cold War (Regina Books, 1998).
For the historical context of these years, see Paul Boyer,
By the Bomb’s Early Light: American Thought and Culture at the Dawn of the Atomic Age (North Carolina Press, 1994); Michael Mandelbaum,
The Nuclear Revolution: International
(Cambridge University Press, 1981); and Michael J. Hogan,
A Cross of Iron: Harry S. Truman and the Origins of the National Security States, 1945-1954 (Cambridge University Press, 1998).
Also useful are Gregg Herken,
The Winning Weapon: The Atomic Bomb in the Cold War, 1945-1950 (Knopf, 1980); Margaret Gowing,
Independence and Deterrence: Britain and Atomic Energy, 1945-1952 (Macmillan, 1974); and John Lewis Gaddis et al. (eds)
Cold War Statesmen Confront the Bomb (Oxford University Press, 1999).
The Soviet side of this story is told ably in David Holloway,
Stalin and the Bomb: The Soviet Union and Atomic Energy, 1939-1956 (Yale University Press, 1994); and Vojtech Mastny,
The Cold War and Soviet Insecurity: The Stalin Years (Oxford University Press, 1996).
The growth of the global anti-nuclear campaign, together with the forces, personalities, and events that moulded it, is told in Lawrence S. Wittner’s incomparable multi-volume study,
The Struggle against the Bomb (Stanford University Press, 1993).
الفصل الخامس
Indispensable are three works by Raymond L. Garthoff:
Deterrence and the Revolution in Soviet Military Doctrine (Brookings Institution, 1990),
Soviet Strategy in the Nuclear Age (rev. edn, Praeger, 1962), and
Détente and Confrontation: American Soviet Relations from Nixon to Reagan (Brookings Institution, 1985). In this same category I also include Lawrence Freedman’s
The Evolution of Nuclear Strategy , 3rd edn (Palgrave Macmillan, 2003) and
Deterrence (Polity, 2004).
Still useful on nuclear doctrine are Thomas C. Schelling,
Arms and Influence (Yale University Press, 1966), and Glenn H. Snyder,
Deterrence and Defence (Princeton University Press, 1961).
Of the several accounts of the Cuban Missile Crisis, Graham Allison and Philip Zelikow’s
Essence of Decision: Explaining the Cuban Missile Crisis , 2nd edn (Longman, 1999) is the standard account. Alexandr Fursenko and Timothy Naftali, 'One Hell of a Gamble’: Khrushchev, Castro and Kennedy, 1958-1964, Secret History of the Cuban Missile Crisis (W. W. Norton, 1997), had unprecedented access to the former Soviet archives, while Ernest R. May and
The Kennedy Tapes: Inside the White House during the Cuban Missile Crisis (Belknap Press, 1997), provides transcripts of most of the audio recordings JFK secretly made during the episode.
The treaty milestones of these years are covered in Joseph M. Siracusa and David G. Coleman,
Depression to Cold War: A History of America from Herbert Hoover to Ronald Reagan (Praeger, 2002), and Richard Dean Burns (ed.),
Encyclopaedia of Arms Control and Disarmament (3 vols, Charles Scribner’s sons, 1993).
Arms control efforts to limit the potential threat of strategic weaponry may be found in McGeorge Bundy,
Danger and Survival;
J. P. G. Freeman,
Britain’s Nuclear Arms Control Policy in the Context of Anglo-American Relations, 1957-68 (St Martin’s Press, 1986); Martin Goldstein,
Arms Control and Military Preparedness from Truman to Bush (Peter Lang, 1993); and Robin Ranger,
Arms and Politics, 1958-1978: Arms Control in a Changing
(Gage, 1979). Kennedy’s creation of the Arms Control and Disarmament Agency is described by Duncan L. Clarke,
Arms Control and Disarmament Agency (Free Press, 1979).
The debate over nuclear testing and negotiation of the limited test ban treaty are detailed in Robert Divine,
Blowing on the Wind: The Nuclear Test Ban Debate, 1954-1960 (Oxford University
Kennedy, Khrushchev and the Test Ban (University of California Press, 1981); Kendrick Oliver,
Kennedy, Macmillan, and the Nuclear Test-Ban Treaty (St Martin’s Press, 1998); and William R. Cleave and S. T. Cohen,
Nuclear Weapons, Policies, and the Test Ban Issues (Praeger, 1987).
For the Reagan years and arms control, see Strobe Talbott,
Deadly Gambits: The Reagan Administration and the Stalemate in Nuclear Arms Control (Knopf, 1984); Kenneth L. Adelman,
The Great Universal Embrace: Arms Summitry, a Skeptic’s Account (Simon and Schuster, 1989); and Keith L. Shimko,
Images and Arms Control: Perceptions of the Soviet Union in the Reagan Administration (University of Michigan Press, 1991).
Also useful are Alexander L. George and Richard Smoke,
Deterrence in American Foreign Policy: Theory and
(Columbia University Press, 1974); Fred Kaplan,
The Wizards of Armageddon (Simon and Schuster, 1983); and Marc Trachtenberg,
History and Strategy (Princeton University Press, 1991).
الفصل السادس
Overviews include Richard Dean Burns and Lester H. Brune,
The Quest for Missile Defenses, 1944-2003 (Regina Books, 2004); Ashton B. Carter and David N. Schwartz (eds),
Ballistic Missile Defense (Brookings Institution, 1984); and David B. H. Denoon,
Ballistic Missile Defense in the Post-Cold War Era (Westview, 1995). For Soviet/Russian developments, see Pavel Podvig (ed.),
Russian Strategic Nuclear Forces (MIT Press, 2001) and Steven J. Zaloga,
The Kremlin’s Nuclear Sword: The Rise and Fall of Russia’s Strategic Nuclear Forces, 1945-2000 (Smithsonian Institution
The 1968 debates over deployment are covered in Edward R. Jayne,
The ABM Debate: Strategic Defense and National Security (Center for Strategic Studies, 1969); Abram Chayes and Jerome Wiesner (eds),
ABM: An Evaluation of the Decision to Deploy an Antiballistic Missile System (Harper and Row, 1969); and Ernest J. Yanarella,
The Missile Defense Controversy: Strategy, Technology, and Politics, 1955-1972 (University Press of Kentucky, 1977).
For the Reagan administration’s efforts to reinterpret the ABM treaty, see Raymond L. Garthoff,
The Reinterpretation of the ABM Treaty (Brookings Institution
Teller’s War: The Top Secret Story Behind the Star Wars’ Deception (Simon and Schuster, 1992) and Frances Fitzgerald,
Way Out There in the Blue: Reagan, Star Wars and the End of the Cold War (Simon and Schuster, 2000).
الفصل السابع
In addition to the works noted in Chapter 1, see Stephen J. Cimbala,
Nuclear Strategy in the Twenty-First Century (Praeger, 2000).
The importance of the Nuclear Non-Proliferation Treaty is discussed in Ted Greenwood, Harold A. Feiveson, and Theodore A. Taylor,
Nuclear Proliferation: Motivations, Capabilities and Strategies for Control (McGraw-Hill, 1977); Michael P. Fry,
Nuclear Non-Proliferation and the Non-Proliferation Treaty (Springer-Verlag, 1990); David Fischer,
Stopping the Spread of Nuclear Weapons: The Past and the Prospects (Taylor and Francis, 1992); and T. V. Paul,
Why Nations Forgo Nuclear Weapons (McGill-Queens University
For the rise and fall of Dr A. Q. Khan and his nuclear black market, see William Langewiesche,
The Atomic Bazaar: The Rise of the Nuclear Poor (Farrar, Straus and Giroux, 2007) and
Nuclear Black Markets: Pakistan, A. Q. Khan and the Rise of
(International Institute for Strategic Studies, London, 2007).
Recent studies of how not to deal with North Korea are Marion V. Creekmore, Jr,
A Moment of Crisis: Jimmy Carter, the
(Public Affairs, 2007); Gordon D. Chang,
Nuclear Showdown: North Korea Takes on the World (Random House, 2007); and Jasper Becker,
Rogue Regime: Kim Jong Il and the Looming Threat of North Korea (Oxford University Press, 2007).
For the problems and prospects of the proliferation of nuclear weapons states in South Asia, see Devin T. Hagerty,
The Consequences of Nuclear Proliferation: Lessons from South Asia (MIT Press, 1998); George Perkovich,
India’s Nuclear Bomb: The Impact on Global Proliferation (University of California Press, 1999); and K. K. Pathak,
Nuclear
(Gitanjali Prakashan, 1980).
For an account of nuclear 'know-how’ gone astray, consult John McPhee,
The Curve of Binding Energy (Farrar, Straus and Giroux, 1974). And to understand how easy it would be for a terrorist organization to assemble an atomic bomb, see Peter D. Zimmerman and Jeffrey G. Lewis, 'The Bomb in the Backyard’,
Foreign Policy (November-December 2006), 33-9.
مصادر الصور
(2-1) © 2003 TopFoto. (2-2) © 2003 TopFoto. (2-3) © 2006 Jon Mitchell/TopFoto. (4-1) © Bettmann/Corbis. (7-1) © Shakil Adil/AP/PA Photos. (7-2) © Kapoor Baldev/Sygma/Corbis.
ناپیژندل شوی مخ