أما الفارس فحول عنان جواده ولم يفه ببنت شفة، وعاد شفيق إلى عربته بعد أن أومأ إلى فدوى إيماء التحية، وسارت العربتان توا إلى القصر فوقفتا، ونزل بخيت ينظر في وسيلة للاستئذان بالدخول، ولبث كلاهما يتسارقان اللحظ وهما في انتظار عود بخيت على مثل الجمر؛ ليدخلا الحديقة ويتفاوضا بما تتحدث به القلوب. وكان كلاهما خائفا من عيون الرقباء، وقد فعل بهما الحب فظهر تأثيره، وأخذت بهما رجفته، وقوي عليهما الخجل حتى لم يقدرا أن يديما النظر بعضهما إلى بعض، وفيما هما على تلك الحالة سمعا صوت مسير عربة فحولا بصرهما إليها، فعرف شفيق أنها عربة عزيز، فأوجس خيفة من مجيئه وقال: هذا عزيز. فتشاءمت فدوى منه، وأنزلت ستارة النافذة وهي ترتجف من الغيظ.
أما هو فأوقف عربته بإزاء عربة شفيق وحياه تحية المشتاق، فرد عليه التحية وقد ثقلت عليه مقابلته، فتجلد وخفض من اضطرابه وقابله ببشاشة ولطف.
فاقترب عزيز منه وهمس في أذنه قائلا: إنني سررت جدا لائتلاف قلبيكما؛ فلا أحب أن أثقل عليكما؛ فاسمح لي بالذهاب وهم بوداعه، فشكره شفيق ثم سأله عما جاء به إلى هناك.
قال: خرجت للنزهة فأسعدني الحظ بلقياكما، فاسمح لي بالذهاب، وليوطد الله بينكما دعائم المحبة، ثم ودعه وعاد إلى عربته، وأمر السائق فعاد. أما سبب مجيئه فهو أنه ما انفك من ليلة الأوبرا يراقب حركات فدوى بمساعدة دليلته العجوز، فعرف أنها خرجت للنزهة ذلك النهار ، فتواطأ هو ورجل استأجره بدراهم على أن يتنكر ويعترض لها في الشارع منفردة، فيأتي هو لنصرتها وإنقاذها؛ ظنا منه أنها تحبه محبتها لشفيق لأنه فعل ذلك، وهو لا يعلم بتواطئها على هذا الاجتماع، فلما اعترض الفارس لعربة فدوى كان عزيز مختبئا، فلما رأى شفيقا وما أبداه تنحى ولم يره أحد، ثم رأى المركبتين سائرتين معا نحو قصر النزهة، فأحب استطلاع الحقيقة، فأتى على أثرهما حتى اجتمع بهما، كما تقدم، وعاد وقد علم أن مكيدته انقلبت عليه، ومحبة فدوى لشفيق تمكنت عراها، فازداد غيرة حتى صورت له نفسه أن يفتك بشفيق ولو كلفه ذلك بذل الحياة.
الفصل السادس عشر
الزر والدبوس
أما العربتان فلما لبثتا قليلا حتى عاد بخيت متهللا، فسألته فدوى عن الخبر، فقال: ليس في القصر أحد من الخفراء والخدم يا سيدتي، فقالت: وكيف ذلك؟ قال: إنهم خرجوا في جملة من خرج من الجند إلى نظارة المالية لطلب المتأخر من رواتبهم، وتبعهم من بقي من الخدم لاستطلاع النتيجة.
فقالت فدوى: ومتى كان هذا؟ وتهيأت للنزول فأخذ بخيت بيدها وأنزلها.
ونزل شفيق من عربته قائلا وهما متوجهان إلى الحديقة: أما سمعت ما جرى اليوم من هذا القبيل.
قالت: لا.
ناپیژندل شوی مخ