فبعد أن جرت العربتان قال عزيز: إنك يا شفيق لقد صنعت مع هذه الفتاة صنيعا يجب عليها أن تكون مديونة لك به مدى الدهر. أما شفيق فكان غارقا في بحار تأمله ولم يفقه لخطاب رفيقه، فأدرك عزيز منه ذلك فازداد حسدا، ثم التفت إليه متلطفا وقال له وهو يظهر نحوه المحبة: إن مثل هذه الفتاة الطاهرة لا تليق إلا بك. فخفق قلب شفيق ولم يستطع بعد ذلك السكوت، لكنه هدأ روعه قدر طاقته، وخفض من انفعاله وقال: أين أنا من هذه البغية؛ فإن بيني وبينها أبعادا؛ لأن أباها لا يتنازل إلى إجابة مثلي، وفضلا عن ذلك فإني لست في حال تؤهلني من الاقتران.
فقال عزيز: أما أبوها فعلي إرضاؤه؛ لأننا في عصر عزت فيه الشبان، وهانت فيه البنات، وإني واثق بأنك لو طلبت أيا من بنات الأغنياء تنالها، وتنال معها مالا طائلا، ولم يعد أحد من المتمدنين يتزوج بابنة قبل معرفة مقدار ثروتها. وهذه عادة إفرنجية حديثة النشأة في بلادنا. أما من حيث أهليتك، فالذين بعمرك لا يمنعهم مانع عن الزواج.
فإذا شئت فإني أسير إلى أبيها وأكاشفه بما أبديته نحو ابنته من الشهامة، ولا أشك بأنه يرغب في مصاهرتك، فقاطعه شفيق قائلا: أرجو أن تكتم كل ما عرفته عن هذه الفتاة؛ صيانة لها، وحفظا لشرفها وشرفي، فأكون لك شاكرا، وأما من حيث الأهلية، فأنت أليق مني؛ لثرائك وسمو حسبك ونسبك.
وفيما هما في الحديث وقفت عربة الفتاة أمام باب حديقة تعطر تلك الأنحاء بشذا رياحينها، وعلى جدار الحديقة إلى جهة الشارع يعرش الورد والنسرين والأقحوان. وكان منظر الحديقة من الخارج بغاية الجمال، وفي وسطها قصر بديع الهندسة، مرتفع البنيان، يظهر للرائي اقتدار صاحبه وكثرة غناه.
فعلم شفيق أنه منزلها، فنادى سائق العربة أن يأتي إلى عربته بعد دخول الفتاة إلى بيتها، فأنزلها وعاد فساق العربة بهما إلى جهة حديقة الأزبكية حيثما ترجلا وذهبا إلى حانوت تناولا فيه العشاء، ثم دخلا إلى الحديقة وأخذا يتمشيان حول بركتها. كل ذلك وشفيق غارق في بحار من الهواجس، وعزيز يراقب حركاته وسكناته وهو يكاد يتمزق غيظا وحسدا، وقد نسي حسده له على دروسه ومنزلته بين الأقران.
فأخذ يفكر في شرك يوقع فيه شفيقا، ويجعل لنفسه الحق في الصنع الجميل الذي حملته الفتاة؛ لعله يستطيع به التوصل إليها.
وما زالا يخطران حتى مرا بقهوة فيها القينات (العوالم) يغنين بألحان الخلاعة، فوقف عزيز وأوقف شفيقا وهو لا يدري أنه فعل؛ لتشتت أفكاره. وهذه أول مرة طرق الحب قلبه فوجده خاليا فتمكن.
فأمسك عزيز بيده، ودخل به تلك القهوة، وجلسا أمام مائدة، ثم أمر صاحب القهوة فأتاهما بأقداح من الكنياك، وشفيق لم يفطن إلى شيء، وقد تملك فؤاده الغرام، فكان حاضرا بصورة الغائب؛ لأن مجموع حواسه تائهة في جمال فدوى وكمالها. وإذ هو على تلك الحال أخذ عزيز قدحا وأعطاه ليشرب، فانتبه بغتة كأنه هب من رقاد عميق، والتفت إلى ما حوله فإذا بالناس جماعات ووحدانا يشربون ويطربون ويقهقهون؛ يترنح بعضهم طربا لصوت الغناء، وآخر ينادي بأعلى صوته: آه! طيب. كمان يا ستي، وآخرون يصافحون الأقداح، ويشربون بعضهم نخب بعض، فتملأ ضوضاؤهم كل تلك الحديقة.
فنظر شفيق إلى صديقه مندهشا وقال له: أين نحن يا عزيز؟ قال: نحن في محل طرب وانبساط. خذ هذه الكأس واشربها. فأجفل شفيق عند لمس الكأس إجفاله من العقرب، ونهض معتذرا أنه لا يرتاح إلى مثل هذا الاجتماع.
فتبسم عزيز ونظر إليه نظر الاحتقار قائلا: ألعلك لا تزال صبيا كأولاد المكاتب تخاف كأس المدام؟ خذ اشربها يا صاح؛ فإن فيها شفاء للناس.
ناپیژندل شوی مخ