وما زالت العربتان جاريتين حتى سمع الباشا الفرسان يقولون: قد وصلنا البقاع العزيزية، وأصبحنا على مسافة 4 ساعات من بعلبك، فقال الباشا: أظن الأفضل أن نبيت بقية هذا الليل في إحدى القرى المجاورة؛ لأن حركة العربة قد أضرت بجراح الجريح. ثم سأل عن أقرب قرية من الطريق، فقيل له: إن هناك قرية على مسافة نصف ساعة، فهم أن يأمر السائق بالمسير إليها، فإذا ببخيت يئن، وكان في عربة الباشا فسأله عن حاله فقال: إنه لم يعد يستطيع البقاء في العربة لحظة، فأوقفوا العربتين، فنزلت فدوى وهي ملثمة ودنت من والدها تسأله عن بخيت، فطيب قلبها وبعث أحد الفرسان يسأل عن أقرب بيت في ذلك الجوار، فعاد حالا وأخبر أنه وجد بيتا كبيرا على مقربة منهم، فنزل الجميع - وكانوا يشاهدون النور في البيت - فترجل بعض الفرسان وحملوا بخيتا على أيديهم، وسار الجميع في الظلام يريدون ذلك البيت، حتى إذا اقتربوا منه تقدمهم الفارس المجهول وهو لا يزال على جواده، وسأل عن أهل ذلك البيت، فخرج إليه رجل في لباس أسود لم يستطع تمييزه، ولكنه هابه لاسترسال شعر رأسه على كتفيه، وشعر لحيته على صدره. وكان لباسه جبة سوداء في غاية البساطة. فظنه راهبا، فسأله الرجل عن غرضه فقال: إن جريحا معنا لم يعد يستطيع الركوب في العربة، فجئنا به إليكم، فهل تريدون أن يبيت عندكم الليلة وأجركم على الله؟ فبهت الرجل برهة كأنه يفكر في أمر طرق ذهنه؟ ثم قال: حسنا، فليأت، ونادى قائلا: تعال يا أحمد، ساعد هؤلاء في نقل جريحهم إلى هنا. قال ذلك مشيرا إلى البيت، فجاء رجل في مثل لباس ذلك الرجل وأسرع إلى موقف العربتين.
أما ذلك الفارس، فبعث يخبر الباشا أن لا بأس من تقدمهم، فتقدموا حاملين بخيتا حتى دخلوا به البيت وأجلسوه على مقعد في إحدى الغرف، ودخل الجميع إلا العسكر فإنهم بقوا خارجا.
الفصل الحادي والتسعون
أغرب غرائب الاتفاق
فأراد الباشا الخروج للثناء على هؤلاء الفرسان، ولا سيما الفارس المجهول، فشغله بخيت بجرحه، فكلف عمه الشيخ أن يخرج للقيام بذلك الواجب عنه، بعد أن أشار إلى فدوى وأمها أن تتحجبا داخل إحدى الغرف.
فخرج عمه ونادى الفرسان أن يدخلوا، فقيل له: إنهم عادوا إلى خيولهم يعدون لها علفا، فخرج إليهم وسأل عن ذلك الفارس، فجاء إليه، فأمسك بيده وأراد أن يدخل به البيت، فرأى أمام ذلك البيت (مسطبة) عليها حصير، فجلسا هناك وسهل البقاع أمامهما واسع، فأشعل كل منهما سيكارته، وأخذا بأطراف الحديث. وكان الفارس ملتفا بالعباءة ولا يزال اللثام على وجهه.
فأخذ الشيخ يثني عليه قائلا: بلغني أنكم أظهرتم شهامة قوية، وبذلتم غاية جهدكم في إنقاذنا؛ فقد أصبح لكم فضل علينا، فعسى أن نستطيع مكافأتكم.
فقال الفارس: إننا لم نفعل ذلك لمكافأة، وإنما قد فعلناه لوجه الله، فعسى أنه سبحانه وتعالى. وتنهد ...
فقال الشيخ وقد رأى في كلامه لغة مصرية: يظهر أن حضرتكم قادمون من بلاد مصر، قال: نعم، يا سيدي، ونريد دمشق.
قال الشيخ: وهل لكم أهل هناك؟
ناپیژندل شوی مخ