فقال عبود ضاحكا: إذا كنت لا تصدق، فاسأل معلمي الخواجة بسول وهو يخبرك عني، فقد جئت من بلاد السودان ... آه من تلك البلاد! وسكت هنيهة كأنه تذكر أمرا محزنا، ثم أخذ في البكاء.
فتعجب بخيت لذلك، وأحب إتمام الحديث ليسمع ما يعرفه الرجل عن السودان، فقال له: هل تعرف بلاد السودان يا أخي؟
قال: نعم، أعرفها. وازداد في البكاء، فازداد بخيت تعجبا ورغبة في استطلاع حاله، فقال: وما أصابك في تلك الديار حتى تبكي عند ذكرها.
فتغيرت حالة الرجل من السكر المضحك إلى الهدوء والرزانة وقال: إني أصبت فيها ببلية عظمى. قبح الله المتمهدي وأعماله؛ فقد قطع رزقي وحرمني من سيدي وملاذي.
فقال بخيت: وهل كنت ساكنا في تلك البلاد أم ذهبت إليها مؤخرا؟
أجاب وهو يمسح دموعه بطرف ثوبه: قد ذهبت إليها من مصر؛ لأني كنت أذهب كل سنة إلى القاهرة في فصل الشتاء لمرافقة السياح، فلما كانت سنة 1882 مضى فصل الشتاء ولم أصب سائحا؛ لأن محل كوك احتكر السياح كافة، وتكفل بإرسالهم، على أن يقوم بكفايتهم، وكان يرسل معهم تراجمة وخداما من عنده، فلم يعد لنا نفع يذكر، فلما مضى فصل الشتاء ضاقت بي الحيل، وعولت أن أعود إلى بيروت، فسمعت بمسير حملة هيكس باشا لمحاربة المتمهدي الملعون، فوفق الله لي أحد ضباك تلك الحملة لأسير معه خادما، فرافقته يئسا، وما زلت معه حتى أتينا الخرطوم، وبعد أن مكثنا هناك برهة جاءني يوما وعليه ثياب غير ثيابه الاعتيادية كأنه قد تنكر فقلت: وما هذا يا سيدي؟ قال: إني يا عبود مسافر في مهمة إلى الأبيض؛ حيث يقيم المتمهدي، ولا أستطيع أن آخذك معي؛ لأني ذاهب متنكرا، وليس معي إلا هذا الخبير السوداني، فامكث أنت هنا، وهذه ثيابي باقية عندك ريثما أعود. ولكن آه يا سيدي! إنه لم يعد قط فلبثنا في الخرطوم حتى سمعنا بمذبحة هيكس وجيشه، ولم يعد يطيب لي المقام، فحملت ما كان عندي وفي جملته ثياب ذلك الضابط، وجئت بها قاصدا هذه الديار عن طريق بربر، فرأيت خطرا بمروري إلى سواكن، وأنه لا بد لي من التنكر وتخفيف حملي، فطرحت ما كان معي من الثياب في تلك المدينة، ولم أبق إلا بعض الأشياء الخفيفة والغالية الثمن.
الفصل الخامس والستون
السودان الشرقي
وأخذت بالمسير في الصحراء تارة أمر بسهل متسع قليل الأعشاب والأشجار، وطورا أصعد في جبل وعر السلوك، وآونة أمر بحرجات كثيرة الوحوش، حتى خفت على نفسي أن أذهب فريسة لها، وكنت تارة أعطش، وطورا أجوع. وأما الطريق فلم أكن أعرفها، ولكني اصطحبت أعرابيا من بربر كان سائرا إلى سواكن، وأظنه كان ذاهبا بمهمة سرية أرسله فيها حسين باشا خليفة؛ مدير بربر، ولما قطعنا نحو نصف الطريق في بضعة أيام، علمنا أن الطريق إلى سواكن مقطوعة لا يمكننا سلوكها لظهور دعاة المتمهدي فيها تحت قيادة عثمان دقنا، الذي أصبح ألد عدو للأتراك ومن شابههم، على كونه تركي الأصل، فضاق بخيت ذرعا لطول القصة، وأراد أن يبتدره بالكلام لاستطلاع ما يهمه، ولكنه خاف أن يغضبه فبقي صامتا وهو على مثل الجمر، فأتم الرجل حديثه قائلا: فلما سمعنا ذلك وقعنا في حيرة. أما رفيقي فكان يسهل عليه التنكر لقرب حاله ولغته من هؤلاء، وأما أنا فعظم الأمر علي، وتوسلت إلى الرجل أن يدبر لي وسيلة أخلص بها من تلك الورطة، فأعطاني بعض ثيابه، وعلمني من الكلام السوداني فوق ما كنت أعرف، حتى إذا وقعنا في مشكل ندعي أننا من أهل تلك الجهات القائمين بدعوة الإمام المتمهدي.
فما زلنا سائرين حتى صرنا على مقربة من سنكات - وكان صديقي قد أخبرني أنها محاصرة، وفيها حامية من الجنود المصرية، والعدو محدق بها من كل الجهات، وأن الحكومة المصرية أرسلت نجدة تحت قيادة رجل إنكليزي يقال له باكر باشا لإنقاذها - فقلت: إن دخولي مدينة سنكات أفضل من الاستمرار على المسير إلى سواكن؛ فربما ألقى حتفي في الطريق؛ لأني علمت أن عثمان دقنا قد مد سطوة المتمهدي ودعوته إلى أقاصي تلك الأنحاء.
ناپیژندل شوی مخ