إلى آخر ما هناك من التحريض على القتال بإيراد الآيات والأحاديث النبوية.
ولما أتم المتمهدي خطابه ضج الناس بالتوحيد والبكاء وقرع الصدور؛ لشدة تأثير تلك الأقوال فيهم. ولما انتهت الخطابة ركب المتمهدي وحاشيته وعادوا يريدون الأبيض، فتراكض الدراويش إلى موطئ قدميه يمسحون وجوههم وأعناقهم بالتراب الذي وطئه، ويعفرون رءوسهم به، حتى وصل الأبيض بعد أن عهد في قيادة تلك الحملة إلى الأمير عبد الحليم وأبي جرجة. وعدد الجيش 3 آلاف.
فسار شفيق يريد الدخول في جملة من دخل والناس ينظرون إليه نظرهم إلى رجل غريب الزي، فخاف أن تقع عليه شبهة، وأيقن أنهم إذا كشفوا أمره يقتلونه لا محالة، فأخذ يتقلدهم في حركاتهم إظهارا لكونه على دعوتهم.
الفصل السادس والأربعون
أسير المتمهدي
فلما دخل البلد أخذ يطوف به ويستطلع أحواله ويسأل عن قوات المتمهدي، فلما دار البلد إذا بأماكنه مبنية بالآجر طبقة واحدة، وهي متفرقة ليست على انتظام واحد، وإنما شاهد كل جملة منها متجاورة بينها وبين جملة أخرى فضاء، وفيه مساكن مصنوعة من القش يقال لها عندهم تكول، يسكنها من لا قدرة لهم على البناء بالطين، ثم وصل ديوان الحكومة فإذا هو مبني بالآجر، وفي وسطه فضاء يقيمون فيه الصلاة، ولم يشاهد في الأسواق من أرباب الصناعة غير الحدادين والصاغة، فعلم أن سائر أهلها يتعيشون بالتجارة في ريش النعام والصمغ والتمر هندي وسن الفيل. أما ماؤهم فمن آبار عميقة يبلغ عمق بعضها 17 قامة.
وبعث دليله يتخذ له منزلا ينزل فيه للمبيت، فعاد بعد هنيهة مصحوبا بزمرة من الدراويش، فلما وصلوا إلى شفيق قبضوا عليه وأوثقوه، وساروا إلى ديوان الحكمدارية، وفيما هو في الطريق ظن بعض الناس أنه رسول من قبل السنوسي في المغرب لمشابهته المغاربة شكلا - وكانوا قد شاهدوا رسولا مثله جاء من السنوسي، بعد أن كتب إليه المتمهدي يسميه خليفة من خلفائه، ولكن السنوسي لم يقبل ذلك، ولا آمن بمهدويته - فلما رأى أهل العبيد شفيقا موثقا ظنوه رسولا يحمل خبر سوء أو ما شاكل، وظنه آخرون جاسوسا من الجنود المصرية. فلما وصلوا به مجلس المتمهدي تناوله بعض الأمراء وسأل عن أمره، فقيل له: إنه جاسوس من قبل الترك، فأخذوه إلى الخليفة، فلما رآه توسم في وجهه النباهة، وتعجب من جراءته؛ لأنه لم يظهر عليه خوف، فأحب أن يراه المتمهدي عينه، فأوقفه خارجا ودخل قاعة المتمهدي وقال له: إن في الباب جاسوسا يظهر عليه مظهر خلاف سائر الجواسيس، فهل تريد أن تراه؟ فأذن في إدخاله عليه، فدخل فلاقاه جماعة الملازمين على الباب، فأدخلوه المجلس فإذا في صدره المتمهدي على «عنقريب» فيما تقدم من اللباس، وبين يديه الأمراء جلوس الأربعاء مطأطئي الرءوس بكل احترام ووقار، والسكوت مستول على تلك القاعة. وكان شفيق قد أيقن بالهلاك، وعلم أن تلك دسيسة من دليله، ولكنه تجلد وأخذ يفكر في وسيلة للنجاة من هذه الورطة. فلما وصل مجلس المتمهدي أوقفوه بين يديه، فأحس بهيبة ذلك الرجل وسطوته، ولكنه تجرأ ووقف وهو لا يزال في لباس الدراويش ينتظر أمر المتمهدي، فخاطبه قائلا: ما الذي جاء بك إلى هذه الديار؟
قال شفيق: قد جئت بقضاء من الله - سبحانه وتعالى.
قال : ولكنك لا تعلم أننا لا نؤخذ بالدسائس، وقد قيض الله دعوتنا ومنحنا الغلبة على القوم الكافرين.
قال شفيق: إن القدرة لله يهبها لمن يشاء من عباده.
ناپیژندل شوی مخ