تصدير المؤلف
مقدمة المترجمة
الأشياء التي تركتها وراءك1
البومة1
رأس الدودة
أحوال المادة1
باراكودا1
أغنية من أجل «جيني»1
قتل الأرانب1
الجرس1
النبتة الصغيرة1
وجبة إفطار مع «آندي»1
رحم يتأهب1
أحلام أسامة
اللغة غير مقدسة مثل شجرة الميلاد1
تصدير المؤلف
مقدمة المترجمة
الأشياء التي تركتها وراءك1
البومة1
رأس الدودة
أحوال المادة1
باراكودا1
أغنية من أجل «جيني»1
قتل الأرانب1
الجرس1
النبتة الصغيرة1
وجبة إفطار مع «آندي»1
رحم يتأهب1
أحلام أسامة
اللغة غير مقدسة مثل شجرة الميلاد1
الأشياء التي تركتها وراءك
الأشياء التي تركتها وراءك
مختارات قصصية لجون ريفنسكروفت
جمع وترجمة
فاطمة ناعوت
إلى زوجتي آسترا ريفنسكروفت؛ امتنانا لدعمها لي، وإلى صديقتي فاطمة ناعوت؛ امتنانا لجهدها وإيمانها الطيب بي.
ج. ريفنسكروفت
إلى مازن،
نقطة النور الأولى.
فاطمة
تصدير المؤلف
ما يوحدنا أهم
أكتب هذه الكلمات يوم 25 يوليو 2005، الشهر الذي قام فيه انتحاريون بضرب لندن بالقنابل والمتفجرات للمرة الأولى. الشعور العام في المملكة المتحدة في هذه اللحظة هو الحدس بأن مثل تلك الهجمات سوف تحدث أكثر وأكثر بشكل متكرر في المستقبل، وثمة كلام كثير وجدل حول كيف يمكن السيطرة والتعامل مع موقف يبدو جديدا كل الجدة على الشعب. المواطن الإنجليزي العادي يحاول أن يفهم ما الذي حدث كي يصبح العالم على هذه الصورة، ويسأل نفسه أسئلة لم يسألها حقيقة من قبل.
الحاجة إلى تواصل البشر عبر حواجز الدين والعرق، من أجل الالتقاء والسعي الحقيقي ليفهم بعضهم بعضا، لم تكن ملحة وحتمية مثل الآن.
أومن أن السرد القصصي - كل ألوان الكتابة الإبداعية في واقع الحال - هو بالأساس معني بفكرة التواصل. الرغبة في الاتصال والتواصل مع الآخرين هي أحد المحثات الأساسية التي تحرك حاجتي الخاصة للكتابة. من أجل ذلك كنت مبتهجا للغاية حينما أخبرتني الشاعرة المصرية فاطمة ناعوت عن عزمها على ترجمة مجموعة من قصصي إلى العربية، ومن ثم وافقت على الفور. أحببت الفكرة، فكرة أن تصل كلماتي إلى قراء أبعد من المتحدثين والناطقين بالإنجليزية، قراء آخرين نشئوا في بيئة وثقافة شديدتي الاختلاف عن بيئتي وثقافتي . وهذا ما سوف يكون عبر ترجمات قصص مثل: «أحلام أسامة، أحوال المادة، البومة، الأشياء التي تركت وراءك»، وغيرها من القصص التي سوف تقرءونها الآن.
لا أستطيع أن أوفي فاطمة شكرا من أجل كل هذا الجهد، وآمل أن يحدث يوما وألتقي بها مباشرة كي أظهر لها امتناني العميق شخصيا.
قراء كثيرون أخبروني أن سردي القصصي يتمحور حول علاقات بين أشخاص غير سعداء؛ أشخاص خبروا الفقد والخسارة، أو هؤلاء الذين مروا بألم ما. ورغم أنني لا أبدأ الكتابة بنية مسبقة عن إنتاج ذلك النوع تحديدا من القص، أو حين أشرع في رسم شخوص سردي - زوجان مفجوعان بفقد طفلتهما في «البومة» على سبيل المثال، أو هذان الرجلان المحطمان في «أحول المادة» - إلا أنه من الواضح أن تلك التيمات بالفعل تظهر بجلاء على سطح أعمالي مجددا ومجددا. حسنا، لقد قيل مرات عديدة إن الكتاب لا خيار لهم إلا الكتابة عن آلامهم، وإن سرد وخيال الكاتب يخففان من ضغوطه وأزماته النفسية. أظن أن ذلك صحيح بالنسبة لي مثلما هو صحيح بالنسبة للكتاب الآخرين.
مع هذا أتمنى أن يجد القارئ شيئا أبعد من استكشاف الألم في قصصي. أتمنى أن يجد مساحة من الأمل، بعض خيوط البهجة التي لا بد أن تمنحها الحياة رغم كل شيء. إذا ما استطاع قارئ أن يخرج من قصصي بشعور يقول إن الحياة رغم صعوبتها وتعنتها بوسعها أن تكون، بين وقت وآخر، شيئا مجيدا رائعا، شيئا يجب أن نرعاه ونعتز به، إذا استطاع ذلك سأكون قد نجحت ككاتب.
أرجو أيضا أن أؤكد بطريقة ما عبر بعض قصص هذا الكتاب على شيء أثق أنكم تعرفونه بالفعل جيدا، إن البشر سواء في كل أركان الأرض، بصرف النظر عن موقعهم، وجنسهم، وعرقهم، ودينهم. يجب في النهاية أن نتعلم الدرس الجلي في ذاته: أن ما يوحدنا أهم بكثير جدا مما يشتتنا ويقسمنا. وبمجرد أن نتعلم ذلك الدرس، يجب أن نعمل رأسا على الاحتفال بحقيقة أننا جميعنا مخلوقات غير مكتملة، سوى أننا جميعنا نتشارك في شيء أهم : الإنسانية.
لو أخفقنا في عمل هذا، سيلوح المستقبل موحشا بالفعل.
من أجل ذلك يجب ألا نخفق.
أشكركم على قراءة مجموعتي القصصية.
جون ريفنسكروفت
لينكولنشاير
يوليو 2005
مقدمة المترجمة
يلتقي القارئ في هذه المجموعة باثنتي عشرة قصة للأديب الإنجليزي المعاصر «جون ريفنسكروفت»
John Ravenscroft ، الذي فاز بجائزة رفيعة في لندن العام الماضي 2004 هي «كاتب هذا العام
Writer of the Year ». بالإضافة إلى حوار أجريته معه وترجمته لجريدة «القاهرة» المصرية، يجده القارئ في نهاية هذا الكتاب.
جون ريفنسكروفت، قاص وروائي إنجليزي معاصر ولد عام 1954م ويعمل محررا لمجلة «كادينزا
Cadenza » البريطانية. وهي مجلة ثقافية فكرية أدبية تعمل، حسب محرريها، على تبني الرفيع من الأدب الإنجليزي من قص وشعر ورواية ونقد. حصدت قصصه العديد من الجوائز الأدبية من بينها جائزة الكومنولث. وقد عمدت إلى اختيار وترجمة مجموعة من أعماله التي فازت بجوائز أدبية إنجليزية أو عالمية.
منهجه السردي يمتاز بالتقاطه دقائق الحياة غير الملفتة واقتناص الشعرية منها عبر الموقف الدرامي أو من خلال المونولوج الداخلي الطويل راسما صوره التشكيلية في نقلات مباغتة ومفارقة، وساخرة أحيانا، ليكون بنية سردية تنبع من وتصب غالبا في أحد الأسئلة الوجودية. يستلهم مفردات تأمله من «الشيء» ومدى تأثره ب/ وتأثيره على «الإنسان»، انطلاقا من كون المرء والموجودات في حال دائمة من الجدل والحوار. يناقش القاص أزمة الإنسان عبر مواقف حياتية تبدو، ظاهريا، بسيطة وبديهية، بل تكاد تكون يومية عابرة غير ملفتة، سوى أنه ينجح في اقتناص العمق الوجودي منها والمحنة التي تعانيها شرائح محددة من البشر.
أبطال قصه نماذج بشرية غير نمطية، ذات طبيعة خاصة، قد تنسحب خصائصها على غير الأسوياء، أو السجناء،
1
أو المنقسمين على ذواتهم من البشر، أو ذوي الحساسية الشفيفة مثل شريحة الفنانين، أو المرضى
2
أو حتى العشاق الذين دحرهم الفقد.
3
الإنسان على الخط البياني للزمن في حالاته «الحدية» مثل «المعمرين»
4
في مراحل حيواتهم الأخيرة حين تنكشف لهم الحياة كاملة مثل كتاب انتهت قراءته للتو. هؤلاء الموغلون في الحياة والزمن والتجربة عبر جدليتهم الإنسانية الملتبسة بين الوهن الفيزيقي من جانب، وحدة البصر الرؤيوي من الجانب الآخر. أو نقيض ما سبق تماما، أي الإنسان (تقريبا)، الإنسان قبل نقطة «الصفر» على منحنى الزمن، الإنسان قبل أن يكتمل، أي «الجنين».
5
كيف يرى الجنين العالم وكيف يتطلع إلى رؤاه المستقبلية؟ أو الإنسان في حال الهروب إلى «الحلم»،
6
الحلم النومي أو حلم اليقظة، حين يتحرر ذهنه من عوائق وأحابيل المنطق وقوانين الفيزيقا ليحلق حرا طليقا في رحابة الميتافيزيقا وفانتازيا الخيال الحر. أو الإنسان في علاقته مع الكائنات الأخرى من حيوان أو نبات، كيف يحدد قانون الموت والحياة بالنسبة لتلك الموجودات التي تشاركه العالم.
7
أو حتى في علاقته مع الجوامد، ذكرياته مع الأشياء التي تجادله طوال اليوم وكيف يمكن أن تأسره في عوالمها الخاصة.
8
كل الشرائح السابقة تلك، أو لنقل كل حالات الإنسان المتباينة تلك تلتقي كثيرا، برأيي، وتتقاطع؛ إذ إنها مرايا للنفس البشرية في أصفى حالاتها وأكثرها أثيرية وبعدا عن الأرض. إنه الإنسان بكل ما يحمل من ضعف وقوة، في آن، في مختلف درجات إنصاته للوجود والموجودات تبعا لفرادته ولأسلوب رؤيته العالم، ووجهة نظره الخاصة عن فكرة الخلق والحياة.
أجاد القاص معالجته تيمة «الفقد». ربما براعته تلك بلورتها محنة شخصية مر بها حين فقد شقيقته، كما سنعرف من خلال الحوار معه. حين يفقد الإنسان شريكه الأهم في الحياة، هل يحاول أن يستبدل بالمفقود بعضا منه؟ أشياؤه التي تركها مثلا؟ قصاصات الورق؟ قلامات الأظافر؟ شعرة من جسده؟ أو حتى بعضا من بوله؟! كيف يمكن أن تشف روح الإنسان في وحدته إلى درجة أن يتوسل محبوبه الغائب عبر مخلفاته الصغيرة؟!
يجمع أسلوبه اللغوي بين الكلمة الإنجليزية (البريطانية) الرفيعة وبين التعبيرات الدارجة الحديثة. يجيد القفز بينهما في نقلات رشيقة، لا نتوءات حادة تعرقل استرسال التلقي، وبغير إثقال من أي منهما على الأخرى. كما يجيد الجمع بين الجملة الطويلة التي تزخر بالجمل الاعتراضية، وبين الجملة الخاطفة المباغتة التي تشبه الومضات أو الطلقات التي تعمل على إنارة النص حينا، وفي حين آخر تعمل على تسريب شحنة من الصدمات المتوالية التي قد تحول فكر القارئ عن المسار الذي كان قد ركن إليه قبل لحظات.
وعن المعجم الخاص بالكاتب، لا بد أن نذكر أنه لم يكتف بمعجمه البريطاني، بل انفتح على ثقافات العالم مثلما نجد في قصة «أحلام» حين استعار مفردات من المعجم العربي، بل الإسلامي، مثل كلمات: مجاهدين - أمة (
ummah - mujahedin )، أو حتى تراكيب عربية من قبيل «العين بالعين والسن بالسن» (
An eye for an eye, A tooth for a tooth ) تلك القصة، «أحلام»، حين جمع على نحو ساخر «أحلام» الأقطاب الأربعة المشتجرة فوق مسرح الإرهاب؛ أمريكا بوصفها القوة المهيمنة في العالم، الدين، وأسامة بن لادن والمدنيون الأبرياء الصرعى. جمع أحلام هؤلاء ورصدها على نحو أقرب إلى الحياد مما يسمح للقارئ أن يصدر حكمه الخاص على من يراه مذنبا ومستحقا للقصاص.
مثل كثيرين من كتاب القصة القصيرة الحديثة، يبدأ ريفنسكروفت نصه، أحيانا، من منتصف الموضوع، أو ربما من نقطة الذروة، ثم يعمل على «لملمة» الزمن من الأمام ومن الخلف حتى تكتمل قصاصات الصورة المشهدية في آخر سطر ربما.
ويقودنا هذا إلى الكلام عن النهايات؛ فهو أحيانا - برأيي الخاص - يثقل النهاية بإيضاح وشروح قد تفسد جمال ورهافة الوقفة المفاجئة المبتسرة التي يجيدها بعض الكتاب المرموقين والتي أجادها هو نفسه في أكثر من قصة في هذه المجموعة. تلك الوقفة التي شأنها أن تدع للقارئ ثغرة يدخل منها إلى فضاء التأويل وثراء الدلالة. فلا هي أغلقت النص على أحادية التلقي ولا هي عطلت القارئ عن عمله في إكمال المشهد مع الكاتب عبر معينه المعرفي الخاص ودرجة نفاذه إلى النص. فيما النهايات الوافية الشافية المكتملة التي «لا غبار عليها» تفوت على القارئ - برأيي - فرصة المشاركة الإبداعية كما أنها تحرمه من متعة الارتطام بالمفارقة وتؤدي إلى استلابه لذة الصدمة. وفي سؤال لي حول ذلك الأمر أجاب ريفنسكروفت بأنه يود أن يخاطب أكبر شريحة من القراء، على تبايناتهم، ولذا يحاول أحيانا أن يطرح الغموض عن قصه ما أمكنه ذلك.
لا تخلو قصص ريفنسكروفت من ومضات من الواقعية السحرية واستجلاب الميتافيزيقا أحيانا (كما نلمس في: رحم يتأهب - النبتة الصغيرة)، أو الاتكاء على الحلم بكل ما فيه من فوضى وخرق لقوانين المنطق والتعليل (الجرس)، إلى جوار الواقعي والمتعين الممسوس بخيط من الرومانسية أحيانا (البومة) تلك القصة الحافلة بكثير من الصور الشعرية وكثير من أسباب الشجن الإنساني الرفيع. وفي حين آخر قد يوسل الحقائق العلمية في بناء شعرية نصه ما يحقق الجديلة الثرية الجميلة بين العلم والأدب (أحوال المادة). كل تلك الخيوط، التي ينجح ريفنسكروفت في غزل نسيجه عبرها، تجعل من تجربته مشروعا أدبيا متنوعا وثريا وجديرا بالترجمة.
ورغم أن السرد أحد أقدم الفنون الإبداعية التي عرفها الإنسان إلا أن فن القصة القصيرة لم يتم تأصيله في العالم إلا في السنوات الأولى من القرن التاسع عشر فيما فن الرواية أكثر إيغالا في القدم. فقد غدت الرواية شكلا مستقلا من أشكال الأدب في القرن الثامن عشر الميلادي في إنجلترا، حتى ولو استطعنا رصد جذورها الممتدة بعيدا في الأدب الإغريقي القديم.
ظهرت ملامح النضج القصصي الأولى في أعمال بعض الكتاب مثل تشيكوف وموباسان بينما لم تتجل ملامح التكثيف الدلالي والتعبير الفني الحداثي العالي إلا في أعمال المحدثين في بداية القرن العشرين مثل جويس وكافكا وهيمنجواي وغيرهم، ورغم ذلك لم تسد نظرية واحدة وقتئذ تحدد معايير هذا الفن.
ويمكن لمتتبع الإبداع الروائي أن يلمس كيف تطورت طرائق السرد عند المبدعين منذ بداية القرن العشرين وحتى نهايته مرورا بالمرحلة الوسطى التي تحول فيها السرد نوعيا على يد رواد الحداثة من أمثال بروست وجويس وفرجينيا وولف.
ظهرت بادرات التجديد عبر أعمال تعتمد التجريب في محاولة التعبير عن أزمة الإنسان الروحية في العصر الصناعي الحديث، عن نوازعه النفسية وأعماقه الخبيئة ومزاجه القلق. وتجلى خط التأزم الروحي والأخلاقي في بطل كافكا الذي يعيش صراعا ضاغطا في مواجهة العالم المادي المميكن البيروقراطي الذي أحال البطل إلى صرصار في رواية «المسخ». وتزامن ذلك مع تجريب مارسيل بروست وفرجينيا وولف في تقنية الكتابة بوصفها حفرا في الذاكرة مختلطة برؤى تصنعها أحلام اليقظة عبر تفتيت الزمن والأحداث وانتثار وتشظي الوقائع إلى دقائق صغيرة، فيما عرف بتيار الوعي الذي حاول رسم الرؤى والمشاعر والذكريات التي تفيض بها عقول الشخوص وقد برعت فيه وولف مع إضافة تقنية الرمز لتؤكد هشاشة العلاقات الإنسانية في عالم انهارت قيمه الاجتماعية، كما نلمح في العديد من أعمالها مثل «صوب المنارة، وبين فصول العرض». كما أثرت الحركة الوجودية بشكل كبير على الأدب في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين، فظهرت أعمال تكرس عبثية الحياة وتشوشها ولا جدواها كما في أعمال سارتر وكامو.
تبنى الفن بعدئذ نهج هدم المسلمات القائمة في تصوراتنا عن الأشياء، إذ لا شيء محددا يمكن أن نطلق عليه واقعا إلا عبر رؤيتنا له من منظورات متباينة تبعا للظرف والعين الراصدة وزوايا النظر. وقد ترتب على ذلك تطور في الأدوات الفنية فيما يتعلق بالبنية السردية للنص، فأصبح السارد يعتمد العبارات المبتسرة الحادة المتشظية محاولا الوصول إلى شيء من الحيادية في رصد العالم، متخلصا من النزعة الذاتية التي تخالط عادة الأعمال الأدبية. حاول بعض المبدعين تنحية النوازع البشرية من حب وكراهية وانفعالات وثورية تاركا للقارئ حرية بناء رؤاه الخاصة. وظل التجريب في الأدب معنيا طوال الوقت بالبحث عن أشكال جديدة تناسب العصر. وقد ترافق مع هذا التوجه بروز تيارات عالمية في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين في فن السرد الذي غدا يمتلك القدرة العالية على الإيحاء رغم التصاقه الشديد بالواقع، والذي قد يجمع بين الوثائقية والانغماس المفرط في التفاصيل الصغيرة التافهة حد الملل، ثم المرور العابر على الأحداث الكبرى مثلما نجد في رواية «العطر» الشهيرة لزوسكيند.
ما الذي فجر هذا التغير تحديدا؟ هل هموم الإنسان ذاته (كموضوع)، أم إن الذي تغير هو رؤية المبدع (كفاعل) لموضوعه وطرائق توسله الجماليات الفنية الجديدة لبناء هيكله الدرامي؟ أم إن الثورة الصناعية واشتعال الحروب الكونية، ودخول الحرب الكيماوية (تلك التي أبرزت نزعة الإنسان الوحشية التدميرية) ضمن تقنية الحرب العالمية الأولى وتبدل خريطة العالم كان لها انعكاسها المنطقي على الفن باعتباره انعكاسا لمجريات الحياة؟
القرن العشرون يعكس سمات التناقض الشديدة في الإنسان. إذا ما تأملنا المنجزات الصناعية والتكنولوجية الكبرى سيما الثورة النووية ثم الرقمية التي أنتجتها عقول لامعة من العلماء من جهة، والتي تزامنت مع، وربما أدت إلى، النزعات السيادية التخريبية الكبرى التي تجلت في الحروب ومحاولة الاستئثار بالهيمنة على العالم من جهة أخرى، تزامنا مع العديد من النظريات الوضعية والفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية التي أنتجتها مجمل الفلسفات الحديثة على تناقضها، ثم المناداة بسقوط مجمل السلطات الفكرية والدينية، لاكتشفنا كم هو قرن ثري غرائبي مشحون بالمفارقات. وكان بديهيا أن يتأثر الفن بوجه عام بكل تلك الالتباسات والهزات التي خلخلت ثوابت الإنسان التي كانت زرعتها، إلى حد بعيد، العقائد الدينية.
إلى أي مدى انزاحت طرائق تناول الكاتب لهموم الإنسان سياسيا واجتماعيا ووجوديا منذ الكلاسيكية كما في «الحرب والسلام» لتولستوي أو حتى «الدون الهادئ» لشولوخوف، رغم انزياحها قليلا عن الواقعية الاشتراكية بمعناها المثالي بالمفهوم الأدبي النقدي، وحتى الآن؟
إلى أي مدى تبنى المبدعون مبدأ الفن للفن الذي بدأ التنظير له إدجار آلان بو، وإن اكتفى بالتنظير ولم يتجل ذلك كثيرا في سرده وشعره، عوضا عن مبدأ الفن ذي الرسالة المحمل بأثقال القضايا وهموم المجتمع والوطن؟ وكيف يحاول كتاب اليوم عمل معادلة محسوبة تجمع بين المبدأين الواقفين على طرفي النقيض؛ بحيث لا تطغى الأيديولوجيا على الفن، أو يحلق الفن منفصلا عن الحياة والأرض؟ هل من الممكن حقا الوقوف على أرض سواء بين الفن والرسالة؟
ربما عبر هذه المجموعة ومقارنتها مع معيننا المدخر من قراءاتنا المتراكمة يمكننا أن نقف على إجابة للسؤال التالي: كيف عبر قلم المبدع عن محنة الإنسان عبر الزمن؟ هل تغيرت رؤية المبدع للوجود؟ أم إن الذي تغير هو شكل التعبير عن تلك الرؤية؟ هل تغير «البطل» المروي عنه من الفارس إلى «المهمش» المطحون الذي لم يكن ليغري الكتاب القدامى بتبنيه كموضوع؟ هل تباينت أزمات الإنسان منذ بداية القرن الماضي وحتى نهايته؟ خلال فترة خاض خلالها حربين كونيتين، وتغيرت ملامح الخارطة؟ فترة صنع فيها الإنسان وعاش تحولات سياسية واجتماعية وتكنولوجية وثقافية وفلسفية وفكرية كبرى، قرن من الزمان نشأت خلاله مدارس وانهدمت أخرى، كيف تبدل الإنسان وكيف تبدلت همومه وأحلامه؟
والأهم من ذلك كيف تبدلت العين الراصدة له: عين المبدع؟
فاطمة ناعوت
مدينة الرحاب
يونيو 2005
الأشياء التي تركتها وراءك1
طوال الأسبوع الماضي، لم يكن بوسعي النظر إلى سلة الغسيل بالحمام. ما زالت ملأى بأشيائك. والحقيقة هي أنني أصبحت خائفا منها، مرعوبا مما قد أجده داخلها. قطع الملابس الداخلية، مشدات الصدر، بنطلون الركض الخاص بك. جواربك. أنا واثق تقريبا أن زوج الجوارب الذي أهديته لك في عيد ميلادك الأخير كان هناك؛ الجورب الذي يحمل تطريزا عند الكاحل يمثل رمز إلهة الأنوثة بخيوط ذهبية. لو رأيت أشياءك ثانية، لا أعرف ماذا سيفعل ذلك بي، لذلك، كلما أردت استخدام التواليت، أدير وجهي للحائط، وأحملق في الرسومات على ورق الحائط. أتظاهر وكأنني في عالم مختلف، حيث الحمامات خاوية، وسلال الغسيل ليست موجودة.
لكنها هناك، أعلم أن سلال الغسيل موجودة. في العالم الذي تركتني به، سلال الغسيل موجودة في كل مكان. كلما استعملت التواليت، أعلم أنني على بعد قدم من أشيائنا، من الأشياء الخبيئة بالداخل. إنها تناديني. الأشياء التي خلفتها وراءك.
لذلك سوف أتعامل معها اليوم. اليوم سأفرغ السلة.
وها هي الطريقة التي سيتم عليها الأمر.
سأجد قطعة الملابس الداخلية التي تخصك، لونها أصفر فاتح ولها أحزمة حول الخصر. شعرتان ملتفتان مشتبكتان ببطانة السروال. إنه شعرك.
سأجلس لبرهة بعدما أضعهما في راحة يدي، ثم آتي بقصاصة ورق. سأفرد الشعرتين على الورقة وأحاول أن أقيس طولهما. يبدو ذلك أفضل ما يمكن فعله، أوقن أن فعل ذلك سيجعلني في حال أفضل. مثل ذاك اليوم الذي أعاد فيه البوليس أغراضك الشخصية، قلت شكرا، أنتم طيبون جدا، وبعدما مضى رجال البوليس، تناولت ميزان المطبخ وشريط القياس ورحت أزن أغراضك وأقيسها.
هل تذكرين مفاتيحك؟ وزنهم 78 جراما، وكان الأكبر بين المجموعة (مفتاح سيارتك) بطول 73 مليمترا.
شعرتاك ستكونان وغدتين إلى حد ما. تتصرفان على نحو سيئ. كلما شددتهما تلتفان حول إصبعي من جديد. لا جدوى، لن يفعلا ما أريد.
تبدوان مألوفتين؟
سوف أنجح في النهاية. إحدى الشعرتين ستكون 24 مليمترا طولا، والأخرى 27,5 مليمترا. سوف أقيس بعضا من شعيراتي لأقارن. ستكون أطول بكثير، وسوف أتساءل ما إذا كانت هذه اختلافات أساسية بين الذكر والأنثى، أم إن الشعيرتين اللتين وجدتهما في سروالك تصادف أن كانتا قصيرتين.
سألصق شعرتيك على الورقة، واحدة جوار الأخرى، أغطيهما بشرائح اللاصق الشفاف، وأدون تفاصيلهما. ثم أضع الورقة في مظروف أكتب عليه بخط أنيق «شعيرات كاثي (2)»، ثم أضعه في الصندوق، في محاذاة بقية الأشياء التي نجحت في استنقاذها من الغرق.
بعد ذلك، في نهاية إحدى ساعات الليل المرهقة، سوف يغدو المنزل كبيرا جدا، ولن يكون بوسعي النوم، ولن يكون هناك شيء بالتلفزيون سوى بعض برامج البورنو الخفيفة وعروض المسابقات، لذلك سوف أخرج الصندوق من مخبئه، وأتفحص ما به مليا، ببطء، أستنشق، لن أتعجل، سوف أمتص آثارك وشذراتك بشفتي وأنفي ولساني وأصابعي.
مداخل المباني، هكذا أفكر بها. الأشياء التي تركت وراءك هي المداخل، مداخل الذكريات، ممرات الوميض والتحولات. أمر عبر هذه، أو تلك، لأجد نفسي في بقعة مختلفة منك. بقعة مختلفة منا.
لدي خاتم الزفاف الخاص بك. حين ألتقطه، لا أتذكر مكتب «باكستون» لتوثيق الزواج، ولا كعكة الزفاف ذات الخمسة عشر جنيها إسترلينيا، التي كانت شديدة الصلابة حتى إننا لم نستطع تقطيعها، ولا حتى حقيقة أنك لم تستطيعي نطق كلمة «عائق شرعي». تلك الأشياء تأتي لاحقا. الذي أتذكره أولا هو اللحظة التي قذفت فيها بالخاتم، هذا الخاتم الذي اشتريته من أجلك، ومررته حول إصبعك. قذفته لي. طوحت به في وجهي. وأتذكر كيف ضاع وانتهى به الحال في وعاء الكلب، وبعدها بلحظات، داخل الكلب ذاته. وأتذكر الراحة على وجهك حين خرج أخيرا من الناحية الأخرى.
أتذكر كيف جعلت الماء الصافي ينساب فوقه في حوض المطبخ لتنظيفه من غائط الكلب، تضحكين قائلة: «يجب أن يصبح هذا الأمر رمزا!»
وكنت محقة، فقد كان.
لكنني لا أذكر ماذا تعني تلك الرموز يا كاثي. لا أذكر ماذا يعني أي منها. ربما تعني لا شيء، ربما كما قلت أنت مرة، الأمر كله نكتة كونية.
حتى ولو كان الأمر كذلك، سوف أستمر في تجميع الأشياء.
الأسبوع الماضي وجدت قلامة ظفر إصبع قدم ضالة كانت مختبئة تحت حوض الحمام. بها أثر من طلاء أظافر أحمر، لهذا عرفت أنها لك. وكذلك - أظن في اليوم ذاته - صادفت قائمة مشتريات مكرمشة في جيب معطفك، وكذا إحدى شخبطاتك: أرنب رسوم متحركة مرسوم بعشوائية على ورقة ملاحظات صفراء، كنت وضعتها داخل الكتاب كي تحددي أين وقفت. «هاري بوتر» وحجر الفلاسفة. الكتاب الأخير الذي كنت تقرئينه، لكن الأرنب أخبرني أنك لم تنتهي من قراءته. وصلت إلى صفحة 29، تماما مثل عمرك. هل يعني ذلك أي شيء؟
لا أظن يا كاثي. لكنني سوف أحتفظ بالكتاب وبالعلامة وبالشخبطة وبقلامة الظفر وبشعيرات العانة وبمفتاح سيارتك وبخاتم الزفاف وبكل القطع الصغيرة الحزينة الآسفة التي تركتها وراءك. سوف أحفظها جميعا في صندوقي.
وسوف أعمل قدر إمكاني على الاحتفاظ، لأطول وقت ممكن، بالشيء الأشد حزنا والأشد أسفا منها جميعا.
سوف أحتفظ بنفسي.
البومة1
كان الكوخ بديعا؛ كل النوافذ من ألواح خشب الصنوبر الثقيلة بارتفاع من الأرض إلى السقف، على مدار ثلاثة أوجه من أوجهه الأربعة. كان «سايمون» قد أحب شكل الكوخ بمجرد أن رأى صورته في كتيب الإجازات. غير أنه أحب الكوخ الحقيقي أكثر.
سأل «ماري» بينما تخشخش سيارتهما عند المدخل المغطى بالحصى الصغير: «ما رأيك؟»
التفتت إليه وتنهدت قائلة: «أعطني فرصة.»
قال سايمون: «آسف!»
أوقف السيارة وهبطت ماري. مشت صوب سياج مطلي يفصل واجهة الكوخ عن الحقل. سياج من الأوتاد البيضاء، يشبه ذلك الذي يعرف أنها حلمت به حين كانت فتاة صغيرة. تحقق حلمها عبر قرار سايمون الأخير. كان هذا الحلم هو أحد أسباب اختياره هذا الكوخ تحديدا وهذا الموقع تحديدا.
راح يتأملها لحظة، ويفكر: «زوجتي، «ماري» التي تخصني.»
شاهدها وهي تثبت أطراف أناملها واحدا إثر واحد فوق حافة السياج، وتذكر كيف اعتادت أن تفعل الشيء نفسه فوق ذراعه العارية. قبل زمن من الآن. زمن طويل.
نزل من السيارة ولحق بها. كانت فرصة ليريح ساقيه ويمدهما. بالطبع شيء من الشراب القوي سيكون فيه راحة أكبر، لكنه كان قد وعد، وبوسعه أن ينتظر. وقف جوار سياج ماري، يدلك عقد التوتر المتجمعة في عموده الفقري، يعب من هواء الريف المضفور بروائح الأرض والغابة الدافئة والأعشاب النامية.
الحشائش الخضراء المزالة من المرج العشبي الخشن أمامهما كانت منحدرة بعيدة عن الكوخ - الذي سيكون كوخهما على مدى الأسبوعين القادمين، أو طالما استطاعا أن يبقيا في رفقة بعضهما البعض - ومكومة في اتجاه شلال المياه الذي يلمع في الوادي المنبسط بالأسفل. وخلف الماء، ربما على بعد خمسين مترا، كانت ثمة غابة. جذوع الأشجار وأوراقها المتحورة بدت رائعة الجمال في ضوء الشمس المائلة.
نظرت ماري نحو المشهد غير أنها ظلت صامتة، وتصور سايمون ماذا يمكن أن يعني ذلك، كل منهما محبوس داخل عالمه الخاص المنفصل، هو يمشي وحيدا خلال الغابة التي تناديه، الغبار والجذور المتكسرة تحت قدميه. هو لا يريد ذلك.
قال: «حسنا!» لمحة من التوتر شابت صوته. سرعان ما ندم عليها.
حولت ماري عينيها إليه في ضوء الشمس المحتضر، لكنها لم ترفع يدها لتظلل عينيها. أطراف أصابعها كانت مربوطة فوق قضبان السياج.
أجابت: «إنه جيد.» «جيد وحسب؟»
أدارت رأسها ونظرت مجددا نحو الحقل. حاول أن يرى المياه والغابة خلال عينيها.
قالت: «كلا! ليس جيدا وحسب. أفضل من جيد. ربما مثالي!»
أومأ برأسه.
قال: «حسنا، كل شيء على ما يرام إذن!»
بعد برهة عادا إلى السيارة وبدآ في تفريغ أغراضهما. •••
كان بالكوخ سريران متشابهان. سألها إذا كانت ترغب في ضمهما معا. نظرت إليه، لكنه لم يستطع قراءة التعبير فوق وجهها.
قالت: «هل يزعجك إذا لم نفعل؟ ليس الليلة على أية حال. ربما فيما بعد.» •••
جلس على أحد المقاعد ذات المساند داخل الكوخ، زجاجة خمر على الطاولة إلى جواره. شاهد «ماري» تتجول في الخارج. بعد برهة عادت أدراجها إلى مكانها جوار السياج وزرعت نفسها هناك، متوجهة بنظرها إلى القمر. كانت ليلة دافئة. النشرة الجوية وعدت بهذا. كل شيء على ما يرام حتى الآن.
كانت الكلمات قليلة، لكنهما أفرغا أمتعتهما، أعدا وجبة سويا، جلسا، تناولاها معا. أطلق نكتة، وابتسمت ماري. لم تذكر شيئا بشأن إسرافه في الخمر. وهو لم يثر مشكلة بشأن السريرين.
قال للغرفة الخاوية: «هذا مكان جميل!»
رفع كأسه، وشاطر الكوخ نخبه، شرب نخب الغابة، شلال الماء، شرب نخب قراره. ثم نظر عبر الزجاج، ورأى ماري في ضوء القمر وقد تحولت إلى تمثال من الذهب.
كان قد حجز للإجازة من غير أن يخبرها، باغتها بالخبر أمس، وضعها أمام الأمر الواقع. اشتعلت غضبا، وكادت ترفض المجيء. مر الوقت فيما يقود السيارة إلى هنا على نحو غير مريح على الإطلاق. لكنهما هنا الآن، كان سعيدا وتمنى أن تكون سعيدة أيضا.
قال ثانية: «مكان جميل!» رجع الصوت إليه، دافئا خشبيا عبر الكوخ الصنوبري.
التفتت ماري. توقفت. ثم رمت بصرها إلى البعيد مجددا.
في القديم كانت تستطيب صوته. كم قالت: «حسنا، رغم إنك تشبه الكلب، لكن على الأقل لك صوت لطيف!»
كانت تضحك ضحكة واسعة وتلوي شفتيها بسعادة حين يعرض عليها أن يقرأ لها في السرير. كم أحب أن يراها تسقط في النوم على صوته فيما يقرأ. ما زال بوسعه أن يشعر بأناملها ترتاح فوق فخذه، بوسعه أن يتذكر شعوره بالأمان وهي تنجرف بعيدا في قصص «ه. إي بيتس»
2
أو «توماس هاردي». حتى بعد أن تنام كان يواصل الحكي، كان يحبها بصوته ويود أن يرسله إليها في أحلامها.
عند نقطة ما توقفا عن فعل ذلك. لا يتذكر لماذا، أو متى.
رشف من كأسه وفكر في اليوم الذي حملها فيه إلى أعلى السلم في بيتهما الأول، شقة ضيقة أعلى دكان بيع الطلاءات. تألم ظهره يومها، واضطر إلى النوم على الأرض ثلاث ليال. كانت تطعمه حساء، وفي يوم جاءت البيت بكلب صغير. في تلك السنوات الأولى كانوا غالبا يجلسون ثلاثتهم في الشرفة يشاهدون العابرين، وحركة المرور، ويشاهدون السيارات التي تزحف صوب الشارع الرئيسي.
قالت ذات مرة: «تحب أن تراقب الحياة، أليس كذلك؟»
تأمل انعكاسها الباهت على الزجاج، ورآها تنظر إليه. - «نعم. مراقبة الحياة ليست مخيفة مثل معيشتها!»
داعبت شعره ولامست النافذة بأنفها.
قالت: «مراقبة الحياة عبر الزجاج !» وبقيت الكلمة معه.
ضحكا وقتها كثيرا. حتى كلبهما ابتسم. بالتأكيد لم يكونا قد عرفا، لم يكونا قد قدرا الزمن قدره، ولا المكان. •••
كان نصف نائم في مقعده حين دخلت ماري الكوخ راكضة.
قالت: «تعال إلى الخارج، أسمع شيئا.»
وضع كأسه وتبعها. استقبله الليل والنجوم والفضاء. شبح أسود اللون قطع الهواء فوق رأسيهما، بصوت كالنداء.
همست: «أليست هذه بومة؟» «لا أدري.» رد هامسا أيضا: «جائز.»
جاء النداء ثانية، من وراء الشلال هذه المرة، هناك عند الغابة. صوت حزين، هكذا فكر سايمون. صوت محزون شجي شق طريقه عبر حوائط دفاعه فتذكر طفلتهما، طفلتهما تقريبا. كانا سيدعوانها «كيت»، اشتريا ملابس أطفال، ورسما الخطط. بلا جدوى. لم تعد ماري تتحدث عنها بعد ذلك. لم يصبح أبا، لكن ذلك لم يعد مهما الآن. حتى وقتها، لم يكن الأمر مهما جدا. الأشياء كانت مرتبكة، و«كيت» كانت مجرد احتمال. ضاعت منهما. الكوخ كان احتمالا آخر، فرصة، ربما فرصتهما الأخيرة. لا يريد لتلك الفرصة أن تضيع منهما أيضا.
قالت ماري: «أعتقد أنها كانت بومة.»
نظر إليها، عيناها تتألق في ضوء القمر. أراد أن يقبلها. تمنى لو لم يترك الخمر في الكوخ.
قال: «أعتقد ذلك أيضا!»
لمس يدها. فابتسمت. •••
في الثالثة صباحا كف عن محاولة النوم. تسلل خارج غرفة النوم. صب كأسا آخر من الاسكوتش، ثم عاد إلى مقعده جوار النافذة. كانت ماري أسدلت الستائر. قام ورفعها، ونظر إلى الخارج صوب الحقل المضاء بنور القمر. كانت السياج شديدة البياض، بدت وكأنها تطفو في الظلام.
سألت قبل أسبوعين: «هل انتهى كل شيء؟» تذكر جهاز التليفزيون القابع في ركنه، يغمغم بأخبار السادسة.
أجابها ببطء: «ماذا؟» زلزال آخر في مكان ما جنوب أمريكا. تظاهر بأنه يستمع. - «هل انتهى الأمر؟»
لم يكن قادرا على ملاقاة عينيها. رشف من كأسه كما يرشف منها الآن.
قال أخيرا: «لا أدري!»
لم تتكلم لبرهة. ثم قالت: «أظن ذلك.»
من خلف السياج ذات الأوتاد البيضاء لمح شيئا يقترب، شبحا قاتما يحلق في الهواء. كان هجوما مباغتا، قويا بما يكفي لجعل الكوخ يرتعد، وعالي الصوت بما يكفي لجعله ينكفئ إلى الوراء، فاندلق الخمر على السجادة.
تصدعت النافذة طوليا من أعلى إلى أسفل. ثم سمع ماري تصيح من غرفة النوم. - «سايمون؟ ما هذا؟ يا إلهي! ماذا فعلت؟»
رد عليها: «لا شيء! شيء ما خبط النافذة. أنا ذاهب لأرى.»
كان ضوء القمر خافتا لكنه ساطع. استغرق ثواني قليلة ليحدد موقع الطائر الجريح. كان هناك جوار السياج. راقدا على جانبه، ينتفض بعنف. ركض سايمون نحو المدخل ذي الحصى المجروش، وقرفص جواره.
هتفت ماري من باب الكوخ، حبكت قميص نومها ليقيها هواء الليل. وكان شعرها معقوصا لأعلى.
سألت: «ما هذا؟»
احتوى الطائر بيديه ثم انتصب واقفا. كان الطائر يرتعد بين يديه ولم يكن فيما يبدو واعيا.
قال: «هذه بومة ... أعتقد أنها بومة من نوع ما!»
أحد الجناحين كان متدليا بزاوية عجيبة، العظام تطقطق بوضوح، والرأس لم تكن في موضعها.
قالت ماري فيما تلحق به عند السياج: «ماذا بوسعنا أن نفعل؟»
هز سايمون رأسه: «لا أعتقد أن بوسعنا فعل أي شيء، أظن أنها ماتت بالفعل.» - «لكنها تتحرك. انظر إليها. ياللكائن المسكين! فقط انظر إليه.»
اهتزت البومة بين يدي سايمون. فتحت منقارها في ارتجافة أخيرة، ثم توقفت الرعشة. اختبر سايمون النبض بجسدها، لم يكن واثقا أين يضع إصبعه. لكن شيئا لم يكن هناك على الإطلاق.
قال: «ماتت.»
نظر إلى ماري ورأى الدموع بعينيها.
قال: «لا أظن أنها تألمت طويلا، إنها صفعت النافذة وحسب، ربما طارت مباشرة صوب تلك النافذة اللعينة. أعتقد أنها خبطتها فماتت من فورها.»
مدت ماري يدها وداعبت ريش البومة. لا دم هناك. لا قطرة واحدة. نفس الشيء كان مع «كيت». نفس الشيء تماما.
قالت ماري: «إنها جميلة جدا، هل تعتقد أنها هي ما سمعناها تنادي؟ أظنها هي. يا إلهي، ياللعار!»
ثمة شيء في نبرة صوتها حرك ثقلا جبارا في صدره . كان عليه أن يزدرد لعابه قبل أن يمكنه الكلام.
قال: «سوف ندفنها في الصباح، سنأخذها إلى الغابة في الأسفل هناك، ونبحث عن بقعة جميلة وندفنها سويا.»
رفعت ماري بصرها إليه وقالت: «نعم، يبدو هذا مناسبا. فلنفعل!»
ألقت لمحة سريعة إلى الكوخ ثانية ثم همست: «وربما علينا أن نأتي بأحدهم ليصلح تلك النافذة. إذا قامت عاصفة سوف تطيح بنا.»
أومأ سايمون. كانت على حق، لكن شيئا داخله لا يريد للنافذة أن تصلح. فقد نال الكثير من مراقبة العالم عبر الزجاج.
قال: «لا أظن أن عاصفة سوف تهب.»
وقفا للحظة جوار السياج، ينظران خلال ضوء القمر إلى جسد الطائر بين كفي سايمون. تتأرجح ماري قليلا من جانب إلى آخر، كعادتها حين تقوم بتقدير الأشياء والتفكير بها. ثم لمست ذراعه بأطراف أناملها، انحنت إلى الأمام، ثم طبعت قبلة مفاجئة على وجنته.
قالت: «سوف أضم السريرين إلى بعضهما، أنا مجهدة يا حبيبي. هل تأتي؟»
أزاح خصلة من شعرها فوق وجنتها وقال: «سآتي خلال دقيقة.» - «لا تتأخر!»
شاهدها تعود إلى الكوخ، رفع يده إلى البقعة التي قبلته فيها. ثم أخذ البومة إلى السيارة وأرقدها بعناية على المقعد الخلفي «شكرا لك!» قال. طوى جناحها المكسور برقة، وأراح ريشها الطويل الغزير الناعم. «شكرا لك!»
أخرج كتابه المفضل من تابلوه السيارة. مجموعة من القصص القصيرة ل ه. إي. بيتس. وضعه في جيب بيجامة النوم وأغلق السيارة.
عند مدخل الكوخ وقف في الهواء المنعش لدقيقة أو اثنتين، ينظر صوب القمر. ثمة بومة تمر عبره، تنادي نداء حزينا وخافتا.
استدار. دخل إلى الكوخ. ثم أغلق الباب.
رأس الدودة
موجة كهربائية طفيفة سرت بين الجمهور المحتشد بمجرد أن دخلت المكتبة المرأة ذات القبعة الحمراء. كما قال مرة صديقي الطيب «جوزيف هيللر»: شيء ما قد حدث.
ورغم أنها وقفت في الصف مع الآخرين انتظارا لتوقيعي على نسخ «رأس الدودة»، إلا أنها ظلت تبدو وكأنها تقف وحدها منفصلة. نظراتها ومظهرها ساهمت دون شك. الوجه تحت تلك القبعة الصادمة وتحت شلال الشعر الأصفر الكثيف كان جميلا؛ أما الشخص الكائن تحت الوجه، إن كان ثمة، فقد كان أجمل.
رغم هذا، فلم تكن نظراتها الجميلة ما ضربتني للخلف في مقعدي. ما ضربني أكثر كان الحقيقة المؤكدة بأنها كانت «المؤمن الحقيقي». كان ذلك مكتوبا على كل أجزائها.
الوساوس تجلب قوتها الخاصة، بؤرتها الخاصة، وكل كاتب ناجح يحدث أن يتعرف عليها قريبا أم بعيدا. اسأل «جون جريشام»، اسأل «ستيفن كينج».
1
اسألني أنا. جميعنا سوف يخبرك بالشيء ذاته. بعد فترة، سيحدث أن تشم رائحة «الإيمان الحقيقي» لحظة دخوله الغرفة. والآنسة الشابة ذات القبعة الحمراء كانت تجسيدا للإيمان الحقيقي. يمكنك أن ترى ذلك في جلستها، مشيتها، في طريقة ارتدائها ثيابها. كان في وميض النار في عينيها، في تكور لسانها حين يتحرك للخارج ليتذوق الهواء.
اقتربت أكثر، أظن أنني سمعت الخفقان.
واصلت توقيع الكتب، ألقي النكات، أكتب ما يطلبون مني أن أكتبه: «إلى سوزان والعائلة ... إلى ماري ومايك ... أطيب الأمنيات ... سيمون كيركبي ...»
حين وصلت أخيرا القبعة الحمراء إلى طاولتي توقفت عن التوقيع. وضعت قلمي، رفعت كأس الماء الخاص بي، وأخذت رشفة. هي انتظرت، راقبت. شعرت بصدمة مباغتة حين تلاقت العيون، وأرسلت نظرة محدقة شاخصة.
نسختها من «رأس الدودة» كانت مشدودة بإحكام إلى نهدها الأيسر، محتضنة بمحبة أم تحمل طفلها الرضيع. كنت منوما مغناطيسيا بالأفعى الصفراء المطبوعة على الغلاف الخارجي الواقي للمجلد، مأخوذا بالطريقة التي تتماوج بها وهي تتحرك على إيقاع تنفسها. أفعى كليوباترا تصعد وتهبط.
قالت: «أنا أعشق كتبك يا مستر كيركبي.»
صوتها كان خافتا مغويا ومغريا. مغر مثل كل شيء آخر حولها. - «صحيح؟» - «نعم، صدقني، أنا لا أكذب مطلقا.» - «لا، بالطبع لا. أنا لم ...» - «خاصة» رأس الدودة «إنها تعلمني.
إنها ... تتكلم معي.» «صحيح؟» «أوه أجل!» «وماذا تقول لك؟»
دون تحذير أو مقدمات ركعت على ركبتيها. احتشد الناس رجوعا إلى الخلف. وأنا لو لم أكن مأسورا في فخ مقعدي لفعلت مثلهم. - «من بوسعه أن يفهم مثلي؟ من فضلك دعني ...»
أحنت رأسها وانتزعت قبعتها الحمراء اللامعة. وللصدمة، خرجت خصلة شعرها الصفراء معها . وجدت نفسي أنظر إلى جمجمة عارية، عارية إلا من جديلة الشيب التي تغطيها الديدان. عشرات من الديدان، كل واحدة مثبتة بمسمار لامع مدقوق عميقا في العظام.
نظرت إلى الأعلى وكانت عيناها متوهجتين.
همست: «رأس الدودة.»
قالت وابتسمت: «نعم.»
أحوال المادة1
نجلس على الشاطئ سويا، الرجل العجوز وأنا، نحدق بعيدا صوب البحر. النوارس تحلق في دوائر فوق رءوسنا، تصرخ كما تفعل النوارس عادة. ملاعين كبار، أكبر حجما وأعلى صخبا من النوارس التي تحملها ذاكرتي من أيام العطلات، حين كنت طفلا.
يظلل العجوز عينيه بيده ويقول إنه يستطيع أن يرى السفن في البعيد.
أنظر، محاولا ألا أفكر في «ماري»، محاولا ألا أتذكر الماء في شعرها، في فمها. سوى أنني أتذكر كل شيء على أية حال.
أسأله: «أية سفن؟»
يهتف صوت في رأسي: «المجيء إلى هنا كان غلطة، يجب أن تبقى بعيدا عن البحر.»
أعلم. لكنني لا أستطيع. لم أعد أستطيع أكثر من ذلك.
يقول العجوز: «ثلاث منها، ما زال أمامها طريق طويل حتى تخرج، كنت بحارا فيما مضى يا «جاك»، لي عين مدربة!»
أمسح الأفق بعيني بحثا عن سفن العجوز، سوى أنني لا ألمح شيئا.
فيما أبحث أسمعه يسعل، يتنخع ويبصق بعض البلغم على الرمال. مرت خمس دقائق، ربما عشر، منذ فعل الشيء نفسه آخر مرة. أرمق البصقة المختلطة. الآن بها دم أقل.
يقول: «هل ترى ذلك؟» - «نعم، إنها إشارة طيبة.»
يومئ موافقا، يربت على فمه، ثم تغوص يده عميقا في طيات معطفه المبقع المجعد. يجذب شيئا من جيب داخلي، يضعه على كفه، ثم يرفعه عاليا أمامي كي أراه.
يسأل: «هل ترى هذا؟»
مدى إبصاري ليس قويا لرؤية السفن، وهو أسوأ حتى من أن يرى الأشياء القريبة. ألقي نظرة جانبية، شيء يشبه القنينة. قنينة زجاجية بالغة الصغر. أمد يدي، لكن العجوز يغلق كفه ثم يهز رأسه. - «انظر وحسب يا «جاك». لا تلمس. مثلما تفعل مع النساء وراء الفاترينات.»
اسمي ليس «جاك»، غير أن العجوز ظل يناديني هكذا منذ التقينا، كل شيء كان منذ ساعة. ليس مهما بما يناديني. «جاك» سوف تفي بالغرض. إنه اسم أفضل من كثير من معظم الأسماء، اسم أفضل مما أستحق .
يده تنفتح لي ببطء، مثل وردة متسخة من اللحم البشري، القنينة تلمع في المركز مثل الخباء.
2
أتزحزح، مجرجرا قدمي على لوح الخشب الذي نتقاسمه حتى صرت لصيقا به، ساقي اليسرى ضغطت بقوة على ساقه اليمنى، إحدى طيات معطفه بيننا. رائحته الكريهة تجعل تنفسي سريعا وغير عميق، لكنني لم أعد مميزا كما تعودت أن أكون. كل من أعرفهم هذه الأيام ينشرون رائحة كريهة. أنا أيضا لي رائحة كريهة. كما تقول الأغنية، «بالفعل لم يعد أي شيء يهم». - «هل تراها؟»
شفتاه متورمتان بسبب الركلة التي أخذها. صوته مثل نعيق الغراب.
أنحني تجاهه، أنفي على بعد ست بوصات تقريبا من رأسه.
القنينة تشبه الأخرى تماما. الأخرى التي سرقها الأولاد. ملأى بسائل أصفر داكن.
قلت: «نعم، أراها، ماذا بها؟ ويسكي؟»
أبدو ممتلئا بالأمل، يقهقه العجوز بصوت يشبه صوت الدجاج. - «ويسكي؟ لا. كان فيما مضى. لكنه لم يعد كذلك!»
أهز رأسي. لا أحب أن أبدو محبطا، لكنني كنت كذلك، العجوز لاحظ ذلك.
قلت: «ماذا عن الأخرى؟»
يسعل ويبصق ثانية. لا دماء تقريبا هناك هذه المرة. - «كلا. لا ويسكي هناك أيضا. الأوغاد الصغار. اللصوص».
الولدان اللذان قفزا عليه وخطفا القنينة الأخرى ذهبا بعيدا جدا. لا يمكن أن يكونا قد تخطيا ثلاثة عشر أو أربعة عشر عاما بحال. لم يرياني ناعسا وراء كثبان الرمال، أحلم بالأمواج، لم يعرفا أنني هناك إلى أن وجدا يدي فوقهما.
ماشيا عبر الرمال، ليس بسرعة، ولا ببطء، كنت أفكر في «ماري». صوت البحر يستحضرها مجددا، يستدعي الصور. هذا هو سبب انجذابي للشواطئ على هذا النحو. أنا بحاجة لأن أراها من جديد فوق كرسي البحر ذاك، بقبعتها الوردية على رأسها، وسلتها القش عند قدمها. الجانب السلبي في الأمر أنني أراها أيضا في المياه، مفتوحة الذراعين، يداها مرتخيتان على معصميها، شعرها طاف حول عنقها مثل «أوفيليا»،
3
الغارقة التعسة.
الولد الأصغر كان أقرب ؛ نموذج قبيح برأس مطلي بالأزرق وخاتم معلق من أنفه. كان بالفعل قد ركز وعقد العزم على وجه العجوز، أرجع قدمه ذات الحذاء الطويل للوراء، تأهبا لتصفية الرجل بركلة. قبضت عليه من الخلف، أمسكت بالخاتم وجذبته عنوة ممزقا أنفه. صرخ بحدة عاليا مثل خنزير صغير، كور كفيه صانعا بهما كأسا يجمع دمه النازف من الأنف.
الصبي الآخر كان حوضا من الشحم، وكان وجهه قد غدا رخوا من الرعب.
أمسكت بالاثنين من شعرهما وصفقت رأسيهما معا بعنف. ليس بأقصى قوتي، لكن بما يكفي من قسوة.
حين تركتهما يمضيان استطعت أن أخمن أن الرأس الأزرق لن يدع الأمر يمر، ورغم أنني لم أعد كما كنت من قبل، إلا أنني أستطيع دوما أن أستخدم مظهري الخاص ونظرتي عند اللزوم. اتخذت شكل الأخبار السيئة، ثم حررت سكيني، جعلتها تلمع في ضوء الشمس، وابتسمت بعذوبة لهما. نحن الآن في خندق التأمل والصمت، داخل اللحظة. لحظة القرار. في لحظات كهذه، يحضر «كلنت إيستوود»
4
في رأسي ويتحدث مليا: وإذن، أخبرني أيها المشاكس، ... هل تشعر أنك محظوظ؟
كان العجوز يتأوه ويئن. تدحرج على جانبه، ارتكز على يده، ثم نهض.
نظرت إلى الولد البدين، رفعت حاجبي، وتقدمت إلى الأمام. ارتعد الولد وهرب ناحية كثبان الرمل، قابضا على قنينة العجوز. استدرت صوب الرأس الأزرق. توهج في وجهي وحملق شذرا، لكن لم يكن ثمة لهب حقيقي. بعد لحظات قليلة لحق بصديقه ماشيا بظهره، صائحا بكلمات قذرة، ومتوعدا بالثأر. نفس القذارة القديمة. لا شيء لم أسمع به من قبل.
ساندت العجوز ليقف على قدميه، وتحركنا صوب اللوح الخشبي. جلسنا ونظرت داخل فمه. سنتان مخلخلتان. وقطعة كبيرة من اللسان معضوضة ومتدلية من الجانب. مؤلم، لكن لا شيء خطير جدا.
أخبرته: «سوف تكون على ما يرام.»
كنت أشعر بالزهو والتألق، التألق بالنسبة لي على الأقل. اليوم عملت شيئا مختلفا، كنت مفيدا لأحد ما لأول مرة منذ ... منذ متى؟ لا أعرف، لكنه كان شعورا طيبا.
كانت الشمس تميل، تغطس ناحية البحر الأزرق الهادئ. العجوز وأنا جلسنا على لوحنا الخشبي مثل صديقين حميمين، نتقاسم مشهد احتضار اليوم.
عندئذ أخرج قنينته ...
قال ضاحكا في سره: «ويسكي!»
يده الخاوية تمسح على فمه من جديد، برهافة على شفته السفلى المتورمة. «لا، ما تراه هنا يا جاك، هو كل ما تبقى لي من امرأتي العجوز.»
دق القنينة الصغيرة بإصبعه الأصغر. الظفر مشقوق في موضعين، وقذر بشكل مدهش.
سألت: «امرأتك العجوز؟»
يومئ موافقا ويقول: «ساندي.» - «زوجتك؟»
يصدر شخيرا. - «زوجة؟ اللعنة، لا. لم يكن لدينا أوراق. لكنها كانت أكثر من زوجة بالنسبة لي، أكثر من المرأة التي تزوجتها. عشنا سويا لعشرين عاما، ساندي وأنا.»
قلت: «هذا زمن طيب! زمن طويل طيب.»
العجوز لا يقول شيئا. أحدق في البعيد صوب الماء، والآن غدا بوسعي أن أرى سفنه، ثلاث سفن غامضة ملتحفة بالضباب حيث تلتقي السماء بالبحر. - «وإذن، ماذا حدث لها؟»
ينظر إلي ويحرك رأسه، وكأنه لا يستطيع أن يصدق أنني هكذا غبي. - «إنها ماتت، ذهبت وماتت عني.» يقذف القنينة من كفه ويلتقطها بين سبابته وإبهامه. «وهذه ... هذه هي كل ما تبقى لي منها.»
نجلس هناك، هو وأنا، كل منا مثبت بقنينته الخاصة، كل منا يفكر في أفكاره الخاصة. أنا أفكر في «ماري»، وأتساءل عن «ساندي». ربما في حياة أخرى، في كون آخر، كان بوسعنا نحن الأربعة أن نكون أصدقاء. ربما كان بوسعنا أن نحيا حياة طبيعية. وظائف، حفلات عشاء، أطفال.
أسأله: «وإذن، ماذا بها؟ ما زالت تبدو لي لطيفة الشكل كأقرب ما تكون إلى الويسكي.»
العجوز يرفع القنينة إلى شفتيه ويقبلها. يرفعها إلى السماء فترسل الشمس المنخفضة عبر القنينة سهم حربة حادة من ضوء الكهرمان. - «ما تنظر إليه هنا يا «جاك» هو قنينة بول. بول حبيبتي «ساندي». بوسعك أن تقول: ماء «ساندي» الطيب!»
أحدق فيه، أتساءل إن كان جادا، لكن شيئا ما في طريقة ولعه وتعلقه بتلك القنينة جعلني أقتنع أن ما يقوله هو الحقيقة. - «بولها؟»
أومأ.
أومئ أنا أيضا.
قد تأخذ كل أنواع المعاني، أقول لنفسي. لو كان ثمة شخص يعلم، سأعلم. - «منذ متى تحتفظ بها؟ متى ماتت؟» - «11 أغسطس 1990، الساعة الثالثة والربع عصرا. يوم حار، مثل اليوم.»
أركز تفكيري لثانية أو اثنتين، أعد على أصابعي للخلف. - «11 أغسطس؟»
يومئ من جديد. - «في أي يوم نحن الآن؟»
أجاب: «11 أغسطس ... عيد وفاة «ساندي». هل لديك ساعة يد؟»
لا أعرف ماذا أقول. أعرف كم أبدو قبيحا، وقد تسببت في إيلام حصتي الخاصة من البشر، لكنني لست خبيرا فيما يتعلق بأمور الموت. حينما أرادت والدة «ماري» التحدث معي، التحدث حول ما جرى، حينما أرادت أن يجيب أحد على أسئلتها، لم أستطع أن أفعل ذلك. لم أستطع أن أساعدها. قلت لوالدة «ماري» إنني آسف،
5
ثم مضيت.
الآن، أنا أقول للرجل العجوز الكلام ذاته. قلت له: «أنا آسف»، و«كلا، ليست لدي ساعة يد، لكن انظر، الشمس منخفضة عند خط الأفق. إنها ربما الثامنة، أو التاسعة.»
العجوز لا يقول أية كلمة، وظللنا نجلس في الصمت لبرهة.
سمعت صوتا يشبه الركض والشجار من ورائي ويدور حولي، أفكر أن الرأس الأزرق والولد البدين ربما عادا وسط شلة من الصبية بعد كل ما جرى، لكنه لم يكن سوى طائر يركل الرمل لأعلى.
ننصت إلى الأمواج المتكسرة، وإلى صرخات النوارس في السماء. الطائر وراءنا يتوقف عن الضجيج والركض، ثم يطير بعيدا.
أخيرا، أسأله. - «إذن كيف حدث أن حملت في جيبك قنينة بول عمرها ثلاثة عشر عاما لتتجول بها أينما ذهبت؟»
ينظر إلي ثم يهز رأسه مجددا. - «ماذا يعرف طفل مثلك؟ لن تفهم!»
أهز كتفي. إذا ما أغلقت عيني الآن، سوف أرى «ماري» في المياه. أفكر في أن أعرض على العجوز تذكاري الخاص: خصلة من شعرها. ربما كي أريه أن لدينا أشياء مشتركة.
قلت له: «جربني.»
يحرك لسانه دائريا داخل فمه، محاولا عض شيء ما. وفجأة يضع نصف يده بالداخل، يأخذ شهيقا عميقا، ثم يشد بغتة. عندما جذب يده إلى الخارج، كانت تحمل أحد أضراسه المخلخلة. ثم يبصق على التراب. لون أحمر من جديد.
يقول: «الأوغاد الصغار! ما الذي جرى للأطفال هذه الأيام؟ لم يعد لديهم احترام.» - «أليست تؤلم؟»
مرة أخرى، النظرة البلهاء. - «تؤلم؟ بالطبع تؤلم. إنها تؤلم مثل الجحيم. لكن الألم لا شيء، ألم تتعلم ذلك بعد يا «جاك»؟ الألم كله في الرأس،
6
مجرد كيمياء وكهرباء، مثل كل شيء آخر يجعلنا نرتعد.»
أتذكر شيئا اعتادت «ماري» أن تقوله عن الناس. «إنهم ذاخرون بالحكايا، الحكايا المدهشة. حتى هؤلاء الذين يبدو عليهم أن شيئا لم يحدث لهم أبدا.»
أنا، لم يكن لدي أبدا الوقت للإنسانيات، لكن ثمة شيء ما حول هذا الرجل العجوز. حتى أنا كان بوسعي أن أرى ذلك.
سألته: «ما اسمك؟»
يهز رأسه للمرة الثالثة. - «الأسماء مثل الألم يا «جاك»، لا تساوي شيئا. إلا حين تموت بالطبع.»
يبتسم لي ردا لابتسامتي، أسنانه حمراء بالدم. - «وإذن ... أتحب أن تسمع عن «ساندي»، أم لا؟»
أومئ.
يضع ضرسه على راحة كفه، بمحاذاة القنينة الصغيرة الملأى ببول الميتة «ساندي»، ثم يضمهما لصق بعضيهما.
يقول فيما يواجهني بابتسامة عريضة: «اجتمع شملهما معا.»
ألاحظ للمرة الأولى أن عينيه ليستا متماثلتين. اليسرى بنية، اليمنى خضراء. تبدوان مجهدتين وثقيلتين، لكنهما ما زالتا حيتين. - «حسنا يا جاك. الشيء الذي لا بد أن تفهمه عن «ساندي» هو أنها عاشت في «السوائل». ولدت في المطر جوار البحر، في العراء تماما على أحد الشواطئ. هكذا أخبرتني هي على أية حال. كل حياتها كانت لها علاقة ما بالسوائل. «أنا إنسان سائل، أنا الحالة الثانية للمادة.»
7
هكذا كانت تقول.
أتذكر دروس الفيزياء الأولى. المعلم الذي كانت لديه «تفاحة آدم» بحجم بيضة دجاجة. مساعدة المعمل الشابة ذات الصدر الضخم، كان الأولاد يتأملونها وهي تتحرك عبر المعمل.
أقول: «المواد الصلبة، السوائل، الغازات.» - «لقد فهمت الآن يا جاك. الآن أنت وأنا، نحن اثنان من «المواد الصلبة» إذا أتيح لنا أن نرى. الحالة الأولى للمادة، كلانا. كل من له عينان بوسعه أن يرى ذلك. لكن ليس حبيبتي «ساندي». إنها حتى كانت تتحرك مثل موجة. «ساندي» لم يكن لها «مشية» كان لها «تدفق».
فهمت ماذا كان يعني. عرفت فيما مضى نساء قليلات مثل ذلك. يعود السبب عند بعضهن إلى التنورات الطويلة أو الكعوب العالية، لكن القليلات منهن «يتماوجن ويتدفقن» حتى وهن عاريات. «ماري» كانت واحدة من هؤلاء. كنت أراها تتماوج من المطبخ إلى غرفة النوم، ثم تعود تتدفق صوب المطبخ.
الرجل العجوز يواصل الحديث. - «ساندي، كان لديها حوض استحمام كبير وقديم. كانت ترقد فيه لساعات، بشرتها تجعدت كلها. تمكث هناك طيلة اليوم وطيلة الليل إن استطاعت. وكانت تصب تلك المستحضرات واللوسيونات. يا الله، كانت تنفق نصف دخلي على هذه المستحضرات النسائية. لكنها كانت تأتي إلى الفراش ناعمة، والطيب يفوح منها إلى درجة لا يمكن أن تتخيلها.»
كان مخطئا. أستطيع أن أتخيل، لكنني لا أحتاج أن أفعل. فأنا أتذكر.
أمد يدي إلى جيبي، أخرج صندوقي الصغير، أعرض عليه خصلة شعر ماري. يتفرس فيها، يلمسها بإصبع قذر، ثم يومئ. - «رحلت هي الأخرى؟»
شخص غريب هذا الرجل العجوز. أنا سعيد أن كان بوسعي مساعدته.
أرقب الشمس تغطس أكثر قليلا. - «نعم، «ماري». كانت فتاة من نوع الحالة الثانية أيضا.»
أشعر بالغصة التي تنتاب أعماقي، حنين لم أشعر به منذ سنوات. يوما ما في القريب سوف أحاول أن أعود إلى البيت ثانية. لأرى إن كان ثمة من ما زال يذكرني.
لم نتكلم لبرهة.
فجأة، يقف العجوز ويمشي صوب البحر. سفنه قريبة الآن. ألحق به، خصلة شعر ماري ما زالت معي.
يقبل قنينة ساندي، يمسكها لدقيقة أخرى، ثم يقذف بها في الماء.
يقول: «جئت هنا لأقذفهما الاثنتين في البحر، ما زالت ... ثمة واحدة يجب أن ترمى.»
ينظر إلى شعر «ماري» ويرفع حاجبيه، لكن الوقت ليس مناسبا لي، ليس بعد. أخرج صندوقي، أضع داخله الخصلة، ثم أعيد الصندوق إلى جيبي.
أقول له: «ربما يوما ما.»
الرجل العجوز يومئ. - «لقد تأخر الوقت، هل لديك مكان ننام فيه؟»
شاحنتي تقف فيما وراء الكثبان.
أجيبه: «نعم.»
النوارس تزعق فوق رءوسنا، والبحر يجيش بعنف إلى الأمام وإلى الخلف، محركا جزيئات المادة.
باراكودا1
الشابة الصامتة، التي ترقد في السرير رقم «6» تدعى «ياسمين». هكذا أدعى أنا أيضا. سوى أن الأسماء محض نعوت قشرية، تطفو كالزبد، متأرجحة فوق سطح الماء. غير أن أمورا أكثر عمقا كنا نتقاسمها. تلك الأمور التي جعلتها ترتاح إلي وحدي، والتي جعلتني لا أقضي يوم عطلتي إلا إلى جوارها.
كان اليوم صعبا. عنبر المستشفى يئن بالمرضى، الأمر الذي جعل نهاري كله مشحونا بالعمل: تفريغ السلال جوار الأسرة، ملء نماذج التقارير الخاصة بالمرضى، تبديل الضمادات وتغيير الملاءات. وأخيرا، في نهاية اليوم تقريبا، تمكنت من اقتناص بضع دقائق لإعداد فنجان من القهوة، أخذته إلى حيث المقعد البلاستيكي برتقالي اللون جوار سريرها. أشعر بالامتنان لتلك الدقائق التي أريح فيها قدمي، وأنعم فيها بصحبتها من جديد. - «مرحبا يا ياسمين.»
أقولها، وكأنني أرحب بنفسي. إنها لا ترد. «ياسمين» لا ترد مطلقا، إنها مكتئبة حتى العمق.
كانت «ياسمين»، مثلي تماما، إحدى الضحايا التي دمرها البحر. أنا أيضا كنت ابنة لأحد الصيادين، من أجل هذا، أخرج الكلمات من فمي مثل طعم في شص سنارة صيد، أصب في أذنيها الكلمات، ثم أتخيلها تغطس في عمق الماء البارد داكن الزرقة، عميقا بالأسفل حيث ترقد هي على الأرجح. - «لدي قليل من الوقت اليوم!»
أخبرها بينما أمسح بأناملي على شعرها. مع فتاة كهذه، يكون من الصعب دائما ألا تلمسها. كانت «ياسمين» شيئا نادرا، امرأة شديدة الجمال. من أجل هذا، كان الناس يختلقون الأسباب من أجل المرور في فضائها. أضبطهم يتأملونها، يشربونها داخلهم، يمضغون تفاصيلها. إنهم «باراكودا»، جميعهم.
الممرضون الذين يدفعون الكراسي المتحركة، يبطئون، حد الزحف، حين يقتربون من سريرها. الزوار المتجولون ذوو العيون الجسورة الجشعة. الأطباء، الذين يتوقفون فجأة يسحبون الستارة الشفيفة ثم يعيدون اختبار أشياء ليست في حاجة إلى اختبار.
الجمال الباهر هو شيء لم نتقاسمه سويا، وأنا غير سعيدة بذلك.
قلت لها: «والدك ربما يكون هنا حالا، لقد قال الأسبوع الماضي أنه سوف يأتي.»
لم تقل «ياسمين» شيئا. فقط ارتجف جفن عينها اليسرى، أو هكذا خيل إلي.
مر شهران منذ وقعت تلك الحادثة فوق قارب الصيد الخاص بأبيها. منذ سقوطها إلى البحر ، لتغور في عمق الماء، ثم تتشابك أطرافها في خيوط الشبك. مر وقت قبل أن يكتشف الأمر أحد، ثم بدأ الذعر والفزع. سحبها أبوها إلى متن القارب، ثم أبحر صوب القرية. حين وصل أخيرا، حمل إلى الشاطئ ما كان يظنه جثمان ابنته. - «ياسمين!» أهمس. أريدها أن تلتقط اسمينا مثل طعم السمكة. أريدها أن تبتلعه.
لحسن الطالع جاء طبيب شاب إلى قريتهم ذلك الصباح، ليزور أقارب له بالجوار. كان هو من استعاد الفتاة الغريقة من حافة الموت، هو من أخبرني بقصتها: «فتحت عينيها، نظرت إلى أبيها وقالت كلمة واحدة، ثم غرقت من جديد، في الغيبوبة هذه المرة.» «باراكودا.» هذا ما قالته «ياسمين».
حين يزورها أبوها، يمسح على شعرها، يقبل وجنتها، ثم يجلس على المقعد البلاستيكي برتقالي اللون جوار سريرها، آخذا كفها بين راحتيه. مثلما أبي، لديه الكف ذاتها، البنية الضخمة التي خشنتها الحياة، كف صياد. هو أيضا تفوح منه رائحة البحر، يتظاهر بأنه رجل بسيط وطيب! «ياسمين.» نشترك في أشياء كثيرة، نحن تقريبا كيان واحد.
أتذكر تلك الصباحات الباكرة، شعري يمس كي أستيقظ، يرفعني أبي من سريري نصف نائمة، يحملني بين ذراعيه، ثم يلقيني فوق قاربه.
صوته خشن في أذني، يداه خشنتان فوق جلدي، لم أرغب في الذهاب أبدا، لكنني كنت مجرد طفلة، وكان يفعل ما يريد.
أتذكر الماء المالح، الشمس الحارقة، وأمي تنكمش وتتضاءل فوق الشاطئ. أتذكر ألواح القارب الخشبي وصخرة التثبيت، أتذكر صرخات النوارس. «ياسمين، لديك حياة في داخلك، ألا تسمعينها تنادي؟»
لا شيء!
يصفق باب العنبر بشدة، ألمح والد «ياسمين» يمشي صوبنا، حاملا الزهور، ويبتسم لي.
حتى في الموت، الطفلة الكامنة داخلي ترى ابتسامة أبي، «ياسمين» كذلك، سوف تنال ابتسامة هذا الرجل. أعرف ذلك.
يقف جوار سريرها، يمسح على شعرها، شيء يمور عميقا في داخلي.
أراقب جفن ياسمين وأنتظر ارتجافتها.
أغنية من أجل «جيني»1
كان «توم» يتجه صوب غرفة المعيشة، بحرص رجل عجوز يحمل صينية شاي، حين سمع «جيني» تتكلم. توقف فجأة حد أن صحن البسكويت وفنجاني الشاي جميعها انزلقت إلى الأمام واصطدمت بحاجز الصينية. بعض الشاي تناثر داخل صحن الفنجان، فوجد نفسه للحظة يحملق في الفوضى، قبل أن يرفع رأسه لينظر ، عبر الغرفة، إلى زوجته.
كانت «جيني» تجلس على الأريكة ذات المقعدين، تماما على الحال التي تركها عليها، لكنه لمح الاختلاف واضحا في عينيها. كانتا منتبهتين من جديد، مشتعلتين بذكاء مشوش، وكانت تنظر نحوه مباشرة، بدت حاضرة على الحال التي لم تكنها منذ شهور. لقد حدث الأمر مجددا. بينما كان في المطبخ يعد الشاي، حدث الأمر مجددا.
فتح فمه ليتكلم، لكن كلمة لم تخرج. رأى «جيني» تمسح على تنورتها برقة، ولاحظ ومضة زرقاء على الأرض جوار قدمها اليسرى. إحدى فردتي قرطها. أصلح حنجرته وحاول من جديد. - «جيني؟»
برقت عيناها وركزت، ثم رمت نظرة إلى الصينية. - «لقد سكبت الشاي يا توم.»
نظر إلى الأسفل مرة أخرى، ثم إلى الأعلى، أحس بشفتيه تناضلان من أجل ابتسامة ما. - «نعم فعلت يا حبيبتي. هكذا فعلت. وأنت أسقطت إحدى دلايتيك.»
عبر الغرفة، ووضع الصينية المرتبكة ذات الصليل فوق مائدة القهوة، ثم انحنى ليلتقط قرطها. طقطقت مفاصل فخذه عاليا وهو يعتدل، وكذلك حين جلس جوارها، غير أنه لم يلحظ تقريبا. «خذ الأمر بهدوء»، هكذا قال لنفسه. خذ الأمور بهدوء وبطء وثبات.
اختطفت «جيني» القرط من راحته.
قالت فيما تريح يدها الأخرى فوق رسغه: «لقد انخلعت.» كاد ينسى كم كان صوتها جميلا، كم كانت لمستها رقيقة. بعد كل تلك الشهور. - «هل حدث ذلك الآن؟ هذا لا يمكن أن يكون، أليس كذلك؟ لقد كلفني الأمر دهورا طويلة هذا الصباح كي أجعلك تبدين على هذا النحو الجيد، وها أنت تفسدين كل شيء، دعوني أضرب ظهرها عقابا لها، إيه؟»
عقص شعر «جيني» خلف أذنها، وشبك قرطها في مكانه من جديد. ابتسمت له وبدت وكأنها ستتكلم، سوى أن جبينها ارتخى وابتسامتها تلاشت. رآها فارغة وغائبة في البعيد مجددا، رأى يدها ترتفع في الهواء وتبقى هناك، تحوم في حيرة. ثم فقاعة من اللعاب تنتفخ فوق شفتها السفلى. سحب «توم» منديلا نظيفا من جيبه ومسحها.
قال بهدوء: «جيني! جيني حبيبتي، هل تسمعينني؟»
سيل من قطرات العرق تشكلت فوق فوديه كحبات خرز وهو ينتظر إجابتها . شعر بالدماء تخفق في عنقه. مغلقا عينيه، أخذ يصلي من أجل أن يعود الضوء الواهن إلى عينيها من جديد.
كان لا بد أن يلحظ هذا في الصباح، حين كان يساعدها كي ترتدي ملابسها. كان من الواضح وقتها أنها أفضل من المعتاد، يكفي أنها اختارت فستانا بعينه من بين العشرين المعلقة في خزانتها. كان مسرورا، لسبب ثانوي هو أن ذاك الفستان كان المفضل لديه، البيج ذو الوردات الزرقاء الخفيفة، أما السبب الرئيسي فلأنها بدت وكأنها تذكرت أنه المفضل لديه. كما أن عملية إدخالها فيه كانت أقل صعوبة من المعتاد. مجرد عرجة واحدة حين أصرت على إدخال قدمها اليمنى في حذائها الأيسر، ويسراها في الأيمن. بالطبع لم تستطع أن تسير هكذا. انكفأت على السرير واستطاع «توم» أن يبدلهما، باستثناء ذلك لا عقبات على الإطلاق.
فتح عينيه، ورمق قدميها في الأسفل، وخاف أن ينظر إلى الأعلى، لم يرد أن يلتقي بذلك الخواء المفرغ الرهيب. كان يفكر أن هذا الحذاء اللطيف، حذاء محظوظ. كانت تلبسه حين حدث ذلك الأمر آخر مرة. - «توم؟»
ارتجفت رأسه لأعلى. لقد عادت، النور في عينيها مرتعش وغير واثق مثل لهب شمعة في نسمة ليل، لكنه كان هناك رغم هذا. ركزت بصرها عليه، طوحت يدها لأسفل وأراحتها من جديد فوق ذراعه. - «الصورة يا توم، أريد صورتهم.» - «أي صورة يا طفلتي المدللة؟ أي صورة تقصدين؟»
نتشت كم قميصه وهزته، كما كانت تفعل أحيانا في الأيام القديمة حين كان يبدو غبيا وغير متجاوب على وجه التحديد. - «أنت تعلم! صورتهم وهم يرقصون! يرقصون من أجل جيني المسكينة!»
عرفها، عرف الصورة فورا. - «إنها في الطابق الأعلى يا طفلتي. في أحد ألبوماتك.» لم يجل بخاطره أن عليه أن يتركها. - «هل تريدينني أن أحضرها لك؟» - «نعم. الصورة.»
انتصب مترددا على غير إرادته. - «فقط ابقي كما أنت الآن، سأعود حالا.»
كانت أمتعتها محزمة، مثل عتاب صامت أنيق، ينتظر جوار الباب الأمامي. يحاول ألا ينظر إليها، بدلا من ذلك راح يحدق في الساعة المثبتة على الحائط في قاعدة السلم: 4:10 بعد الظهر. موعد «ديفيد» في الخامسة تماما. خمسون دقيقة إذن هي كل ما تبقى. دع أو خذ الأمر.
ترك باب غرفة المعيشة مفتوحا كي يتمكن من رؤية «جيني». أما هي فقد التفتت بجسدها كي تنظر إليه، صانعة بيديها تلويحات تستحثه، بنفاد صبر، على المضي. ابتسم لها، وبدأ رحلة الصعود الطويلة إلى غرفة نومهما، مفاصله تصطك مع كل خطوة.
سوف يأتي «ديفيد» في موعده بالطبع. اعتاد أن يكون دقيقا في مواعيده، حتى حين كان صبيا. لم يكن هناك داع للقلق من أن يفوته باص المدرسة، وحين كان أكبر سنا، لم يخلف وعده إذا قال إنه سيهتم بالحديقة أو سيأخذهما للخروج في نزهة. طبيعته المتزنة والعملية أفادته كثيرا. كانا دائما فخورين بأسلوب تناوله لأعماله وجعلها تسير في طريقها، حتى في أوقات الركود. وكان ديفيد على حق بالطبع. دار «شجرة الأرز» للمسنين كانت الحل العملي الوحيد. جادل «توم» ضد ذلك طويلا وبصوت عال، لكن «ديفيد» كان مصرا على رأيه. - «أبي، أنت نفسك لست على ما يرام، وأمي سوف تتدهور حالها، لن تتحسن أبدا. إنه الخيار الأصوب بلا شك. بوسعك زيارتها كلما أحببت. ولا داعي للقلق بشأن الرسوم. سوف أدبر الأمر كله.»
لقد صمد. صمد وقاوم لأسابيع. إلى أن كانت الليلة التي صحا فيها على صوت الأجراس ليجد نفسه وحيدا في الفراش. لن ينسى مطلقا تلك القفزة المسعورة صوب الباب الأمامي (مفصل فخذه ظل يصرخ بسببها فيما بعد). مشهد «جيني» وهي تمشي في الحديقة لا ترتدي سوى معطف السيد «داوسون»، والعلامات الدامية التي تركتها قدماها على أرضية المدخل، ومشهد ارتجاف جسدها في البرد، كان قلبه على وشك الانخلاع. «ديفيد» على حق. إنه الحل العملي والأنسب فعله.
رغم ذلك، حين وصل «توم» إلى أعلى درجات الدرج وراح يترنح صوب غرفة النوم، وجد نفسه يتمنى للمرة الأولى في حياته أن يتأخر ابنه عن موعده.
ألبومات الصور، «جيني» ملأت العشرات منها خلال السنوات، كانت مكدسة فوق الرف أسفل النافذة. جميعها مؤرخة بخطها الأنيق والمنتظم الذي كان لديها دوما. لم يأخذ «توم» الكثير من الوقت ليجد الألبوم الذي يريد. فتحه وبدأ يقلب صفحاته. الصورة التي أرادتها «جيني» كانت في منتصف الألبوم تقريبا. سحبها من غلافها البلاستيكي وأخذ طريق العودة للأسفل. كانت الرابعة وخمس عشرة دقيقة.
شاهدته «جيني» يعبر الغرفة، ثمة تعبير على وجهها لم يستطع قراءته. جلس جوارها وعرض عليها الصورة. - «هذه يا جين؟»
أومأت، أخذتها منه وقبضت عليها بأصابع مرتعشة. حين نظرت إلى الأعلى كانت عيناها مبتلتين بالدموع. - «أوه يا توم! انظر! كانوا صغارا جدا! صغارا جدا!» - «أعلم يا حبيبتي، أعلم.»
كان حفل عشية الكريسماس، هو يتذكر. فريق «إخوة إلى الأبد» في الصورة يؤدون أغنية «جيني البائسة». كانت كلما أذيعت في الراديو تغني «جيني» معها، وتريد أن ترقص. «توم» كان يرقص لإسعادها، ويشعر بنفسه قويا واثقا من نفسه. - «صغار جدا.»
طوقها بذراعه، وجلسا ينظران إلى نفسيهما، يرقصان «الروك آند رول»، بين بالونات الجليد والقبعات الورقية، يضحكان عاليا للمصور الذي طال نسيانه. برقة، وبصوت أعلى بالكاد من همسة، شرعت «جيني» في الغناء. - «حسنا، جيني لديها أخ يتعقبني أينما ذهبت، أبوها يريد أن يرسلني خارج البلدة في قطار.
أرجو أن أظل هناك حتى تخرج «جيني» من السجن، جيني البائسة ...»
أرخت رأسها على صدر «توم» الذي أخذ يهدهدها بحنو. حين تكلمت ثانية كانت مجرد همهمة خافتة داخل قميصه. - «تلك الأشياء. تلك الحقائب جوار الباب. هل هي أغراضها
2
يا توم؟»
خرجت كلماته متكسرة وغير واضحة. - «نعم يا حبيبتي.»
أحس أنها أومأت. - «إنه مكان رائع وفسيح، كما تعلمين. سوف تقضي «جين» أيام حياتها قبل أن تستوعبه كاملا!» - «هل «ديفيدهم»
3
سوف يأتي؟» - «أجل، يا حبيبتي، خلال لحظة.» - «هل ستبدو هي ... هل سأبدو أنا ... لطيفة في عينيه؟» - «لطيفة» ليست الكلمة المناسبة يا قطتي الحبيبة، تبدين جميلة مثل لوحة.»
رفعت رأسها وابتسمت، وحين أراد أن ينظر في عينيها، حين انحنى ليقبلها ، لمح النور يرتعد ثم ينطفئ. لهب الشمعة ارتعش ثم خبا. لكنه قبلها على أية حال، آملا ... غير أن شفتيها كانتا غير مستجيبتين. حين انسحب ونظر إلى وجهها ثانية، كان الخواء العميق العميق قد عاد. - «جين؟»
لا شيء على الإطلاق.
4
احتضنها، وأرجحها بلطف.
قال: «جيني البائسة! جيني حبيبتي التعسة البائسة.»
رن جرس الباب في الخامسة تماما. حين فتح «توم» الباب كان «ديفيد» واقفا عند العتبة. مسح بعينيه القاعة بحثا عن حقائب أمه، وبدا محبطا قليلا حين لم يجد أيا منها. - «أبي؟ ماذا هناك؟ أليست مستعدة؟»
نظر «توم» إلى ولده. كانت به ملامح من «جيني»، منعكسة في جبهته العالية الناصعة، وفي زرقة عينية الوفيرة.
هز «توم» رأسه. - «لا، ليست مستعدة، كلانا غير مستعد إن أردت الحقيقة. لقد أعدنا التفكير قليلا، والدتك وأنا، تحول في القلب، يمكنك أن تقول.» - «لكن يا أبي ...» - «توم؟ توم، هل هذا هو «ديفيدنا»؟»
جاء صوت «جيني» طافيا خلال غرفة المعيشة، فأوقف ولدها في منتصف الجملة. حملق في والده، الذي رد عليه بابتسامة عريضة.
قال له فيما يأخذه من ذراعه: «هل أخبرك بأمر يا فتى؟ لماذا لا تأتي للداخل؟ سأضع غلاية الشاي على النار. أمك تبتهج برؤيتك دوما، سواء أظهرت هذا أم لم تظهره. وبعد ذلك سنمضي ثلاثتنا في الدردشة، ما رأيك؟»
قتل الأرانب1
لم أتطلع يوما إلى قتل الأرنب.
لا تقللوا من شأن هذا الأمر؛ فقد كنت أرتعد من الفكرة. كنت أفزع منه مثلما يفزع القتلة من أنشوطة المشنقة، أو كما يفزع غواصو البحار العميقة من التواءات العضلات، أو مثلما يفزع المدرسون التعساء من صباحات يوم الإثنين.
2
قالت زوجتي «ماري»، التي كان القلق يزيد وجهها رهافة: «لست مضطرا إلى فعل ذلك!» وكان هذا لطيفا منها، غير أن كلينا كان يعلم أن تلك لم تكن الحقيقة.
الحقيقة كانت حتمية أن أفعل ذلك. إذا لم أفعل، إذن ما الذي كنا نمثله هنا تحديدا؟ إعادة عرض لكوميديا «الحياة الطيبة»؟
3
إذا لم أستطع أن أجبر نفسي على قتل أرنب واحد أعزل، فإن كل كلامنا حول أسلوب الاكتفاء الذاتي، ومحاولة الخروج من جنس الفئران، وإقامة حياة أكثر صحية، لن يغدو كل ذلك أكثر من كلام. مجرد كلام . وبوسعي الآن أن أسمع والدة «ماري»، بوسعي أن أرى حاجبيها المقوسين، وابتسامتها التي تقول: ألم أقل لك؟ وتهكمها الواثق: «أوه نعم، أنت دائما بارع في الكلام عن الأشياء، أليس كذلك يا جون ...!»
حسنا، لم تكن هي من يستحق هذه الترضية على أية حال، لكن ماري وأنا كنا في طريق أكثر إيغالا من إمكانية التراجع، تجاوزنا منذ زمن نقطة اللاعودة. تركنا وظيفتينا، تركنا بيتنا، ثم انتقلنا نهائيا إلى منطقة ريفية من البلد، والآن انظروا إلينا.
أعجوبة العجائب، كنا نفعل الشيء الذي ظللنا نحلم به طيلة العامين الماضيين. وها نحن أخيرا، برغم كل العقبات، ندير أرضا صغيرة تخصنا.
الأسابيع القليلة الأولى من محاولة تحويل المكان إلى شكل مقبول كانت شاقة، لكن مرضية تماما. لا شك، فقد كانت الأرض المحيطة بالكوخ الريفي وعرة، وثمة أعمال بناء ناقصة، لكن المحيط العام كان رائعا. لدينا ثمانية هكتارات من تربة عفية خصبة، محاصيل تزرع وتنمو، دجاجات تنقنق، بطات توقوق، إوزات تزمر، بضعة خراف تمأمئ، وبطبيعة الحال كان لدينا أرانب، أرانب مشغولة بما تحب أن تفعله الأرانب عادة.
هل كان من الممكن أن أغامر بكل هذا، لمجرد أنني لا أستطيع أن أواجه ببسالة مذبحة صغيرة، الشيء الذي هو ركن ركين من حياتنا الراهنة؟
كلا. إنه الوقت الحاسم. الوقت الحاسم بالنسبة لي، الوقت الحاسم بالنسبة للأرنبة.
كان اسمها «تاج»، إحدى ثلاثة أرانب نيوزيلندية بيضاء. الذكر الضخم أطلقنا عليه اسم «بوبتيل»، أما الأنثى الأخرى فتدعى «راج». كانت «راج» دائما حبلى بحمل ثقيل، ولو اتبعت «تاج» النهج نفسه لأصبح ثالوثنا الصغير في طريقه الصحيح المأمول نحو تزويدنا بحوالي 200 رطل من اللحم كل عام. هكذا تقول الكتب على كل حال.
لكن كان ثمة مشكلة؛ فرغم كل جهود «بوبتيل» (وكي أوفي الولد حقه لا بد أن أقول إنه بذل قصارى جهده بالفعل)، إلا أن «تاج» رفضت ترمي كرتها . أسبوعا بعد أسبوع بعد أسبوع، و«بوبتيل» يؤدي واجبه الرجولي بحماس مذهل، غير أن «تاج» ظلت على عقمها العنيد.
يقول خبراء الاكتفاء الذاتي: إذا كانت الأنثى غير منتجة، فإن مكانها الوحيد إناء الطهو! وكانت «تاج»، تلك الأرنبة اللطيفة حلوة الطبيعة، من دون شك غير منتجة. حسنا، لا مكان للعائشين على الصدقات في مزرعتي الصغيرة. «تاج» لا بد أن ترحل.
أخبرت ماري: «إذا لم تصبح حبلى على نهاية الأسبوع، إذن سيكون ... سنجلب أنثى أخرى، وسيكون علي أن ... أنت تعرفين.»
وجاءت نهاية الأسبوع، وكل ما يمكنني قوله إن «تاج» ظلت عاقرا كما هي دائما.
أعلنت بينما أتجه إلى زر الكهرباء لأطفئ المصباح جوار السرير: «غدا، سوف أفعلها غدا.»
في الظلام كنت أسمع تنفس «ماري». - «هل أنت واثق؟» - «نعم، لقد حان الوقت.»
لم أستطع النوم تلك الليلة. سقطت في النوم للحظات قليلة، فإذا بالذي سوف أفعله في الصباح يقفز في أحلامي على هيئة شبح أرنب مخبول يتلوى، طوله 15 قدم، يترنح في خطوته على طريقة مشاهد أفلام الرعب.
رقدت في الفراش، عيناي شاخصتان، أحملق في الظلام، أفكر، أتذكر.
أعود بالزمن إلى الوراء، حين كان قرار الانتقال إلى الريف ما زال في طور المناقشة، كان أصدقاؤنا يستمتعون باستجوابنا حول طبيعة حياتنا الجديدة والنتائج التي سنتورط فيها بناء على ذلك. اهتموا على نحو خاص بالجزء الخاص بعملية الذبح. بدا أن أحدا لا يعاني مشكلة كبيرة في التعامل مع الدجاج، أو الإوز أو الخراف، غير أن الكثير منهم روعتهم فكرة أن نربي، نقتل ثم نأكل الأرانب.
صديقانا الحميمان، «ستيف وبولين»، كانا يربيان زوجا من الأرانب المنزلية الأليفة غزيرة الشعر ذات الحيوية التي تنطق بالجمال واللطف، اقتنى الصديقان هذين الأرنبين من أجل تسلية أطفالهما، ولذا لم يكن مدهشا أن يكون انزعاجهما شديد الخصوصية.
قال «ستيف» في إحدى ليالي لقائنا في الحانة: «لن تقدر مطلقا أن تفعل ذلك، ليس حين تنظر إلى الأسفل فتجد هاتين العينين البنيتين الواسعتين تنظران إليك، وذاك الأنف الصغير المرتجف ...»
قلت له: «الأرانب النيوزلندية البيضاء لها عيون حمراء.»
هزت «بولين» رأسها. ستيف معه حق، ما زلت أذكر الحال التي انتابتك حين تعثرت وانقلبت فوق قطتنا.»
أجفلت. دهسي لقطتهما كان أسوأ ما مر بي في حياتي كلها. أدركت منذ عهد بعيد أن «بولين» لن تتركني أنسى ذلك الحدث أبدا.
أجبتها بينما أختبئ خلف كأس البيرة: «الأمر مختلف ... الأمر مختلف تماما.»
قالت بابتسامة نصفها غضب ونصفها استهزاء: «ياللكائنات الصغيرة التعسة! على الأقل لا تتوقع مني أن أكون لطيفة معك بعد أن تكون قد اغتلت ملايين من الأرانب الرضيعة البريئة، هذا كل ما في الأمر. أنا أتكلم عن الدماء التي تلوث يديك ...»
كانا على حق بلا ريب. أدركت دائما أنني سأواجه معضلة مع عملية القتل تلك، لكني استطعت أن أطمئن نفسي ما دام الأمر ما زال رهنا بالمستقبل البعيد.
بوسعك أن تصنع حالة ذهنية تمكنك من الكلام عن القتل، سلخ الجلد، التقطيع ... إلخ، مستخدما تلك المصطلحات العملية الهادئة ذاتها التي تتداولها كتب الزراعة. بوسعك أيضا أن تتعلم كيف تلهي نفسك عن المظهر الريفي غير المبهج عن طريق أن تتخيل كم هو رائع أن تعيش في مكان ريفي بسيط مع «فليسيتي كاندال».
4
غير إني عدلت تماما عن فكرة النوم، ومع بداية تسلل الضوء الخافت عبر الستائر، كان علي قبول حقيقة أني لن أستطيع مجددا أن ألهي نفسي أو أصرف تفكيري بالأمر. الوقت الحاسم. أما فيما يخص «فليسيتي كاندال»، فلم تكن في أي مكان حتى ترى.
حول الخامسة صباحا، انزلقت من السرير، ارتديت ملابسي وتسللت ببطء إلى الطابق الأسفل، تاركا «ماري» تتنازعها أحلامها الخاصة. وددت أن أنهي الأمر بأسرع ما يمكن، ومن الأفضل أن يتم بينما هي ما زالت في نومها.
في الخارج، كانت شبورة الصباح الباكر تتدفق وتغطي الأرض. بدا ذلك مناسبا على نحو ما.
كان كل من «راج، وتاج، وبوبتيل» في أقفاصهم المنفصلة في الحظيرة الصغيرة خلف الكوخ. كانت أنوفهم تختلج تجاهي كلما اقتربت أكثر، بينما أخذ «بوبتيل» يضرب الأرض بأقدامه.
إذا قدر لك أن تقتل أرنبا، فإليك ما يجب أن تفعله:
تأخذ ساقيه الخلفيتين بيدك اليسرى، تقبض على رأسه بيمناك، ثم تلوي الرأس إلى الوراء. في ذات الوقت تضغط يدك إلى الأسفل كي تشد العنق. إذا أديت الخطوات على نحو صحيح، ستنكسر عظمة العنق ويحدث الموت تقريبا في لحظة.
قرأت التعليمات عشرات المرات. أحفظها عن ظهر قلب. بل إني مارست كل تلك الخطوات من قبل على منشفة الصحون باعتبارها أرنبا! غير إني بمجرد أن أخرجت «تاج» من قفصها؛ ارتعشت يداي.
حملتها إلى الخارج حتى لا يتمكن «راج وبوبتيل» من رؤية الذي سوف يحدث. داعبتها، أخبرتها أني آسف، ثم، بأسرع وأدق ما يمكن.
قتلتها.
كان الأمر رهيبا، سوف لا أنساه مطلقا. ولن أنسى أبدا كم القسوة التي كان علي أن أجذب بها.
غير إني أنجزت الأمر على نحو صحيح. نعم على الأقل أنجزته على نحو صحيح. إذا كانت قد تألمت، فلم يكن ذلك إلا لثوان قليلة.
بعدما قتلتها، كان علي أن أنجز عمليتي السلخ والتقطيع. أعرف النظرية، عليك أن تحزم ساقي الأرنبة الخلفيتين فوق مفصل القدم مباشرة ثم تعلقها على خطافين. بعدها تشق قطعا صغيرا أعلى مفصل كل كاحل من ساقيها الخلفيتين، ثم تمد القطع حتى فتحة الاست. بعدئذ تنزع طبقة الفراء عن الجلد عند ساقيها ثم تقشرها عن سائر الجسد.
فعلت كل ذلك، فعلته على نحو جيد. لقد هيمنت على الموقف الأساسي، جابهت الأمر الذي طالما أفزعني، تصرفت كرجل. وكنت بالفعل راضيا عن نفسي. •••
حين فتحتها لأفرغ أحشاءها، تبخرت كل مشاعر الغبطة. •••
هبطت «ماري» إلى الطابق الأسفل ووجدتني جالسا في المطبخ.
قالت: «ماذا هناك؟»
أخبرتها.
تعرفت على الكبد، القلب، الكليتين، لكن ثمة أشياء أخرى في الداخل لم أستطع التعرف عليها مطلقا. أشياء لم تكن في الكتب.
عشرة أشياء. - «كان يجب أن أنتظر يا ماري، «تاج» كانت ملأى بالصغار.»
كانت «تاج» حبلى. بعد كل هذا.
الجرس1
في أحلامي، أحلامي الطيبة، «ماري آيريس ماك كورماك» - التي أسميها اختصارا «ميم» - دائما ما تمارس الشقلبة، تقف على يديها، ركبتاها مثنيتان، وقدماها مزروعتان بثبات صوب حائط الملعب ذي الطوب الأحمر. تنورة زيها المدرسي تتدلى مثل جرس ناعم أخضر اللون حول مطرقة الناقوس نصف المختفي: رأسها، وحين تدير رأسها لتواجهني، أرى عينين غريبتين ذكيتين مقلوبتين ترمقانني من أسفل الأهداب المقلوبة. تنظر بعيدا، وبحركة خاطفة من شعرها الأشقر تكنس غبار الأسفلت فيتحرك في دوامات.
حالما، نصف واع بالحقيقة، أتساءل كم من الوقت مضى منذ تلك الظهيرة الحارة الزرقاء-الصفراء، داخل خيمة شقيقتها في تلك البلدة الصغيرة. تسعة وثلاثون عاما؟ أربعون؟ هل يمكن أن يكون ذلك حقيقيا؟ هل مضى بالفعل كل ذلك الزمن الطويل منذ أن تركتني وانتقلت إلى المدينة، إلى حيث الأضواء البراقة، لندن؟
من قمة رأس التنورة (الناقوس)، ترتفع في الهواء ساقان مضبوطتان، زوجان متماثلان من الدعامات الطائرة تقبلان الحائط من أجل أن تبقيه مكانه. تنفردان فجأة، تنفصلان بكل مهارة، فتصبحان حرف
V
يتحرك بينما تتقدم «ميم» نحوي ببطء، متزنة، مستقرة، كفاها تشكلان زاوية قائمة مضبوطة مع معصمين قويين مرنين. مدهش.
V
2
يعني النصر.
أسمع جلجلة عالية النبرة لضحكة صادرة من باطن الناقوس، وفي ظلمة البقعة المحرمة - ذاك المكان الذي ليس لعيني عمل شرعي فيه - أبصر قطعة ملابسها الداخلية داكنة الزرقة.
ثلاث مرات في الأسبوع الماضي أصحو عند هذه النقطة من الحلم، وأنظر صوب بحيرة النور حيث تجلس ممرضات الليل. أعرف إحداهن جيدا؛ الممرضة «ماري أوكانر»، ذات الشعر الأحمر واللكنة الأيرلندية المحببة. أبوها كان ساعي البريد الخاص بي، يتسلم رسائلي، يجمع ردودي، يجلب لي الصحيفة الجافة والإحباطات. أخبار المدينة الضخمة، المدينة التي هي أضخم مما يحتمل ولد مثلي من بلدة «فريستون» الصغيرة.
آه يا «ميم».
حين تتحرك الممرضة «ماري أوكانر» على هذا النحو الواثق، وتضحك بتلك الطريقة، تذكرني بك.
أحب أن أتخيلها واقفة، تتثاءب، تفكك نفسها من مركزها ومن بحيرتها النورانية الساطعة الصغيرة. أحب أن أتصورها وهي مقلوبة، تمشي على يديها صامتة عبر جناح النوم، ثوبها الأبيض الهش أضيق من أن يصنع شكل الناقوس، غير أن قبعتها الجادة ستسقط، ويتماوج شعرها الأحمر على الأرض حرا طليقا.
أراها تقف عند سريري، تبتسم ابتسامة واسعة، تستدير ببطء، ثم تعود أدراجها إلى طاولتها. نعم. حتى من دون جرس، حتى من دون أن ألمح قطعة ملابسها الداخلية داكنة الزرقة، سوف يظل ذلك شيئا جديرا بالاستيقاظ من أجله.
أغمض عيني وأفكر فيك يا «ميم»، ما زلت تمارسين الشقلبة في أحلامي، ما زلت ترينني قطعة ملابسك الداخلية، ما زلت تسببين لي المتاعب ... بعد كل تلك السنوات.
النبتة الصغيرة1
إنه الصباح الباكر، صباح عيد ميلاد «سايمون» الحادي عشر، وها هو يحلم ب «كانوني» ثانية، يحلم بالعالم الغريب الذي يشاركها فيه أحيانا. ولو أن هذا المرة مختلفة. فهو أبدا لم يرها من قبل بمثل هذا الوضوح، لم يكن يقظا وواعيا بالفروق بين عالمها وعالمه قبل الآن. تغمره مشاهد أفريقيا وأصواتها وروائحها. «كانوني» تمتطي فرع شجرة تحلق في الهواء على بعد مترين فوق فراش «سايمون»، تتدلى ساقاها الطويلتان، وقدماها الحافيتان تتأرجحان بالقرب من وجهه. ثمة جرح في الجانب الأسفل من أحد أصابع قدميها، وكان بوسعه أن يرى كعبي قدميها العاريتين بشقوقهما السميكة وبشرتهما الغليظة.
خارج شرفة حجرة نومه، تزأر حركة المرور في لندن تحت الغيوم الرمادية. ثمة كلب ينبح. ومن بعيد يصرخ جهاز إنذار إحدى السيارات.
قالت كانوني: «مرحبا أيها النبتة الصغيرة، عيد ميلاد سعيد!»
يبصر «سايمون» شفتيها تتحركان، ويسمع كلامها داخل رأسه، لكنه يعلم أن صوتها لم يدخله بالطريقة المألوفة. «كانوني» تتكلم لغتها الخاصة، فمها يتشكل على نحو غريب، يأخذ أشكالا متحركة، غير أن الكلمات التي يسمعها كانت دائما كلمات إنجليزية.
قال لها: «شكرا لك يا كانوني.»
يتكلم بهدوء لأن نوم أبويه خفيف وهو لا يريد أن يسمعاه يكلم نفسه ثانية. ليس بعد الذي أجبراه على فعله في المرة الأخيرة.
ابتسمت «كانوني» ابتسامة عريضة، فظهرت أسنانها مثل صدمة بيضاء داخل الإهليليج المظلم من وجهها.
قالت، وهي تهبط للأسفل: «تعال.»
يدفع لحافه بعيدا، يأخذ بيدها، وبقفزة واحدة يسيرة يلحق بها فوق غصنها الإفريقي، قشرة الشجرة خشنة تحت فخذيه النحيلتين. يبصر في الأسفل الطريق الجافة القاحلة التي تصل بين الشجرة وبين القرية، ويرى الشمس، كرة برتقالية ضخمة، تصعد فوق مجموعة من الأكواخ الصغيرة المتربة. السماء في الأعلى مثل صحن مقلوب من الأزرق والذهبي.
إذا ما أدار رأسه قليلا، سيظل بوسعه أن يرى غرفة نومه، والملصقات على حوائطها، وتليفزيونه، وحاسوبه.
توقف إنذار السيارة، في حين يظل الكلب ينبح.
بينما يشعر باتزانه واستقراره فوق نقطة التقاء عالمين قال: «هذا عجيب!»
تقول كوناني: «نحن فوق صهوة حصان، منطلقين صوب «مومباسا». حصان خشبي على شكل شجرة.»
تضحك، ومعا يشاهدان فجر يوم إفريقي جديد.
فجأة ينتبه «سايمون» إلى بيجامته التي على شكل «الرجل العنكبوت». كيف يبدو شكله الآن، وهو يمتطي هذه الشجرة؟ يبتسم ابتسامة عريضة.
تقول كانوني: «انحني قليلا إلى الخلف، أيها النبتة الصغيرة.»
يفعل ذلك، فتطوقه بذراعيها. يشعر بدفء جسدها، يستنشق الرائحة الطيبة لبشرتها، ويشعر بالأمان. يشعر بالانتماء.
تقول «كانوني» فيما تقرأ أفكاره: «بالتأكيد أنت تنتمي ... كلانا منتميان سويا. أنت وأنا. بذرتي تنمو داخلك، بذرتك تنمو داخلي.»
يضع «سايمون» يده في يدها. تتلمس الكدمات الزرقاء، والخطوط الحمراء الغاضبة على معصمه. تمسح عليها بإصبعها.
تهمس وهي تقبل أذنه: «والدك؟»
يومئ «سايمون» برأسه موافقا.
تتنهد «كانوني». يستطيع أن يخمن أنها تنظر الآن في أرجاء غرفة نومه.
تقول كانوني: «أنت تملك الكثير جدا، ورغم ذلك أنت تملك القليل جدا.»
ينظر «سايمون» إلى القرية المغبرة، يرى والد «كانوني» يبرز فجأة من أحد الأكواخ. يقف في مدخل الباب، ملوحا في الضوء الذهبي.
يقول سايمون: «أنت تملكين القليل جدا، ومع هذا أنت تملكين الكثير جدا.»
تعانقه «كانوني». «اليوم عيد ميلادك أيتها النبتة الصغيرة. أنت كبير بما يكفي. لدي الكثير مما يجب أن أخبرك به.»
لفترة من الوقت يجلسان سويا في الشمس المشرقة، يتكلمان عن نفسيهما، وعن النبتات الصغيرة الأخرى.
يتكلمان عن كيف سيجعلان كل شيء في العالم يتغير.
وجبة إفطار مع «آندي»1
يقول شقيقي الأكبر «آندي»: «افتحي فمك يا لوسي.» لكنني لن أفعل. أنا خائفة جدا، لكنني لن أفتح فمي مهما قال، ومهما بدا عصبيا ومهما فقد عقله.
فقد أعصابه صباح أمس. واليوم، رغم عنادي، لم يكن عصبيا جدا. ليس بعد، على أية حال. ظل لبرهة يؤرجح ملعقته تحت أنفي كما اعتاد أبي أن يفعل حين كنت طفلة. لكنه حين وجدني ما زلت أرفض الطعام، لم يثر علي ولم يضربني. فقط يتوقف عن أرجحة ملعقته. بعد ذلك يهز كتفيه استنكارا ثم بدا حزينا، كأنني خيبت رجاءه. يهز رأسه ويسحب الملعقة بعيدا عن وجهي ويقول: «سوف تغيرين رأيك يا «لوسي لوكيت»، سوف تنصاعين.»
لكنه مخطئ. لن أفعل.
يواصل «آندي» إفطاره. لا أريد أن أشاهد ذلك. أنظر إلى الأشياء الأخرى بدلا من ذلك. أرقب البقع على الطاولة، موقد الطعام، الثلاجة، خزائن الأكواب بأقفالها الجديدة الضخمة. «آندي» حول مطبخنا إلى فوضى ولخبطة عظيمة. وفعل الشيء ذاته في كافة أرجاء المنزل، ملابسه وكتبه وأوراقه في كل مكان. الوحل على الأرضية من حذائه الطويل، صحون الأمس ملقى بها في الحوض كما تلقى النفايات، وفي الركن جوار الباب الخلفي بوسعي أن أرى زوجا من جواربه المتسخة.
أكره حال الفوضى تلك. حين كان أبي هنا، كنا دائما نحافظ على البيت نظيفا منظما، وشديد الأناقة. أحبه هكذا. لو سمح لي «آندي»، سوف أقوم بتنظيف كل شيء فورا، في هذه اللحظة تحديدا، لكنني أعلم أنه لن يسمح لي. وإذا فعلت ذلك بغير موافقته، فسوف أقع في مشكلة ضخمة.
الساعة بطيئة جدا. أحدق فيها وأحاول أن أجعل العقارب تمشي أسرع. أريدها أن تأتي على الوقت الذي يخرج فيه «آندي» إلى العمل. الوقت الذي أصبح فيه نفسي. حين أكون نفسي سوف أكتب في دفتر مذكراتي من جديد.
أجعل عيني تخرجان من البؤرة وأحاول التفكير في لا شيء، غير أنني لا أستطيع. أفكر في الوقت، في ساعات الحائط وساعات اليد وكيف يمكن أن نشاهد الساعة. أبدأ في التفكير في الطعام، وبعدها لا أستطيع التوقف.
يقول «آندي»: «اللعنة!» فيجعلني أقفز. أنظر إليه فأراه وقد أسقط بعض الطعام مع اللعاب جوار ذقنه. ثمة بقعة مبتلة فوق قميصه، لا أريد أن أرى أيا من ذلك، أنظر بعيدا.
أتمنى لو لم أكن جائعة إلى ذلك الحد. أنا جائعة كما لم أكن في حياتي كلها.
أرفع كأسي وآخذ رشفة فتصدر معدتي جلبة أثناء نزول الماء. يسمع «آندي»، ورغم أنني لا أنظر إليه، لكن بوسعي أن أشعر بابتسامته العريضة. هو يحسب أن صرير معدتي يعني أنني سأفعل ما يريد. يظن أنني سرعان ما سأشاركه إفطاره، لكنني لن أفعل. رغم أني لم آكل أي شيء منذ مدة طويلة، أيام وأيام، ورغم أنني في طريقي لأبدو مثل هؤلاء الأطفال الأفارقة الذين تراهم في التليفزيون يتضورون جوعا، لكنني لن أشارك «آندي» إفطاره. إلى الأبد. أنا مثل ذلك الرجل البدين فوق الدراجة البخارية، الرجل الذي غني تلك الأغنية التي اعتاد أبي أن يحبها: «بوسعي أن أفعل أي شيء من أجل الحب.
لكنني لن أفعل ذلك.»
أتمنى أن يأتي وقت ذهاب «آندي» إلى العمل. أتمنى ذلك جدا، جدا.
الثلاثاء
مفكرتي الحبيبة. لم يضربني هذا الصباح، لكنه يكلم نفسه كثيرا. ليست كلمات منطقية، بل تلك الكلمات المصنوعة التي يستعملها أحيانا. يفعل ذلك أكثر وأكثر منذ أن مات أبي، وهذا مخيف. هو يصيح ويتوعد ويسب كثيرا أيضا.
يفحص كل مزاليج الخزانات مرتين قبل خروجه إلى للعمل. وكان اشترى قفلا جديدا، قفلا أكبر للثلاجة. وبينما كان يركبه أخبرني أنني أصبحت جلدا على عظم، وتظاهر بالقلق الشديد. ثم الآن، بعد أن حبسني في غرفتي، قال الشيء الذي أرعبني جدا. وقف في الخارج وقاله بصوت عال، من خلال الباب.
قال: «تعرفين ماذا يجب عليك فعله يا «لوسي»، لن تبرحي الغرفة الآن، لن تبرحيها حتى وقت متأخر جدا.»
كان يصفر وهو يغادر المنزل. سمعت الشاحنة تدور ورأيته يقودها إلى أسفل الطريق. والآن، أنا وحدي من جديد. وحدي تماما.
لا يزعجني أن أكون وحيدة، لكنني أكره أن أحبس هكذا. حين أسجن على هذا النحو أشعر أنني على وشك الجنون، وذلك حين أفكر أنني لن أعيش طويلا. عيد ميلادي الشهر القادم، لكن إذا لم أخرج من هذه الغرفة بشكل أو بآخر، وإذا لم أجد شيئا آكله، أعتقد أنني لن أصل السادسة عشر.
السادسة عشر
يقول «آندي» أحيانا: «ترقبي يا «لوسي لوكيت، السادسة عشر على الأبواب.»
سوف يلمسني حين يقول ذلك، إلا إذا رأيته قادما فأنسحب سريعا. أكره أن يمسني.
يقول: «سن الرشد، قريبا جدا.» ثم يضحك ضحكته المقرفة.
أعتقد أنني ربما لا أود أن أبلغ السادسة عشر. أظنني لا أريد أن أصل إلى السن القانونية.
الأربعاء
يومياتي الحبيبة. أمس كان يوما طيبا. يوما مهما. وجدتها! وجدت طريقة للخروج من غرفتي.
ما فعلته هو التالي:
انتظرت حتى خرج «آندي»، تسلقت خارج النافذة، دسست أصابعي في الفجوات بين قوالب الطوب. تحركت بمحاذاة الحافة حتى الماسورة الضخمة في زاوية البيت. كان شيئا خطرا لأن غرفتي مرتفعة جدا، وتألمت أصابعي جدا، وكدت أسقط مرتين، لكن، كان لا بد أن أفعل ذلك.
بمجرد وصولي إلى الماسورة كان من السهل أن أهبط للأسفل. ذهبت رأسا إلى شجرة التفاح الكبيرة وأكلت ثلاث تفاحات. كنت أرغب في المزيد لكنني أرغمت نفسي على التوقف بعد الثالثة مخافة أن أصاب بالإعياء. بعدها ذهبت للنظر داخل السقيفة. الأغراض التي أردت كانت ما تزال هناك. الحبل كان مخبأ وراء بعض الصناديق، لذلك لن يلحظ «آندي» غيابه إلا إذا احتاجه، وهذا احتمال ضعيف.
لم آخذ كل صندوق السم قاتل الأعشاب الضارة. فقط أفرغت بعضا من محتوياته في منديلي، ثم ربطته في حزامي. كنت مرتعبة من أن يعود «آندي» مبكرا ويمسك بي، لذلك خبأت تفاحتين أخريين في جيبي، ربطت الحبل في كاحلي، وتسلقت عائدة إلى غرفتي. كدت أسقط مرة أخرى، لكنني لم أسقط، والآن والحبل لدي، بوسعي الخروج والدخول وقتما أشاء.
خبأت الحبل والسم تحت إحدى بلاطات الأرضية المفكوكة. لو اكتشف الذي أفعله أعتقد أنه سيقتلني.
الخميس
يومياتي العزيزة. اليوم على الإفطار كنت خائفة حقا أن يلحظ «آندي» الاختلاف. فكرت أنه ربما يوجد مذاق لاذع أو شيء من هذا القبيل. راقبته جيدا، كان مسرورا لأنني أراقبه، لكن يبدو أنه لم يلحظ شيئا. أظن أن خطتي قد تنجح.
وأنا أشاهد «آندي» يأكل اليوم، تذكرت الصباح الذي رأيته فيه يأكل ملعقته الأولى من جسد والدنا. بدا ذلك منذ أمد بعيد. كأنه شهر تقريبا، كان يجب أن أبدأ في الاحتفاظ بك مبكرا يا مذكراتي.
كان يوما مشمسا، ليس ممطرا مثل الآن، أتذكر حين نزلت لتناول الإفطار، وكان «آندي» قد جلس بالفعل على السفرة. بدا وكأنه ظل ينتظرني. بدا متوترا.
قال: «اليوم، هذا هو اليوم يا لوسي الصغيرة.» وأجلسني جواره. ثم جعلني أشاهده وقد شرع في أكل أبي.
كان يتحدث عن اشتغاله على الأمر لأسابيع، منذ ذلك اليوم الذي أحضرنا فيه جرة رماد الوالد من محرقة الجثث. أمطرت في ذلك اليوم أيضا، وصرخت طويلا. وضعنا الجرة على رف عال في المطبخ، وبعدها أقام «آندي» احتفالا صغيرا بالشموع ونحوها. كان يتظاهر بأنه يقرأ مادة في كتاب، مادة بلغة هزلية، غير أني أعتقد أنه اختلق اللغة.
ذاك الحفل كله كان فكرته هو. بدأ كل شيء على ما يرام لكن سرعان ما غدا الأمر بشعا. لم أرد أن أشارك، لكنه أرغمني، وبعد ذلك اضطررت إلى الذهاب إلى التواليت للتقيؤ. وحين دخلت فراشي في الليل، أتى إلي وأخبرني ماذا ينوي أن يفعل. ماذا سيفعل بأبي. أخبرني بالخطة.
قال: «إنها مادة مهمة يا لوسي، إنه الشيء الذي فعله الناس في العصور القديمة، قبل المسيح وقبل كل شيء. حين كانوا يعيشون في الكهوف ويصطادون الحيوانات المتوحشة بالرماح. إنها تعطيك القوة. تحولك إلى كائن خاص متميز.»
بعد ذلك وبعد أن أنهى عبثه معي، قال: «أريدك أن تكوني شخصا مميزا أيضا يا لوسي.»
في البدء، ظننت أن الأمر كله مجرد كلام. أنت تعرفينني يا مذكراتي. فأنا غبية. أسيء فهم الأمور أحيانا. لكنك تعرفين «آندي» أيضا، تعرفين كيف يكون. يمكنك أن تدركي كيف وقعت في غلطة كتلك. «آندي» يتكلم كثيرا. ولد تحت فأل سيئ، أبي اعتاد أن يقول إنه ملعون بلسان أنشط مما ينبغي. يقرأ تلك الكتب، يكون تلك الأفكار، ثم يتكلم ويتكلم ويتكلم حتى تضطر إلى الخروج من البيت من أجل نزهة حول النهر لإطعام البط وما شابه. لأنك لو لم تفعل، فمن المحتمل جدا أن ترتكب شيئا شريرا. ربما تأخذ سكين تقطيع اللحوم الحادة من درج المطبخ وتطعنه في قلبه، ربما تقتله.
أعرف أنني يجب ألا أفكر بهذه الطريقة، أعرف أن ذلك خطأ، لكنه اعتاد أن يثير أعصابي حد الجنون أحيانا. الجنون بالفعل. والآن الأمر أسوأ، أسوأ بكثير لأن أبي رحل ولم يعد لدي أي شخص أكلمه، حين تهاجمني المشاعر الشريرة، سواك أنت.
2
كنا نتكلم، أبي وأنا. كان يأخذني لإطعام البط أحيانا، كان يحكي لي قصصا عن أمي، ويخبرني ألا أدع «آندي» يدخل تحت جلدي. كان يمسك يدي بلطف، ليس مثل «آندي»، ينظر في عيني ويبتسم. كم كان الحال أفضل حين كان أبي هنا! كان يعرف كيف يعمل الكوابح وكيف يجعل الأمور أكثر بطئا. حين كان أبي هنا كانت الأفكار والأحاديث بعيدة كبعد خطط «آندي».
لكنه رحل الآن، ولم يعد هناك من يضع الكوابح في وجه «آندي». فقط أنا.
الجمعة
مذكراتي الحبيبة. «آندي» في التواليت. وأنا محبوسة في غرفتي، لكن بوسعي سماع جلبته. آمل أن يخرج اليوم للعمل.
حلمت حلما سيئا عن أبي الليلة الماضية. حلمت أنني عدت إلى البيت من المدرسة ووجدته ميتا عند قاع السلم، عنقه مثني ورأسه ملتو تماما. «آندي» كان يجلس على الدرج ينظر بفزع، وبعدها صحوت وتذكرت أنه لم يكن حلما. هذا ما حدث بالفعل.
بكيت طويلا. بكيت نهرا كاملا. أتذكر كيف جعلني «آندي» أجلس معه على الدرج وأنظر إلى الأسفل حيث أبي، وكيف كان يفتعل ضجيجا هزليا، وكيف أنه لم يبك. ربما لم يبك لأن أبي كان يضربه أحيانا. ربما كان ذلك هو السبب. لا أدري.
بعد برهة راح إلى الهاتف وكلم بعض الناس.
أتذكر كيف جاءت سيارة الإسعاف وأخذت أبي. وضع «آندي» ذراعيه حولي وأمسكني لمدة طويلة. ربما لساعة أو نحو ذلك.
قال: «لوسي، لم يعد هناك غيرك وغيري الآن.»
وكان على حق، لأن أحدا لم يأت لزيارتنا بعد ذلك. كنت أحب أن أسكن على بعد أميال من أي مكان قبل أن يموت أبي، قبل أن ينزع «آندي» الهاتف. أكره ذلك الآن. الأشياء حولنا أصبحت عبثية منذ ذلك الحين. ليست عبثية بمعنى ها - ها، بل شاذة العبث.
لا أظن أن «آندي» افتقد أبي، ولو قليلا، لكنني أفتقده. أفتقده بشدة. أبي الآن مجرد حفنة رماد في جرة، وإذا أخفقت خطتي أعرف أن «آندي» سيستمر في التهامه كل يوم، ملء ملعقة من جسد أبي كل صباح. ويوما ما سيفنى أبي تماما. سوف يغدو مجرد جرة فارغة فوق رف المطبخ.
ذهب آندي إلى العمل. شاهدته يمشي صوب الشاحنة. لم يكن على ما يرام.
السبت
يومياتي الحبيبة. هذا الصباح نزلت للإفطار وكان «آندي» جالسا هناك إلى طاولة المطبخ. بدا مريضا جدا ومعتوها جدا. أشفقت عليه، تقريبا.
همس: «لوسي الصغيرة ... لوسي لوكيت الصغيرة.»
كنت أحب أن يناديني هكذا. جلست إلى الطاولة.
كان انتهى من إعداد مكونات صحنه الخاص من «الكورن فليكس»، السكر، زجاجة الحليب، لكنه لم يملك القوة لفتح غطاء جرة أبي. ذهبت إليه وفتحتها له. نظر إلي وتدلى فكه مفتوحا.
سأل: «هل تشاركينني؟»
أجبته: «لا، لكنني لا أمانع أن أساعدك.»
بدا سعيدا إلى حد ما. كان لا بد أن أوقف نفسي من الشعور بالتعاطف معه.
أغمد «آندي» ملعقته في جرة أبي، وقتها بدأت كل ذرة من طاقته تتلاشى، ولم يستطع إخراج الملعقة ثانية. راح يبكي.
قال: «أنا آسف أني حبستك في غرفتك، أنا آسف على الكثير من الأشياء يا لوسي. ساعديني أكثر من فضلك.»
مددت يدي، جذبت الملعقة ورششت خليط رماد أبي مع سم الأعشاب فوق صحن «الكورن فليكس» الخاص بآندي. ثم أضفت السكر واللبن. ابتسم لي «آندي» بامتنان.
بعد برهة، بدأت أطعمه بنفسي.
رحم يتأهب1
تقولها شقيقتي ثانية: «الماما المنتفخة
2
لن ترغب فيك.»
أخبرتها من قبل كم تزعجني جدا قولتها تلك، لكنها لا تكترث. هي لا تكترث مطلقا ولا تستمع. لذا أقرر للمرة الأولى ألا أضيع وقتي في التفكير والكلام. بدلا من ذلك سأنتظر حتى تنام، ثم أمد كلتي يدي - هذان الذراعان الغبيان ما زالا نحيفين جدا، قصيرين جدا، الكفان والأصابع لم تكبر بما يكفي بعد - ثم أمسك بحبلها السري. أقبض عليه بيمناي، على بعد شبر من النقطة التي يختفي فيها داخل بطنها البدين، ثم تلويه يدي اليسرى إلى أسفل. قطر حبلها السري أكبر من حبلي بمقدار الضعف، من أجل هذا هي كبيرة وأنا صغير. ليس بوسعي فعل شيء حيال هذا الأمر. تغني ماما الكبيرة حين تكون عكرة المزاج: «يا أطفالي، الحياة غير عادلة.» وهي على حق. تعلمت ذلك مبكرا حالما أدركت أن شقيقتي الشرهة تلتهم، ليس فقط نصيبها مما تمنحنا الماما من غذاء وفير، بل نصف نصيبي أيضا على الأقل.
أتوقف برهة وأنظر إليها، لدي قدرة فائقة على الإبصار الليلي، تطفو إلى جواري. هي مقلوبة، أو ربما أنا. الأمر نسبي كله. أهز رأسي وأقول لنفسي أنني على وشك ارتكاب خطأ غير محسوب، فشقيقتي الخنزيرة هي الأكبر حجما حتى وهي نائمة، هي الأكثر قبحا وبشاعة، وتمثل أكثر الأشياء تهديدا لي في فضائي الراهن، وأعرف أنها تكره معدتي وقناتي الهضمية التي تكونت حديثا. حين تفكرون في ذلك الأمر ستجدون كم هو مدهش أنني ما زلت أحيا إلى الآن.
كلا، يجب ألا أفعل ذلك، أعلم أني يجب ألا أفعل. لكنني الآن غاضب. الآن نالني ما يكفي من تغوطها: «ماما المنتفخة لن ترغب فيك.» وأريد قليلا من الترضية، قليلا من الثأر. لذلك سأمضي في طريقي. أحكم قبضتي على الحبل السري لشقيقتي الفظة، أضغط بأكثر ما يمكنني، ثم أعطيه شدة محكمة عنيفة.
تستيقظ ويعوى صوت تفكيرها في رأسي: «هيه، أنت يا كيس الحثالة! ماذا بحق الجحيم ...»
تطيح بيدي بعنف بعيدا عن حبلها، وتركل بكعب قدمها اليمنى جانب رأسي، لكن حتى قدمها كانت مبطنة بكثير من الشحم لهذا لم تؤلم كثيرا على كل حال.
أصرخ فيها: «أخبرتك من قبل، ليس لديك الحق في قول ما تقولين. أنت لا تعرفين، لا تعرفين المشاعر التي تحملها الماما نحوي!»
شقيقتي الفظة تمدد جسمها، تحتل معظم فراغي الخاص. بوسعها تصفيتي في لحظات، كلانا يعرف ذلك.
قالت: «اسمع أيها التحفة الصغيرة، إذا كنت لم تلحظ، فأنا أكبر من ضعفي حجمك الآن، ويزداد حجمي طيلة الوقت. والسبب الوحيد في أنك ما زلت تحيا حتى الآن هو أنني لا أريد أن يطفو جثمانك حولي هنا ويلوث سوائلي. هل تفهم ذلك؟»
أفكر في الخضوع لها، لكنني أقاوم ذلك. ما الذي يمكن أن يحدث؟! اخترت المظهر الذي يبديني متمردا، غير أني أومأت برأسي أيضا. «حسنا، والآن دعني أخبرك بشيء آخر. أشك في أنك ستنجو في عملية الولادة - أتمنى بإخلاص ألا يحدث هذا - لكن إذا لمست حبلي مجددا، إذا فقط وضعت عليه إصبعك الضئيل القذر، أضمن لك أنك لن تعرف طريقك أبدا، أرجو ألا توصل الأمر إلى ذلك.»
تعطيني ركلة ممتازة. في ذات الموضع. لكن على نحو أعنف هذه المرة. - «اتفقنا أيها الدمية العتيقة؟» - «على أي شيء؟» - «هل كلامي واضح؟»
لم أجب بالسرعة المناسبة، لذا ركلتني ثانية. سمينة كانت أو غير سمينة، فإن قدمها آلمتني هذه المرة. أراها تسحب ساقها للوراء للمرة الرابعة. - «حسنا، نعم كلامك واضح. الآن دعيني وشأني.»
ابتسمت وأظهرت بتأن لثتها القذرة. لو لم أكن أعي الأمر لأقسمت أنها تمتلك مجموعة كاملة من الأسنان. - «وشيء آخر ...» - «ماذا؟» «إذا أردت لعضوك البائس المثير للشفقة هذا ألا يمضغ، فالأفضل لك أن تبعد هذا الشيء المقرف عن وجهي!»
أسقطت يدي لأغطي نفسي. لا أعتقد أن الأمر سيصل بها إلى هذا الحد، لكنني تعلمت من خبرتي السابقة أن الأفضل أن تكون آمنا لا نادما. أحاول أن ألتف بحيث أعطيها ظهري، لكن هذا ليس سهلا. نحن في شهرنا الثامن ولم يعد ثمة مكان للمناورة.
بالتدريج عدنا إلى حال التجاهل المتبادلة كالعادة.
أتكور على نفسي وأنصت إلى الضجيج بالخارج. الماما المنتفخة لديها أصدقاء مدعوون على القهوة، يأتيني صوتها المكتوم عبر الجدران. أحب صوتها. حين أولد أتمنى أن تحب ماما صوتي. أتمنى أن تحبني. أتمنى أن تحبني أكثر مما تحب شقيقتي الخنزيرة.
ماما المنتفخة تضحك لأن جنينيها يتحركان ويخبطانها من الداخل. رحمنا يترجرج، وثمة شخص آخر يضحك، وآياد تضغط على بطنها فتؤلم جانب جبهتي حيث ركلتني شقيقتي البشعة. قاومت نفسي كيلا أحك موضع الألم. هي تراقبني، أعلم أنها تراقبني، ولن أمنحها الشعور بالرضا.
أغمض عيني وأحاول أن أهدأ، لكن رأسي يكاد ينفجر من فكرة أن أمي لو أتمت شهور الحمل، سيكون أمامي شهر آخر في هذه الحال، وللحق، أنا لست واثقا أن بوسعي تحمل ذلك والتعامل معه. شيء قاتل أن تسجن في فراغ محدود مع عدوك اللدود. في المرات شديدة السوء أفكر أن أعض حبلي الخاص وأنهي الأمر كله، حتى قبل أن يبدأ.
غير أنني أفكر وقتئذ في «البنت». البنت التي تعد نفسها «لتولد شرسة». البنت تلك هي سري الخاص، قوتي الداخلية. أعرف أنها السبب الذي من أجله سأتجاوز كل تلك الأوقات المظلمة. أغير رأيي في الأمور.
تعلمون؟ الأمور لم تكن دائما هكذا. أتذكر الأسابيع الأولى من الحمل، لا تبدو الآن شديدة السوء - أفضل من الآن على كل حال. صحيح أن الطفو داخل كائن بشري آخر لم يكن أبدا فكرتي عن البهجة - لكن على الأقل في تلك الأيام المبكرة كان هناك متسع من الفضاء لتتحرك، لتتمدد، لتضرب بأطرافك هنا وهناك. وقتها لم أكن أعرف أن الأمر أفضل، لكنه كان. أنت تعيش، أنت تتعلم. لكن للأسف فبينما تعيش وتتعلم فإن حجمك يكبر أيضا.
هناك أغنية أخرى تلخص تلك الحال بالنسبة لي، أغنية تغنيها الماما المنتفخة. هي تحب موسيقاها وتغنيها أثناء تنظيف البيت. تلك الأغنية القديمة عن التاكسي الأصفر الكبير. تؤديها على نحو لا بأس به، ليس تام الإتقان، لكن بما يكفي لوضوح القصيدة والنغمة. «ألا تبدو الحياة مسرعة على الدوام، حتى أنك لا تستوعب قيمة ما امتلكت إلا بعد أن يذهب؟»
كاتب تلك الأغنية يعرف شيئا أو اثنين. خذوني مثالا، فبمجرد أن تصل إلى علامة «جنين ذي سبعة أشهر»، فإن الكلوستروفوبيا
3
تدخل بيتك فورا. خاصة إذا كنت مجبرا على مشاركة الحيز مع آخرين.
تلك هي المشكلة الكبرى لدى الشقيقة البشعة حسب ظني. هي لا تجيد فن المشاركة.
تعرفون؟ حين أولد سأتعقب ذلك الرجل (أراهن بعمري أنه ليس امرأة) الذي صمم الرحم، وسوف أضعه أمام بعض الحقائق الأساسية. لقد ارتكب عدة أخطاء برأيي المتواضع. لا أعني ضيق الحيز وحسب. بل أيضا ندرة وسائل التسلية (كتلك التي تقدمها شركات الطيران على طائراتها مثلا) ما يعد غيابها جريمة في تلك المرحلة من العمر. يا يسوع، أليس عجيبا أن كل جنين قابلته كان مختلا عقليا؟ ماذا تتوقع حين لا يكون هناك ما تفعله في تلك الأرحام المتأهبة للولادة سوى التصنت على الأصوات المكتومة لخفقان قلوب الأمهات المنتفخات، أو ربما عد قرقرات المعدة؟ وطبعا يمكنك قياس كم كبر ذراعاك وساقاك، أو يمكنك أن تمر بإصبعك على فتحة اليافوخ لتستحث مخك وتوقظه، لكن تلك الأفعال سرعان ما تمر. حتى النشوة التي تحصلها أخيرا من امتصاص إبهامك (بعد أن ينمو لك فم ليمتص، وإبهام ليمتص) لا تستمر طويلا.
المرة الوحيدة التي خفت فيها حال الضجر كانت في الماضي حين كنا جنينين في شهرنا الخامس ولم تكن شقيقتي قد تحولت بعد إلى ذلك الوحش. الماما المنتفخة أخذت ثلاثتنا إلى عيادة الطبيب وظللت طوال مدتنا هناك أتسمع إلى الأصوات. يروحون ويجيئون. الخنزيرة لم يبد عليها أنها لاحظت، لم يدهشني ذلك. فهي ليست ممن يمكن أن تعتبرهم مرهفي الحس.
كنت هناك، أطفو هنا وهناك منشغلا بأموري الخاصة حتى سمعت فجأة: «هذه المرأة بلهاء، بلهاء تماما. هذا حظي أن ...»
لم يكن صوت الخنزيرة. النبرة مختلفة، الصوت مختلف. ثم سمعت واحدا آخر. «إنه مظلم، مظلم جدا. ربما أمكنني أن أحفر نفقا ...»
استغرقت برهة لأستوعب ماذا يحدث، لكنني فهمت في النهاية. المكان لا بد مكتظ بأمهات منتفخات أخريات، العشرات منهن، وكلما مرت واحدة منهن متباطئة على مقربة منا أسمع قرقرة جنينها عن طريق موجات الفكر. تعودت على الكلام القذر الذي تطلقه شقيقتي - كان عادة عن الطعام أو عن عروسة «باربي » التي سمعت عنها في تليفزيون الماما، أو عن مدى كراهيتها لي - لكنني لم أتخيل، حتى ذلك الوقت، أن بوسعي التقاط موجات أخرى من محطات خارجية كما حدث . كان هذا محفزا طيبا لكنه في ذات الوقت مخيف جدا. صدقوني ثم الكثير من اللغط لأجنة تسبح في السوائل هناك.
كان هناك جنين ظل يكرر نفس المقولة مرات عديدة، نفس الصرخة العجيبة ذات النبرة العالية التي تأتيني عبر الذهن. «أيها المسيح في عليائه ... ليس من مكان يكفي ثلاثة! يا يسوع، المكان لا يتسع لثلاثة!» ظل يكررها مرات ومرات، وكأنه يستنجد. أذكر أنني فكرت وقتئذ أن وضعي، رغم كل شيء، لم يكن بهذا السوء. شيء واحد مؤكد، أن أمه كانت في لحظة بهجة حين انبثق هو وإخوته.
عندئذ سمعتها. البنت. سرى الحميم جدا، البنت التي سأعثر عليها يوما. أحببت صوتها فورا لأنها كانت تغني الأغنية التي كانت ماما تغنيها أحيانا، «ولدنا كي نكون شرسين»، يأتي صوتها ليطغى على صوت الضربات العالية والخافتة لأضلع أمها.
خذ دراجتك البخارية واركض،
اتجه صوب الطريق العام،
فتش عن مغامرة،
ومهما يحدث في طريقنا،
اجعله يحدث يا عزيزي،
عانق العالم بحب،
أطلق كل رصاصاتك مرة واحدة،
وفجرها في الفضاء،
مثل طفل الطبيعة الحقيقي،
نحن ولدنا،
ولدنا،
كي نكون شرسين.
بوسعنا أن نتسلق عاليا،
لا أريد أن أموت أبدا.
كنت منوما مغناطيسيا. كان بوسعي أن أراها ترقص في الرحم، وكنت أتوق بكل قوة أن أجاور البنت تلك، طفلة الطبيعة الحقيقية، بدلا من أن أسجن مع هذه الخنزيرة. هي وأنا، كان بوسعنا حالئذ أن نحصل سويا على الكثير من البهجة.
تعرفون؟ حين أجد طريقي، يوما ما، سنحصل على بعض البهجة سويا. مهما قالت شقيقتي الخنزيرة، سوف أولد، وسوف أحيا وسوف تحبني الماما، وسوف أحبها بالمقابل. يوما ما حين أغدو قويا وصحيحا، حين أغدو كبيرا، سوف أتعقب تلك الفتاة وأريها أن كلينا خلق من أجل الآخر. نعم. سوف يجد كل منا الآخر، وسوف نظل معا، وسوف نقود دراجتينا البخاريتين صوب الطريق العام وسوف نفعل كل شيء يمكننا فعله من أجل أن نجعل تلك الأغنية حقيقة.
هذا حلمي، وذلك ما سوف يكون.
صدقوني.
أحلام أسامة
1
الليلة، في مكان ما بعيدا عن نيويورك، ثمة امرأة شابة تحلم. اسمها «مارسيا». وحيدة في فراشها تحلم بالأوقات الأجمل، بلحظات المشاركة: نزهات خلوية، رحلات إلى حديقة الحيوان، عرض سينمائي، دعوة إلى العشاء. تبتسم في نومها حين تتحرك أصابع زوجها الميت فوق كفها، حين تقبل شفتاه الميتتان النبض الحي في أسفل عنقها. هي تحلم بالذي «كان»، تحلم بحفنة السنوات التي لم تكن فيها وحيدة.
في الليالي الطيبة ترسو أحلامها عند تلك اللحظات، تلك الأمكنة. لكن الليالي الطيبة نادرة، وهذه الليلة لم تكن واحدة منها. الليلة، أمام عينيها الشاخصتين، يتناثر طعام نزهتها الخلوية فوق الأرض المعشوشبة: يتعكر، يتعفن، يفور بالديدان. الليلة تتحول حيوانات الحديقة إلى حشود مزمجرة تطارد بالسياط وحوشا وتهدم أقفاصها. الليلة يرعبها الفيلم السينمائي، والوجبة التي هي مجبرة على أكلها كان لها طعم التراب في لسانها، والرماد في حلقها.
الليلة، مرة أخرى، مارسيا تكافح وتتصبب عرقا وتئن، ورغم أنها قد باعت شقة نيويورك وانتقلت بعيدا، بعيدا جدا، إلا أنها تعلم أن ليس بوسعها أبدا أن تنتقل بعيدا بما يكفي للهروب من أحلامها. أحلامها تتتبعها، تجدها أينما ذهبت، ليلة بعد ليلة. أحلام عن الأبراج، عن الطائرات، عن الحجارة المتكسرة المتساقطة، أحلام عن الموت.
الليلة، المرة تلو المرة تلو المرة، ترى الجثث تتبعثر من النوافذ، تسمع الأبراج تنهدم وتدك على الأرض، تشعر بروحها تهوي إلى حفرة لا قاع لها من الخسران والفقد، كوة جحيم من التشوش والحيرة.
والآن، هذه الليلة، ثمة أمر جديد. الليلة، حين فتحت عينيها الحالمتين وجدت مدى صحراويا متراميا أمامها. قفر، جدب قاحل، وذو جمال غريب. الهواء المتحرك كان معبئا بالغبار والدعاءات. الله، الله، الله.
في الصحراء وجدت متاهة من الكهوف. وفي العمق الأقصى، في أكثر الكهوف إعتاما، وجدته يرقد مجهدا على سرير من الحبال. رجل وسيم، أسود العينين، قاتم اللحية. رجل نائم، رجل أعزل غير محصن .
ووجدت مارسيا في قلبها كراهية، وفي روحها رغبة قاتمة، وفي يدها وجدت سكينا. سكين صغيرة، نعم هذا حقيقي، لكن في مثل هكذا أوقات تستطيع السكاكين الصغيرة أن تنجز الكثير. ومن بوسعه أن يعرف حقيقة السكاكين الصغيرة أكثر من هذا الرجل؟ سكيني حادة، فكرت مارسيا، نعم، حادة جدا. «أنت قتلت زوجي، «تهمس». أنت قتلت نومي.»
والليلة، هذه الليلة، في صمت كهف صحراوي، تركع مارسيا بهدوء جوار سرير الحبال وتحلم بأنها تأخذ الثأر.
2
كمسمار منتصب على أحد المقاعد الخشبية في كنيسته الخاصة، بينما المسيح على صليبه ينظر إليه من أعلى مثلما ينظر إلى نكتة رديئة، يجلس الأب «أوو دونيل» سكران قليل الإيمان. يحلم أيضا. يحلم ويصرخ.
في حلمه، كان أيضا راكعا على ركبتيه. يركع في الشوارع المتكسرة. التراب في كل مكان حوله. شعره مبيض بالغبار، عيناه مكسوتان بالغبار، رئتاه محترقتان بالغبار. راكعا، أبيض، مكسوا، محترقا، كان الأب «أوو دونيل» يلعن الله. «كيف أمكنك أن تسمح بذلك؟» يصرخ. «كيف أمكنك؟»
يحتضن رأس رجل يحتضر، يستمع إلى آخر همسة يقولها: مارسيا، مارسيا، مارسيا، مارسيا، مارسيا. لكن الله لا يقول شيئا. الرب صامت. «تكلم إلي!» يهتف الأب «أوو دونيل»: «دعني أفهم!»
البرج الثاني يسقط. غير واقعي. تصاريف الأحلام. شيء من أفلام سبيلبرج
Spielberg .
1
الرجل يموت.
الرب يتحرك بطريقة غامضة، ولا يعبأ أن يناقشه.
والليلة يتقاسم الأب «أوو دونيل» الصحراء الباردة مع مارسيا، يشاركها الكهف، يركع جوار سرير الحبال.
بينما عيناه مثبتتان على نصل السكين اللامع يخبرها: «هذا الرجل قتل إيماني ... هذا الرجل قتل ربي.»
والليلة، الأب «أوو دونيل» سوف يحلم أيضا بثأره.
3
جورج، ابن جورج، يقضي الليلة بالخارج، يحلم أحلامه. البيت الأبيض ينبسط فوقه وحواليه مثل زوج من أجنحة عظيمة واقية، تحفظ وتؤمن حياة أكثر الرجال قوة فوق الأرض. لكنه في أحلامه ليس سوى جورج الضعيف، جورج المتعب، جورج غير الآمن. في أحلامه يبحث عن شيء ما، يبحث، لكن لا يجد أبدا. ومثل الأب «أوو دونيل» يركع على ركبتيه في التراب، يرفع الصخور، ينظر تحتها. لا شيء. فقط المزيد من التراب.
طائرات (لعبة)، العشرات منها، تئز حول رأسه، تشتت انتباهه، تزيد حنقه. يمد يده ويمسك واحدة، يحطمها. «يا ألله!»
يهتف الطيار المتناهي الصغر وهو يسقط. يسحقه جورج في التراب تحت إبهامه. حين يرفع يده يجد إبهامه مصبوغا بحمرة الدم. يمسحه في جاكيت الرئاسة قبل أن يرفع صخرة أخرى.
مختبئين تحت هذه الصخرة، يجد شخصا نائما على سرير حبال، وامرأة وقسا يركعان كأنهما يصليان.
يسأل جورج: «هل يمكن أن أنضم إليكم؟» مكرمشا جسمه، قلبه يدق بسرعة. الصخرة تغدو كهفا. يركع بهدوء جوار الكاهن، يحدق في الرجل النائم، ثم يشكر الله أن انتهى بحثه أخيرا.
يقول: «العين بالعين، والسن بالسن.»
تهمس مارسيا: «الثأر!»
يقول: يومئ جورج: «الثأر!»
4
في صحراء ما، في كهف ما، فوق سرير من الحبال، كان أسامة يحلم الليلة.
مرة أخرى يرى نصف مليون أمريكي ملحد ينهمرون في أراضي السعودية، مدعوين، مدعوين إلى تربة بلاده، بينما جنود جيشه الخاص من «المجاهدين» الأمجاد ممنوعون من قبل الحكومة الكافرة. لمرة أخرى يتذوق المهانة، ينزف ألما من جراء تدنيس الأرض المقدسة، الخيانة التاريخية التي ضربت مقدساته.
يحلم بمكة، بالمدينة وبأورشليم، يحلم بالتحرير.
يرى أطفال أشقائه ينسحقون تحت عجلات الدبابات الإسرائيلية. يرى «الأمة»، يحلم بالأمة، يحلم بعقيدة غالية جدا، يحلم بأماكن مقدسة هي فوق الدماء، وفوق الأرواح!
يهمس لأشقائه: «التزموا بعهدكم، سيروا على تعاليم الله وصراطه وامشوا على درب الجهاد. دماؤكم دماؤنا، شرفكم شرفنا، وأطفالكم هم أطفالنا.»
كانت هناك خشخشة بجواره.
الليلة، مثل كل ليلة، كان أسامة يحلم بالثأر.
اللغة غير مقدسة مثل شجرة الميلاد1
(حوار مع جون ريفنسكروفت)
كيف تقدم نفسك إلى القارئ العربي؟
حين سألتني فاطمة ناعوت هذا السؤال أجبت كالتالي:
جون ريفنسكروفت، كاتب حر يعيش في لينكولنشاير بإنجلترا. يقضي معظم وقته في عراك السرد والقص وفي تحرير مجلة «كادينزا». وفازت قصصه القصيرة بجوائز أدبية عديدة، ونشرت أعماله في ال
BBC .
لكن يبدو أن هذا الرد لم يرق لها؛ إذ قالت: هذا هو جون الكاتب، من هو جون الإنسان ؟
أخفق دوما في الكلام عن نفسي، غير أنني سأحاول باختصار أن أرصد حياة هذا الشخص. ولد في إنجلترا عام 1954م. ذهب إلى المدرسة ثم أصبح معلما، تزوج وعاش حياة تقليدية حتى عام 1994 حين قرر أن يحاول في مجال الكتابة. كانت تلك نقطة تحول في حياته.
كتابة القص تتطلب قدرا كبيرا من اختبار النفس. وعبر عملية الكتابة أفترض أنني تعلمت العديد من الأشياء عن نفسي، نوازعها وسماتها، تلك التي انعكست بجلاء على مضامين أعمالي.
تأثرت عميقا بمصرع شقيقتي في حادث سيارة حين كنت في الحادية عشرة، وأعتقد أن هذه التجربة أدت بي إلى التحفظ على العقيدة الدينية. لدي اهتمام قوي بالعالم المادي، في محاولة لفهم كيف جاء هذا الكون المدهش الذي نحياه وكيف يعمل. أخضع لنزعتين متوازيتين: ولع شديد بلغز الإنسان، ورغبة شديدة في فهمه. أومن أنني، واعيا أو غير واع، أستكشف تلك النوازع في قصي.
حين لا أكون في حال كتابة، أستمتع بتمضية الوقت مع زوجتي ومع أصدقائي. ومثل كل الكتاب، أقرأ كثيرا. ومنذ أصبحت مشاركا في تحرير مجلة «كادينزا» غدا علي مطالعة عدة أكوام من القصص القصيرة يوميا مما ترد للنشر في المجلة. هذا يضعني في دائرة تواصل مع الكتاب بشكل حميم، وهو نوع من العمل أراه مثريا ومفيدا للغاية.
ولقارئي العربي أقول:
قبل لحظة من جلوسي إلى مكتبي لأجيب عن هذا السؤال كنت في نزهة بالخارج مع كلبي حول بحيرة على مقربة من بيتي. إنه صيف إنجلترا، حيث سياج الشجيرات حي بأعشاش الطيور. يخطر على بالي الآن سؤال حول مدى اختلاف بيئتي المحيطة عن بيئتك بمصر، وكيف أنه من المدهش أن أتواصل معك مخترقين حواجز اللغة والجغرافيا! أتمنى أن تستمتع بقراءة مجموعتي هذه. وأشكر المترجمة أن أوصلت كلماتي إليك وإلى عدد أكبر من المتلقين.
هل يتكئ ريفنسكروفت في قصه على الواقع المحض أم يلعب الخيال دوره أيضا؟
سؤال مثير. ربما أقول إن كل كاتب يسحب من رصيد خبرته في الحياة لتغذية مادته القصصية. لذا ربما توافقينني أن ثمة مفردات من الواقع وأخرى خيالية في كل قصة. في تجربتي الشخصية تجدين بعض القصص معتمدة بشدة على حياتي الخاصة، «سهرة مع الأم» نموذج لذلك، غير أن بعضها ذو روابط أوهن مع الحياة الواقعية.
إلى أي مدى مراقبة العالم تفيد كاتب القصة في عملية الإبداع؟
أعتقد أن مراقبة العالم أمر أساسي ومنشط للفكر. حين نكتب سردا، نحاول أن نوهم القارئ أن ما يقرؤه يحدث بالفعل ويحتل مكانا ما من العالم. كي نجعل ذلك العالم «الوهمي» يبدو حقيقيا، نستعير مفردات عادية وحقيقية من عالمنا ونفيد منها في العمل، فتبدو حقيقية حين يجدلها القارئ مع تجربته الخاصة. لذلك فمراقبة العالم بدقة من قبل الكاتب تساعد قارئه على «تسكين» القصة موضعا ما من الحياة.
كيف يرى القارئ الإنجليزي الأدب العربي؟
أخشى أن معظم القراء الإنجليز على غير دراية بالأدب العربي بشكل عام. أشعر بالخجل أن أعتبر نفسي ضمن تلك الشريحة.
يمكننا لمس كثير من الخيوط في سردك: الخيط الوجودي في «قتل الأرانب» و«رحم يتأهب»، والخيط الرومانسي في «البومة» و«أغنية من أجل جيني»، والخيط الفانتازي في «الجرس» و«النبتة الصغيرة». أي تلك الخيوط يستهوي قلم ريفنسكروفت؟
أعتقد أن هذا يعتمد على حالتي المزاجية. ثمة أوقات أجلس فيها للكتابة، ويكون الفضاء الخارجي معتما، تلك القصص تتمحور حول الموت أو الفقد بشكل عام. في أوقات أخرى، أنتج أعمالا أكثر إشراقا، أو حتى أعمالا هزلية مثل «حكاية الجنيات». أزعم أن أفضل قصصي هي تلك التي تميل للعبوس.
هل تؤمن بمبدأ «الفن للفن»؟ أم ترى أن للفن رسالة نحو العالم يجب أن يؤديها؟
إذا كنت تقصدين ب «رسالة نحو العالم» أن تسألي عما إذا كنت أعتقد بأن الأدب يجب أن يقول شيئا ما، أو يجب أن يحمل بدلالة ما، فالإجابة نعم. لا ضير مطلقا من الكتابة من أجل المتعة وحسب، لكنني كقارئ أحتاج أكثر من ذلك. أحتاج أن يكون للقصة شيء من الثقل، شيء من الرؤية، شيء من المغزى. وككاتب، ذاك هو القص الذي أسعى لكتابته. القصص الممتعة وحسب سرعان ما تنسى، لكن القصص التي تقول شيئا عن الإنسان وشرط الحياة ربما تدوم معك إلى نهاية الحياة.
تتباين شخوصك كلية: المعمر، الذي لم يولد بعد، غير الواثق، الحالم، المرزوء بالخطوب ... إلخ، كيف تبتكر شخوصك وتبنيها؟
هذا يتوقف على كيف تأتيني فكرة القصة. أحيانا تكون بذرة القصة هي «الموقف» أكثر منها «الشخصية». أعمل الآن على قصة تعتمد على الموقف. البطل بدأ في سماع أصوات داخل رأسه، حين واتتني الفكرة، لم يكن لدي شخصية بعينها في رأسي، وتتخلق الشخصية بالتدريج حين أبدأ في طرح الأسئلة على نفسي. بدأت بنوعها واخترته أنثى، ثم العمر وكان 14 عاما. لكن مع تحرك العمل إلى الأمام، وجدت أن الأحداث ستتواءم أكثر لو كانت الشخصية ذكرا بالغا. وهكذا تتخلق الشخصية بالتدريج إذا كانت القصة تتكئ على الموقف أو الحدث. غير أن أحوالا أخرى تكون فيها بذرة القصة هي الشخصية ذاتها التي تقفز فجأة إلى رأسي مكتملة تقريبا. تكون تلك الشخصية قد تولدت من شخص ما قابلته في الطريق، في الحلم، أو من الذاكرة. ما علي فعله حينئذ هو خلق الموقف الذي من خلاله تخرج تلك الشخصية للحياة لتقول شيئا يستحق أن يقال.
هل مجلة «كادينزا» التي تعمل على تحريرها تعنى بالأدب العربي؟ أم هي مسورة بسياج حديدي على الأدب الإنجليزي والأوروبي؟
كادينزا تعنى بتقديم الأدب القوي مهما كان مصدره. سوى أنها لا بد أن تظهر بالإنجليزية؛ لأن قراءها ومحرريها جميعا من الناطقين بالإنجليزية.
إلى أي مدى يقتل العمل في الصحافة الإبداع داخل الكاتب؟
تجربتي في العمل الصحافي مقصورة على تحرير المجلة، وأؤدي ذلك العمل في المنزل. أي ليس علي أن أذهب للمكتب كل يوم. لكن على أية حال التحرير عملية مستهلكة للوقت جدا، أنا واع تماما أن إبداعي لم يعد يأخذ الانتباه الكافي الذي اعتاده من قبل عملي في الصحافة، لذلك أتفق معك تماما.
بوسعنا لمس اهتمامك بعالم الحيوان، هل تؤمن بثراء ذلك العالم بوصفه منبعا خصبا يمكن للكاتب أو الشاعر النهل من معينه؟
أعتقد أن الناس عادة ينسون أننا ننتمي إلى عالم الحيوان أيضا. أنا أحب الحيوان، ونعم، أومن بأن ثمة روابط عميقة بين الإنسان والحيوان من شأنها خلق إبداع مختلف.
جعلتنا نشارف البكاء في «أغنية من أجل جيني» و«الأشياء التي تركتها وراءك»، نضحك في «رحم يتأهب»، نرتعد خوفا في «وجبة إفطار مع آندي»، وحركت مشاعرنا العاطفية مع «البومة» و«الجرس». هل عادة ما تستحضر قارئا افتراضيا لحظة الكتابة وتفكر في تأثيرك عليه؟
عادة حين أشرع في الكتابة، أعمل على شحن القارئ بخبرة انفعالية ما. أومن أن ذلك أحد أهم الأسباب التي من أجلها يقرأ الناس القص. لذلك، نعم، أفكر في أثر ما أكتب على مشاعر قارئي. وحتما فإن الطريقة الوحيدة لفعل ذلك هو استجلاب واستجماع انفعالاتي الخاصة، وأعتقد أن ذلك هو السبب في أن الكتابة كثيرا ما تكون شاحذة للعاطفة. بين حين وآخر أجد نفسي أبكي فيما أكتب. حين يحدث ذلك فتلك إشارة على أنني وقعت على شيء قد يحرك القارئ أيضا.
كتبت في مقاربتي النقدية لمشروعك الأدبي أنك كثيرا ما تلتقط بمهارة ملامح شعرية من موجودات عابرة وغير ملفتة، هل تظن أن الكاتب لا بد وأن يمتلك عينا حادة بوسعها اقتناص الشعرية من العالم المحيط؟
أعتقد أن تلك العين يمكن أن تفيد كثيرا. قال ريموند كارفر ذات مرة: «من الجائز، في القصيدة أو القصة القصيرة، أن تكتب عن الأشياء التافهة أو العادية مستخدما لغة عادية ومألوفة لكن دقيقة ونافذة، يمكنك أن تشحن تلك المألوفات: الكرسي، ستارة الشرفة، الشوكة، الحجر، قرط المرأة، بطاقة مذهلة وهائلة.» أتفق مع ذلك التوجه تماما وهو الذي أجتهد أن أصنعه في قصصي.
كتبت كذلك أنك أحيانا ما تضعف من توتر الحبكة في آخر سطر في قصصك، حين تعمد إلى التعليلية والشرح غير الضروري، الأمر الذي يغلق الدلالة على القارئ ويحرمه لذة الخوض والمشاركة في الكتابة معك، هل تتفق معي في ذلك الرأي؟ وما مدى خضوعك تحت وطأة القارئ والخوف من استغلاقك عليه؟
على الكتاب أن يجوبوا طرقا وعرة صعبة المسالك. أي كم من الفكر وهبناه للقارئ؟ كم من الجهد جعلناهم يبذلون حتى ينكشف لهم العمل؟ ولأننا لا يمكن أن نعرف كل قرائنا شخصيا، ربما بدا ما نقوله أكثر مما يجب لبعضهم، بينما يكون أقل مما يجب لآخرين. هذا شيء آخر يجعل من الكتابة عملية معقدة.
كيف يرى المواطن الإنجليزي، العادي والمثقف، المواطن العربي، بعيدا عن الحكومات والسياسة، خاصة في هذه الأوقات؟
نظرة الشعب الإنجليزي إلى العرب تعتمد بشكل أساسي على: عمن تتكلم. الكثير منهم يدركون أن ما يحدث في العالم من إرهاب مثل تفجيرات لندن الأخيرة هو نتاج لأسباب مركبة ومعقدة سياسيا واجتماعيا وتداعيات مباشرة لسياسات عدم المساواة في العالم. البعض الآخر، بكل أسف، يتمنى ببساطة أن يزيح هؤلاء البشر الذين باتوا يرون فيهم «العدو» المهدد لحق الحياة.
في قصة «أحلام أسامة» رسمت صورا رمزية للأقطاب الأربعة الضالعة في كارثة الإرهاب: كتلة المدنيين الأبرياء (مارسيا)، الدين (الأب أوو دونيل)، القوة المهيمنة الأولى في العالم (جورج)، ثم رأس الإرهاب (أسامة). كيف استقبل القراء هذه الرموز؟
لم أحصل على ردود فعل كثيرة عن «أحلام أسامة» تحديدا ربما لأنها حديثة الكتابة. أذكر أن قارئا أمريكيا قال إنها «تبسيط للقضية»، لكن قارئا عربيا قال إنها أعطته رؤية كاشفة تظهر تعقد الحال وتأزم أزمة الإرهاب لدى الغرب. باستثناء قراءتك لم أحصل، حتى الآن، على ردود فعل سوى هذين.
هل الرأي العام الإنجليزي يميز بين المتطرفين الإسلاميين وبين كتلة المسلمين والعرب المعتدلين العلمانيين الذي يشجبون التطرف ويدينون ابن لادن ويصطلون بناره ربما أكثر مما يفعل الغرب؟
من جديد يعتمد هذا على الشخص وطريقته في التفكير وتناول الأمور، وعلى مدى معرفته بالمجتمع العربي والإسلامي. معظم الشعب الإنجليزي الأبيض يعلمون أقل القليل عن العقيدة الإسلامية رغم أن مسلمين كثيرين الآن يحيون في المملكة المتحدة. القسم المتعلم من الإنجليز يفهمون جانبا من الوضع على صورته الصحيحة، لكن القسم الأعظم من الشعب الإنجليزي يشعر أن القليل جدا من المسلمين يمكن الوثوق بهم. «توني بلير» رئيس الوزراء كان يتكلم أمس مع بعض القيادات الإسلامية حول البحث عن طرائق لمد جسور الوعي بالآخر من أجل رأب صدع التباينات الواسعة في رؤية العرب من قبل المواطن الإنجليزي بين أقسام المجتمع المتباينة، لكن الشاهد أن الكثير جدا من العمل ما زال يجب أن يتم.
أحيانا ما تمزج في قصصك بين اللغة الإنجليزية الكلاسيكية الرفيعة وبين الدارجة البريطانية، هل فكرت أبدا كم يكون ذلك صعبا على القارئ غير الإنجليزي اللسان؟
يجب أن أعترف أنني لم أفكر في ذلك الأمر من قبل. حتى وقت قريب لم تكن أعمالي تقرأ سوى في أمريكا والمملكة المتحدة وحسب. غير أن مبادرتك الطيبة، بترجمة مختارات من قصصي إلى العربية مما سيساهم في معرفة القارئ العربي بي، سوف تجعلني أفكر فيما بعد في القارئ الأجنبي.
ذكرت في تصدير مجلة كادينزا أنكم تبحثون عن الكاتب الذي بوسعه التجرؤ على اللغة، والذي لا يخاف المغامرة. هل تعتقد في ضرورة أن يكون الكاتب مخاطرا؟ وهل تعتقدون في قداسة اللغة أيا كانت، أو أنها كيان يجب ألا يمس؟
المغامرة في مادة الكتابة، نعم. يجب أن نتحرى الاحتمالات والإمكانيات الخاصة بالقص ونأتي باكتشافاتنا الخاصة من أجل متعة القارئ الذهنية. أما عن خوض المخاطر في اللغة، فيجب أن يتم ذلك بحذر بالغ، وبعد أن يكون الكاتب موغلا بعمق في قواعد وأسرار اللغة. وعن قداسة اللغة، لنقل إن اللغة مثل شجرة عيد الميلاد، علينا أن نعرف كيف نرعاها لتنمو. لا أومن بقداستها في ذاتها، أو في وجوب عدم المساس بها. لكنني أعتقد أن أية تغييرات بها لا بد أن تضيف إليها، فقط إذا «حسنت» الإضافات من قيمة اللغة كأداة. كثير من التغييرات تجعل اللغة أقل تأثيرا وتلك يجب أن نتجنبها.
ما هي طقوسك في الكتابة؟ الوقت، الحالة المزاجية، كم من الوقت تأخذ قصصك عادة؟
هذه الآونة أكتب كلما ساعدتني الظروف. اشتريت حديثا كمبيوتر نوت بوك (حاسوب متنقل)، وهو أداة رائعة لأنه ببساطة يعني أنني لم أعد مجبرا على أن أظل مربوطا إلى مكتبي. أجلس في الحديقة الآن وأنا أكتب، وأشاهد الشمس تشرق خلف غيمة لوهلة. أهمية أخرى لذلك الحاسوب المتنقل أنه يجذبني بعيدا عن الإنترنت وعن بريدي الإلكتروني. اكتشفت أنني كنت أمضي الساعات داخل الإنترنت بغير أن أكتب حرفا! أما عن كم من الوقت تأخذني القصة فلا إجابة محددة على ذلك. بعضها يأتي في يوم أو يومين، والبعض ربما يستغرق شهورا.
فزت بالعديد من الجوائز في القصة القصيرة. أي تلك الجوائز هي الأقرب إليك والأعز؟
أحبهم جميعا. لكن عادة الأحدث هي الأقرب إلى قلبي ربما لفترة، لذا فإن تلك التي أنا بصدد تسلمها في لندن مع سبتمبر القادم هي الأعز وهي جائزة «كاتب هذا العام». كم أنا فخور أن قرأتني يا فاطمة وسعيد أن جعلت القارئ العربي يقرؤني.
ناپیژندل شوی مخ