ربما كانت الخطابة أقدم الفنون الأدبية، فالهمج والمتمدينون سواء في الحاجة إلى الخطيب يناشد فيهم حميتهم ووطنيتهم لذود العدو الجائح أو للغارة على جار مستضعف أو لاسترداد حق مسلوب أو اغتصاب ملك جديد.
والخطيب الملهم يخاطب العواطف وقل أن يأبه للعقل؛ لأن الناس إذا اجتمعوا شملهم إدراك آخر غير إدراكهم الشخصي، فهم يفكرون أو بالأحرى يحسون جماعة، فينزلون عندئذ من سماء العقل والمنطق إلى حضيض العواطف والشعور فتحركهم اللفظة المبهرجة وتستفزهم المعاني التافهة المنمقة. وهذا هو السبب في أن الأقدمين لا يقلون عنا شأوا في الخطابة وفي أن أحسن الخطب عند الاستماع وسط الحشد يفقد شيئا كبيرا من تأثيره وفعله في النفس إذا قرأه قارئ على انفراد. وذلك لما أشرنا إليه من أن الناس إذا اجتمعوا تغلبت عواطفهم على عقولهم وشمل نفوسهم شيء من التقزز يستثير فيهم الحزن أو السرور أو الحماسة لشئون لا يتحرك منها العقل. ولعل هذا هو السبب الذي جعل المؤرخ الإنجليزي فرود يسمي الخطابة بغي الفنون.
لهذا كانت عيون الخطب التي حفظها التاريخ قليلة معدودة؛ لأن الخطبة ينطق بها الخطيب أمام الحشد ويعيرها فيضا من شخصيته من حيث انطلاق اللسان ورشاقة الحركة وجهارة الصوت تفقد هذه الميزات إذا عرض لها المؤرخ وهو منفرد جالس في هدوء مكتبته؛ لأنه وهو في هذه الحال يسلط عقله على إنشاء لم يقصد به مواجهة العقل فيرى بهرجا ما كان يظنه المجتمعون وهم في نشوة عواطفهم جوهرا خالصا.
وقد جمعنا في هذا المجلد غرر الخطب وعيونها التي رضيها المؤرخون واحتملت تمحيصهم فدونوها وأبقوا عليها. وقد قسمناه جزأين؛ الأول: يحتوي على خطب العرب، والثاني: يحتوي على خطب الأوروبيين قديمهم وحديثهم. ومهدنا لكل خطبة بترجمة مختصرة عن الخطيب الذي فاه بها.
ولا بد لنا من الإشارة إلى أننا أوردنا هذه الخطب بنصوصها الأصلية ونحن نعرف ما في بعضها من المخالفة لروح العصر الحاضر وإنما أثبتناها لقيمتها التاريخية.
الفصل الأول
عيون الخطب العربية
(1) نبذة في تاريخ الخطابة العربية
ليس يؤثر عن العرب في الجاهلية سوى خطب الكهان. ولا شك أن الخطابة كانت فنا معروفا في ذلك الوقت يمارسها الرؤساء وذوو الرأي في القبائل للاستنفار والمناشدة. ولكن آداب الجاهلية من شعر وخطابة عفى آثارها الإسلام لما كانت تحويه من إشارات وثنية ونخوة جاهلية، والإسلام يكره الاثنتين لتعصبه للتوحيد ولرغبته في المساواة بين المسلمين. ثم كان الإسلام فخطب النبي كما خطب الخلفاء الراشدون، وصارت «خطبة الجمعة» سنة وركنا من أركان الدين. وكانت الخطب في هذا الدور دينية محضة إلا ما كان ينطق به القواد أمثال خالد بن الوليد في ميادين القتال للحض على منازلة الأعداء.
ثم جاءت الدولة الأموية فظهرت الخطب السياسية وصار للخطابة شأن وفن يمارس. ولعل القارئ يدرك خطر الخطابة في ذلك الوقت من اهتمام جميع المؤرخين بما فعله الوليد بن عبد الملك إذ كان يخطب وهو قاعد.
ناپیژندل شوی مخ