أيها الناس إنما أنا سلطان الله في أرضه أسوسكم بتوفيقه وتسديده وتأييده، وحارسه على ماله، أعمل فيه بمشيئته وإرادته وأعطيه بإذنه، فقد جعلني الله عليه قفلا، إن شاء أن يفتحني فتحني لإعطائكم وقسم أرزاقكم، فإن شاء أن يقفلني عليها أقفلني. فارغبوا إلى الله وسلوه في هذا اليوم الشريف الذي وهب لكم من فضله ما أعلمكم به في كتابه إذ يقول:
اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا
أن يوفقني للرشاد والصواب، وأن يلهمني الرأفة بكم والإحسان إليكم. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. (17) خطبة الخليفة المهدي
لما توفي المنصور بويع لابنه المهدي، وكان المهدي «شديدا على أهل الإلحاد والزندقة لا تؤخره في إهلاكهم لومة لائم.» وقد حكم من سنة 775 إلى 785م، والخطبة التالية أشهر ما يؤثر عنه.
الحمد لله الذي ارتضى الحمد لنفسه ورضي به من خلقه، وأحمده على آلائه وأمجده لبلائه ... وأستعينه وأؤمن به وأتوكل عليه توكل راض بقضائه وصابر لبلائه. أوصيكم عباد الله بتقوى الله فإن الاقتصار عليها سلامة، والترك لها ندامة، وأحثكم على إجلال عظمته وتوقير كبريائه وقدرته، والانتهاء إلى ما يقرب من رحمته، وينجي من سخطه، وينال به ما لديه من كريم الثواب، وجزيل المآب. فاجتنبوا ما خوفكم الله من شديد العقاب، وأليم العذاب، ووعيد الحساب. يوم توقفون بين يدي الجبار، وتعرضون فيه على النار. يوم لا تتكلم نفس إلا بإذنه، فمنهم شقي وسعيد. يوم يفر المرء من أخيه وأمه وبنيه، لكل امرئ يومئذ شأن يغنيه. يوم لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون. يوم لا يجزي والد عن ولده ولا مولود هو جاز عن والده شيئا. إن وعد الله حق، فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور، فإن الدنيا دار غرور وبلاء وشرور، واضمحلال وزوال، وتقلب وانتقال. قد أفنت من كان قبلكم وهي عائدة عليكم وعلى من بعدكم. من ركن إليها صرعته ومن وثق بها خانته، ومن أملها كذبته، ومن رجاها خذلته. عزها ذل، وغناها فقر، والسعيد من تركها والشقي من آثرها، والمغبون فيها من باع حظه من دار آخرته بها. فالله الله، عباد الله، والتوبة مقبولة والرحمة مبسوطة، وبادروا بالأعمال الزكية في هذه الأيام الخالية قبل أن يؤخذ بالكظم وتندموا فلا تنالون الندم يوم حسرة وتأسف، وكآبة وتلهف، يوم ليس كالأيام، وموقف ضنك المقام. (18) خطبة لهارون الرشيد
كان هارون الرشيد خامس الخلفاء العباسيين وكان «يبكي على نفسه وعلى إسرافه وذنوبه» و «له مناقب لا تحصى ومحاسن لا تستقصى وله أخبار في اللهو واللذات، سامحه الله.»
قال النهرواني: «اعلم أن مما يتحققه العاقل أن الدنيا دار الأكدار وأن أخف الخلق بلاء وألما الفقراء، وأعظم الناس تعبا وهما وغما هم الملوك والأمراء ... إن هارون الرشيد من أعقل الخلفاء العباسيين وأكملهم رأيا وتدبيرا وفطنة وقوة واتساع مملكة وكثرة خزائن بحيث كان يقول للسحابة: أمطري حيث شئت فإن خراج الأرض التي تمطرين فيها يجيء إلي، وكان مع ذلك أتعبهم خاطرا وأشغلهم قلبا.»
ولي الرشيد سنة 170 وتوفي سنة 193ه (786-809م).
وهذه إحدى خطبه:
الحمد لله الذي نحمده على نعمه، ونستعينه على طاعته، ونستنصره على أعدائه، ونؤمن به حقا ونتوكل عليه مفوضين إليه. أوصيكم عباد الله بتقوى الله، فإن في التقوى تكفير السيئات، وتضعيف الحسنات، وفوزا بالجنة ونجاة من النار. وأحذركم يوما تشخص فيه الأبصار، وتبلى فيه الأسرار، يوم البعث ويوم التغابن ويوم التلاقي ويوم التنادي، يوم لا يستعتب من سيئة ولا يزداد في حسنة. يوم الآزفة، إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين، ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع، يعلم خافية الأعين وما تخفي الصدور ... فاتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله، ثم توفى كل نفس ما كسبت. حصنوا أيمانكم بالأمانة ودينكم بالورع وصلاتكم بالزكاة ... وإياكم والأماني فقد غرت وأوردت وأوبقت كثيرا حتى أكذبتهم مناياهم، فتناوشوا التوبة من مكان بعيد، وحيل بينهم وبين ما يشتهون، فرغب ربكم عن الأمثال والوعد وقدم إليكم الوعيد، وقد رأيتم وقائعه بالقرون الخوالي جيلا فجيلا، وعهدتم الآباء والأبناء والأحبة والعشائر باختطاف الموت إياهم من بيوتكم ومن بين أظهركم لا تدفعون عنهم ولا تحولون دونهم، فزالت عنهم الدنيا وانقطعت بهم الأسباب فأسلمتهم إلى أعمالهم عند المواقف والحساب، ليجزي الذين أساءوا بما عملوا والذين أحسنوا بالحسنى. (19) خطبة للمأمون
ناپیژندل شوی مخ