كان الحجاج بن يوسف الثقفي عامل الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان على العراق وخراسان، وتوفي سنة 97ه الموافقة لسنة 716م. وكان شرس الطبع سفاكا للدماء، ولم يكن يخجل من الجهر بأن أكبر لذاته سفك الدماء. وهو الذي بنى مدينة واسط وينسب إليه وضع علامات للحروف المشتبهة في الخط العربي حتى لا يقع تصحيف في القرآن. ولولاه لاستفحل أمر الخوارج فهو الذي خضد شوكتهم بما أرسله عليهم من الجيوش تلو الجيوش.
ومما يحكى عنه أنه قال في إحدى خطبه: «سوطي سيفي ونجاده في عنقي وقائمه في يدي وذبابه قلادة لمن اغتر بي.» وكان الحسن حاضرا فقال: «بؤسا لهذا ما أغره بالله!»
خطب بين أهل العراق فقال:
يا أهل العراق إن الشيطان قد استبطنكم فخالط اللحم والدم والعصب والمسامع والأطراف والأعضاد والشغاف، ثم مضى إلى الأمخاخ والأصماخ، ثم ارتفع فعشش ثم باض وفرخ. فحشاكم شقاقا ونفاقا ... اتخذتموه دليلا تتبعونه وقائدا تطيعونه ومؤمرا تستشيرونه، وكيف تنفعكم تجربة أو تعضكم وقعة أو يحجزكم إسلام أو يردكم إيمان. ألستم أصحابي بالأهواز، حيث رمتم المكر وسعيتم بالغدر واستجمعتم للكفر، وظننتم أن الله يخذل دينه وخلافته. وأنا أرميكم بطرفي وأنتم تتسللون لواذا وتهزمون سراعا. يوم الزاوية وما يوم الزاوية! بها كان فشلكم وتنازعكم وتخاذلكم وبراءة الله منكم ونكوص وليه عنكم إذ وليتم كالإبل الشوارد إلى أوطانها، النوازع إلى أعطانها، لا يسأل المرء منكم عن أخيه، ولا يلوي الشيخ على بنيه، حتى عضكم السلاح وقصمتكم الرماح. يوم دير الجماجم وما دير الجماجم! إنها كانت المعارك والملاحم، بضرب يزيل الهام عن مقيله، ويذهل الخليل عن خليله. يا أهل العراق والكفرات الفجرات والغدرات بعد الخترات والثورة بعد الثورات ... هل استخفكم ناكث واستغواكم غاو واستفزكم عاص واستصرخكم ظالم واستعضدكم خالع إلا وثقتموه وآويتموه وغررتموه ونصرتموه ورضيتموه؟! يا أهل العراق، هل شغب شاغب أو نعب ناعب أو نعق ناعق أو زفر زافر إلا كنتم أتباعه وأنصاره؟! يا أهل العراق، ألم تنهكم المواعظ؟ ألم تزجركم الوقائع؟
خطبة أخرى للحجاج
خطب بالبصرة فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:
إن الله كفانا مئونة الدنيا وأمرنا بطلب الآخرة، فليته كفانا مئونة الآخرة وأمرنا بطلب الدنيا. ما لي أرى علماءكم يذهبون وجهالكم لا يتعلمون وشراركم لا يتوبون؟ ما لي أراكم تحرصون على ما كفيتم وتضيعون ما به أمرتم؟ إن العلم يوشك أن يرفع، ورفعه ذهاب العلماء. ألا وإني أعلم بشراركم من البيطار بالفرس، الذين لا يقرءون القرآن إلا هجرا، ولا يأتون الصلاة إلا دبرا. ألا وإن الدنيا عرض حاضر يأكل منها البر والفاجر. ألا وإن الآخرة أجل مستأخر يحكم فيها ملك قادر. ألا فاعملوا وأنتم من الله على حذر واعلموا أنكم ملاقوه ليجزي الذين أساءوا بما عملوا، ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى. ألا وإن الخير كله بحذافيره في الجنة. ألا وإن الشر كله بحذافيره في النار. ألا وإن من يعمل مثقال ذرة خيرا يره. ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره. وأستغفر الله لي ولكم.
خطبة أخرى للحجاج
خرج الحجاج يريد العراق واليا عليها في اثني عشر راكبا على النجائب حتى دخل الكوفة حين انتشر النهار. وقد كان فشا أمر الخوارج وتفاقم، وتثاقل الناس عن اللحاق بالمهلب الذي كان يناجزهم. فصعد المنبر وهو ملثم بعمامة حمراء، فقال: علي بالناس، فحسبوه وأصحابه خوارج فهموا به، حتى إذا اجتمع الناس قام ثم كشف عن وجهه وقال:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا
ناپیژندل شوی مخ