أساس التقديس في علم الكلام
مخ ۱
خطبة الكتاب
قال الشيخ الإمام فخر الدين محمد بن عمر الرازي تغمده الله بغفرانه الحمد لله الواجب وجوده وبقاؤه الممتنع تغيره وفناؤه العظيم قدره واستعلاؤه العميم نعماؤه وآلاؤه الدالة على وحدانيته أرضه وسماؤه المتعالية عن شوائب التشبيه والتعطيل صفاته وأسماؤه فاستواؤه قهره واستيلاؤه ونزوله بره وعطاؤه ومجيئه حكمه وقضاؤه ووجهه وجوده أو جوده وحباؤه وعينه حفظه وعونه اجتباؤه وضحكه عفوه أو إذنه وارتضاؤه ويده إنعامه وإكرامه واصطفاؤه ولا يجري في الدارين من أفعاله إلا ما يريده ويشاؤه العظمة إزاره والكبرياء رداؤه
أحمده على جزيل نعمه وجميل كرمه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون صلى الله عليه وسلم
مخ ۱۳
أما بعد فإني وإن كنت ساكنا في أقاصي بلاد المشرق إلا أني سمعت أهل المشرق والمغرب مطبقين متفقين على أن السلطان المعظم العالم العادل المجاهد سيف الدنيا والدين سلطان الإسلام والمسلمين أفضل سلاطين الحق واليقين أبا بكر بن أيوب لا زالت راياته في تقوية الحق والمذهب الصدق متصاعدة إلى عنان السماء وآثار أنوار قدرته ومكنته باقية بحسب تعاقب الصباح والمساء أفضل الملوك وأكمل السلاطين في آيات الفضل وبينات الصدق وتقوية الدين القويم ونصرة الصراط المستقيم فأرت أن أتحفه بتحفة سنية وهدية مرضية فأتحفته بهذا الكتاب الذي سميته ب أساس التقديس على بعد الدار وتباين الأقطار وسألت الله الكريم أن ينفعه به في الدارين بفضله وكرمه ورتبته على أربعة أقسام
مخ ۱۴
القسم الأول
في الدلائل الدالة على أنه تعالى منزه عن الجسمية والحيز
وفيه فصول
الفصل الأول في تقرير المقدمات التي يجب إيرادها قبل الخوض في الدلائل
وهي ثلاثة
المقدمة الأولى في دعوى وجود موجود وإثباته
أعلم أنا ندعي وجود موجود لا يمكن أن يشار إليه بالحس أنه ههنا هنالك أو نقول إنا ندعي وجود موجود غير مختص بشيء من الأحياز والجهات أو نقول إنا ندعي وجود موجود غير حال في العالم ولا مباين عنه في شيء من الجهات الست التي للعالم هذه العبارات متفاوتة والمقصود من الكل شيء واحد
ومن المخالفين من يدعي أن فساد هذه المقدمات معلوم بالضرورة وقالوا لأن العلم الضروري حاصل بأن كل موجودين فإنه لا بد وأن يكون أحدهما حالا في الآخر أو مباينا عنه مختصا بجهة من الجهات الست المحيطة به قالوا وإثبات موجودين على خلاف هذه الأقسام السبعة باطل في بداية العقول واعلم أنه لو ثبت كون هذه المقدمة بديهية لم يكن الخوض في ذكر الدلائل جائزا لأن على تقدير أن يكون الأمر على ما قالوه كان الشروع في الإستدلال على كون الله تعالى غير حال في العالم ولا مباين عنه في الجهة إبطالا للضروريات والقدح في الضروريات بالنظريات يقتضي القدح في الأصل بالفرع وذلك يوجب تطرق الطعن إلى الأصل والفرع معا وهو باطل بل يجب علينا بيان أن هذه المقدمة ليست من المقدمات البديهية حتى يزول هذا الإشكال فنقول الذي يدل على أن هذه المقدمات ليست بديهية وجوه
مخ ۱۵
الأول أن جمهور العقلاء المعتبرين أتفقوا على أنه تعالى ليس بمتحيز ولا مختص بشيء من الجهات وأنه تعالى غير حال في العالم ولا مباين عنه في شيء من الجهات ولو كان فساد هذه المقدمات معلوما بالبديهة لكان إطباق أكثر العقلاء على إنكارها ممتنعا لأن الجمع العظيم من العقلاء لا يجوز إطباقهم على إنكار الضروريات بل نقول الفلاسفة اتفقوا على إثبات موجودات ليست بمتحيزة ولا حالة في المتحيزة مثل العقول والنفوس والهيولى بل زعموا أن الشيء الذي يشير إليه كل إنسان بقوله أنا موجود ليس بجسم ولا جسماني ولم يقل أحد بأنهم في هذه الدعوى منكرون للبديهيات بل جمع عظيم من المسلمين إختاروا مذهبهم مثل معمر بن عباد السلمي من المعتزلة ومثل محمد بن نعمان من الرافضة ومثل أبي القاسم الراغب وأبي حامد الغزالي من أصحابنا وإذا كان الأمر كذلك فكيف يمكن أن يقال بأن القول بأن الله ليس بمتحيز ولا حال في المتحيز قول مدفوع في بداية العقول
الثاني أنا إذا عرضنا على العقل وجود موجود لا يكون حالا في العالم ولا مباينا عنه في شيء من الجهات الست وعرضنا على العقل أيضا أن الواحد نصف الإثنين وأن النفي والإثبات لا يجتمعان وجدنا العقل متوقفا في المقدمة الأولى جازما في المقدمة الثانية وهذا التفاوت معلوم بالضرورة وذلك يدل على أن العقل غير قاطع في المقدمة الأولى لا بالنفي ولا بالإثبات إلا أنا نقول لما رأينا أن العقل لم يجزم بهذه المقدمة مثل جزمه بأن الواحد نصف الإثنين علمنا أنه غير قاطع بأن ما سوى العالم لا بد وأن يكون حالا فيه أو مباينا عنه بالجهة بل هو مجوز لنقيضه وإذا ثبت هذا فنقول إن ذلك الظن إنما حصل بسبب أن الوهم والخيال لا يتصرفان إلا في المحسوسات فلا جرم كان من شأنهما أنهما يقضيان على كل شيء بالأحكام اللائقة بالمحسوسات فهذا الميل إنما جاء بسبب الوهم والخيال لا بسبب العقل البتة
الثالث إنا إذا قلنا الموجود إما أن يكون متحيزا أو حالا في المتحيز أو لا متحيزا ولا حالا في المتحيز وجدنا العقل قاطعا لصحة هذا التقسيم ولو قلنا
مخ ۱۶
الموجود إما أن يكون متحيزا أو حالا في المتحيز واقتصرنا على هذا القدر علمنا بالضرورة أن هذا التقسيم غير تام ولا منحصر وأنه لا يتم إلا بضم القسم الثالث وهو أن يقال وإما أن لا يكون متحيزا ولا حالا في التحيز وإذا كان الأمر كذلك علمنا بالضرورة أن إحتمال هذا القسم وهو وجود موجود لا يكون متحيزا ولا حالا في المتحيز قائم في العقول من غير مدافعة ولا منازعة وأنه لا يمكن الجزم بنفيه ولا بإثباته إلا بدليل منفصل
الرابع أنا نعلم بالضرورة أن أشخاص الناس مشتركة في مفهوم الإنسانية ومتباينة بخصوصياتها وتعيناتها وما به المشاركة غير ما به الممايزة وهذا يقتضي أن يقال الإنسانية من حيث هي إنسانية مجرد عن الشكل المعين فالإنسانية من حيث هي هي معقول مجرد فقد أخرج البحث والتفتيش عن المحسوس ما هو معقول مجرد وإذا كان كذلك فكيف يستبعد في العقل أن يكون خالق المحسوسات منزها عن لواحق الحس وعلائق الخيال
الخامس أن كل ماهية فإنا إذا اعتبرناها بحدها وحقيقتها فإنا قد نعقلها حال غفلتنا عن الوضع والحيز فكيف والإنسان إذا كان مستغرق الفكر في تفهم أن حد العلم ما هو وحد الطبيعة ما هو فإنه في تلك الحالة يكون غافلا عن حقيقة الحيز والمقدار فضلا عن أن يحكم بأن تلك الحقيقة لا بد وأن تكون مختصة بمحل أو بجهة وهذا يقتضي أنه يمكننا أن نعقل الماهيات حال ذهولنا عن الحيز والشكل والمقدار
السادس هو أن الواحد منا حال ما يكون مستغرق الفكر والروية في استخراج مسألة معضلة قد يقول في نفسه إني قد حكمت بكذا أو عقلت فحال ما يقول في نفسه إني عقلت كذا وحكمت بكذا يكون عارفا بنفسه إذ لو لم يكن عارفا بنفسه لامتنع منه أن يحكم على ذاته بأنه حكم بكذا أو عرف كذا مع أنه في تلك الحالة قد يكون غافلا عن معنى الحيز والجهة وعن معنى الشكل والمقدار فضلا عن أن علم كون ذاته في الحيز أو كون ذاته موصوفة بالشكل والمقدار فثبت أن العلم بالشيء قد يحصل عند العلم عدم بحيزه وشكله ومقداره وذلك يفيد القطع بأن المجرد عن الوضع والجهة يصح أن يكون معقولا
مخ ۱۷
السابع أنا نبصر الأشياء إلا أن القوة الباصرة لا تبصر بنفسها وكذلك القوة الخيالية تتخيل الأشياء إلا أن هذه القوة لا يمكنها أن تتخيل نفسها فوجود القوة الباصرة يدل على أنه لا يجب أن يكون كل شيء متخيلا وذلك يفتح باب الإحتمال المذكور
مخ ۱۸
الثامن أن خصومنا لا بد لهم من الإعتراف بوجود شيء على خلاف حكم الحس والخيال وذلك لأن خصومنا في هذا الباب إما الكرامية وإما الحنابلة أما الكرامية فإنا إذا قلنا لهم لو كان الله تعالى مشارا إليه بالحس لكان ذلك الشيء إما أن يكون منقسما فيكون مركبا وأنتم لا تقولون بذلك وإما أن يكون غير منقسم فيكون في الصغر والحقارة مثل النقطة التي لا تنقسم ومثل الجزء الذي لا يتجزأ وأنتم لا تقولون بذلك فعند هذا الكلام قالوا إنه واحد منزه عن التركيب والتأليف ومع هذا فإنه ليس بصغير ولا حقير ومعلوم أن هذا الذي التزموه مما لا يقبله الحس والخيال بل لا يقبله العقل أيضا لأن المشار إليه بحسب الحس إن حصل له إمتداد في الجهات والأحياز كان أحد جانبيه مغايرا للجانب الثاني وذلك يوجب الإنقسام في بديهة العقل وإن لم يحصل له إمتداد في شيء من الجهات لا في اليمين ولا في اليسار ولا في الفوق ولا في التحت كان نقطة غير منقسمة وكان في غاية الصغر والحقارة فإذا لم يبعد عندهم إلتزام كونه غير قابل القسمة مع كونه عظيما غير متناه في الإمتداد كان هذا جمعا بين النفي والإثبات ومدفوعا في بداية العقول وأما الحنابلة الذين إلتزموا الأجزاء والأبعاض فهم أيضا معترفون بأن ذاته تعالى مخالف لذوات هذه المحسوسات فإنه تعالى لا يساوي هذه الذوات في قبول الإجتماع والإفتراق والتغير والفناء والصحة والمرض والحياة والموت إذ لو كانت ذاته تعالى مساوية لسائر الذوات في هذه الصفات لزم إما إفتقاره إلى خالق آخر ولزم التسلسل أو لزم القول بأن الإمكان والحدوث غير محوج إلى الخالق وذلك يلزم منه نفي الصانع فثبت أنه لا بد لهم من الإعتراف بأن خصوصية ذاته التي بها امتازت عن سائر الذوات ما لا يصل الوهم والخيال إلى كهنها وذلك إعتراف بثبوت أمر على خلاف ما يحكم به الوهم ويقضي به الخيال وإذا كان الأمر كذلك فأي استبعاد في وجود موجود غير حال في العالم ولا مباين بالجهة للعالم وإن كان الوهم والخيال لا يمكنهما إدراك هذا الموجود وأيضا فعمدة مذهب الحنابلة أنهم متى تمسكوا بآية أو بخبر يوهم ظاهره شيئا من الأعضاء والجوارح صرحوا بأنا نثبت هذا المعنى لله تعالى على خلاف ما هو ثابت للخلق فأثبتوا لله تعالى وجها بخلاف وجوه الخلق ويدا بخلاف أيدي الخلق ومعلوم أن اليد والوجه بالمعنى الذي ذكروه مما لا يقبله الخيال والوهم فإذا عقل إثبات ذلك على خلاف الوهم والخيال فأي استبعاد في القول بأنه تعالى موجود وليس داخل العالم ولا خارج العالم وإن كان الوهم والخيال قاصرين عن إدراك هذا الوجود
التاسع أن أهل التشبيه قالوا العالم والباري موجودان وكل موجودين فإما أن يكون أحدهما حالا في الآخر أو مباينا عنه قالوا والقول بوجوب هذا الحصر معلوم بالضرورة قالوا والقول بالحلول محال فتعين كونه مباينا للعالم بالجهة فبهذا الطريق إحتجوا بكونه تعالى مختصا بالحيز والجهة وأهل الدهر قالوا العالم والباري موجودان وكل موجودين فإما أن يكون وجودهما معا أو أحدهما قبل الآخر ومحال أن يوجد العالم والباري معا وإلا لزم إما قدم العالم أو حدوث الباري وهما محالان فثبت أن الباري قبل العالم ثم قالوا والعلم الضروري حاصل بأن هذه القبلية لا تكون إلا بالزمان والمدة وإذا ثبت هذا فتقدم الباري إن كان بمدة متناهية لزم حدوث الباري وإن كان بمدة لا أول لها لزم كون المدة قديمة فأنتجوا بهذه الطريق قدم المدة والزمان
مخ ۱۹
فنقول حاصل هذا الكلام أن المشبهة زعمت أن مباينة الباري تعالى عن العالم لا يعقل حصولها إلا بالجهة وانتخبوا منه كون الإله في الجهة وزعمت الدهرية أن تقدم الباري على العالم لا يعقل حصوله إلا بالزمان وأنتجوا منه قدم المدة وإذا ثبت هذا فنقول حكم الخيال في حق الله تعالى إما أن يكون مقبولا أو غير مقبول فإن كان مقبولا فالمشبهة يلزم عليهم مذهب الدهر وهو أن يكون الباري متقدما على العالم بمدة غير متناهية ويلزمهم القول بكون الزمان أزليا والمشبهة لا يقولون بذلك والدهرية يلزم عليهم مذهب المشبهة وهو مباينة الباري عن العالم بالجهة والمكان فيلزمهم القول بكون الباري مكانيا وهم لا يقولون به فصار هذا النقض واردا على الفريقين وأما إن قلنا حكم الوهم والخيال غير مقبول البتة في ذات الله تعالى وفي صفاته فحينئذ نقول قول المشبهة إن كل موجودين فلا بد وأن يكون أحدهما حالا في الآخر أو مباينا عنه بالجهة قول خيالي باطل وقول الدهري بأن تقدم الباري على العالم لا بد وأن يكون بالمدة والزمان قول خيالي باطل وذلك هو قول أصحابنا أهل التوحيد والتنزيه الذين عزلوا حكم الوهم والخيال عن ذات الله تعالى وصفاته وذلك هو المنهج القويم والصراط المستقيم
العاشر أن معرفة أفعال الله تعالى وصفاته أقرب إلى العقول من معرفة ذات الله تعالى ثم المشبهة وافقونا على أن معرفة أفعال الله تعالى وصفاته على خلاف حكم الحس والخيال أما تقرير هذا المعنى في أفعال الله تعالى فذاك من وجوه
أحدها أن الذي شاهدناه هو تغير الصفات مثل انقلاب الماء والتراب نباتا وانقلاب النبات جزء بدن الإنسان فأما حدوث الذوات إبتداء من غير سبق مادة وطينة فهذا شيء ما شاهدناه البتة ولا يقضي بجوازه وهمنا وخيالنا مع أنا سلمنا أنه تعالى هو المحدث للذوات إبتداء من غير سبق مادة وطينة
وثانيها أنا لا نعقل حدوث شيء وتكونه إلا في زمان مخصوص ثم حكمنا بأن الزمان حدث لا في زمان البتة
وثالثها أنا لا نعقل فاعلا يفعل بعد ما لم يكن فاعلا إلا لتغير حالة وتبدل صفة ثم إنا اعترفنا بأنه تعالى خالق العالم من غير شيء من ذلك
ورابعها أما لا نعقل فاعلا يفعل فعلا إلا لجلب منفعة أو لدفع مضرة ثم إنا اعترفنا بأنه تعالى خالق العالم لغير شيء من هذا وأما تقرير هذا المعنى في الصفات فذلك من وجوه
مخ ۲۰
أحدها أنا لا نعقل ذاتا يكون عالما بمعلومات لا نهاية لها على التفصيل دفعة وإنا إذا جربنا أنفسنا وجدناها متى اشتغلت باستحضار معلوم معين امتنع عليها في تلك الحالة استحضار معلوم آخر ثم إنا مع ذلك نعتقد أنه تعالى عالم بما لا نهاية له من المعلومات على التفصيل من غير أن يحصل فيه إشتباه والتباس فكان كونه تعالى عالما بجميع المعلومات أمرا على خلاف مقتضى الوهم والخيال
وثانيها أنا نرى أن كل من فعل فعلا فلا بد له من آلة وأداة وأن الأفعال الشاقة تكون سببا للكلالة والمشقة لذلك الفاعل ثم إنا نعتقد أنه تعالى يدبر من العرش إلى ما تحت الثرى مع أنه منزه عن المشقة واللغوب والكلالة
وثالثها أنا نعتقد أنه يسمع أصوات الخلق من العرش إلى ما تحت الثرى ويرى الصغير والكبير فوق أطباق السموات العلى وتحت الأرضين السفلى ومعلوم أن الوهم البشري والخيال الإنساني قاصران عن الإعتراف بهذا الموجود مع أنا نعتقد أنه تعالى كذلك فثبت أن الوهم والخيال قاصران عن معرفة أفعال الله سبحانه وتعالى وصفاته ومع ذلك فإنا نثبت الأفعال والصفات على مخالفة الوهم والخيال وقد ثبت أن معرفة كنه الذات أعلى وأجل وأغمض من معرفة كنه الصفات فلما عزلنا الوهم والخيال في معرفة الصفات والأفعال فلأن نعزلهما في معرفة الذات أولى وأحرى
مخ ۲۱
فهذه الدلائل العشرة دالة على أن كونه سبحانه وتعالى منزها عن الحيز والجهة ليس أمرا يدفعه صريح العقل وذلك هو تمام المطلوب وبالله التوفيق ونختم هذا الباب بما روي عن أرسطاليس أنه كتب في أول كتابه في الإلهيات من أراد أن يشرع في المعارف الإلهية فليستحدث لنفسه فطرة أخرى قال الشيخ رضي الله عنه وهذا الكلام موافق للوحي والنبوة فأنه ذكر مراتب تكون الجسد في قوله تعالى
ﵟولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طينﵞ
فلما آل الأمر إلى تعلق الروح بالبدن قال
ﵟثم أنشأناه خلقا آخرﵞ
وذلك كالتنبيه على أن كيفية تعلق الروح بالبدن ليس مثل إنقلاب النطفة من حال إلى حال بل هذا نوع آخر مخالف لتلك الأنواع المتقدمة فلهذا السبب قال
ﵟثم أنشأناه خلقا آخرﵞ
فكذلك الإنسان إذا تأمل في أحوال الأجرام السفلية والعلوية وتأمل في صفاتها فذلك له قانون فإذا أراد أن ينتقل منها إلى معرفة الربوبية وجب أن يستحدث لنفسه فطرة أخرى وعقلا آخر بخلاف العقل الذي به اهتدى إلى معرفة الجسمانيات وهذا آخر الكلام في هذه المقدمة وبالله التوفيق
المقدمة الثانية في أنه ليس كل موجود يجب أن يكون له نظير وشبيه
إنه ليس كل موجود يجب أن يكون له نظير وشبيه وإنه ليس يلزم من نفي النظير والشبيه نفي ذلك الشيء ويدل عليه وجوه
الحجة الأولى إن بديهية العقل لا تستبعد وجود موصوف بصفات مخصومة بحيث يكون كل ما سواه مخالفا له في تلك الخصوصية وإذا لم يكن هذا مدفوعا في بداية العقول علمنا أنه لا يلزم من عدم نظير الشيء عدم ذلك الشيء
الحجة الثانية هي أن وجود الشيء إما أن يتوقف على وجود ما شابهه أو لا يتوقف والأول باطل لأن الشيئين لو كانا متشابهين وجب استواؤهما في جميع اللوازم فيلزم من توقف وجود هذا على وجود الثاني توقف وجود الثاني على وجود الأول بل توقف كل واحد منهما على نفسه وذلك محال في بداية العقول فثبت أنه لا يتوقف وجود الشيء على وجود نظير له فلا يلزم من نفي النظير نفيه
مخ ۲۲
الحجة الثالثة هي أن تعين كل شيء من حيث أنه هو ممتنع الحصول في غيره وإلا لكان ذلك الشيء عين غيره وذلك باطل في بداية العقول فثبت أن تعين كل شيء من حيث إنه ممتنع الحصول في غيره فعلمنا أن عدم النظير والمساوي لا يوجب القول بعدم الشيء فظهر فساد قول من يقول إنه لا يمكننا أن نعقل وجود موجود لا يكون متصلا بالعالم ولا منفصلا عنه إلا إذا وجدنا له نظيرا فإن عندنا الموصوف بهذه الصفة ليس إلا لله تعالى وبيننا أنه لا يلزم من عدم النظير والشبيه عدم الشيء فثبت أن هذا الكلام ساقط بالكلية وبالله التوفيق
المقدمة الثالثة في بيان قول القائلين بأنه تعالى جسم
أعلم أن القائلين بأنه تعالى جسم اختلفوا فمنهم من يقول إنه على صورة الإنسان ثم المنقول عن مشبهة الأمة أنه على صورة الإنسان الشاب وعن مشبهة اليهود أنه على صورة إنسان شيخ وهو لا يجوزون الإنتقال والذهاب والمجيء على الله تعالى وأما المحققون من المشبهة فالمنقول منهم أنه تعالى على صورة نور من الأنوار
وذكر أبو معشر المنجم أن سبب إقدام الناس على اتخاذ عبادة الأوثان دينا لأنفسهم هو أن القوم في الدهر الأقدم كانوا على مذهب المشبهة وكانوا يعتقدون أن إله العالم نور عظيم فلما اعتقدوا ذلك اتخذوا وثنا هو أكبر الأوثان على صورة الإله وأوثانا أخرى على أصغر من ذلك الوثن على صورة الملائكة واشتغلوا بعبادة هذه الأوثان على اعتقاد أنهم يعبدون الإله والملائكة فثبت أن دين عبادة الأصنام كالفرع من مذهب المشبهة
وأعلم أن كثيرا من هؤلاء يمتنع من جواز الحركة والسكون على الله تعالى وأما الكرامية فهم لا يقولون بالأعضاء والجوارح بل يقولون إنه مختص بما فوق العرش ثم إن هذا المذهب يحتمل وجوها ثلاثة فإنه تعالى إما أن يقال إنه ملاق للعرش وإما أن يقال إنه مباين عنه ببعد متناه وإما أن يقال إنه مباين ببعد غير متناه وقد ذهب إلى كل واحد من هذه الأقسام الثلاثة طائفة من الكرامية واختلفوا أيضا في أنه تعالى مختص بتلك الجهات لذاته أو لمعنى قديم وبينهم اختلاف في ذلك فهذا تمام الكلام في المقدمات وبالله التوفيق
مخ ۲۳
الفصل الثاني في تقدير الدلائل السمعية على أنه تعالى منزه عن الجسمية
والحيز والجهة
مخ ۲۴
الحجة الأولى قوله تعالى
ﵟقل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحدﵞ
واعلم أن قد اشتهر في التفسير أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن ماهية ربه وعن نعته وصفته فانتظر الجواب من الله تعالى فأنزل هذه السورة إذا عرفت ذلك فنقول هذه السورة يجب أن تكون من المحكمات لا من المتشابهات لأنه تعالى جعلها جوابا عن سؤال المتشابه بل وأنزلها عند الحاجة وذلك يقتضي كونها من المحكمات لا من المتشابهات وإذ ثبت هذا وجب الجزم بأن كل مذهب يخالف هذه السورة يكون باطلا فنقول إن قوله تعالى أحد يدل على نفي الجسمية ونفي الحيز والجهة أما دلالته على أنه تعالى ليس بجسم فذلك لأن الجسم أقله أن يكون مركبا من جوهرين وذلك ينافي الوحدة وقوله أحد مبالغة في الواحدية فكان قوله أحد منافيا للجسمية وأما دلالته على أنه ليس بجوهر فنقول أما الذين ينكرون الجوهر الفرد فإنهم يقولون إن كل متحيز فلا بد وأن يتميز أحد جانبيه عن الثاني وذلك لأنه لا بد من أن يتميز يمينه عن يساره وقدامه عن خلفه وفوقه عن تحته وكل ما تميز فيه شيء عن شيء فهو منقسم لأن يمينه موصوف بأنه يمين لا يسار ويساره موصوف بأنه يسار لا يمين فلو كان يمينه عين يساره لاجتمع في الشيء الواحد أنه يمين وليس بيمين ويسار وليس بيسار فيلزم اجتماع النفي والإثبات في الشيء الواحد وهو محال قالوا فثبت أن كل متحيز فهو منقسم وثبت أن كل منقسم فهو ليس بأحد فلما كان الله تعالى موصوفا بأنه أحد وجب أن لا يكون متحيزا أصلا وذلك ينفي كونه جوهرا وأما الذين يثبتون الجوهر الفرد فإنه لا يمكنهم الإستدلال على نفي كونه تعالى جوهرا من هذا الإعتبار ويمكنهم أن يحتجوا بهذه الآية على نفي كونه جوهرا من وجه آخر وبيانه هو أن الأحد كما يراد به نفي التركيب والتآلف في الذات فقد يراد به الضد والند ولو كان تعالى جوهرا فردا لكان كل جوهر فرد مثلا له وذلك ينفي كونه أحدا ثم أكدوا هذا الوجه بقوله تعالى
ﵟولم يكن له كفوا أحدﵞ
ولو كان جوهرا لكان كل جوهر فرد كفوا له فدلت هذه السورة من الوجه الذي قررناه على أنه تعالى ليس بجسم ولا بجوهر وإذا ثبت أنه تعالى ليس بجسم ولا بجوهر وجب أن لا يكون في شيء من الأحياز والجهات لأن كل ما كان مختصا بحيز وجهة فإن كان منقسما كان جسما وقد بينا إبطال ذلك وإن لم يكن منقسما كان جوهرا فردا وقد بينا أنه باطل ولما بطل القسمان ثبت أنه يمتنع أن يكون في جهة أصلا فثبت أن قوله تعالى أحد يدل دلالة قطعية على أنه تعالى ليس بجسم ولا بجوهر ولا في حيز وجهة أصلا
واعلم أنه تعالى كما نص على أنه تعالى واحد فقد نص على البرهان الذي لأجله يجب الحكم بأنه أحد وذلك أنه قال
ﵟهو الله أحدﵞ
وكونه إلها يقتضي كونه غنيا عما سواه وكل مركب فإنه مفتقر إلى كل واحد من أجزائه وكل واحد من أجزائه غيره فكل مركب فهو مفتقر إلى غيره وكونه إلها يمنع من كونه مفتقرا إلى غيره وذلك يوجب القطع بكونه أحدا وكونه أحدا يوجب القطع بأنه ليس بجسم ولا جوهر ولا في حيز وجهة فثبت أن قوله تعالى
ﵟهو الله أحدﵞ
برهان قاطع على ثبوت هذه المطالب وأما قوله
ﵟالله الصمدﵞ
فالصمد هو السيد المصمود إليه في الحوائج وذلك يدل على أنه ليس بجسم وعلى أنه غير مختص بالحيز والجهة أما بيان دلالته على نفي الجسمية فمن وجوه
الأول أن كل جسم فهو مركب وكل مركب فهو محتاج إلى كل واحد من أجزائه وكل واحد من أجزائه غيره فكل مركب فهو محتاج إلى غيره والمحتاج إلى الغير لا يكون غنيا محتاجا إلى غيره فلم يكن صمدا مطلقا
الثاني لو كان مركبا من الجوارح وأعضاء لاحتاج في الإبصار إلى العين وفي الفعل إلى اليد وفي المشي إلى الرجل وذلك ينافي كونه صمدا مطلقا
مخ ۲۵
الثالث أنا نقيم الدلالة على أن الأجسام متماثلة والأشياء المتماثلة يجب إشتراكها في اللوازم فلو احتاج بعض الأجسام إلى بعض لزم كون الكل محتاجا إلى ذلك الجسم ولزم أيضا كونه محتاجا إلى نفسه وكل ذلك محال ولما كان ذلك محال وجب أن لا يحتاج إليه شيء من الأجسام ولو كان كذلك لم يكن صمدا على الإطلاق وأما بيان دلالته على أنه تعالى منزه عن الحيز والجهة فهو أنه تعالى لو كان مختصا بالحيز والجهة لكان إما أن يكون حصوله في الحيز المعين واجبا أو جائزا فإن كان واجبا فحينئذ يكون ذاته تعالى مفتقرا في الوجود والتحقق إلى ذلك الحيز المعين وأما ذلك الحيز المعين فإنه يكون غنيا عن ذاته المخصوص لأنا لو فرضنا عدم حصول ذات الله تعالى في ذلك الحيز المعين لم يبطل ذلك الحيز أصلا وعلى هذا التقدير يكون تعالى محتاجا إلى ذلك الحيز فلم يكن صمدا على الإطلاق أما إن كان حصوله في الحيز المعين جائزا لا واجبا فحينئذ يفتقر إلى مخصص يخصصه بالحيز المعين وذلك يوجب كونه محتاجا وينافي كونه صمدا وأما قوله تعالى
ﵟولم يكن له كفوا أحدﵞ
فهذا أيضا يدل على أنه ليس بجسم ولا جوهر لأنا سنقيم الدلالة على أن الجواهر متماثلة فلو كان تعالى جوهرا لكان مثلا لجميع الجواهر فكان كل واحد من الجواهر كفؤ له ولو كان جسما لكان مؤلفا من الجواهر لأن الجسم يكون كذلك وحينئذ يعود الإلزام المذكور فثبت أن هذه السورة من أظهر الدلائل على أنه تعالى ليس بجسم ولا بجوهر ولا حاصل في مكان وحيز
مخ ۲۶
واعلم أنه كما أن الكفار لما سألوا الرسول عن صفة ربه فأجاب الله بهذه الصورة الدالة على كونه تعالى منزها عن أن يكون جسما أو جوهرا أو مختصا بالمكان فكذلك فرعون سأل موسى عليه السلام عن صفة الله تعالى فقال
ﵟوما رب العالمينﵞ
ثم إن موسى لم يذكر الجواب عن هذا السؤال إلا بكونه تعالى خالقا للناس ومدبرا لهم وخالق السموات والأرض ومدبرا لهما وهذا أيضا من أقوى الدلائل على أنه تعالى ليس بمتحيز ولا في جهة لأنا سنبين إن شاء الله تعالى أن كون الشيء حجما ومتحيزا عين الذات ونفسها وحقيقتها لا أنه صفة قائمة بالذات وأما كونه خالقا للأشياء ومدبرا لها فهو صفة ولفظه ما سؤال عن الماهية وطلب للحقيقة فلو كان تعالى متحيزا لكان الجواب عن قوله
ﵟوما رب العالمينﵞ
بذكر كونه متحيزا أولى من الجواب منه بذكر كونه خالقا ولو كان كذلك كان جواب موسى عليه السلام خطأ ولكان طعن فرعون بأنه مجنون لا يفهم السؤال ولا يذكر في مقابله السؤال ما يصلح أن يكون جوابا متجها لازما ولما بطل ذلك علمنا أنه تعالى ما كان متحيزا فلا جرم ما كان يمكن تعريف حقيقته سبحانه وتعالى إلا بأنه خالق مدبر فلا جرم كان جواب موسى عليه السلام صحيحا وكان سؤال فرعون ساقطا فاسدا فثبت أنه كما أن جواب محمد عن سؤال الكفار عن صفة الله تعالى يدل على تنزيه الله تعالى عن التحيز فكذلك جواب موسى عليه السلام أما الخليل صلى الله عليه وسلم فقد حكى الله تعالى عنه في كتابه بأنه استدل بحصول التغير في أحوال الكواكب على حدوثها ثم قال عند تمام الإستدلال ^ وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا مسلما ^
واعلم أن هذه الواقعة تدل على تنزيه الله تعالى وتقديسه عن التحيز والجهة أما دلالتها على تنزيه الله تعالى عن التحيز فمن وجوه
أحدها أنا سنبين إن شاء الله تعالى أن الأجسام متماثله فإذا ثبت ذلك فنقول ما صح على أحد المثلين وجب أن يصح على المثل الآخر فلو كان تعالى جسما أو جوهرا وجب أن يصح عليه كل ما صح على غيره وأن يصح على غيره كل ما صح عليه وذلك يقتضي جواز التغير عليه ولما حكم الخليل صلى الله عليه وسلم بأن المتغير من حال إلى حال لا يصلح للإلهية وثبت أنه لو كان جسما لصح عليه التغير لزم القطع بأنه تعالى ليس بمتحيز أصلا
مخ ۲۷
الثاني أنه عليه السلام قال عند تمام الإستدلال وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض فلم يذكر من صفات الله تعالى إلا كونه خالقا للعالم والله تعالى مدحه على هذا الكلام وعظمه فقال
ﵟوتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاءﵞ
ولو كان إله العالم جسما موصوفا بمقدار مخصوص وشكل مخصوص لما كمل العلم به تعالى إلا بعد العلم بكونه جسما متحيزا ولو كان كذلك لما كان مستحقا للمدح والتعظيم بمجرد معرفة كونه خالقا للعالم فلما كان هذا القدر من المعرفة كافيا في كمال معرفة الله تعالى دل ذلك على أنه تعالى ليس بمتحيز
الثالث أنه تعالى لو كان جسما لكان كل جسم مشاركا له في تمام الماهية فالقول بكونه جسما يقتضي إثبات الشريك لله تعالى وذلك ينافي قوله وما أنا من المشركين فثبت بما ذكرناه أن العظماء من الأنبياء صلوات الله عليهم كانوا قاطعين بتنزيه الله تعالى وتقديسه عن الجسمية والجوهرية والجهة فبالله التوفيق
الحجة الثانية من القرآن قوله تعالى ( ليس كمثله شيء ) ولو كان جسما مثلا لسائر الأجسام في تمام الماهية لأنا سنبين إن شاء الله تعالى بالدلائل الباهرة أن الأجسام كلها متماثلة وذلك كالمناقض لهذا النص فإن قيل لم لا يجوز أن يقال إنه تعالى وإن كان جسما إلا أنه مخالف لغيره من الأجسام كما أن الإنسان والفرس وإن اشتركا في الجسمية لكنهما مختلفان في الأحوال والصفات ولا يجوز أن يقال الفرس مثل الإنسان فكذا هنا والجواب من جهتين
الأول أنا سنقيم الدلالة على أن الأجسام كلها متماثلة في تمام الماهية فلو كان تعالى جسما لكان ذاته مثلا لسائر الأجسام وذلك يخالف النص والإنسان والفرس ذات كل واحد منهما مماثلة لذات الآخر والإختلاف إنما وقع في الصفات والأعراض والذاتان إذا كانتا متماثلتين لكان إختصاص كل واحدة منهما بصفاته المخصوصة من الجائزات لا من الواجبات لأن الأشياء المتماثلة في تمام الذات والماهية لا يجوز اختلافها في اللوازم فلو كان الباري تعالى جسما لوجب أن يكون اختصاصه بصفاته المخصوصة من الجائزات ولو كان كذلك لزم افتقاره إلى المدبر والمخصص وذلك يبطل القول بكونه تعالى إله العالم
مخ ۲۸
الثاني أن بتقدير أن يكون تعالى مشاركا لسائر الأجسام في الجسمية ومخالفا لها في الماهية المخصوصة يجب وقوع الكثرة في ذات الله تعالى لأن الجسمية مشترك فيها بين الله وبين غيره وخصوصية ذاته غير مشتركه فيما بين الله تعالى وبين غيره وما به المشاركة غير ما به الممايزة وذلك يقتضي وقوع التركيب في ذاته المخصوصة وكل مركب ممكن لا واجب على ما بيناه فثبت أن هذا السؤال ساقط والله أعلم
الحجة الثالثة قوله تعالى
ﵟوالله الغني وأنتم الفقراءﵞ
دلت هذه الآية على كونه تعالى غنيا ولو كان جسما لما كان غنيا لأن كل جسم مركب وكل مركب محتاج إلى كل واحد من أجزائه وأيضا لو وجب اختصاصه بالجهة لكان محتاجا إلى الجهة وذلك يقدح في كونه غنيا على الإطلاق
الحجة الرابعة قوله تعالى
ﵟلا إله إلا هو الحي القيومﵞ
والقيوم من يكون قائما بنفسه مقوما لغيره فكونه قائما بنفسه عبارة عن كونه غنيا عن كل ما سواه وكونه مقوما لغيره عبارة عن احتياج كل ما سواه إليه فلو كان جسما لكان هو مفتقرا إلى غيره وهو جزؤه ولكان غيره غنيا عنه وهو جزؤه فحينئذ لا يكون قيوما وأيضا لو وجب حصوله في شيء من الأحياز لكان مفتقرا محتاجا إلى ذلك الحيز فلم يكن قيوما على الإطلاق فإن قيل ألستم تقولون إنه يجب أن يكون موصوفا بالعلم ولم يقدح ذلك عندكم في كونه قيوما فلم لا يجوز أيضا أن يقال أنه يجب أن يحصل في حيز معين ولم يقدح ذلك في كونه قيوما قيل عندنا أن ذاته كالموجب لتلك الصفة وذلك لا يقدح في وصف الذات بكونه قيوما أما ههنا فلا يمكن أن يقال إن ذاته توجب ذلك الحيز المعين لأن بتقدير أن لا يكون حاصلا في ذلك الحيز لم يلزم بطلان ذلك ولا عدمه فكان الحيز غنيا عنه وكان هو مفتقرا إلى ذلك الحيز فظهر الفرق والله أعلم
مخ ۲۹
الحجة الخامسة قوله تعالى ^ هل تعلم له سيما ^ قال ابن عباس رضي الله عنهما هل تعلم له مثلا ولو كان متحيزا لكان كل واحد من الجواهر مثلا
الحجة السادسة قوله تعالى
ﵟهو الله الخالق البارئ المصورﵞ
وجه الاستدلال به أنا بينا في سائر كتبنا أن الخالق في اللغة هو المقدر ولو كان تعالى جسما لكان متناهيا ولو كان متناهيا لكان مخصوصا بمقدار معين ولما وصف نفسه بكونه خالقا وجب أن يكون تعالى هو المقدار لجميع المقدرات بمقاديرها المخصوصة فإذا كان هو مقدار في ذاته بمقدار مخصوص لزم كونه مقدرا لنفسه وذلك محال وأيضا لو كان جسما لكان متناهيا وكل متناه فإنه محيط به حد أو حدود مختلفة وكل ما كان كذلك فهو مشكل وكل مشكل فله صورة فلو كان جسما لكان له صورة ثم إنه تعالى وصف نفسه بكونه مصورا فيلزم كونه مصورا لنفسه وذلك محال فيلزم أن يكون منزها عن الصورة والجسمية حتى لا يلزم هذا المحال
الحجة السابعة قوله تعالى
ﵟهو الأول والآخر والظاهر والباطنﵞ
وصف نفسه بكونه ظاهرا وباطنا ولو كان جسما لكان ظاهره غير باطنه فلم يكن الشيء الواحد موصوفا بأنه ظاهر وبأنه باطن لأنه على تقدير كونه جسما يكون الظاهر منه سطحه والباطن منه عمقه فلم يكن الشيء الواحد ظاهرا وباطنا وأيضا المفسرون قالوا أنه ظاهر بحسب الدلائل باطن بحسب أنه لا يدركه الحس ولا يصل إليه الخيال ولو كان جسما لما أمكن وصفه بأنه لا يدركه الحس ولا يصل إليه الخيال
مخ ۳۰
الحجة الثامنة قوله تعالى
ﵟولا يحيطون به علماﵞ
وقوله تعالى
ﵟلا تدركه الأبصارﵞ
وذلك يدل على كونه تعالى منزها عن المقدار والشكل والصورة وإلا لكان الإدراك والعلم محيطين به وذلك على خلاف هذين النصين فإن قيل لم لا يجوز أن يقال إنه وإن كان جسما لكنه جسم كبير فلهذا المعنى لا يحيط به الإدراك والعلم قلنا لو كان الأمر كذلك لصح أن يقال بأن علوم الخلق وأبصارهم لا تحيط بالسماوات ولا بالجبال ولا بالبحار ولا بالمفاوز فإن هذه الأشياء أجسام كبيرة والأبصار لا تحيط بأطرافها والعلوم لا تصل إلى تمام أجزائها ولو كان الأمر كذلك لما كان في تخصيص ذات الله تعالى بهذا الوصف فائدة
الحجة التاسعة قوله تعالى ^ وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعاني فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون ^ وسئل النبي صلى الله عليه وسلم أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه فأنزل الله تعالى هذه الآية ولو كان تعالى في السماء أو في العرش لما صح القول بأنه تعالى قريب من عباده
الحجة العاشرة لو كان تعالى في جهة فوق لكان سماء ولو كان سماء لكان مخلوقا لنفسه وذلك محال فكونه في جهة فوق محال وإنما قلنا أنه تعالى لو كان في جهة فوق لكان سماء لوجهين
الأول أن السماء مشتق من السمو وكل شيء سماك فهو سماء فهذا هو الإشتقاق الأصلي اللغوي وعرف القرآن أيضا متقرر عليه بدليل أنهم ذكروا في تفسير قوله تعالى
ﵟوينزل من السماء من جبال فيها من بردﵞ
أنه السحاب قالوا وتسمية السحاب بالسماء جائز لأنه حصل فيه معنى السمو وذكروا أيضا في تفسر قوله تعالى
ﵟوأنزلنا من السماء ماء طهوراﵞ
أنه من السحاب فثبت أن الإشتقاق اللغوي والعرف القرآني متطابقان على تسمية كل ما كان موصوفا بالسمو والعلو سماء
مخ ۳۱