ونحن إذا ما قصرنا أنفسنا هنا على مجال التفكير العلمي وحده، فسرعان ما يتبين لنا - بعد نظرة فاحصة - أن المجال يتفاوت محتواه تفاوتا بعيدا، فمن هذا المحتوى ما ليس ينطبق إلا على مجال ضيق في دنيا الأشياء، ومنه ما يتسع مدى تطبيقه حتى ليشمل كل شيء في الوجود؛ فقارن - مثلا - بين حقيقة تقال عن دودة القطن كيف تولد وتحيا وكيف تموت، أو حقيقة أخرى تقال عن جبل المقطم وأنواع صخوره، أو عن السد العالي وطريقة بنائه والأهداف التي يحققها، قارن أمثال هذه الحقائق بحقيقة عن سرعة الضوء أو حقيقة عن تركيب الذرة وما فيها من كهارب، أو عن الجاذبية وقانونها؛ فهذه كلها مقارنات تخرج منها بنتيجة، هي أن الحقائق العلمية ليست كلها من درجة واحدة، بل هي درجات تتصاعد من حيث التجريد والتعميم.
ولما كان لهاتين اللفظتين: «تجريد» و«تعميم» أهمية بالغة في تصورنا للأسس التي يقام عليها التفكير العلمي، فلنقف عندهما قليلا في هذا الموضع من سياق الحديث: أما التجريد فهو - كما هو ظاهر من المعنى المباشر لهذه الكلمة - خلع للصفات عن الأشياء التي تتصف بها، كما نخلع عن اللابس ثيابه التي تكسوه؛ فإذا كان هذا الذي بين يدي الآن قلما معينا خاصا، ربما استطعت تمييزه من سائر الأقلام بعلامات فردية أعرفها فيه، فإنه إذن شيء بذاته، محدد معلوم، له فرديته وخصوصيته، ولا بد أن يكون له في كل لحظة زمنية مكان معروف؛ لكن قلمي هذا ليس هو أول الأقلام ولا آخر الأقلام في هذه الدنيا التي تعج بأشيائها، بل هنالك غيره أقلام كثيرة، كانت وكائنة وسوف تكون؛ وهي إن اختلفت في ألوانها وأحجامها وطرائق صنعها فبينها جانب تشترك فيه، وإلا فما يصح لنا أن نشركها جميعا في اسم واحد يسميها، وهو الاسم «قلم»، فإذا ما بلغنا الدرجة التي نطلق عليها هذا الاسم الشامل برغم أوجه الاختلاف التي تميز بعضها، فلا بد أن نكون عندئذ قد اطرحنا بعقولنا عددا كبيرا من صفاتها الجزئية التي كانت تختلف فيها؛ لا بد أن نكون قد أطرحنا صفات اللون والحجم وطريقة الصنع، لنبقي على المهمة التي تؤديها، والتي هي موضع الاشتراك بينها، لكننا حين نخلع عن الأقلام المفردة صفاتها المميزة لها - على هذا النحو - فإنما نكون قد بعدنا عن الواقع الحسي كما يقع فعلا وكما تدركه حواسنا فعلا، إذ الواقع الحسي ليس فيه إلا أفراد ومفردات، وحواسنا من بصر وسمع ولمس وغير ذلك - ليس في وسعها إلا أن تتصل بتلك الأفراد أو المفردات؛ أما إذا خلعنا عن هذه الأشياء الجزئية الواقعية صفاتها التي تتعين بها، أعني إذا نحن «جردناها» مما كانت تكتسي به من تلك الصفات، بحيث لا يبقى لنا منها إلا فكرة، أو مفهوم ذهني، ليس هو مما يدركه بصر ولا سمع، بل هو مما تتصوره الأذهان - فإن أداتنا عندئذ في عملية الإدراك تكون هي «العقل» لا الحواس، برغم أن هذا العقل لم يدرك ما أدركه إلا مستندا إلى أقلام جزئية في عالم الواقع المحسوس.
ذلك هو «التجريد» الذي - إذا ما دخلت مجال التفكير العلمي - رأيته شرطا في كل فكرة علمية؛ فمعرفتنا لجزئية واحدة لا تكون علما؛ لأن الجزئية الواحدة وهي معزولة عما عداها لا تكون من قبيل القوانين العلمية العامة التي تشملها وتشمل غيرها من بنات جنسها، ولعلك قد لحظت في هذين السطرين الأخيرين كلمتي «معرفة» و«علم» - حين قلنا إن «معرفتنا» للجزئية الواحدة لا تكون «علما»، مما يبين لك أن المعرفة بالأشياء أوسع من العلم الخاص بها، فما كل ما «تعرفه» هو من قبيل العلوم، لكن كل حقيقة علمية ضرب من المعرفة، فلقد تعرف خصائص تميز أباك أو أخاك أو صديقك دون سائر الناس، فلا يكون ذلك هو ما نقصده بعلم النفس أو بغيره من علوم الإنسان، لأن هذه العلوم «تجرد» المعارف الجزئية من خصائصها الفردية، لتصل إلى فكرة تشملها جميعا، وها هنا تصبح الفكرة «علمية» ما دامت قد استندت بحق إلى ركائز من معارف جزئية أدركناها إدراكا صحيحا.
والفكرة المجردة إذا بلغناها، وجدناها بالضرورة فكرة «عامة» تصدق - لا على فرد واحد، أو موقف جزئي واحد، بل تصدق على مجموعة الأفراد أو مجموعة المواقف المتجانسة؛ وسترى في الصفحات التالية أن من أخص خصائص التفكير العلمي، وصوله إلى «قوانين» عامة نفهم الوقائع الجزئية على ضوئها؛ نعم إن العلم يبدأ بدراسة الحقائق الجزئية المفردة المحددة، غير أن هذه الحقائق لا تكون بذاتها علما؛ لأن العلم لا يكون إلا إذا كشفنا عن القوانين العامة التي تكون كل حقيقة من تلك الحقائق الجزئية تطبيقا أو تجسيدا لها؛ فأهمية الوقائع الجزئية هي أنها أول الطريق الذي يؤدي بنا إلى قوانين العلوم.
إن حقائق العالم الذي يحيط بنا هي في ظاهرها حقائق مفككة متفرقة، فقد لا ترى العين العابرة علاقة بين تلك السحابة السابحة في جو السماء، وهذا النهر السالك في مجراه، وحركة الريح التي نسمع حفيفها في أوراق الشجر، وحرارة الشمس التي نتقيها في ظل تلك الأوراق، هذه وغيرها قد تبدو متفرقة بعضها عن بعض أمام العين العابرة، حتى يتناولها تفكير منهجي فإذا هو يربط هذه المتفرقات في مجموعة متسقة، نطلق على كل مجموعة متسقة منها اسم علم من العلوم: فعلم الفلك - مثلا - مجموعة من قوانين، كل قانون منها يختصر وصفا لحركات الأجرام السماوية كما شوهدت في جزئياتها وتفصيلاتها؛ وعلم النبات مجموعة من قوانين، كل قانون منها تلخيص نعمم به خصائص لحظناها في أنواع النبات المختلفة؛ وعلم الاقتصاد هو مجموعة الأفكار العامة - أي القوانين - التي استخلصناها من مراقبة عمليات الإنتاج والتوزيع؛ وعلم النفس هو مجموعة القوانين العامة التي استخرجناها من أنماط السلوك التي رأيناها في أفراد الناس وتفاعلهم بعضهم مع بعض، وهكذا.
نعود فنقول: إن الجزئية الواحدة التي تصادفك في عالم الواقع، لا تكون علما، وإن تكن ملاحظتها وإجراء التجارب عليها هي أول طريقنا إلى العلم؛ بل إن تلك الجزئية الواحدة وهي بعد في عزلتها وانفرادها، لا يمكن «فهمها» إلا إذا أدركنا الروابط بينها وبين سواها، واستطعنا صياغة تلك الروابط فيما نسميه بقوانين العلم، فعندئذ فقط «نفهم» الجزئية الواحدة على ضوء القانون العلمي الذي يحتويها مع أشباهها، فإذا أمطرت السماء الآن، فإني أعرف أن ثمة قطرات من الماء ساقطة من السماء، بل ربما شاء لي خيالي أن أظن بهذا الماء الساقط مختلف الظنون من حيث مصدره وعلة سقوطه؛ حتى إذا ما انتهى بي التفكير العلمي إلى ربط هذا الماء الساقط بغيره من الظواهر المتصلة به: بدرجة الحرارة والرطوبة واتجاه الريح إلخ، «فهمت» ظاهرة المطر، ولم تعد مجالا لظنون الوهم أتخبط فيها.
فهمك لظاهرة ما معناه أن تجد الرابطة التي تربط بينها وبين ظواهر أخرى في قانون واحد؛ وإذا لم تجد القانون الذي يضمها مع أشباهها من الظواهر ظلت ظاهرة «غير مفهومة»؛ فالطبيب «يفهم» الظاهرة المرضية التي هو بصدد فحصها، إذا عرف في أي طائفة يضعها؛ والتاجر «يفهم» ارتفاع ثمن سلعة معينة أو انخفاضه، إذا وجد العلاقة بين تلك السلعة وبين حقائق أخرى تلحق بها، كمقدار ما نتج منها وما عرضته أسواق العالم وهكذا.
ولو عرفت ألوف الحقائق الجزئية عن الطبيعة دون أن تجد الروابط التي تسلكها في مجموعات من القوانين، فليست معرفتك هذه من العلم في شيء؛ فالقروي الذي يرى كسوف الشمس أو خسوف القمر لا يكون بمعرفته لهذه الجزئية الواحدة واحدا من علماء الفلك؛ لأنه يدرك تلك الحقيقة الجزئية وهي بمعزل عن سائر الحقائق المرتبطة بحدوثها، كوضع القمر بالنسبة إلى الأرض والشمس وما يستلزمه هذا الوضع بناء على قوانين الضوء؛ ومعرفة الحقيقة الجزئية الواحدة لا تساعدنا في التنبؤ بما سوف يحدث في لحظة مستقبلة، أما إذا عرفنا الروابط التي بين مختلف الأشياء، والتي نعممها فتصبح قانونا علميا؛ فحينئذ يمكن التنبؤ على وجه الدقة بما سوف يحدث ومتى يحدث وكيف يحدث إذا ما توافرت تلك الروابط في الظروف المعينة، على النحو الذي يحدده القانون العلمي لها.
وهذا الربط بين المتفرقات التي يتلازم حدوثها معا أس مكين من أسس التفكير العلمي؛ فإذا ترابطت عدة جوانب في مجموعة واحدة متلازمة في حدوثها، كدرجة الحرارة عند مريض، وطريقه تنفسه، ومقدار ضغط الدم عنده، وما إلى ذلك من الجوانب التي يتعقبها الطبيب الفاحص؛ فإنه يستطيع أن يستدل على بعضها من بعضها الآخر، وفقا للقانون العام الذي يجمعها معا؛ ولتلاحظ هنا جيدا، أن التفكير الخرافي بدوره يحاول مثل هذا الربط بين المتفرقات، كأن يربط بين أن ينعق غراب عند السفر، وأن يحدث للمسافر شيء من الخطر، أو أن يربط بين زيارة الأضرحة وشفاء المرضى، ففي حالة التفكير الخرافي، وفي حالة التفكير العلمي على حد سواء، نرى محاولة الربط بين الحوادث والأشياء ربطا يساعدنا على التنبؤ بالنتائج، لولا أن التفكير العلمي فيه ما ليس في التفكير الخرافي من دقة المشاهدات وتمحيص النتائج، على الوجه الذي سنفصل فيه القول بعد حين.
وأكرر هنا ما بدأت به هذه الفقرة الأولى من الحديث، وهو أن ما ليس يقبله العلم في مجاله، لغياب الشروط التي يقتضيها منهج التفكير العلمي - قد يكون مقبولا في مجالات أخرى، لكننا في هذه الصفحات معنيون بالعلم دون سواه. (2) وعلوم مختلفة
ناپیژندل شوی مخ