As-Sunnah An-Nabawiyyah Wahy by Abu Lubabah ibn Al-Tahir
السنة النبوية وحي - أبو لبابة بن الطاهر حسين
خپرندوی
مطبعة الملك فهد
ژانرونه
تمهيد:
صبُّ عنايتنا في هذا البحث على قضيّة واحدة هي إثبات أنّ السنّة الصحيحة التي توافرت فيها شروط القبول وحي من الله مبرّأ من الخطأ معصوم من التضارب والخلل لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ولن نتعرّض لتعريف السنّة ولا لبيان مكانتها من التشريع ولا لنسبتها من الكتاب ولا لحجّيتها ووجوب العمل بها وغيرها من المباحث إلا عند الضرورة القصوى وبما يخدم هدفنا من هذا البحث.
والسنّة التي نريد أن نثبت كونها وحيا تعني ما ثبتت نسبته إلى النبيّ ﷺ من أقواله وأفعاله وإقراراته، وهي التي أطلق عليها النبيّ ﵊ اسم "الهدي " فقال: "وأحسن الهدي هدي محمد" كما عبّر عنها الصحابة بالهدي سيرا على نهج الرسول القويم فقالوا: "وخير الهدي هدي محمّد ﷺ"، وعبّر عنها سلف الأمّة بالعلم (١) . ذلك أنّهم كانوا يفرّقون بين العلم والرأي فيقولون للسنّة علم ولما عداها رأي.
_________
(١) روى البخاريّ عن عبد الله بن مسعود قوله: "إنّ أحسن الحديث كتاب الله وأحسن الهدي هدي محمد" لاعتصام - باب الاقتداء سنن رسول الله (حديث ٧٣٠٩ فتح الباري١٣/٢٦٣. وقد عنون الخطيب البغداديّ في القرن الخامس كتابه حول كتابة السنّة النبويّة بقوله: "تقييد العلم"، "تحقيق يوسف العشّ - دار إحياء السنّة النبويّة - ط٢، ١٩٧٤م"، وانظر تسمية السلف السنّة علما، (فتح الباري ١٣/٣٠٤) .
1 / 1
السنّة النبويّة وحي من الله محفوظة كالقرآن الكريم
إعداد الدكتور أبولبابة الطاهر حسين
بسم الله الرحمن الرحيم
هل كلّ السنّة وحي؟
إلا أنّه قبل المضيّ قدما في دراسة الموضوع يعترضنا سؤال هامّ وهو: هل كلّ السنّة وحي؟
لقد ثبت بتتبّع سيرة النبيّ ﷺ العطرة وسنّته المطهّرة أنّه قد اجتهد في مسائل ونوازل عديدة لم ينزل عليه فيها وحي، بمقتضى ما فطر عليه من سلامة العقل وسداد النظر سواء كان ذلك:
أ - باستخدام القياس: كقياسه ﷺ ولادة الطفل الأسود من أبوين أبيضين على إنجاب الإبل الحمر الجمال الورق (١) بسبب الوراثة العرقيّة (٢)، وكقياسه وفاء البنت بنذر أمّها الحجّ، فماتت قبل أن تفي بنذرها، على وجوب قضاء الوارث دين مورّثه (٣) .
ب - أو باستعمال الرأي: ابتداء مثل اجتهاده ﷺ في غزوة بدر حيث نزل موضعا رأى أحد صحابته وهو الحباب بن المنذر الخزرجيّ ﵁ أنه غير ملائم عسكريّا، فسأله: "أمنزلا أنزلكه الله، ليس لنا أن نتقدّمه ولا أن نتأخّر عنه؟ أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ " فلمّا أعلمه ﵊ أنّه مجرّد اجتهاد لا دخل للوحي فيه، عرض عليه تغيير
_________
(١) البعير الأورق: هو البعير الأسود الذي يخالط سواده بياض كدخان الرمث [فقه اللغة وسرّ العربيّة، للثعالبيّ ١١٨ - مطبعة الاستقامة - القاهرة - بدون تاريخ] .
(٢) انظر حديث الأعرابيّ الذي أتى النبيّ فقال: "إنّ امرأتي ولدت غلاما أسود وإنّي قد أنكرته. . صحيح البخاريّ - الاعتصام بالكتاب والسنّة - باب من شبّه أصلا معلوما بأصل مبيّن وقد بيّن النبيّ حكمهما ليفهم السائل الحديث ٧٣١٤ - فتح الباري ١٣/ ٣٠٩.
(٣) انظر حديث المرأة التي جاءت إلى النبيّ فقالت: "إنّ أمي نذرت أن تحجّ فماتت قبل أن تحجّ. . صحيح البخاريّ - الاعتصام - باب من شبّه أصلا معلوما. . . حديث ٧٣١٥ فتح الباري ١٣/ ٣٠٩.
1 / 2
الموقع ونزل الرسول ﷺ على رأيه (١) .
ومثل اجتهاده في مصير أسرى بدر حيث رجّح ﵊ رأي أبي بكر الصدّيق القائل بأخذ الفداء، وكان ذلك قبل نزول الآية التي تحدّد حكم الأسرى، وهي قوله تعالى: ﴿فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا﴾ [محمد:٤] .
فهذه الاجتهادات في ظاهرها لا صلة لها بالوحي لكن إذا تبيّن لنا أنّ الله سبحانه لا يتركه وشأنه وإنّما يقرّه إذا أصاب وينبّهه إن أخطأ (٢)، أدركنا أنها وحي منزّل من الله تعالى ذلك أنّه تعالى لا يقرّ رسوله ﷺ على خطأ:
فمثلا في غزوة بني النضير (٣) أمر رسول الله ﷺ بقطع نخيلهم وتحريقها حتّى ييئسوا من وعد إخوانهم المنافقين بالنصرة، وحتّى يتمّ تعجيل استسلامهم فتحقن الدماء، ويعمّ الأمن، فنزل الوحي يؤيّد هذا العمل ويجعله بإذن الله وأمره وإرادته فقال تعالى: ﴿مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ﴾ [الحشر:٥] .
كما أنّ قبول الفداء من أسرى بدر تعقّبه القرآن معاتبا الرسول ﷺ
_________
(١) انظر سيرة ابن هشام ١/٦٢٠ [تحقيق السقّا، الأبياريّ، شلبيّ - ط٢ - ١٣٧٥ هـ /١٩٥٥م - مصطفى البابي الحلبيّ - القاهرة]، والسيرة النبويّة في ضوء القرآن والسنّة - محمد محمد أبو شهبة - ٢/١٥٧ [دار القلم - دمشق - ط٥ - ١٤١٩هـ/ ١٩٩٩م] .
(٢) انظر الحديث والمحدّثون - محمد محمد أبو زهو - ١٥ [دار الفكر العربيّ بدون بيان عدد الطبعة ولا تاريخها، ويبدو أنها مصوّرة عن الطبعة الأولى - ١٩٧٨هـ - بمصر] .
(٣) وقعت في شوّال سنة ٤ هـ.
1 / 3
والمسلمين على أخذهم الفداء من الأسرى، فقال تعالى: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [الأنفال:٦٧-٦٨] . وعلى ضوء هذه الثوابت يكون الرأي والاجتهاد منه ﵊ مصيبا لأنّه مسدّد بالوحي فيأخذ حكمه، وتكون الحقيقة التي لا جدال فيها هي أن الرسول ﷺ "لا يقع فيما يجتهد فيه خطأ أصلا" (١) . خطب عمر بن الخطّاب ﵁ يوما فقال: "يا أيها الناس! إنّ الرأي إنّما كان من رسول الله مصيبا لأنّ الله ﷿ يريه، وإنّما هو منّا الظنّ والتكلّف".
وبذلك يتبيّن لنا أنّ ثبوت الاجتهاد للنبيّ ﷺ لا يتعارض مع ما قرّره العلماء من أنّ اجتهاده وسائر عناصر سنّته من الوحي، اللهم إلا بعض قضايا معيشيّة كتأبير النخل ونحوه ممّا لا يتعلّق بالحلال والحرام والعقائد والمغيّبات، فهذه قد أجاب عنها النبيّ الكريم بنفسه كما هو ثابت في حديث رافع بن خديج الذي رواه مسلم: "إنّما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأي فأنا بشر" (٢)، فهذه تجارب يعيشها الرسول ﷺ بوصفه بشرا عاديّا كتلك التي يكابدها سائر الناس في حياتهم اليوميّة، فلا صلة لها بالوحي.
وقبل استعراض الأدلّة النقليّة والعقليّة على أنّ السنّة النبويّة وحي، لا بدّ
_________
(١) انظر فتح الباري ١٣/ ٣٠٥.
(٢) ٤/١٨٣٥ - ١٨٣٦ الحديث عدد ٢٣٦٢.
1 / 4
لنا أن نتعرّف ماهية الوحي؟ وأن نتحدّث عن إمكان حصوله؟ وإمكان اتّصال الله سبحانه بأنبيائه المصطفين من خلاله؟ وموقف أهل الإيمان من هذه الظاهرة؟ وموقف الملاحدة والدهريّين منها؟
ما الوحي؟ الوحي: لغة: يقول الراغب الأصفهانيّ في "مفردات القرآن": "أصل الوحي الإشارة السريعة، فقيل [للأمر السريع] أمر وحي" (١) . وهو أيضا "الإعلام في خفاء" (٢)، إذ هو خاص بمن يوجّه إليه هذا الإعلام بحيث يخفى عن غيره. وتكون هذه الإشارة السريعة، وهذا الإعلام الخفيّ: - بالكلام على سبيل الرمز والتعريض. - وبالصوت المجرّد عن التركيب. - وبالإشارة، والإيماء ببعض الجوارح. - وبالكتابة. فكلّ ما دللت به من كلام أو كتابة أو رسالة أو إشارة، فهو وحي. وعلى هذه المعاني حمل قوله تعالى عن زكريّا: ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾ [مريم:١١]، فقيل في تفسير "أوحى إليهم" رمز، وقيل أشار، وقيل كتب (٣) . وقد يطلق الوحي ويراد به الموحى به من باب إطلاق المصدر وإرادة اسم المفعول. _________ (١) صفحة ٨٥٨ [ط٢ - ١٤١٨هـ / ١٩٩٧م] . (٢) انظر فتح الباري لابن حجر العسقلانيّ ١/١٤. (٣) مفردات القرآن ٨٥٨.
ما الوحي؟ الوحي: لغة: يقول الراغب الأصفهانيّ في "مفردات القرآن": "أصل الوحي الإشارة السريعة، فقيل [للأمر السريع] أمر وحي" (١) . وهو أيضا "الإعلام في خفاء" (٢)، إذ هو خاص بمن يوجّه إليه هذا الإعلام بحيث يخفى عن غيره. وتكون هذه الإشارة السريعة، وهذا الإعلام الخفيّ: - بالكلام على سبيل الرمز والتعريض. - وبالصوت المجرّد عن التركيب. - وبالإشارة، والإيماء ببعض الجوارح. - وبالكتابة. فكلّ ما دللت به من كلام أو كتابة أو رسالة أو إشارة، فهو وحي. وعلى هذه المعاني حمل قوله تعالى عن زكريّا: ﴿فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا﴾ [مريم:١١]، فقيل في تفسير "أوحى إليهم" رمز، وقيل أشار، وقيل كتب (٣) . وقد يطلق الوحي ويراد به الموحى به من باب إطلاق المصدر وإرادة اسم المفعول. _________ (١) صفحة ٨٥٨ [ط٢ - ١٤١٨هـ / ١٩٩٧م] . (٢) انظر فتح الباري لابن حجر العسقلانيّ ١/١٤. (٣) مفردات القرآن ٨٥٨.
1 / 5
أمّا الوحي شرعًا: فهو الإعلام بالشرع، أو هو كلام الله المنزّل على أنبيائه (١)، سواء كان ذلك في اليقظة أو في المنام. فالله تعالى يعلم أنبياءه "ما يريد إبلاغه إليهم من الشرائع والأخبار بطريق خفيّ، بحيث يحصل عندهم علم ضروريّ قطعيّ بأنّ ذلك من عند الله جلّ شأنه. . فهو أخصّ من المعنى اللغويّ وفق مصدره وهو الله سبحانه، والموجّه إليهم وهم أنبياؤه الكرام" (٢) .
_________
(١) انظر فتح الباري ١/١٤ - ١٥.
(٢) الحديث والمحدّثون ١١.
أقسام الوحي الضرب الأول: الوحي ... أقسام الوحي: يقول الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء﴾ [الشورى:٥١] . فأضرب الوحي وأقسامه حسبما دلّت عليه هذه الآية الكريمة ثلاثة: الضرب الأوّل: الوحي: وهو الإيحاء والإلهام، والإلقاء في الروع والنفث فيه، ويعبّر النبيّ ﷺ عن ذلك بقوله: "إنّ روح القدس نفث في روعي". فهو إلقاء المعنى في قلب النبيّ ﷺ مع العلم اليقينيّ بأنّ ذلك من الله ﷿، وقد يكون هذا الإلهام: أ- في اليقظة. ب- أو في المنام: "ذلك أنّ أوّل ما يؤتى به الأنبياء في المنام، حتّى تهدأ قلوبهم، ثمّ ينزل الوحي بعد في اليقظة"، كما ذكر ذلك علقمة بن قيس صاحب عبد الله بن مسعود ﵁ (١) . _________ (١) فتح الباري ١/١٥.
أقسام الوحي الضرب الأول: الوحي ... أقسام الوحي: يقول الله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء﴾ [الشورى:٥١] . فأضرب الوحي وأقسامه حسبما دلّت عليه هذه الآية الكريمة ثلاثة: الضرب الأوّل: الوحي: وهو الإيحاء والإلهام، والإلقاء في الروع والنفث فيه، ويعبّر النبيّ ﷺ عن ذلك بقوله: "إنّ روح القدس نفث في روعي". فهو إلقاء المعنى في قلب النبيّ ﷺ مع العلم اليقينيّ بأنّ ذلك من الله ﷿، وقد يكون هذا الإلهام: أ- في اليقظة. ب- أو في المنام: "ذلك أنّ أوّل ما يؤتى به الأنبياء في المنام، حتّى تهدأ قلوبهم، ثمّ ينزل الوحي بعد في اليقظة"، كما ذكر ذلك علقمة بن قيس صاحب عبد الله بن مسعود ﵁ (١) . _________ (١) فتح الباري ١/١٥.
1 / 6
وروى البخاريّ من حديث عائشة ﵂: "كان أوّل ما بدئ به رسول الله ﷺ [من الوحي] الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح" (١) .
_________
(١) صحيح البخاريّ - التفسير - الحديث٤٩٥٣.
الضرب الثانيّ: الكلام من وراء حجاب: أي أنّ الله يكلّم النبيّ فيسمعه دون معاينة: ـ مثلما حصل لموسى ﵇ في بدء رسالته بجبل الطور ﴿وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى إِنِّي َأنَا َربُّكَ َفاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ِإنَّكَ ِبالْوَادِ الْمُقَدَّسِ ُطوًى﴾ [طه:٩-١٢] . وكما جاء ذلك في قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ ِ إلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي﴾ [الأعراف: ١٤٣] . ـ وكما حصل لنبينا محمد ﷺ ليلة المعراج فقد كلّمه ربّه وفرض الصلاة عليه وعلى أمّته وراجع ﵊ ربّه فيها على ما صرّحت به الأحاديث الصحيحة (١) . _________ (١) الحديث والمحدثون ١٢- ١٣.
الضرب الثالث: الوحي بواسطة الملك رسول الوحي: أي أنّ الله تعالى يرسل ملكًا - وملك الوحي هو جبريل ﵇ فيبلِّغ النبيّ ﷺ ما يريد الله أن يبلّغه إليه، وهذا مصداق لقوله ﷺ: "كان
الضرب الثانيّ: الكلام من وراء حجاب: أي أنّ الله يكلّم النبيّ فيسمعه دون معاينة: ـ مثلما حصل لموسى ﵇ في بدء رسالته بجبل الطور ﴿وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى إِنِّي َأنَا َربُّكَ َفاخْلَعْ نَعْلَيْكَ ِإنَّكَ ِبالْوَادِ الْمُقَدَّسِ ُطوًى﴾ [طه:٩-١٢] . وكما جاء ذلك في قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ ِ إلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي﴾ [الأعراف: ١٤٣] . ـ وكما حصل لنبينا محمد ﷺ ليلة المعراج فقد كلّمه ربّه وفرض الصلاة عليه وعلى أمّته وراجع ﵊ ربّه فيها على ما صرّحت به الأحاديث الصحيحة (١) . _________ (١) الحديث والمحدثون ١٢- ١٣.
الضرب الثالث: الوحي بواسطة الملك رسول الوحي: أي أنّ الله تعالى يرسل ملكًا - وملك الوحي هو جبريل ﵇ فيبلِّغ النبيّ ﷺ ما يريد الله أن يبلّغه إليه، وهذا مصداق لقوله ﷺ: "كان
1 / 7
الوحي يأتيني به جبريل فيلقيه عليّ كما يلقي الرجل على الرجل فذاك ينفلت منّي، ويأتيني في بيتي مثل صوت الجرس، حتى يخالط قلبي فذاك الذي لا ينفلت مني" (١) .
وهذا الملك تارة يراه النبي ﷺ فيكون رسولًا مُشاهَدًا تُرى ذاتُهُ ويُسْمَعُ كلامُهُ، وتارة لا يراه:
١- ففي حالة رؤية النبي ﷺ ملك الوحي وهو يلقي عليه الوحي:
أ- قد يراه على صورته الحقيقية التي خلقه الله عليها، وله ستمائة جناح، وهذا نادر، فقد ثبت في صحيح مسلم من حديث عائشة مرفوعًا: "لم أرَه - يعني جبريل - على صورته التي خلق عليها إلا مرتين" (٢)، وحدّدت السيدة عائشة ﵂ هاتين المرّتين بقولها: "مرّة عند سدرة المنتهى، ومرّة عند أجياد".
يقول النبي ﷺ: "جاورت في حراء فلمّا قضيت جواري هبطت فاستبطنت الوادي، فنوديت، فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وعن شمالي، فإذا هو جالس على عرش بين السماء والأرض" (٣)، وفي رواية: "على كرسيّ بين السماء والأرض وقد سدّ الأفق".
ب- وقد يراه متمثّلًا في صورة بشر في شكل أعرابيّ أو غيره، وكثيرًا ما كان يتقمّص صورة دحية الكلبي الصحابي الجليل الوسيم ﵁.
٢- وفي حالة عدم رؤية النبيّ ﷺ الملك وهو يوحي إليه ويبلّغه كلام
_________
(١) فتح الباري ١/٢٧.
(٢) فتح الباري ١/٣٢.
(٣) البخاري - التفسير - باب وربّك فكبّر - فتح الباري ٨/٥٤٧ الحديث رقم ٤٩٢٤ و٨/٥٨٦ الحديث رقم ٤٩٢٥ - وانظر بدء الوحي فتح الباري ١/٣٧ الحديث رقم ٤.
1 / 8
ربّه، فإنّه ﵊ يسمع عند قدومه:
أ- دويًا كدويّ النحل، كما جاء ذلك في حديث عمر ﵁: "كان رسول الله ﷺ إذا نزل الوحيُ يُسْمَعُ عند وجهِهِ كدويّ النحل" (١) .
ب - أو صلصلة شديدة كصلصلة الجرس: أي أنّه ﷺ يسمع حسيسًا كصوت وقوع الحديد بعضه على بعض. جاء في حديث عائشة أم المؤمنين أنّ الحارث بن هشام المخزومي ﵃ شقيق أبي جهل وكان من فضلاء الصحابة ﵃ سأل رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله! كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله ﷺ "أحيانًا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشدّه عليّ فيفصم عنّي وقد وعيْتُ عنه ما قال، وأحيانًا يتمثّل لي الملك رجلًا فيكلّمني فأعي ما يقول" (٢) .
ودويّ النحل لا يعارض صلصلة الجرس لأنّ سماع الدويّ بالنسبة إلى الحاضرين السامعين -كما في حديث عمر الآنف- أمّا الصلصلة فبالنسبة إلى مقام النبي ﷺ الذي شبَّه صوت الوحي بصلصلة الجرس.
ثم إنّ كلًا من الدويّ والصلصة إنّما يعلم كنههما ومصدرهما الله تعالى إلا أنّ آثارهما تبدو واضحة على رسول الله ﷺ ذلك أنّ حالة روحيّة غير عادية تعتريه لا يدرك الحاضرون إلا أماراتها الظاهرة كثقل بدنه وتفصّد
_________
(١) الحديث والمحدثون ١٣.
(٢) صحيح البخاري - كتاب بدء الوحي - الباب الثاني- الحديث رقم٢ فتح الباري ١/٢٥-٢٦.
1 / 9
جبينه عرقًا (١) ذلك أنّ النبي ﷺ كان يعالج من التنزيل شدة، كما جاء ذلك في حديث ابن عباس (٢) وقد علّل بعضهم هذه الشدة بقوله: "ليستجمع قلبه فيكون أوعى لما سمع" (٣) والحقيقة هي أنّ الوحي ثقيل يقول تعالى: ﴿لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا لْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ للَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الحشر: ٢١]، فإذا تصدّع الجبل فكيف ببدن ضعيف؟! تقول السيّدة عائشة ﵂ عن الرسول ﷺ وما يلقاه من الشدة عند نزول الوحي: "ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصّد عرقًا" (٤) .
_________
(١) الحديث والمحدثون ١٣.
(٢) انظر فتح الباري ١/٢٨.
(٣) انظر فتح الباري ١/٢٨.
(٤) البخاري - كتاب بدء الوحي - الباب٢- الحديث عدد٢- فتح الباري ١/٢٥ - ٢٦.
1 / 10
وحي الأنبياء لا تباين فيه:
والجدير بالملاحظة هو أنّ وحي الأنبياء واحد فلا اختلاف بين وحي هذا النبيّ ووحي هذا النبيّ، يقول تعالى: ﴿إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ َوأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا﴾ [النساء: ١٦٣] .
هل يكون الوحي للأنبياء فقط؟ وردت صيغة الوحي ومشتقاتها في القرآن الكريم في مواضع كثيرة وبدلالات عديدة، فبالإضافة إلى معاني الوحي إلى الأنبياء وردت عبارات تفيد أن هناك وحيًا لغير الأنبياء: ١ - فهناك وحي إلى بشر عاديين: أ- مثل الإيحاء للحواريين وإعلامهم بواسطة عيسى رسالة ربّهم إليهم ﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي﴾ [المائدة:١١١] . ب- ومثل الإيحاء لأمّ موسى ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ﴾ [القصص:٧] وهو بمعنى الإلهام. ج- ومثل إيحاء بعض المخلوقات لبعضهم كإيحاء شياطين الإنس والجن لبعضهم البعض - وهي الوسوسة -: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا
هل يكون الوحي للأنبياء فقط؟ وردت صيغة الوحي ومشتقاتها في القرآن الكريم في مواضع كثيرة وبدلالات عديدة، فبالإضافة إلى معاني الوحي إلى الأنبياء وردت عبارات تفيد أن هناك وحيًا لغير الأنبياء: ١ - فهناك وحي إلى بشر عاديين: أ- مثل الإيحاء للحواريين وإعلامهم بواسطة عيسى رسالة ربّهم إليهم ﴿وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي﴾ [المائدة:١١١] . ب- ومثل الإيحاء لأمّ موسى ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ﴾ [القصص:٧] وهو بمعنى الإلهام. ج- ومثل إيحاء بعض المخلوقات لبعضهم كإيحاء شياطين الإنس والجن لبعضهم البعض - وهي الوسوسة -: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا
1 / 11
شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾ [الأنعام:١١٢]، ﴿وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ﴾ [الأنعام:١٢١]، ويقول الرسول ﷺ: "وإن للشيطان للمّة" (١) .
د- وكالإيحاء للأمم بواسطة الأنبياء ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ﴾ [الأنبياء:٧٣] .
٢ - وهناك وحي لغير الإنسان: بمعنى الهداية والتسخير، كقوله تعالى: ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا﴾ [النحل:٦٨]، وقوله تعالى: ﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا﴾ [فصّلت:١٢] .
_________
(١) مفردات ألفاظ القرآن - الراغب الأصفهاني ص ٨٥٨.
ظاهرة الوحي وإمكان وقوعها: إنّ كلّ من آمن بوجود الله تعالى وكمال قدرته آمن بالوحي وإمكان وقوعه بوصفه جانبًا من جوانب التدبير الإلهي ورعايته للخلق ورحمته بهم، فالعقل السليم يقرّ بإمكان وقوع الوحي، كما يقرّ أنّ النبوّة اصطفاء واجتباء لصفوة من الخلق حمّلهم الله مسؤولية الرسالة وهداية الخليقة فأوحى إليهم، وليست جانبًا من المعاناة والرياضة النفسيّة والروحيّة التي تمكّن من يكابدها من الحكماء والفلاسفة والمفكّرين الوصول إليها.
ظاهرة الوحي وإمكان وقوعها: إنّ كلّ من آمن بوجود الله تعالى وكمال قدرته آمن بالوحي وإمكان وقوعه بوصفه جانبًا من جوانب التدبير الإلهي ورعايته للخلق ورحمته بهم، فالعقل السليم يقرّ بإمكان وقوع الوحي، كما يقرّ أنّ النبوّة اصطفاء واجتباء لصفوة من الخلق حمّلهم الله مسؤولية الرسالة وهداية الخليقة فأوحى إليهم، وليست جانبًا من المعاناة والرياضة النفسيّة والروحيّة التي تمكّن من يكابدها من الحكماء والفلاسفة والمفكّرين الوصول إليها.
1 / 12
إلا أنّ الملاحدة والدهريين قديمًا وحديثًا ينكرون النبوّة ويكفرون بالوحي ﴿وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ﴾ [الجاثية:٢٤] .
كما أنّ الفلسفة الوضعية الحديثة في القرن التاسع عشر التي يتزعّمها الفيلسوف الفرنسي أوقيست كونت Auguste Comte [١٧٩٨-١٨٥٧م] ترى "أنّ البحث عن العلل الأولى أو الغائيّة بحث لا معنى له ولا طائل من ورائه" (١) ذلك أنّ هذا المذهب يعد "المعرفة الصحيحة هي المعرفة المبنيّة على الواقع والتجربة، وأنّ العلوم التجريبيّة هي التي تحقّق المثل الأعلى لليقين"، والوضعيّة لا تعترف بإله متعالٍ فردٍ صمدٍ متفرّد بالعظمة والجلال وإنّما تعد الديانة هي ديانة الإنسانية (٢) والإله هو الإنسان.
وهؤلاء الماديّون القدامى والمحدثون يمثّلون الضلال ويصدرون عن الظن الذي لا يغني عن الحقّ شيئًا، ذلك أنّ طرق المعرفة ووسائلها ممثّلة في العقل والحسّ والتجربة والأخبار الصحيحة المتناقلة عن الآباء والأجداد لا يمكنها بحال الوصول إلى الحقيقة المطلقة، فأين لهذا الحسّ والعقل والتجربة والأخبار التي لا يكون مصدرها الوحي، الوصول إلى معرفة عالم الغيب؟ بل أنّى لهذه الوسائل مجتمعة أن تتوصّل إلى معرفة وظيفة الإنسان الحقيقية في الحياة؟ وما ينتظره بعد الممات؟!
_________
(١) معجم المصطلحات والشواهد الفلسفية ٤٨٨ - جلال الدين سعد - دار الجنوب للنشر- ١٩٩٨ - تونس.
(٢) المصدر السابق ٤٧٧.
1 / 13
إنّ العقل يسلّم بمحدوديّة معارفه وانحصارها في عالم الشهادة، أمّا عالم الغيب فلا سبيل إلى معرفته والإلمام بأسراره وخصائصه إلا بالوحي، ومن هنا أدركت العقول الصحيحة أنّ الإنسان في حاجة ماسّة إلى الوحي الإلهي للوصول إلى المعرفة الصحيحة حول الكون وخالقه والإنسان ودوره في التعمير وخلافة الله في الأرض ومصيره في الآخرة. والإحساس بالحاجة إلى الوحي ليس فيه غمط للعقل والحسّ ودورهما في المعرفة، ذلك أنّ الوحي يهدي هذه الوسائل ويصحّح مسارها ويرشدها إلى الحقائق التي لا سبيل أن يصل إليها العقل والحسّ بمفردهما.
الفيلسوف ابن الطفيل يثبت أن لا مناص من النبوّة والوحي لإرشاد الخليقة إلى الحقّ (١):
كتب الفيلسوف ابن الطفيل في القرن السادس للهجرة قصّته الشهيرة "حيّ بن يقظان" هذا الطفل الذي رمت به الأمواج في جزيرة مهجورة من جزائر الهند التي تحت خط الاستواء، فتبنّته غزالة فكانت له كأمّه ونما وكبر وقد وهبه الله ذكاءً وقّادًا فعرف كيف يقوم بحاجات نفسه واستطاع أن يتحصّل بفطرته السليمة وملاحظاته الفاحصة وتفكيره الحادّ علمًا غزيرًا وأن يدرك بنفسه أرفع الحقائق الطبيعيّة وما وراء الطبيعة فعرف الله والعالم ونال السعادة المتّصلة الغامرة التي لا ينالها إلا العارفون بالله والعالمون بحقائق الكون الفسيح، وعند التقائه "أبسال" الرجل التقيّ الذي قرّر اعتزال
_________
(١) هو أبوبكر محمد بن عبد الملك بن طفيل القيسي الأندلسي ولد قبل سنة ٥٠٦هـ وتوفي سنة ٥٨١هـ[١١٨٥-١١٨٦م] .
1 / 14
الناس والفرار بدينه من جزيرة مجاورة، علّمه الكلام، فعلم منه حقائق الوجود ووجد في الطريق الفلسفي الذي سلكه حيّ بن يقظان تعليلًا علويًّا للدين الذي يعتقده، وتفسيرًا سليمًا لكلّ الأديان، واستطاع حيّ بن يقظان إقناع "أبسال" أن يحمله إلى جزيرته التي هجرها ليلتقي فيها ملكها التقيّ "سلامان" صديق "أبسال" الذي يرى خلافًا لأبسال وجوب ملازمة الجماعة وترك العزلة.
وبالتقائهم حاول حيّ أن يكشف لأهل الجزيرة وخاصّتها بطريقته العقليّة والإشراقيّة الحقائق العليا التي وصل إليها فلم يوفّق، وأدرك حيّ وصديقه أبسال أنّ من أراد أن يعلّم الناس حقائق الوجود ويؤثّر في أفهامهم الغليظة ويُلِين إرادتهم المستعصية، فلا مفرّ له من أن يصوغ آراءه بلغة الأديان المنزّلة على الرسل. فابن الطفيل أراد أن يبيّن أنّه في وسع الإنسان أن يرتقي بنفسه وبفطرته السليمة من المحسوس إلى المعقول إلى الله بحيث يستطيع الوصول إلى معرفة العالم ومعرفة الخالق، إلا أنّ هذا الإنسان سواءً كان فيلسوفًا أو مفكّرًا أو عالمًا وإن وصل إلى معرفة الحقائق العليا حول الإنسان والكون والخالق سبحانه، فإنّه لا يُحْسِنُ إبلاغ هذه الحقائق إلى عامّة الناس بل إنه لا يستطيع إقناع حتى الخاصّة منهم، فالسبيل الوحيد لإيصال الحقائق الكونيّة للخليقة هو الوحي الإلهي عن طريق من يجتبيهم الله تعالى من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام (١) .
_________
(١) انظر ذخائر العرب ٨ - حيّ بن يقظان لابن سينا وابن الطفيل والسهرورديّ ص١-١١،ص ٢٠-٣٢، تحقيق وتعليق أحمد أمين - ط ٣ -١٩٦٦، دار المعارف - بمصر.
1 / 15
فالوحي ظاهرة ممكنة الحدوث وإنّ تواتر الرسالات السماويّة إلى جانب الكثير من الدراسات العقلية الجادّة التي توصّلت إلى ضرورة الوحي، حتى إن المعتزلة وهم ممّن مجّد العقل وقدّمه، عدّوا الوحي والنبوّة واجبًا يقتضيه العقل نفسه، كلّ ذلك يثبت حقيقة الوحي ولا يمكن بحال أن يغني العقل عن النبوّة والرسالة. وطالما أنّ الإنسان محاسب مجازى على أعماله فإنّ مبعث الرسل للشعوب والأمم وللخليقة أجمعين يعدّ واجبا ﴿لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النساء:١٦٥]، كما يعدُّ الوحي حقيقة لا ينكرها إلا متفلّت من ضوابط العقل والحسّ وثوابت النقل وكلّ سبل المعرفة وتحصيل العلم. .
وحينما نثبت الوحي نثبت علويّته فهو من الله، ونثبت صدقه فهو حقّ محض لا يأتيه الباطل، فكلّ ما أخبر به الوحي واقع وصدق وحقّ لا يتخلّف، يقول عبد الله بن عبّاس حول قول الله تعالى مخاطبًا اليهود المخادعين: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِندُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ [الجمعة:٦] . وحول قوله تعالى في شأن المجادلين في شأن عيسى ﵇ بعد أن بيّن القرآن وجه الحقّ فيه: ﴿فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ﴾ [آل عمران:٦١] (١): "لو تمنى اليهود الموت لماتوا، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله ﷺ لرجعوا، لا
_________
(١) والمباهلة هي الدعاء باللعنة على الكاذب المفتري [التفسير الواضح الميسر - الشيخ محمد الصابوني - ص ١٢٨ - ط١ - ١٤٢٢هـ - ٢٠٠١م - مؤسّسة الريّان للطباعة والنشر بيروت] .
1 / 16
يجدون أهلًا ولا مالًا " (١) .
والأنبياء عصمهم الله من الخطإ في تلقّي الوحي وفي إبلاغه، وهم لا يملكون من أمر الوحي شيئًا فهم مبلِّغون رسالات ربّهم بدون تبديل أو تغيير.
وإذا ثبت لدينا إمكانية الوحي وتحقّقت هذه الظاهرة الربّانية فهل السنة النبويّة الصحيحة وحي من الله؟
لإثبات ذلك سوف نبحث عن أدلّة من كتاب الله الذي هو وحي من الله، ثمّ من السنّة النبويّة الصحيحة، كما سنتتبّع جملة من الأخبار الغيبيّة التي أخبر عنها الرسول ﷺ وندرس مدى تحقّقها ومصداقها فيما بعد حتى نعرف إن كان مصدرها الوحي من الله، وكذلك سندرس جملة من الأحاديث التي تتناول مسائل علميّة معقّدة ونبحث عن الإعجاز العلمي فيها فإذا تحقّق ذلك كلّه أدركنا بما لا يدع مجالًا للشك أنّ السنّة النبويّة وحي من الله جلّت قدرته.
_________
(١) شرح صحيح البخاريّ، فتح الباري - كتاب التفسير - باب "كلا لئن لم ينته" - ٨/٥٩٥ - الحديث رقم ٤٩٥٠.
الدليل من القرآن الكريم على أن السنة وحي: روى الإمام البخاري في جامعه بسنده الصحيح إلى أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: "ما من الأنبياء نبيّ إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنّما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إلىّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة" (١) . _________ (١) صحيح البخاري - الاعتصام - باب قول النبي (بعثت بجوامع الكلم - فتح الباري ١٣/٢٦١ - حديث رقم ٧٢٧٤.
الدليل من القرآن الكريم على أن السنة وحي: روى الإمام البخاري في جامعه بسنده الصحيح إلى أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: "ما من الأنبياء نبيّ إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنّما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إلىّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة" (١) . _________ (١) صحيح البخاري - الاعتصام - باب قول النبي (بعثت بجوامع الكلم - فتح الباري ١٣/٢٦١ - حديث رقم ٧٢٧٤.
1 / 17
فالرسول ﷺ يبين في هذا الحديث أن معجزته الكبرى هي الوحي، والوحي لا ينحصر في القرآن الكريم الذي هو "أعظم المعجزات وأفْيَدُها وأدومها لاشتماله على الدعوة والحجّة ودوام الانتفاع به إلى آخر الدهر" (١) . وإنّما يدخل ضمنه بيان القرآن وشرحه الذي أجراه الله على لسان نبيّه في سنته المطهّرة وقد وردت آيات كثيرة تثبت هذا المعنى من ذلك:
١ـ قوله تعالى: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ [القيامة:١٦-١٩] .
فالله يطمئن رسولهصلى الله عليه وسلم في هذه الآيات ويعده -ووعده الحق- بأنّه سيجمع القرآن في صدره فيحفظه دون أن يتفلّت منه شيء ويردّده متى شاء بكلّ يسر وسيعلّمه قراءته كما نزل، وقطع سبحانه بأنه المتكفّل ببيانه، ويفسّر ابن عباس قوله تعالى: ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ بقوله: "علينا أن نبيّنه بلسانك"وفي رواية: "على لسانك" (٢) .
وعبارة "بيانه" في قوله تعالى: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ جنس مضاف، فيعمّ جميع أصناف البيان المتعلّقة بالقرآن الكريم من إظهاره وتبيين أحكامه وما يتعلّق بها من تخصيص وتقييد ونسخ وغير ذلك (٣) . ونظرًا إلى أنّ السنة هي التي بيّنت الغامض وفصّلت المجمل ووضّحت المشكل وفسّرت المبهم وقيّدت المطلق وخصّصت العام وحدّدت المنسوخ فهي المراد بقوله تعالى:
_________
(١) فتح الباري ١٣/٢٦٢.
(٢) صحيح البخاري - التفسير- باب فإذا قرأناه فاتبع قرآنه حديث ٤٩٢٩ فتح الباري ٨/٥٥٠.
(٣) انظر فتح الباري ٨/٥٥١.
1 / 18
﴿إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ فهي وحي من الله.
٢ - وكذلك قوله تعالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ﴾ [آل عمران:١٦٤] . إن فُسِّرَت الحكمة بالعقل والإتقان والصواب في القول والعمل (١) .
وفسّرها ابن عباس ﵁ "بعلم القرآن ناسخه ومنسوخه محكمه ومتشابهه " وفسّرت كذلك بفهم حقائق القرآن (٢)، وهي معانٍ تنطبق على السنة ولا تخرج عن دائرتها فإنّ العديد من العلماء فسّروها بالسنة بكلّ وضوح فقد شرحها كل من قتادة بن دعامة السدوسي [ت١٣١هـ] وعبد الملك بن جريج [ت١٤٩هـ] بالسنة (٣) وشرحها ابن جرير الطبري بقوله "وهي السنن التي علّمكموها رسول الله ﷺ وسنّها لكم " (٤) .
والحكمة وردت في القرآن العزيز مقرونة بالكتاب في مواطن عديدة، وممن بسط القول في شرحها وعلى أنّها السنة المطهرة الإمام محمد بن إدريس الشافعي ﵀ فقال في رسالته: " سمعت من أرضى من أهل
_________
(١) انظر البحر المحيط - محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيّان الأندلسي الغرناطي الحياني الشهير بأبي حيّان ٢/ ٣٢٠،٤٦٣.
(٢) مفردات القرآن للراغب ٢٥٠.
(٣) جامع البيان عن تأويل القرآن - أبو جعفر محمد بن جرير الطبري ١/٥٥٧ /٣/٢٧٤. [ط٣ - ١٣٨٨هـ/١٩٦٨م - مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر] .
(٤) المصدر السابق ٢/٤٨٣.
1 / 19
العلم بالقرآن يقول: الحكمة سنّة رسول الله ﷺ وهذا يشبه ما قال والله أعلم ". ويعلل ذلك بقوله: "لأنّ القرآن ذكر وأتبعته الحكمة، وذكر الله مَنَّه على خلقه بتعليمهم الكتاب والحكمة فلم يجُز – والله أعلم – أن يقال: الحكمة ها هنا إلا سنّة رسول الله ﷺ " (١) . ويبسط الشيخ مصطفى السباعي ﵀ القول في دليل الشافعي فيقول:
١- إن الله عطف الحكمة على الكتاب، وذلك يقتضي المغايرة، ولا يصحّ أن تكون غير السنة.
٢- لأنّ الله ذكرها في معرض المنّة على المؤمنين، ولا يمنّ الله إلا بما هو حقّ وصواب.
٣- وبما أن القرآن واجب الاتباع فالمعطوف عليه وهو الحكمة واجبة الاتباع.
٤- وبما أنّ الله لم يوجب علينا إلا اتباع الكتاب والسنة، فتعيّن أن تكون السنة هي ما صدر عن الرسول ﷺ من أقوال وأحكام في معرض التشريع (٢) . فهذا دليل قرآني على أنّ السنّة وحي أنزلها الله على قلب رسوله كما أنزل القرآن: ﴿وَأَنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ [النساء:١١٣] .
٣ - ومن الأدلة القرآنية على أنّ السنة وحي قوله تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ
_________
(١) الرسالة للإمام الشافعي ص ٨٦ [ط١ - ١٤٠٨هـ /١٩٨٨م، الناشر مركز الأهرام للترجمة والنشر - القاهرة] .
(٢) السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي - مصطفى بن حسين السباعي ص ٥١، [ط٤ - ١٤٠٥هـ/١٩٨٥م المكتب الإسلامي - بيروت] .
1 / 20