هذا هو الغدير الرقراق كصفحة المرآة
يسبح فيه خيال الصفصافة السوداء حيث تئن الريح
ألا فلنحلم يا حبيبتي فتلك ساعتنا
فالكون يلفه السكون ويهفو به الحنان
كأنما تسلسل اللانهاية المشرقة ألوانها
ألا إنها الساعة المنتظرة!!
وليست أشعار ڤيرلين كلها بهذه البساطة، نعم إن منها ما يعد من الأغاني الشعبية، ولكنه أيضا كان شاعرا رمزيا عميقا، ومن الواضح أن ڤيرلين تأثر ببودلير إلى حد ما، فقد أسلفنا القول إن بودلير سبقه بثلاثة وعشرين عاما، ولعل الجانب الرمزي في بودلير هو الذي استهوى ڤيرلين، ولعله الجانب الشهواني، بيد أن الفرق بين الرجلين كان بعيدا جدا، فهما يختلفان في الطبع وفي النظرة إلى المرأة، فقد كان لڤيرلين طبع لين، ونفس رقيقة رغم مزاجه الحاد، ثم إنه كان يحب المرأة حبا أقرب إلى الروحانية منه إلى الشهوة المجردة ولم تفسد المرأة حياته ولكنه الذي أفسد حياتها، ولكن بودلير كان شهوانيا إلى حد بعيد، وكان ذا فلسفة خاصة، فقد رمى القدر في أحضانه بنسوة يستمرئن متعة الجسد، فراح ينشد من وراء فلسفته «حواء» أخرى لا تتصل بطريدة الجنة، لقد كان بودلير ضحية المرأة أما ڤيرلين فكان ضحية الخمر!!
إن أهمية شعر ڤيرلين في موسيقاه، تلك التي وصفها النقاد بالموسيقى الموزارية نسبة لموزار الموسيقي الألماني العظيم، فڤيرلين من هذه الناحية من طائفة ڤيلون وهايني وإدجار ألن پو، ولكنه زاد عليهم تلك اللغة البارعة التي استحدثها في شعره، فهي لغة لها أهمية موسيقاه، لقد سكب فيها كل ما اضطرم به قلبه من الألم والحماسة والحب والقوة، وكل ما اضطرب بين جوانحه من الأحلام والكآبة والمرح، ويجدر بي القول قبل أن أختم هذه الدراسة: إن ڤيرلين لم يعش خامل الذكر في جيله، ولا منكور الأثر، فقد رأى بعينه تألق نجمه في عالم الأدب، وشهد أشعاره مترجمة إلى غير لغة واحدة، وسمع أغاريده تملأ أفواه الشعب الفرنسي، كما سمع الكثير من إعجاب أعظم كتاب جيله شأنا وأخطرهم رأيا، وكان الاعتراف بمكانته من المدرسة الرمزية الحديثة أمرا مسلما به، ولكن أملا واحدا من آماله الكثيرة الضائعة لم يتحقق، فأضاف إلى عذابه الروحي وشقائه المادي شقاء آخر وعذابا جديدا ظل يحز في قلبه حتى وقف عن ضرباته؛ فقد دفعه بؤسه وعار علاقته برامبو أن يخلص منهما ويمحوهما بترشيح نفسه «للأكاديمي فرنسيز» ويشير بعض النقاد إلى أسباب أخرى ترجع إلى غروره في أيامه الأخيرة واعتداده بنفسه، ولكن من المحقق أنه كان يطمح إلى الظفر بقوة الاحترام وإلى مكافأة الأكاديمية الضئيلة لينعم بالراحة بين دنان الخمر، وكان يرى في تحقيق هذا الأمل مجدا خطيرا يتوج حياته بالخلود، وقد وصف النقاد ذلك بأنه «كوميديا خطيرة» كما عابوا عليه طموحه لذلك «القبر المزخرف البغيض الذي يئد القريحة ويطفئ النبوغ»، ولكن الزمن حقق بعد مماته ما عجز عنه في حياته فرفعه إلى مصاف العبقريين وكتب اسمه في ثبت الخالدين.
وحسبنا أن نختم هذا الفصل بهذه الآية لأناتول فرانس نتوج بها سيرة ڤيرلين قال:
أناتول فرانس
ناپیژندل شوی مخ