كان يجري كل ذلك والعروس الجميلة تنظر بعينين كئيبتين إلى هذا المشهد مثلما ينظر الأسير اليائس إلى جدران سجنه السوداء. وتتلفت بين الآونة والأخرى نحو زاوية من زوايا تلك القاعة حيث جلس فتى في العشرين من عمره منفردا عن الناس المغبوطين انفراد الطائر الجريح عن سربه، مكبلا زنديه على صدره كأنه يحول بهما بين قلبه والفرار محدقا بشيء غير منظور في فضاء تلك القاعة كأن ذاته المعنوية قد انفصلت عن ذاته الحسية وسبحت في الخلاء متبعة أشباح الدجى.
انتصف الليل وتعاظمت غبطة الجماعة حتى صارت ثورة، واختمرت أدمغتهم حتى تلجلجت ألسنتهم، فقام العريس من مكانه وهو كهل خشن المظاهر وقد تغلب السكر على حواسه وطاف يتكلف اللطف والرقة بين الناس.
في تلك الدقيقة أومأت العروس إلى صبية أن تقترب منها فاقتربت وجلست بجانبها وبعد أن تلفتت العروس إلى كل ناحية تلفت جازع يريد أن يفشي سرا خفيا هائلا لزت إلى الصبية وهمست في أذنها هذه الكلمات بصوت مرتعش: «أستحلفك يا رفيقتي بالعواطف التي ضمت نفسينا مذ كنا صغيرتين، أستحلفك بكل ما هو عزيز لديك في هذه الحياة، أستحلفك بمخبآت صدرك، استحلفك بالحب الذي يلامس أرواحنا ويجعلها شعاعا، أستحلفك بأفراح قلبك وأوجاع قلبي أن تذهبي الآن إلى سليم وتطلبي إليه أن ينزل خفية إلى الحديقة وينتظرني هناك بين أشجار الصفصاف، تضرعي عني يا سوسان حتى يجيب طلبي، ذكريه بالأيام الغابرة، توسلي إليه باسم الحب، قولي له هي تعسة عمياء، قولي هي مائتة تريد أن تفتح قلبها أمامك قبل أن يكتنفها الظلام، قولي له هي هالكة شقية تريد أن ترى نور عينيك قبل أن تختطفها نار الجحيم، قولي له هي خاطئة تريد أن تعترف بذنوبها وتلتمس عفوك، أسرعي إليه وابتهلي عني أمامه ولا تخافي مراقبة هؤلاء الخنازير لأن الخمور قد سدت آذانهم وأعمت بصائرهم.»
فقامت سوسان من جانب العروس وجلست بقرب سليم الكئيب المنفرد وحده وأخذت تستعطفه هامسة في أذنه كلمات رفيقتها ودلائل الود والإخلاص بادية على ملامحها وهو منحني الرأس يسمع ولا يجيب ببنت شفة، حتى إذا ما انتهت من كلامها نظرت إليها نظرة ظامئ يرى الكأس في قبة الفلك وبصوت منخفض تخاله آتيا من أعماق الأرض أجابها قائلا: «سوف أنتظرها في الحديقة بين أشجار الصفصاف.»
قال هذه الكلمات وقام من مكانه وخرج إلى الحديقة ولم تمض بضع دقائق حتى قامت العروس واتبعته مختلسة خطواتها بين رجال فتنتهم ابنة الكروم ونساء أشغلت قلوبهن صبابة الفتيان. ولما بلغت الحديقة الموشاة بأثواب الليل أسرعت ملتفتة إلى الوراء، ومثل غزال جازع هارب إلى كناسه من الذئاب الخاطفة تقدمت نحو أشجار الصفصاف حيث وقف ذلك الفتى، ولما رأت نفسها بجانبه ترامت عليه وطوقت عنقه بزنديها وأحدقت بعينيه ثم قالت والألفاظ تتسارع من شفتيها بسرعة الدموع من أجفانها: «اسمعني يا حبيبي، اسمعنى جيدا، ها قد ندمت على جهالتي وتسرعي، قد ندمت يا سليم حتى سحقت الندامة كبدي، أنا أحبك ولا أحب سواك وسوف أحبك إلى منتهى العمر، قد أخبروني بأنك سلوتني وهجرتني وتعلقت بهوى غيري أخبروني بكل ذلك يا سليم وسمموا قلبي بألسنتهم ومزقوا صدري بأظافرهم وملأوا نفسي بكذبهم. قد أخبرتني نجيبة بأنك سلوتني وكرهتني وانشغفت بحبها، قد ظلمتني تلك الخبيثة واحتالت على عواطفي لكي أرضى بنسيبها عريسا فرضيته يا سليم ولا عريس لي سواك. والآن، والآن قد رفع الغشاء عن عيني فجئت إليك، قد خرجت من هذا المنزل ولن أعود إليه، قد جئت لكي أضمك بذراعي ولا توجد قوة في هذا العالم ترجعني إلى ذراعي الرجل الذي زففت إليه كرها ويأسا، قد تركت العريس الذي اختاره لي الكذب بعلا، وتركت الوالد الذي أقامه القدر وليا، وتركت الزهور التي ضفرها الكاهن إكليلا، وتركت الشرائع التي حبكتها التقاليد قيودا، قد تركت كل شيء في هذا المنزل المملوء بالسكر والخلاعة وأتيت لأتبعك إلى أرض بعيدة، إلى أقاصي العالم، إلى مكامن الجن، إلى قبضة الموت. تعال نسرع يا سليم من هذا المكان متسترين بوشاح الليل، هلم نسير إلى الساحل ونركب سفينة تحملنا إلى بلاد بعيدة مجهولة، تعال نمشي الآن فلا يجيء الفجر إلا ونحن في مأمن من أيدي العدو. انظر، انظر هذه الحلي الذهبية، وهذه القلائد والخواتم الثمينة، وهذه الجواهر النفيسة، فهي تكفل مستقبلنا وتكفي لنعيش بأثمانها كالأمراء، لماذا لا تتكلم يا سليم؟ لماذا لا تنظر إلي؟ لماذا لا تقبلني؟ أسامع أنت صراخ قلبي وعويل نفسى؟ ألا تصدق بأني هجرت عريسي وأبي وأمي وجئت بأثواب العرس لكي أهرب معك؟ تكلم أو هلم نسرع فهذه الدقائق أثمن من حبات الألماس وأغلى من تيجان الملوك.»
كانت العروس تتكلم وفي صوتها نغمة أعذب من همس الحياة وأمر من عويل الموت وألطف من حفيف الأجنحة وأعمق من أنين الأمواج، نغمة تتموج نبضاتها بين اليأس والأمل، واللذة والألم، والفرح والشقاء ، وكل ما في صدر الامرأة من الميول والعواطف.
أما الشاب فكان يسمع وفي داخل نفسه يتصارع الحب والشرف، ذلك الحب الذي يجعل الوعر سهلا، والظلام نورا، وذلك الشرف الذي يقف أمام النفس، ويثنيها عن رغائبها ومنازعها. ذلك الحب الذي ينزله الله على القلب، وذلك الشرف الذي تسكبه تقاليد البشر في الدماغ.
وبعد أحيان خرساء هائلة شبيهة بالأجيال المظلمة التي تتمايل فيها الأمم بين النهوض والاضمحلال، رفع الشاب رأسه وقد تغلب شرف نفسه على ميلها وحول عينيه عن الصبية الخائفة المترقبة وقال بهدوء: «ارجعي أيتها الامرأة إلى ذراعي عريسك فقد قضي الأمر ومحت اليقظة ما صورته الأحلام. أسرعي إلى أحضان المسرات قبل أن تراك أعين الرقباء فيقول الناس قد خانت عريسها في ليلة العرس مثلما خانت حبيبها أيام البعاد.»
فارتعشت العروس لهذه الكلمات وتململت كزهرة ذابلة أمام الريح ثم قالت متوجعة: «لا أعود إلى هذا المنزل وبي رمق من الحياة، قد خرجت منه إلى الأبد، قد تركته وكل من فيه مثلما يترك الأسير أرض المنفى، فلا تبعدني عنك ولا تقل بأنني خائنة؛ لأن يد الحب الذي مزجت روحي بروحك هي أقوى من يد الكاهن التي أسلمت جسدي إلى مشيئة العريس، ها قد طوقت ذراعي حول عنقك فلا تحلهما القوات وقربت نفسي إلى نفسك فلا يفرقهما الموت.»
فقال الشاب محاولا الخلاص من ذراعيها متكلفا إظهار المقت والاشمئزاز: «ابتعدي عني أيتها المرأة فقد سلوتك، نعم سلوتك وكرهتك وتعلقت بهوى غيرك، فلم يقل الناس غير الصحيح. هل سمعت ماذا أقول؟ قد سلوتك حتى نسيت وجودك وكرهتك حتى أبت نفسي مرآك فابتعدي عني ودعيني أذهب في سبيلي، وعودي إلى عريسك وكوني له زوجة أمينة.»
ناپیژندل شوی مخ