أوقف الدكتور أحمد مسجلة الصوت ناظرا لأمل نظرة ودودة. «هل انتهيت دكتور؟» سألته أمل، ابتسم لها مجيبا: «بل أريد رؤيتك مرة أخرى، وأثق أنه ما زال لديك الكثير لتخبريني به، فهل تعدينني بالمواظبة على زيارتي؟» - لينتهي الأمر باختفائي من الوجود؟ - ربما سينتهي الأمر بشفاء عبد الله [قالها بابتسامة]. - حسنا دكتور، أعدك بزيارة أخرى وبعدها نرى. - إجابة مرضية، حسنا دكتور أمل، إلى اللقاء إذن.
خرج الدكتور أحمد بصحبة أمل إلى صالة الانتظار بعيادته، طمأن عبد الله أن كل شيء سيكون على ما يرام واتفقا على الزيارة التالية، وعاد لمكتبه، أغلق الباب وأشعل غليونه وأعاد الاستماع لمسجلة الصوت وبيده غليونه ودفتر ملاحظاته. •••
سارا سويا، عبد الله وأمل، كانت تحرك أناملها بحثا عن يده، دون أن تهتز ذراعها، لم تجدها، شعرت بالبرد، الوحدة، الخوف، لم تكن أستاذة تاريخ الفن، لم تكن أيضا الهاربة تحت وسادتها، كانت مجرد طفلة خائفة، أما عبد الله فقد كان يتساءل أي أمل التي تسير بجواره، ما زالت بملابس أرتيميس ربة القمر، لكنه لا يدري ما جرى عند الدكتور أحمد مراد، هل ما زالت هي؟ أم الآن هي أرتيميس إلهة الصيد؟ هو يعرف من هي من عينيها، لكنه لم يقو على النظر إليهما، أيا من تكن هي الآن فلا بد أنها تحتاج لمزيد من الاطمئنان بعد هذا اليوم الطويل وتلك التجربة الغريبة، أحاطها بذراعه وضم كتفها براحته، لم تنطق أمل، بل استراحت لراحته، وهدأت بضمته. - هل أنت بخير؟ [سأل عبد الله]. - [تنهدت أمل] ظننتك لن تسأل أبدا. - [ابتسم عبد الله] حقا؟ - أنا بخير الآن، لكن لا أعرف من سأكون غدا، هل تريد حقا أن أختفي، وتفضل البقاء معها؟ - تختفي؟ كلا أمل، أريد أن تكوني بخير؛ فلا أطيق هذا الصراع بداخلك. [تردد قليلا ثم أضاف] أما هي فهي منك لا أعتقد أن أحدا سيختفي، ربما ستصل كل منكما لمعرفة أنها نصف الأخرى وينتهي الأمر بتقبل النصفين كليهما، وتتوج إلهة الصيد باكتمال القمر. - هل درست علم النفس، أم تتعامل معه بنفس طريقتك في التعامل مع لوحاتك الزفت؟
قالتها أمل ثم أطلقت ضحكة شقية؛ فقبل رأسها ولم يرد، أضاءت قبلته في رأسها آلاف الأفكار، هو يريد كل شيء، لم يكتف بأي منهما، بل يسعى الآن لمزجهما سويا ليحصل على عدة نساء في كأس واحدة، حقا، عليه أن يبذل جهدا أكبر في دراسة نظرية الألوان؛ فالألوان الأصيلة لا يمكن تركيبها بالمزج، والألوان الممزوجة مهما صفت درجاتها، تظل نقاوتها تقاس بنسبة الألوان الأصيلة بها، لكنه لئيم أيضا؛ فاللون المركب لا يمكن إعادته لمكوناته الأصلية مرة أخرى، استعادت ما قاله الطبيب، وطابقت كل شيء برأسها، ما يراه العلم شفاء هو منتهى الموت لها، فلن تكون أرتيميس إلهة الصيد، ولن تكون أرتيميس ربة القمر، بل قد تصبح أفروديت، أو ربما هيرا، تمتمت لنفسها: «المهم ألا يحولني شفاؤهم المزعوم لأبولو.» - هل تؤمن بالتعددية؟ [سألت أمل]. - تعددية؟ عم تتحدثين حبيبتي؟ - لا شيء، كنت أفكر في الأوليمبس، وكيف قبل الناس فكرة الآلهة المتخصصة، التي يبدو أنك مغرم بها.
ابتسم لها عبد الله وشعر بخبث السؤال؛ فهو يعرف إلى أين سيقود، ويعرف أيضا الآن بلا شك أنها أرتيميس إلهة الصيد، أمل خطاب أستاذة تاريخ الفن، وهي الآن تبدأ معركة أزلية بين التاريخ والفلسفة، فقرر أن يعطيها ما ترغب به دون أن يخسر معركته؛ فأجابها: حسنا، الفكرة ببساطة أننا حين نرى الجسد، فنرى العين لها وظيفة الرؤية دون السمع، والأذن لها وظيفة السمع دون التنفس، والفم يجمع وظيفة الكلام والتذوق وهكذا، هناك من يمكنه رؤية الصورة كاملة فيرى الجسد الكامل الذي تتوحد فيه كل تلك الأعضاء، ويتمكن من استيعاب تعدد الوظائف في الجسد الواحد، وهناك من لا يمكنه ذلك، فيرى كل عضو مختلفا عن الآخر باختلاف وظيفته، وربما يراه منفصلا أيضا، وفي الحضارات القديمة هناك من قبل أن الإله هو النور الذي يضيء وهو النار التي تحرق، وفهم كيف يكون المنقذ هو ذاته المنتقم، ومنهم من لم يقبل تعدد وظائف الإله، ولكي يتمكن من التعامل مع ظواهر الطبيعة فصل الأعضاء في عقله بوظائفها، ثم تعقدت الأمور أكثر في محاولة تبسيطها، لكن هل ثبت تاريخيا أن أحدا قد قابل أيا من هؤلاء الآلهة؟ - وكيف يقابلها؟ هل سمعت أن أحدا خرج مع عين أو تزوج من أذن؟
لم تعر أمل أي اهتمام لما قاله عبد الله، أدركت أنها لن تتمكن من مجاراته؛ فهو لا يبدأ الحديث قبل تأكده من منتهاه، وكما انتهت محاضرة الفلسفة التي ألقاها، انتهى مشوارهما عند بيت جدتها، صعدا سويا كعاشقين تتعانق أرواحهما في صعود مستمر، لم تتوقف نشوتها، ولم تتوقف أفكارها عن مصير لن تعرف فيه من ستكون، وبقي لها سؤال لم تتمكن من إجابته، هل تصارحه بما تعرفه عنه؟ هل تخاطر الآن وتكاشفه بكل شيء؟ أم تترك الأمر للدكتور مراد؟
جلس عبد الله بالبهو واختفت أمل بالداخل، إلى أين ستصل به أرتيميس؟ كانت الحياة أكثر انسيابا قبل مقابلتها، كان يستمتع بها، لديه ما يكفيه لتجنب مشاكلها، لم يهتم لأمر أحد من قبل، حتى نجاحه الأكاديمي جزء من متعته الذاتية الساخرة من كل شيء، كان ينظر لباب المنزل ويفكر أن يغادر الآن وينسى كل شيء، هو ليس الشخص الذي يسمح لنفسه بالتورط في امرأة، فكيف يترك نفسه ليتورط في امرأتين؟ كانت المسافة بين جلسته والباب هي المشوار الأطول في حياته حتى الآن، لا يعرف كيف يقطعها، عليه تجاوز إلهة الصيد برائحة الغابات المطلة من بشرتها، وعليه تجاوز ربة القمر، بملابسها الاحتفالية، بخجلها وطفولتها، عليه التحرك الآن، قام من جلسته، وتحرك نحو الباب، وقد اتخذ قراره، لم تكن المسافة بهذا الطول الذي تخيله، لم تكن أيضا بتلك الصعوبة، أمسك المقبض، وهو يديره، استوقفه صوت أمل. - هل اندمل جرحك؟
نظر إليها متسائلا فنظرت لكفها، وكررت سؤالها: «جرحك، هل اندمل؟» نظر بدوره لكفه، هي تذكره بعقد بينهما، البعض من دماها يجري في عروقه، والبعض من دماه يجري في عروقها، لو تأخرت لحظة، لو لم تذكر الأمر لكان الآن حرا، بدا له أنه لن يتركها أبدا.
فترك مقبض الباب وعاد إليها ناظرا لكفه.
أمل، أمل، أمل، لم تكن مضطربة كما كانت قبل الذهاب للطبيب، ما زالت هي إلهة الصيد أيضا، لم تتحدث عما دار بالعيادة، لم تعد تقاوم، هل شفيت في زيارة واحدة؟ حافية عارية، بلونها الذهبي، تتطلع إليه، وهو يحدث نفسه، أنهى حديث نفسه فقد كانت روحه متعطشة الآن، لتسكن قليلا، لتحلق بربوعها، لم يعد يجدي الإنكار.
ناپیژندل شوی مخ