مسكينة كاميليا، أعرف أن أمرها لا يعنيك كثيرا؛ فأنت هنا من أجل أمل، من أي عائلة أنت؟
أجبتها: «مسعود، اسمي عبد الله مسعود.» فسألت مرة أخرى: «أنت ابن حسين مسعود؟» قبل أن أجيب، تجمد الزمن لحظة، ثم انصهر جليد الكون فوق رأسي؛ فقد كانت أمل أمامي تلقي التحية على الآنسة سناء، وهمت أن تصيح بوجهي؛ فتداركت الموقف الآنسة سناء. - أهلا ابنتي، ألقي التحية على عبد الله، ابن ابن خالتي، الأستاذ حسين مسعود. - أهلا [قالتها بحدة].
أجبت مرتبكا: «أهلا آنسة أمل.»
وكأن الآنسة سناء تدير الأحداث كما تريد؛ فقد أتت أمل لتجلس معنا بالشرفة، وانفرج شيئا فشيئا وجهها عن ابتسامة جميلة، لم تكن بتلك الحدة التي تظهرها، وتبادلنا إعداد الشاي وغسيل الأكواب ونحن نتبادل الكثير من الأحاديث، سناء تدير كل شيء من جلستها، وأنا وأمل نستجيب لها بلا مقاومة، وسناء تترك لنا الشرفة لبعض الوقت؛ فتواعدنا أنا وأمل، واستأذنت لتصعد لأمها، بقيت مع سناء، لأعرف بقية قصتها.
كانت أمل ذكية وعنيدة، لم يعاملها إسماعيل كطفلة أبدا، بل كان يعاملها كند له، وأصر أن تدخل كلية الطب، لترث مشروعاته العلاجية العملاقة، لكنها أصرت أن تتزوج في أسبوع الكلية الأول، أتت بطالب بالسنة الرابعة لأبيها، وأجبرته على الموافقة وتزوجا في الطابق الثاني من بنايتنا، كان شرطها لتتعلم هو الزواج، وكان شرطه هو الإقامة تحت نظره، لكن الأمر لم يدم كثيرا؛ فبعد أقل من شهر بدأ زوجها الدكتور عمرو عبد الكريم، نعم لا يمكن أن أنسى اسم هذا الحقير، صفعها بعد أقل من شهر، وبدأ يتحدث كأبيها، نعم صفعها، لكنها لم تسكت؛ فصفعته، وتحول الأمر لمعركة، وأوسعها ضربا، جرت تستنجد بأبيها؛ فكال لها هو الآخر ودفعها لشقتها وكأنه يتركها لزوجها ليكمل ما بدأه من تعذيبها، لم يعرف أحد سبب المعركة، كانت ليلة لم تنته قط، أمل تصرخ من شقتها، وكاميليا تتأوه كقطة ذبيحة، وأنا هنا أضرب رأسي بالحائط بجوار أمي المريضة، حتى توقفت كل الأصوات، صعدت في السادسة من صباح اليوم التالي، كنت أظنه قتلها، لم تكن هناك، صعدت لأمها مسرعة، أين أمل ؟ لا أحد يعرف، اختفت أمل.
ثلاثة أشهر كاملة، لا أحد يعرف أين كانت، حتى هي لا تذكر، ثلاثة أشهر كاملة، كسرت إسماعيل وقضت عليه، ورحلت أمي، ولم يبق إلا أنا وكاميليا، وزوج أمل الحقير الذي رفض ترك المنزل طمعا في إرث إسماعيل. كاميليا نسيت كل شيء، لم تكن تردد غير اسمها، أمل، وعادت أمل امرأة أخرى، لم تعد تلك الطفلة العنيدة، بل عادت امرأة صلبة، أجبرت زوجها على تطليقها، لكنها دفعت له الكثير، وكلما سألنا أين كانت، أجابت بأنها لا تذكر، حتى عمرو لم تذكره حين عادت، ولم تصدق أنه زوجها حتى رأت قسيمة الزواج، وحين رأتها قالت له: «حسنا، أنا لا أذكر أنني تزوجت منك، لكن أعد بألا أنسى أنني سأتطلق الآن.» لم تكمل تعليمها المسكينة، وكانت تراعي أمها وتراعيني، وجدتها بالإسكندرية، وأعمال أبيها، حتى أعمامها تركت لهم الكثير مما لا يستحقون ليتركوها وأمها، أوصيك بها يا بني.
هي تستحق كل الخير؛ إن لم تكن تحبها فاتركها لحالها. •••
كانت الآنسة سناء تبكي، قبلت يدها ورأسها، حتى هدأت، ودعتها وانصرفت، وكنت أشعر بأمل تراقبني من نافذتها، لم ألتفت وانصرفت، كان رأسي يدور، هم يظنون بأنها لم تكمل تعليمها، لا أحد يعرف أنها أستاذة بالجامعة، أكثر من عشرين عاما، أين اختفت أمل لثلاثة أشهر؟
كانت سماء القاهرة ممتدة إلى ما لا نهاية، ونجم خافت يرسل ومضاته كأنه علامة نبض الكون، أو ربما يشير للانهاية، حيث تسقط كل الأسئلة أمام أجوبتها، كنت أود أن أخلع حذائي وأنا ألامس أرصفة وسط البلد المبللة، سكنت الريح وانتصف القمر، في انتظار طلتها ليكتمل، يقترب همسا بصحارى الوادي البعيد، عله يلقاها بين حبات الرمال الساخنة، أو حبات الندى الخجولة، يراقص النهر سرا علها تغافل الطمي، وتنفلت منه وتطفو كورد النيل، هو نصف القمر، وهي اكتماله، لم أمكث طويلا بوسط البلد وعدت لمرسمي لأجد نصفه الآخر في انتظاري.
لم أصدق عيني؛ فبعدما تركت ربة القمر وتركت هي معي كل تلك الأسئلة، أجد إلهة الصيد بمرسمي عارية ممددة تستمع لموسيقى معابد كيوتو اليابانية التي تنشر رائحة الغابات الاستوائية بالمرسم، لم تتحرك حين دخلت، ابتسمت وسألتني أين أخفيت النبيذ؟ يا إلهي! منذ قليل كنت أختلس النظر لعينيها، والآن هي تخترقني بعينيها وتنفذ لترى ما خلفي، ابتسمت لها، وأحضرت النبيذ من خزانة صغيرة بجوارها، خلعت ملابسي وأعددت كأسين، خرجت قائلة: «أحضر الزجاجة معك، وسأحمل السجائر.»
ناپیژندل شوی مخ