فعظم ذلك علينا، وقال له الحاكم: «ليس عندنا إلا الحرب»، فتحول العربي ، ويده لا تفارق حسامه، وعيناه تراعيان حركاتنا وسكناتنا كأنه يخاف غدرنا به، وعاد إلى معسكره، فصعدت إلى مرمى النبال على السور ونظرت إلى معسكر العرب فإذا هم قد وقفوا صفوفا، والفرسان متفرقون بينهم، فعلمت أن هؤلاء الفرسان إنما هم قوادهم، ولم تمض مدة يسيرة حتى انبرى منهم فارس مدجج بالسلاح وعليه درع يمانية، وكنت قد شاهدت مثلها عند بعض قوادنا، يوم كنت في أنطاكية، وأغار بجواده حتى دنا من السور مشهرا حسامه، فخاطبه الترجمان من أعلى السور يسأله عن مراده فقال: «إذا كان لا بد لكم من الحرب فاخرجوا إلينا، أو ليخرج منكم فارس تعتمدون عليه نبارزه، فإما أن تكون الغلبة لكم إذا غلب، أو لنا إذا غلبنا، ومبارزة الأفراد خير من سفك الدماء».
فالتفت الحاكم إلي وقال: «ما الرأي؟» فقلت له: «إن في المبارزة حقنا للدماء.»
فقال: «ومن يخرج منكم إلى هذا الفارس؟» فانبرى قائد كبير منا، وكان ممن حنكته الأيام وتمرس بالحروب، وعليه الخوذة، والدروع على الصدر والكتفين والذراعين، وقد غطاها كلها برداء من الحرير المزركش، وتقلد الحسام والخنجر، وحمل الترس، وجاء القسيس فصلى له ورشه بماء المعمودية تبركا وتيمنا، وعلق على صدره صليبا من الذهب نعتقد فيه الحماية من الضر، فقبل الصليب والإنجيل، وجاء إلى باب السور فركب جوادا سمينا مكسوا بالدروع أيضا، وبرز إلى العربي، وليس فيه ولا في الجواد مكان للسيف إلا غطته الدروع.
أما العربي فكانت الدروع على رأسه وصدره فقط، والجواد عار، وكنت ظننته فرسا ضئيلا لفرط ضعفه وقلة لحمه، ولكنني شاهدت من خفته في الجري ما ذكرني بما كنت أسمعه عن خيول العرب من الخفة والشدة على قلة لحمها.
وأخذ الفارسان يتبارزان، وأبصار الجيشين شاخصة إليهما، وكل يصلي ويطلب النصر لفارسه، ثم رأيت الفارس العربي يتقهقر كأنه اندحر، فلحق به فارسنا، ثم ما عتم أن رجع فكر عليه، فتقهقرت قلوبنا معه، ثم عاد إلى المبارزة، واشتد الضرب حتى كدنا نسمع وقع السيوف على الدروع. كل ذلك والأساقفة يصلون ويتضرعون إلى الله استمدادا للنصر حتى أمسى ولم يظهر أحد منهما على رفيقه، فافترقا على أن يعودا إلى المبارزة في الصباح.
فلما رجع فارسنا سألناه عما لاقاه من ذلك العربي، فاعترف بأنه لو لم يدركه الظلام لذهب فريسة له، قال ذلك سرا فيما بيننا، وكان يظهر خلاف ذلك لدى الآخرين، فاجتمعنا تلك الليلة وتشاورنا في أمر أولئك العرب، فأجمع الرأي على أن نأخذهم بالحيلة، فنخرج إليهم في الصباح مظهرين الوقوف صفوفا لمشاهدة المتبارزين، ونجعل فرقة من جندنا في كمين على يسار الجند عن بعد، ثم نشغلهم في حربنا، ويدور الكمين من ورائهم، ونهاجمهم من كل الجهات فنضايقهم، وكنت أنا في جملة من سار للكمين، وجعلنا علامة الهجوم دق الأجراس، فنزلت مع الكمين ليلا واختبأنا وراء أكمة على مسافة من المعسكر، وفي الصباح نزل باقي الجند أمام الفرما، واصطفوا هناك وقد رفعت الأعلام والصلبان فوق رءوسهم، ونزل المتبارزان، وبعد هنيهة سمعنا دق الأجراس فهجمنا على العرب من روائهم، وكان باقي جندنا قد هاجموهم من الأمام، وعلا الصياح من الجانبين وحمي الوطيس.
أما نحن فهجمنا عليهم من الوراء، فما شعرنا إلا وقد أغار علينا ساقتهم - وفيهم كثير من النساء - بالعمد والعصي، وكانت الواحدة منهن تهجم على العشرة والعشرين وفي يدها عصا طويلة تضرب بها ذات اليمين وذات اليسار، فلاقينا من شدة أولئك النساء أضعاف ما لاقيناه من الرجال. وما زلنا في ذلك حتى انتصف النهار وخارت قوانا فلم نستطع الثبات، ثم رأيت نبلة ساقطة علي تكاد تصيب نحري، فاستقبلتها بيدي فجرحتني، وكان الترس قد وقع من يدي، فخفت على نفسي، فطلبت الفرار في عرض الصحراء حتى بعدت عن المعسكر، وفرت معي جماعة كبيرة، فالتفت إلى الفرما فإذا بالعرب يتسلقون أسوارها، ولا ريب أنهم دخلوها واستولوا عليها، وقد واصلت السير ليلا ونهارا حتى وصلت إليكم وأنا لا أصدق أني نجوت من الموت.»
وكان الحاكم وبربارة في أثناء ذلك يتطاولان بعنقيهما يصغيان إلى ما يقول وقلباهما يخفقان. فلما أتم حديثه امتقع لون الحاكم، ووقع الرعب في قلبه، ولكنه أظهر الاستخفاف وقال: «إنكم أخطأتم الحيلة، وكان يجب أن تبارزوهم وجها لوجه، فما هم إلا شرذمة قليلة، وليس لديهم من العدة والسلاح مثل ما لنا، فلئن جاءوا بلبيس لأذيقنهم العذاب ألوانا.» ثم قال للرجل: «احذر أن تطلع أحدا من حامية بلبيس على جلية الخبر لئلا يستولي عليهم الخوف، وهذا هو شأن الحرب؛ يوم لك ويوم عليك.»
أما بربارة فعادت إلى سيدتها وقد استولى عليها الخوف، فرأتها واقفة إلى النافذة، وقد أسندت رأسها إليها تنظر إلى الحديقة كأنها تتشاغل بها عن هواجسها لعلها تنسى ما هي فيه من الارتباك، فلم تشعر بدخول بربارة حتى نادتها، فتحولت إليها وسألتها جلية الخبر فقصت عليها الخبر كما سمعته إلى أن قالت: «وهذا ما كنا نخشاه في أول الأمر، وهو الذي حمل سيدي على مسالمة العرب؛ فإنه تنبأ بظهورهم على الروم حيثما نازلوهم، ولا يبعد أن يكون قد خابرهم سرا، وعقد معهم عهدا ألا يؤذوا أحدا من القبط، وعلى كل لن تقوم للروم قائمة.»
فقالت أرمانوسة: «وما الرأي يا بربارة؟» قالت: «الرأي أن نتربص لنرى ما يأتي به القدر، ولا بد من أن يأتينا الفرج إما من أركاديوس وإما من مرقس، إلا أن يكون هذا المسكين قد أصيب بسوء.»
ناپیژندل شوی مخ