فعظمت المصيبة على مرقس، ثم تذكر بربارة ودالتها على أرمانوسة، فأمل أن ينال بغيته على يدها، وتمنى لو استطاع أن يكلمها في تلك الساعة، ولكنه خاف مغبة الأمر فأعمل فكره، ثم قال للقسيس: «هل تسمح لي بكلمة على انفراد؟» فقال: «تعال يا ولدي.» فخلا به وقص عليه الخبر كما وقع، وأخبره أنه هو خطيب الفتاة، وأنه تعهد بإنقاذها من مخالب الموت، وأن الموت أهون عليه من التقاعد عن ذلك، ثم أنبأه بأمر بربارة وأنها خادمة أرمانوسة الخاصة، ولعلها تتوسط له عند سيدتها.
فقال القسيس: «ولكنني لا أرى أن في استطاعة أرمانوسة أن تعينك، فحاكم هذه البلدة ينتمي إلى الروم ولا يصدع إلا بأمرهم، ولا سيما أن له مأربا في قتل الفتاة، ولكني سأدعو لك بربارة لعلها تعرف وسيلة أخرى.» ثم بعث إليها فحضرت، فقص مرقس حكايته من أولها إلى آخرها، وتوسل إليها أن تبذل جهدها في الغد لإنقاذ الفتاة.
فقالت بربارة: «إني أشارككما في الشفقة عليها، وسأبذل ما في وسعي لإنقاذها، والاتكال على الله، أما سيدتي أرمانوسة فإنها تعمل بكل ما أقوله لها، فإذا كان الأمر في يدها فثقوا أن الفتاة ناجية بإذن الله، وإلا فالأمر له يفعل ما يشاء.» ثم فكرت قليلا كأنها تذكرت بابا للفرج فقالت: «إني أضمن إنقاذها، إننا سنكون في بلبيس صباح الغد، وهم لن يأخذوا الفتاة إلى النهر إلا بعد غد، وسأجتمع بمولاتي قبل ذلك فتدبر الأمر.»
ولما انتهوا من حديثهم ذهب كل إلى منامه. أما مرقس فلم يغمض له جفن تلك الليلة، فبات تتقاذفه الهواجس بين اليأس والأمل والخوف والرجاء، وبكر في الصباح إلى بربارة فأعد المركبة هو ورفيقه وودعوا القسيس وساروا قاصدين بلبيس.
الفصل الخامس
الاحتفال بضحية النيل1
كان حاكم تلك البلدة قد هم بقتل مارية انتقاما منها، فاتخذ أمر ضحية النيل ذريعة لتنفيذ مآربه وسعى جهده لدى حاكم بلبيس حتى أذن له بالنيابة عن المقوقس أن تلقى الفتاة في النيل بعد غد ذلك اليوم، وجعل الحرس حول منزلها حرصا على تنفيذ مأربه، لعلمه أنهم إذا تمكنوا من الوصول إلى المقوقس عرقلوا مساعيه.
وكان الحراس يقضون الليل ساهرين فلما جاء مرقس ودخل المنزل جعلوا يتجسسون ويتسمعون لما يدور من الحديث فسمعوا توعده وعزمه على إنقاذها، فلما خرج من البيت ذهب بعضهم إلى الحاكم وأخبره بما سمع، فخاف أن تذهب مساعيه عبثا إذا أبطأ، فبكر في الصباح التالي وبعث إلى أهل الفتاة أن يعدوا عدتهم لأخذها إلى النيل في ذلك اليوم؛ زاعما أن دواعي خاصة ألجأته إلى الإسراع، وأمر بعض النساء المعدات لمثل ذلك الاحتفال أن يذهبن إلى الفتاة فيلبسنها أفخر اللباس، ويجعلن عليها أحسن ما لديها من الحلي والمجوهرات، ويهيئنها كما هي العادة مع ضحية النيل، وبعث إلى قسس تلك البلدة أن يسيروا معها بالملابس الرسمية.
على أن العادة كانت أن يحضر هذا الاحتفال البطاركة والأساقفة والخدم والأعيان والوجهاء، ولكنه أراد الإسراع في الأمر لئلا تفشل مكيدته، وبعث إلى صاحب القارب المعد لحمل الضحية أن يكون على أهبة الرحيل، وكان قد أحضر قاربه بقرب تلك القرية إلى ترعة متصلة بالنيل، ثم زينوا القارب بأحسن أنواع الزينة كالأعلام والصور الملونة، وعلقوا فيه أكاليل الأزهار والرياحين، وجاءوا إلى جوار بيت الفتاة، وفيه الحرس والجند بسلاحهم من الرماح والنبال والسيوف.
ولا تسل عما حل بأهل الفتاة عندما جاءتهم النساء ليلبسنها الثياب الفاخرة، فإنهم وقعوا في وهدة اليأس، ولم يعد لديهم باب يتوقعون منه فرجا، ومما زاد في مصيبتهم أنهم لم يكونوا يستطيعون البكاء ولا الندب؛ لئلا يقال إنهم استكثروا الهدية على النيل فيغضب ويمسك عنهم ماءه.
ناپیژندل شوی مخ