فوقفت الرئيسة وقد خنقتها العبرات، وقالت وهي تمسح دموعها بمنديلها: «أطلب من الله بكرامة العذراء مريم صاحبة هذا الدير أن يسقط في أيديهم ويخرجوا من هذه البلاد على أعقابهم؛ فإن أية أمة تحكمنا بعدهم أخف وطأة علينا منهم.» فقالت بربارة: «آمين، وكل آت قريب.»
وكن أثناء ذلك يسمعن جلبة الجند فوقهن، ينقلون العدة والذخيرة وأدوات الحرب، أما بربارة فما فتئت تفكر في وسيلة تضمن لها الفوز بقضاء مهمتها، وتذكرت سيدتها والحالة التي فارقتها عليها فانفطر لها قلبها، وجعلت تبحث عن طريقة توصلها إلى أركاديوس، ثم رأت أنها إن وصلت إليه فلن تستطع مخاطبته؛ لأنها لا تعرف اللغة اللاتينية، ثم تذكرت أنه ربي في مصر وتعلم لغتها وهو يفهمها ويحسن التكلم بها، خلافا لبقية أبناء جلدته فقد كانوا يحتقرون لغة الوطنيين وينفرون ممن تعلمها، أما هو فكان ميالا إلى معرفة تاريخ البلاد، كما كان يحب أهلها إكراما لحبيبته، ولكن كيف تصل إليه وهو فيما هو فيه من الانهماك والتأهب للحرب؟
وقضت معظم الليل في هذه الهواجس لا تستطيع رقادا.
أما أركاديوس فقد دخل الكنيسة مع رجاله ليجعلوها معقلا لهم وتركهم ينزعون الأيقونات، ويحطمون كل ما في طريقهم من الآنية أيا كان نوعها، وأخذ هو يهيئ منازل رجاله ويرتب فرقهم، فجعل كلا منهم في موقفه بسلاحه، ثم نزل إلى الأماكن الأخرى يرقب الجند بالنيابة عن أبيه إلى منتصف الليل، فلما انتهى من مهمته هذه عاد إلى كنيسة المعلقة، وكان الجند قد أعدوا فيها غرفة مشرفة على النيل من نافذة صغيرة، فدخل الغرفة ونزع خوذته وسلاحه، وجلس بجانب النافذة وأطل على النيل وهو يجري بجانب الحصن من غربيه، ويحيط به من الجهات الأخرى البساتين والغياض، وفيها شجر النخيل والكرم، وقد امتد شجر الدوم على ضفاف النيل يتخلله البردي، ومد بصره إلى البر الثاني عن بعد فأشرف على ضفته الغربية، بر الجيزة وما وراءها، وكانت الليلة مقمرة كما قدمنا فوقع نظره على الهرم المدرج في جهات سقارة بقرب منف فاستأنس به لقربه من مقام حبيبته، فتذكر حاله معها وحبه لها، فهاجت عواطفه، وود لو كانت له أجنحة تحمله إليها، وهو على يقين أنها تحبه مثل حبه لها، ولولا ما بين أبيه وأبيها، وبين طائفته وطائفتها من النفور لهان عليه الأمر، ولكن المركب خشن ودون بلوغ المنى خرط القتاد. •••
لبث أركاديوس على تلك الحال حينا لا يتحرك، وقد هدأ الجو ورق النسيم، واستولى السكون على الحصن فلم يكن يسمع فيه صوت غير خرير الماء وملاطمة مجراه لجدار الحصن من جهة، وحفيف سعف النخل على ضفاف النيل من جهة أخرى، ثم هب من غفلته بغتة فتذكر صديقه أرسطوليس شقيق أرمانوسة وما بينهما من الود والألفة، فقال في نفسه: «لماذا لا أكاشف هذا الصديق بما في قلبي من لواعج الغرام؛ لعله يفرج كربتي أو يرفع عني أثقال هذا الكتمان، فإذا عرف قوة حبي لأخته فقد يأخذ بيدي وينصرني.» وفيما هو في تلك الهواجس إذ سمع وقع أقدام قرب الغرفة، وإذا القادم واحد من رجاله جاء ليخبره بأن القائد أرسطوليس بالباب، فعجب لهذه المصادفة وأذن بدخوله، فلما دخل تصافحا وتعانقا، ثم سأل أركاديوس صديقه أرسطوليس عن سبب مجيئه في ذلك الوقت، فقال: «إنما جئت أيها الصديق ملتمسا منك أمرا لا يصعب قضاؤه.»
قال: «قل ما شئت، إني فاعل ما تريد.»
قال: «جاءني بعض من كن في هذا الدير من الراهبات يشتكين مما قاسينه من الإهانة بإخراجهن من بيتهن، وأنت تعلم أنهن محترمات لانقطاعهن للعبادة والتقشف، وقد كان في إمكانكم حفظ كرامتهن، فأرجو أن تخلي لهن مكانا يقمن فيه أو يخرجن من هذا الدير بإكرام.»
فقال أركاديوس: «ولكننا لم نخرجهن إلا لنتخذ هذا المكان حصنا ندفع به الأعداء عنا وعنهن، وهن إذا بقين فيه لا يعملن عملنا أو يدفعن مهاجما.»
قال: «لا يدفعن مهاجما ولكن كدرهن ونقمتهن على الجند لما لاقينه من الإهانة، ودعائهن على المسيء إليهن، يقف عثرة في سبيل دفاعنا؛ فإننا نعتقد أن دعاءهن مجاب.»
قال: «نحن لا نرى ذلك، ولكني على استعداد للقيام بما تشير به، على شرط ألا يكون في ذلك ضرر على الجند. أما هذا المكان الحصين فلا نتخلى عنه لأحد، فإذا رأيت أن يخترن لهن مكانا غيره فإني أساعدهن في الحصول عليه.»
ناپیژندل شوی مخ