فأجفل مرقس لما رأى من غضب أركاديوس ولم يبد جوابا.
فأخذ أركاديوس يذرع الحجرة ذهابا وإيابا والاستياء باد عليه، ومرقس واقف، وبعد برهة قال مرقس: «أيأذن لي مولاي في كلمة أقولها؟»
فوقف أركاديوس وقال: «قل يا مرقس، واذكر أني ارتكبت في خروجي من حصن بابل عارا لا أريد أن أرتكبه هنا.»
قال: «حاش لك يا مولاي أن ترتكب عارا، ولكنني أذكرك بشخص عاهدت الله أن تحبه وتحافظ على حياته، فإذا تذكرته فافعل ما يبدو لك.»
فلما سمع أركاديوس ذلك التعنيف اللطيف أطرق برهة ثم قال: «تظنني ناسيا أرمانوسة أو أنني أتخلى عنها، ولكن الشرف والمروءة يا مرقس ... ولا أظن أرمانوسة نفسها ترضى أن يكون زوجها جبانا يفر من ساحة الوغى.»
قال: «كيف يكون حالها إذا أصاب الإسكندرية سوء؟ ولا أخفي عليك أننا نتوقع سقوطها قريبا، لأن العرب يتهيئون للهجوم عليها، والروم يفرون منها، ولا أنكر على سيدي البطل أن الشهامة تقتضيه الثبات إلى آخر نسمة من حياته، ولكن أرمانوسة، اذكر أرمانوسة وما يحل بها.»
فضاق أركاديوس ذرعا بالتردد ورفس الأرض وعاد يذهب ويجيء ومرقس يتضرع إلى الله أن يغير ما بقلبه ويلهمه أن يأتي معه.
فعاد أركاديوس وأشار إلى سيفه وقال: «أتريد يا مرقس أن أفر من الحصن ولا أستحيي من حسامي هذا؟ كيف لا أخجل؟! بل كيف لا أذوب خجلا إذا قيل إني فعلت ذلك وأنا أركاديوس بن الأعيرج زوج أرمانوسة؟! فاعلم أني إذا خرجت من هذا الحصن وسقطت الإسكندرية في أثناء غيابي فأنا مائت لا محالة، فدعني أدافع عن دولتي ووطني وشرفي، فإذا عشت عشت شريفا، وإذا قتلت مت شريفا وفاخرت أرمانوسة بأن زوجها كان شهما مات في سبيل الدفاع عن وطنه وشرفه. ذلك خير لها من الخجل كلما ذكرت الإسكندرية أو دولة الروم.»
فترقرقت الدموع في عيني مرقس لعلمه بقرب الخطر، وبأن العرب يهاجمون المدينة في صباح الغد، فلما رآه أركاديوس يبكي رق لغيرته وحنانه، وتقدم منه فأمسكه بيده وقال: «لماذا تبكي يا مرقس؟ هل خفت على أركاديوس من الموت؟ ليس الموت يا صاحبي بالأمر الذي يخافه العاقل، وإنما خوف العاقل من العار، وإني وأيم الله شاكر شعورك ومحبتك وغيرتك علي وعلى أرمانوسة، وإن ذلك لما يطمئن له قلبي فتكون لأرمانوسة نعم العون إذا مسني سوء.» قال ذلك وشرق بدموعه، ثم تجلد ونأى بوجهه عن مرقس إلى النافذة فأطل منها على معسكر العرب، وكان البدر قد طلع فأرسل أشعته على تلك الغياض، وأكثرها من النخيل إلا سهلا رحبا عسكر العرب فيه، فوقف أركاديوس برهة ينظر إلى تلك الضاحية وهو لا يرى شيئا لعظم قلقه واضطرابه ومرقس واقف يجهش في البكاء، فانتبه أركاديوس لصوت بكائه والتفت إليه وقال: «إنك يا مرقس شديد الغيرة صادق الود، وما أنا بناس مودتك ما عشت، وإذا مت فاذهب إلى أرمانوسة وخفف عنها، واذكر لها أن أركاديوس أبى أن يكون جبانا لئلا يقال إنه ليس أهلا لها. قم يا مرقس واذهب إليها الآن، واحتفظ بها، وما أنت في حاجة إلى من يوصيك بأرمانوسة، وأرجو أن أراكم ظافرا وإلا ...» وسكت وأمال وجهه، ومرقس لا يزال يبكي، ثم مسح مرقس دموعه وتجلد وقال: «كيف أخرج من عندك وأنا أرى الخطر قريبا؟! أسأل الله أن يبعده عنك.»
قال: «إن الأعمار بيد الله، فرب رجل يموت في إبان نعيمه وراحته، وآخر يخوض المعامع ويستقبل النبال والرماح بصدره ويعمر طويلا، والعمر يا مرقس طال أم قصر لا بد من انقضائه، وأما العار فإنه باق لا يمحى ، وأرى الآن أن تذهب إلى أرمانوسة، وكن أنت معها في ساعة الرهبة، وساعداني بالصلاة، وقل لها إن صليبها في عنقي، وهو يدفع عني كل شر.»
ناپیژندل شوی مخ