عاد القارب إلى منف ورسا بهن إلى جانب القصر، فنهض الجميع ونزلت أرمانوسة وسارت بين شجر الجميز، والخدم بالمصابيح أمامها حتى أتت باب الحديقة فوقفت لحظة مسندة يدها إلى أحد التمثالين، والتفتت إلى النيل كأنها لم تشبع بعد من منظره، ثم دخلت الحديقة وتحولت إلى بعض طرقها ففهمت الجوار أنها تريد التجوال بين الأزهار والرياحين قبل دخول القصر، فتحولن كل إلى مخدعها، إلا بربارة فقد رافقت سيدتها وهي لا تزال تراقب حركاتها وسكناتها، فرأتها قد مشت في الحديقة لا تدري إلى أين تسير، ولا يلفتها صوت النعام السارح ببعض جوانب الحديقة، ولا أصوات الكراكي وغيرها من الطيور هناك، ثم تحولتا إلى القصر فدخلتاه وسارتا توا إلى غرفة النوم، وكانت الجواري قد أضأنها بالشموع والمصابيح، وجعلن إكليلا من الزهور في إناء على مائدة فاخرة في وسط الغرفة مصنوعة في سوريا، من خشب الأرز، تفوح منها رائحة ذكية، كان قد أهداها إلى أبيها بعض أصدقائه الرومانيين في صيدا.
لكن أرمانوسة ما لبثت أن انسلت من الغرفة إلى شرفة مطلة على الحديقة والنيل وراءها، ورائحة الأزهار قد ملأت الجو، وهناك كرسي مجلل بالحرير جلست عليه، ووقفت بربارة تنتظر أمرها وتسترق النظر إليها فلاحظت أنها لا زالت مضطربة، لم تزدها تلك النزهة إلا انقباضا، وبعد قليل قامت أرمانوسة إلى سريرها، ونزعت حليها بمعاونة بربارة ثم استلقت تبغي الراحة لا النوم، فلبثت بربارة واقفة، تهم بسؤال سيدتها عن سبب اضطرابها فيمنعها التأدب، ثم نظرت إليها فإذا هي تتلهى بالنظر إلى ما على جدران الغرفة من الصور الملونة، وفيها رسوم الطير والحيوان، ثم رأتها أطرقت تنظر إلى أرض الغرفة كأنها تتأمل أشكال الرسوم الجميلة المطرزة على الأبسطة، وهي تردد الزفرات وتتنهد خفية وقد أعياها الانقباض، فلم تستطع بربارة مغالبة البكاء لفرط حبها لسيدتها وغيرتها عليها، فجعلت تمسح عينيها حتى أدركت أرمانوسة ذلك، وخافت افتضاح أمرها فخاطبت بربارة قائلة: «ما بالك يا بربارة؟ هل تبكين؟»
فتقدمت بربارة إلى جانبها تحاول مغالطتها وقالت: «ليس هناك يا سيدتي ما يبكيني وأنت بنعمة الله في صحة تامة وعيش رغيد، إني سعيدة ما دمت أنت كذلك.»
قالت: «ولكنني أراك تبكين.»
قالت: «كلا يا سيدتي، وإذا رأيت في عيني دموعا فإن هي إلا دموع الفرح؛ إذ كل ما من الله به عليك من أنعامه وبركاته إنما هو مدعاة لفرحي، ألا تعلمين أن أصدقاءك يغبطونك وأعداءك يحسدونك على ما قدر الله من وقوعك موقع الاستحسان لدى مولانا الإمبراطور حتى خطبك لابنه؟ ولا ريب عندي أنك أهل له وهو أهل لك؛ فإن قسطنطين من أحسن الناس جاها، وكفاه فخرا أنه ابن الإمبراطور هرقل، وعما قليل يعود من حروبه مع العرب فتتم سعادتك بالاقتران به.»
فتنهدت أرمانوسة تنهدا خفيا كأنها تذكرت مصائبها، وأسفت لما هي فيه من الكدر مع ما خصتها به العناية من أسباب الرفاهية، ومالت إلى مكاشفة وصيفتها بمكنونات قلبها عساها أن تفرج كربتها، وكانت تثق بها كل الوثوق لأنها ربتها منذ نعومة أظفارها، وقد اختبرت صداقتها وإخلاصها، ولكن الحياء غلب عليها فأمسكت عن التكلم لحظة وهي شاخصة إلى نافذة غرفتها المشرفة على النيل، وقد امتلأ بضوء القمر، ولكنها ما لبثت أن أجهشت بالبكاء على غير إرادتها.
فتقدمت بربارة إلى جانب السرير وجثت على ركبتيها، وأمسكت يد أرمانوسة بين يديها وجعلت تقبلها تكرارا ودموعها تتساقط عليها وهي تقول: «من منا الباكية يا حبيبتي؟ أتسألينني عن سبب بكائي وأنت تبكين؟ أستحلفك بالله أن تطلعيني على سبب اضطرابك، فقد ضاق صدري وأنا ممسكة نفسي عن الاستفهام حتى عيل صبري .» قالت ذلك ونظرت إلى سيدتها فإذا بها قد أغرقت في البكاء، وجعلت المنديل على عينيها لتخفي ذلك عليها، فأمسكت بيدها الثانية وألحت عليها وقبلت يديها، ثم قبلتها بين عينيها وترامت على قدميها وقالت لها: «أستحلفك بحياة سيدي أبيك أن تخبريني عن سبب بكائك ولا تخفي علي شيئا، وأنت تعلمين تعلقي بك وإخلاصي لك، لعلي أستطيع تفريج كربتك. أم أنت لا تثقين بي؟»
قالت: «إني واثقة بك كل الوثوق يا بربارة، وأنت تعلمين ذلك، ولكن ليس ثمة ما أخفيه عليك وما أنا باكية ولا ...»
فقطعت عليها الكلام قائلة: «كفى إخفاء ومغالطة، رأيت منك هذا الانقباض منذ أيام، وكنت أخشى أن أثقل عليك بالاستفهام، أما الآن وقد عيل صبري وصرت أخاف عليك فلن أسكت حتى تخبريني أو تطرديني من هذه الغرفة.»
فأمسكت أرمانوسة بيدها وهمت بالجلوس قائلة: «حاشا لي أن أهينك بمثل ما تقولين؛ فإنك بمنزلة الأم عندي؛ فقد ربيتني منذ طفولتي، ولكن ليس عندي ما أخبرك به، أو لعلي إذا أطلعتك عليه تضحكين مني أو تهزئين بي.» فوقفت بربارة قائلة: «معاذ الله أن يصدر مني ذلك وأنت سيدتي ومصدر نعمتي، بل أنت روحي وحياتي، فلا تخشي بأسا من مكاشفتي بما في قلبك، وسأكون مفرجة لكربك بإذن الله، فثقي بي، واكشفي لي عن سر هذا الاضطراب؛ فقد نفد صبري.»
ناپیژندل شوی مخ