مع أني كنت أكره كل هذا منه، إلا أنني كنت أحبه، فوراء جسده التخين القصير، ومشيته المتطوحة، وصراحته، ونظرته الممغوصة، وطربوشه الملقى إلى الخلف في قلة اكتراث، كان وراء هذه طيبة كنا نتحسسها بقلوبنا الصغيرة، فنحبه، ولكن حبي له ما كان يمنعني من المشاركة في الضحك عليه، ولا من سترته، وقد أغرتني ذات يوم فعلقت له فيها ذيلا.
ولا أنسى يوم دخل علينا الفصل، وترنحنا ونحن نقف له، وتناول من تحت إبطه أوراق إجاباتنا في امتحان الفترة، وسكتنا فقد كان كل ما يمت إلى سيرة أي امتحان كفيلا بإشاعة الرهبة فينا، وأفسح له سكوتنا واديا متراميا راح يندد فيه بخيبة تلاميذه، وقلة نفعهم.
وبعد أن التقط أنفاسه الكثيرة اللاهثة التي تعقب حماسه، أشار إلي، وأشاد بإجابتي، وأخرج ورقتي وتلاها كنموذج للإجابة، وأقول الحق سرت في بدني فرحة عظمى أعادت إلي ذكرى اليوم الجليل في حياتي، يوم رأيت نمرتي بين الأرقام الناجحة في امتحان الابتدائية.
ولقبني بعدها زعيم الكيمياء، وسقت أنا فيها رغبة في الاحتفاظ باللقب، مضيت أذاكر كالآلة حتى انتقل الحفني أفندي إلى مدرسة أخرى.
وكان وداعنا له حافلا.
كان كل ما تذكرته مجرد قبضة واحدة سريعة من ذكرياتي، مرت بخاطري، فأشعلت النار في رماد حياة بأسرها، عشتها، ونسيتها، وأصبح بيني وبينها ما يزيد على عشر سنين.
وما إن انتهى الوهج الذي خلفته القبضة، حتى كنت قد عبرت ممر العربة، ووجدت نفسي أقف في آخرها أمام الرجل الذي في يده الجريدة.
وجلست على المقعد المقابل، وسألته في كثير من التهتهة إن كان يذكرني.
ونظر إلي الرجل بنفس نظرته المشمئزة الممغوصة، ولم يقل شيئا، فاستطردت ألحم الكلام في الكلام، وأدخل الثالثة فصل أول في المعادلات وقانون الغازات، وأنبوبة الاختبار التي انفجرت ذات مرة، والرفاعي، والدغيدي، وأحمد مسلم من شطار الفصل.
وبعد كثير بان على الرجل أنه تذكرني، أو بالأحرى تذكر صبيا صغيرا يشبهني كان من تلاميذه. ولم يظهر عليه أنه سر لهذه الذكرى فلا ريب أنه استعاد أذيال الورق الملون، وتأنيب الناظر، وعبث الجميع به.
ناپیژندل شوی مخ